فريق منتدى الدي في دي العربي
08-07-2022, 05:40 AM
ليته لم يطلب العلم!
حسن عبدالحي
هل نحن بحاجةٍ أولاً لأنْ نُقنِع القارئ - أيًّا كانت مرتبته العلميَّة - بأنَّ طلبَ العلم ليس غايةً مقصودة لذاتها؛ وإنما هو وسيلة لغاية أكبر وأعظم؟
لم يمدح الله - تعالى - أو رسولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - العلمَ هكذا مطلقًا، ولو كان طلبُ العلم غايةً لذاته لَمُدِح كلُّ علم شرعي، سواء أكان نافعًا أم مُضِرًّا، ولَحَثَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليه مطلقًا دون ضَوابِطَ أو إرشاداتٍ، لكنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقول في دعائه: ((اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع))؛ (أخرجه مسلم وغيره من حديث زيد بن أرقم - رضِي الله عنه - وهو مَروِيٌّ عن جماعةٍ من الصحابة - رضِي الله عنهم)، كما كان يسأل - صلَّى الله عليه وسلَّم - ربَّه ((علمًا نافعًا))؛ (أخرجه ابن ماجه من حديث أم سلمة - رضِي الله عنها - وصحَّحه الألباني في "صحيح ابن ماجه")، ويقول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأصحابه - رضِي الله عنهم -: ((سلوا الله علمًا نافعًا))؛ (أخرجه ابن ماجه وغيره من حديث جابر - رضِي الله عنه - وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").
ربما كان هذا الكلام يَعرِفه كثيرٌ من طلَبَة العلم في زماننا هذا، لكنَّ قليلاً مِنَّا مَن يعمل به أو يُطبِّقه، وأدلُّ شيء على صدق كلامي واقعنا السيِّئ الذي نحياه.
لماذا طلب العلم؟
طلب العلم ليس غاية يُسعَى إليها لِذَاتها؛ بل هو وسيلة لمقصد عظيم، وهو عبادة الله - تعالى - على بصيرة، وهذا المعنى برغم يُسرِه وسُهُولتِه إلا أنه صعب التطبيق على نفوس كثيرٍ من المُشتَغِلين بالعلم الشرعي.
فبعد أن بدأ طالبُ العلم طلبَه بنيَّة رفْع الجهل عن نفسه وعن الآخَرين، إذا به يجعل العلم غاية مقصودة لذاتها، ويضيِّع على إثر ذلك واجبات شرعيَّة أعظم وأكبر من تَحصِيل العلم المزعوم، ولا يَزِيده طلب العلم إلا بُعدًا عن العمل الذي هو ثمرة العلم في الحقيقة.
ولم يكن الشيطانُ ليترك طالب العلم وهذه الفضيلة العظيمة - طلب العلم - بل يعكِّر عليه صَفْوَ نيَّته فيشوبها بأنواعٍ من المُفسِدات؛ كطلب المنصب، وسَعَة الصيت، والأكل بالعلم، والعلو على الأقران والأصحاب.
وهذه كلُّها أمراض كامِنَة في القلوب والنفوس تظهر عند المحكِّ، ويَعرِفها مَن يُفَتِّش في نفسه وقلبه بصدق وبصيرة.
علامات فساد النيَّات في طلب العلم:
تقديم طلب العلم على العمل:
ويكون طلب العلم غاية عندما ينشَغِل الطالب بالعلم عن العمل، فربما يَعتاد طالب العلم السهر في طلب العلم ثم ينام عن صلاة الفجر أو يكسل فيُصَلِّيها في البيت، ويكون هذا ديدنه! وعندما يرى طالب العلم الأمر المحرَّم الذي يعلم في حرمته الأدلَّة الكثيرة في بيته أو عمله أو أي مكان وهو مُنشَغِل بطلب علمه، ولا ينهى عنه أو يفكِّر في كيفيَّة إزالته!
تقديم المفضول من العلم على الفاضل منه:
ويكون طلب العلم غاية عندما يَنشَغِل الطالب كذلك بالمفضول من العلم عن الفاضِل منه، فيدرس في أصول الفقه مثلاً الكتاب تِلْوَ الآخَر، وهو بعدُ لم يُطالِع تفسيرًا واحدًا لكتاب الله - تعالى - الذي هو أمُّ العلوم والمعارف.
طلب العلم تزكية للنفوس:
كما يكون طلب العلم غايَة عندما تخلو النُّفوس من تقوى الله ومخافته، فعلامة العلم الصحيح ما ذكَرَه ربُّنا - تبارك وتعالى - من الخشية؛ كما في قوله - تعالى -: ? إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ? [فاطر: 28]، فالعلم يُورِث الخشية من الله - عزَّ وجلَّ - والإنابة إليه - تعالى - والسعي الحثيث وراء الآخرة، وكان سحنون - رحمه الله تعالى - يقول: "محبُّ الدنيا أعمى لم يُنَوِّره العلم"؛ "سِيَر أعلام النبلاء"، فبالعلم الصحيح تغلب الآخرةُ الدنيا في قلب الطالب.
طلب العلم مَدْعَاة للطِّباع الجميلة:
ويكون طلب العلم غاية كذلك عندما تقسو طِباع طالب العلم وتغلظ أخلاقه، يقول عبدالله بن المبارك - رحمه الله -: "عجبت لِمَن لم يطلب العلم، كيف تدْعوه نفسُه إلى مكرمة"؛ "سِيَر أعلام النبلاء"، فطلب العلم يدعو إلى مَكارِم الأخلاق وجميل الطِّبَاع، ويُبعِد عن الغلظة والاستِعلاء واستِحقار الناس وتعظيم النفس.
وقد ترى جماعةً ممَّن يَطلُبون العلم، ومع ذلك ترى لديهم قدرًا من الغِلظَة والقَسوَة تُوحِي بأنَّهم أهل كلام، لا طلاَّب قرآن وحديث وفقه.
انقِطاع الطلب دليلٌ على فَساد النيَّة:
وعندما يكون طلب العلم غاية لا وسيلة، فمن الطبيعي أن يَنقَطِع طالب العلم عن الطلب، ويبدأ مرحلة جديدة من الادِّعاء، الادِّعاء الإصلاحي، أو الادِّعاء النقدي، أو الاشتِغال بتَقوِيم أخطاء الدُّعاة والعُلَماء كذلك، وتجريح وتعديل طُلاَّب العلم... وهكذا.
ليته لم يطلب العلم!
أحيانًا كثيرة يُقَدِّم بعض طلاب العلم الشرعي أسوأ النماذج في سوء الفهم وسوء الأخلاق، واتِّباع الأهواء، وهدم أعمال الدعاة والمصلحين! حينها يَأسَف الإنسان على هذه النماذج وما ضَيَّعوه من وقت وجهد ليكونوا مِعْوَلَ هَدْمٍ وتخريب في الكيان الدعوي، ولا يملك المرءُ وقتَها إلا أن يقول: ليتهم لم يطلبوا العلم ولم يتعلَّموا منه شيئًا!
ومِن هؤلاء:
• مَن تعلَّم بعض العلم فغرَّه ورأى في نفسه عالِمًا أو مُصلِحًا، فراحَ يَنشُر كذبته عمليًّا بتَجرِيح أهل العلم وإخوانه في الساحة الدعويَّة.
• ومَن تعلَّم بعض العلم فراح يُشغِل الناس عن القضايا الكبرى بما يعتَقِد هو بعبقريته أنَّه الأهمُّ والأَوْلَى، دون رُسوخٍ في فَهْمِ الواقع، أو إكمال مَسِيرة دعويَّة سبقَتْه.
• ومَن تعلَّم بعضَ العلم فجعَل طلب العلم مَشرُوعَه الدعوي، بحيث يرى صلاح الأمَّة في طلب العوامِّ لأصول الفقه ومصطلح الحديث وعلوم اللغة فقط، أو مجرَّد التقيُّد الدراسي بالمذاهب الفقهيَّة.
• ومَن تعلَّم بعضَ العلم ففتَح عليه العلمُ أبوابَ دنيا، فوَلَجها ونَسِي أصل مَقصِدِه وغايته من العلم، ونافَس أهل الدنيا على حُطامِها الزائل.
• ومن تعلَّم بعض العلم ليعمل فيما بعدُ بكلِّ رُخَصِه التي يقف عليها! فليته لم يتعلَّم العلم ولم يقف على رُخَصِه.
ولعل تلك الأصناف وغيرها من طلبة العلم هم مَن عناهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((مَن طلب العلم ليُباهِي به العُلَماء، أو ليُمارِي به السُّفهاء، أو ليَصرِف به وجوه الناس إليه - فهو في النار))؛ (أخرجه ابن ماجه من حديث عبدالله بن عمر - رضِي الله عنهما - وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع")، وكذا قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن تعلَّم علمًا ممَّا يُبتَغى به وجهُ الله، لا يتعلَّمه إلا ليُصِيب به عَرَضًا من الدنيا، لم يجد عَرْفَ الجنَّة يوم القيامة))؛ (أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").
وكذا حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - عند مسلمٍ وغيره: ((ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن، فأُتِي به فعرَّفه نِعَمه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت؛ ولكنك تعلَّمت العلم ليُقال: عالم، وقرأت القرآن ليُقال: هو قارئ، فقد قِيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقِي في النار)).
يقول الخطيب البغدادي - رحمه الله تعالى - في مقدمة كتابه "اقتضاء العلم العمل":
"ثم إنِّي مُوصيك - يا طالب العلم - بإخلاص النيَّة في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بمُوجبه؛ فإنَّ العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يُعدُّ عالِمًا مَن لم يكن بعلمه عامِلاً، وقيل: العلم والد والعمل مولود، والعلم مع العمل، والرِّواية مع الدِّراية، فلا تَأنَس بالعمل ما دُمتَ مُستَوحِشًا من العلم، ولا تَأنَس بالعلم ما كنت مُقَصِّرًا في العمَل، ولكن اجمع بينهما، وإن قَلَّ نصيبك منهما، وما شيء أضعف من عالم ترك الناسُ علمَه لفَساد طريقته، وجاهِل أخذ الناس بجهله لنَظَرِهم إلى عِبادته، والقليل من هذا مع القليل من هذا أنجى في العاقبة إذا تفضَّل الله بالرحمة، وتَمَّم على عبده النعمة"؛ ا.هـ.
نسأل الله - تعالى - أن يخلص نيَّاتنا له وحدَه، وأن يجعَلَنا من الذين يَستَمِعون القول فيتَّبِعون أحسَنَه، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
حسن عبدالحي
هل نحن بحاجةٍ أولاً لأنْ نُقنِع القارئ - أيًّا كانت مرتبته العلميَّة - بأنَّ طلبَ العلم ليس غايةً مقصودة لذاتها؛ وإنما هو وسيلة لغاية أكبر وأعظم؟
لم يمدح الله - تعالى - أو رسولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - العلمَ هكذا مطلقًا، ولو كان طلبُ العلم غايةً لذاته لَمُدِح كلُّ علم شرعي، سواء أكان نافعًا أم مُضِرًّا، ولَحَثَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليه مطلقًا دون ضَوابِطَ أو إرشاداتٍ، لكنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقول في دعائه: ((اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع))؛ (أخرجه مسلم وغيره من حديث زيد بن أرقم - رضِي الله عنه - وهو مَروِيٌّ عن جماعةٍ من الصحابة - رضِي الله عنهم)، كما كان يسأل - صلَّى الله عليه وسلَّم - ربَّه ((علمًا نافعًا))؛ (أخرجه ابن ماجه من حديث أم سلمة - رضِي الله عنها - وصحَّحه الألباني في "صحيح ابن ماجه")، ويقول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأصحابه - رضِي الله عنهم -: ((سلوا الله علمًا نافعًا))؛ (أخرجه ابن ماجه وغيره من حديث جابر - رضِي الله عنه - وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").
ربما كان هذا الكلام يَعرِفه كثيرٌ من طلَبَة العلم في زماننا هذا، لكنَّ قليلاً مِنَّا مَن يعمل به أو يُطبِّقه، وأدلُّ شيء على صدق كلامي واقعنا السيِّئ الذي نحياه.
لماذا طلب العلم؟
طلب العلم ليس غاية يُسعَى إليها لِذَاتها؛ بل هو وسيلة لمقصد عظيم، وهو عبادة الله - تعالى - على بصيرة، وهذا المعنى برغم يُسرِه وسُهُولتِه إلا أنه صعب التطبيق على نفوس كثيرٍ من المُشتَغِلين بالعلم الشرعي.
فبعد أن بدأ طالبُ العلم طلبَه بنيَّة رفْع الجهل عن نفسه وعن الآخَرين، إذا به يجعل العلم غاية مقصودة لذاتها، ويضيِّع على إثر ذلك واجبات شرعيَّة أعظم وأكبر من تَحصِيل العلم المزعوم، ولا يَزِيده طلب العلم إلا بُعدًا عن العمل الذي هو ثمرة العلم في الحقيقة.
ولم يكن الشيطانُ ليترك طالب العلم وهذه الفضيلة العظيمة - طلب العلم - بل يعكِّر عليه صَفْوَ نيَّته فيشوبها بأنواعٍ من المُفسِدات؛ كطلب المنصب، وسَعَة الصيت، والأكل بالعلم، والعلو على الأقران والأصحاب.
وهذه كلُّها أمراض كامِنَة في القلوب والنفوس تظهر عند المحكِّ، ويَعرِفها مَن يُفَتِّش في نفسه وقلبه بصدق وبصيرة.
علامات فساد النيَّات في طلب العلم:
تقديم طلب العلم على العمل:
ويكون طلب العلم غاية عندما ينشَغِل الطالب بالعلم عن العمل، فربما يَعتاد طالب العلم السهر في طلب العلم ثم ينام عن صلاة الفجر أو يكسل فيُصَلِّيها في البيت، ويكون هذا ديدنه! وعندما يرى طالب العلم الأمر المحرَّم الذي يعلم في حرمته الأدلَّة الكثيرة في بيته أو عمله أو أي مكان وهو مُنشَغِل بطلب علمه، ولا ينهى عنه أو يفكِّر في كيفيَّة إزالته!
تقديم المفضول من العلم على الفاضل منه:
ويكون طلب العلم غاية عندما يَنشَغِل الطالب كذلك بالمفضول من العلم عن الفاضِل منه، فيدرس في أصول الفقه مثلاً الكتاب تِلْوَ الآخَر، وهو بعدُ لم يُطالِع تفسيرًا واحدًا لكتاب الله - تعالى - الذي هو أمُّ العلوم والمعارف.
طلب العلم تزكية للنفوس:
كما يكون طلب العلم غايَة عندما تخلو النُّفوس من تقوى الله ومخافته، فعلامة العلم الصحيح ما ذكَرَه ربُّنا - تبارك وتعالى - من الخشية؛ كما في قوله - تعالى -: ? إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ? [فاطر: 28]، فالعلم يُورِث الخشية من الله - عزَّ وجلَّ - والإنابة إليه - تعالى - والسعي الحثيث وراء الآخرة، وكان سحنون - رحمه الله تعالى - يقول: "محبُّ الدنيا أعمى لم يُنَوِّره العلم"؛ "سِيَر أعلام النبلاء"، فبالعلم الصحيح تغلب الآخرةُ الدنيا في قلب الطالب.
طلب العلم مَدْعَاة للطِّباع الجميلة:
ويكون طلب العلم غاية كذلك عندما تقسو طِباع طالب العلم وتغلظ أخلاقه، يقول عبدالله بن المبارك - رحمه الله -: "عجبت لِمَن لم يطلب العلم، كيف تدْعوه نفسُه إلى مكرمة"؛ "سِيَر أعلام النبلاء"، فطلب العلم يدعو إلى مَكارِم الأخلاق وجميل الطِّبَاع، ويُبعِد عن الغلظة والاستِعلاء واستِحقار الناس وتعظيم النفس.
وقد ترى جماعةً ممَّن يَطلُبون العلم، ومع ذلك ترى لديهم قدرًا من الغِلظَة والقَسوَة تُوحِي بأنَّهم أهل كلام، لا طلاَّب قرآن وحديث وفقه.
انقِطاع الطلب دليلٌ على فَساد النيَّة:
وعندما يكون طلب العلم غاية لا وسيلة، فمن الطبيعي أن يَنقَطِع طالب العلم عن الطلب، ويبدأ مرحلة جديدة من الادِّعاء، الادِّعاء الإصلاحي، أو الادِّعاء النقدي، أو الاشتِغال بتَقوِيم أخطاء الدُّعاة والعُلَماء كذلك، وتجريح وتعديل طُلاَّب العلم... وهكذا.
ليته لم يطلب العلم!
أحيانًا كثيرة يُقَدِّم بعض طلاب العلم الشرعي أسوأ النماذج في سوء الفهم وسوء الأخلاق، واتِّباع الأهواء، وهدم أعمال الدعاة والمصلحين! حينها يَأسَف الإنسان على هذه النماذج وما ضَيَّعوه من وقت وجهد ليكونوا مِعْوَلَ هَدْمٍ وتخريب في الكيان الدعوي، ولا يملك المرءُ وقتَها إلا أن يقول: ليتهم لم يطلبوا العلم ولم يتعلَّموا منه شيئًا!
ومِن هؤلاء:
• مَن تعلَّم بعض العلم فغرَّه ورأى في نفسه عالِمًا أو مُصلِحًا، فراحَ يَنشُر كذبته عمليًّا بتَجرِيح أهل العلم وإخوانه في الساحة الدعويَّة.
• ومَن تعلَّم بعض العلم فراح يُشغِل الناس عن القضايا الكبرى بما يعتَقِد هو بعبقريته أنَّه الأهمُّ والأَوْلَى، دون رُسوخٍ في فَهْمِ الواقع، أو إكمال مَسِيرة دعويَّة سبقَتْه.
• ومَن تعلَّم بعضَ العلم فجعَل طلب العلم مَشرُوعَه الدعوي، بحيث يرى صلاح الأمَّة في طلب العوامِّ لأصول الفقه ومصطلح الحديث وعلوم اللغة فقط، أو مجرَّد التقيُّد الدراسي بالمذاهب الفقهيَّة.
• ومَن تعلَّم بعضَ العلم ففتَح عليه العلمُ أبوابَ دنيا، فوَلَجها ونَسِي أصل مَقصِدِه وغايته من العلم، ونافَس أهل الدنيا على حُطامِها الزائل.
• ومن تعلَّم بعض العلم ليعمل فيما بعدُ بكلِّ رُخَصِه التي يقف عليها! فليته لم يتعلَّم العلم ولم يقف على رُخَصِه.
ولعل تلك الأصناف وغيرها من طلبة العلم هم مَن عناهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((مَن طلب العلم ليُباهِي به العُلَماء، أو ليُمارِي به السُّفهاء، أو ليَصرِف به وجوه الناس إليه - فهو في النار))؛ (أخرجه ابن ماجه من حديث عبدالله بن عمر - رضِي الله عنهما - وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع")، وكذا قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن تعلَّم علمًا ممَّا يُبتَغى به وجهُ الله، لا يتعلَّمه إلا ليُصِيب به عَرَضًا من الدنيا، لم يجد عَرْفَ الجنَّة يوم القيامة))؛ (أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").
وكذا حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - عند مسلمٍ وغيره: ((ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن، فأُتِي به فعرَّفه نِعَمه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت؛ ولكنك تعلَّمت العلم ليُقال: عالم، وقرأت القرآن ليُقال: هو قارئ، فقد قِيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقِي في النار)).
يقول الخطيب البغدادي - رحمه الله تعالى - في مقدمة كتابه "اقتضاء العلم العمل":
"ثم إنِّي مُوصيك - يا طالب العلم - بإخلاص النيَّة في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بمُوجبه؛ فإنَّ العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يُعدُّ عالِمًا مَن لم يكن بعلمه عامِلاً، وقيل: العلم والد والعمل مولود، والعلم مع العمل، والرِّواية مع الدِّراية، فلا تَأنَس بالعمل ما دُمتَ مُستَوحِشًا من العلم، ولا تَأنَس بالعلم ما كنت مُقَصِّرًا في العمَل، ولكن اجمع بينهما، وإن قَلَّ نصيبك منهما، وما شيء أضعف من عالم ترك الناسُ علمَه لفَساد طريقته، وجاهِل أخذ الناس بجهله لنَظَرِهم إلى عِبادته، والقليل من هذا مع القليل من هذا أنجى في العاقبة إذا تفضَّل الله بالرحمة، وتَمَّم على عبده النعمة"؛ ا.هـ.
نسأل الله - تعالى - أن يخلص نيَّاتنا له وحدَه، وأن يجعَلَنا من الذين يَستَمِعون القول فيتَّبِعون أحسَنَه، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.