: عبادة أفضل من الصيام والصلاة والصدقة


08-10-2022, 03:41 PM
عبادة أفضل من الصيام والصلاة والصدقة


نقف اليوم مع عبادة عظيمة من العبادات التي ي*بها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، هذه العبادة تهدف إلى الأمن والاستقرار، والألفة والمودة والم*بة بين الناس، هذه العبادة لأهميتها؛ أبا* الإسلام الكذب في سبيل ت*قيقها؛ *فاظًا على و*دة المسلمين وسلامة قلوبهم، واعتبرها من أعظم وأجلِّ الطاعات وأفضل الصدقات، وادخر الله تعالى لصا*ب هذه العبادة الأجرَ العظيم والثواب الجزيل، إذا ابتغى بها وجه الله تعالى، هذه العبادة ما أ*وج الأمة اليوم إليها، وخاصة ون*ن في زمن كثُرت فيه الصراعات والنزاعات، والهجر والقطيعة، فلم يسلم منها الأقارب ولا الجيران، ولا الأصدقاء، ولا الأزواج، ولا الشركاء! هذه العبادة هي عبادة الإصلا* بين الناس.

فيا تُرى ماذا قال القرآن الكريم عن هذه العبادة؟ وما الأجر والثواب الذي أعده الله تعالى لصا*ب هذه العبادة؟ وكيف كان السلف الصال* يتعاملون مع هذه العبادة؟ وكيف كان الوا*د منهم يعفو ويسام* ويصل* ويُعرض عن الجاهلين؟ هذا ما سنتعرف عليه في هذه الساعة المباركة.


أيها المسلم الكريم: لو تصف*نا كتاب الله، لرأينا أن القرآن الكريم ت*دث عن هذه العبادة في آيات كثيرة، و*ث الأمة على التمسك بها، وبيَّن لنا أجرها وثوابها؛ فقال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِ*ُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْ*َمُونَ} [ال*جرات: 10]؛ أي: من أراد أن تشمله الر*مـات الإلهية، فليتـقِ الله تعالى، وليسلك طريـق الإصــلا* بين الناس.

وقال تعالى في آية أخرى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَا*ٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]؛ يعني: لا خير في كثير من الكلام الذي يتناجى فيه الناس، ويت*دثون به سرًّا، إلا في نجوى من أمر غيره سرًّا بصدقة يزكِّي بها ماله، وينفع بها الم*تاج إليها، أو من غيره بالإكثار من أعمال البر، أو القيام بالإصلا* بين الناس المتخاصمين؛ لكي يعودوا إلى ما كانوا عليه من الألفة والإخاء والصفاء، ثم بيَّن تعالى *سن عاقبة من يقوم بفعل هذه الفضائل فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].


ذات يوم كان نبينا صلى الله عليه وسلم جالسًا بين أص*ابه فقال لهم: «ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة» - الص*ابة رضي الله عنهم تعجبوا ما هو العمل الذي هو أفضل من نافلة الصيام والصلاة والصدقة - قالوا: بلى، قال: «صـلا* ذات البين، فإن فساد ذات البيـن هي ال*القة»[1] ؛ قال الترمذي: هـذا *ديث *سن ص*ي*، ويُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هي ال*القة، لا أقول ت*لق الشعر، ولكن ت*لق الدين»[2].

وفي هذا ال*ديث *ثٌّ وترغيب في إصلا* ذات البين، واجتناب عن الإفساد فيها؛ لأن الإصلا* سبب للاعتصام ب*بل الله، وعدم التفرق بين المسلمين، وفساد ذات البين ثُلمة في الدين، فمن تعاطى إصلا*ها، ورفع فسادها، نال درجةً فوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخويصة نفسه[3].

فالذي يسعى للإصلا* بين الناس، ويجمع بين فلان وفلان على الم*بة والألفة، ويصل* بين زوج وزوجته، فهذا العمل أفضل من الذي يصوم النهار ويقوم الليل، ويتصدق على الفقراء، ولكن الذي يسعى لفساد ذات البين، ويسعى لخراب البيوت، ونشر الفتنة بين الناس، فهذا ي*لق بدينه، كما ت*لق الموس الشعر.

رُبَّ كلمة تقولها - يا أخي - تطفئ بها نار الفتنة، وتجمع بها المتخاصمين على المودة، وتعمر بها البيوتات؛ قال سيدنا م*مد صلى الله عليه وسلم: «إن العبد لَيتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم»[4]، كلمة تقولها تصل* بها بين أخوين أو زوجين أو بين أسرتين يرفعك الله بها في أعلى الجنان، وكلمة تقولها تفسد بها بين الناس، وتخرب بها البيوتات، تهوي بك في النار سبعين خريفًا.

والله - يا أخي - ليس ثمة خطوة أ*ب إلى الله تعالى من خطوة يصل* فيها العبد بين اثنين، ويقرب فيها بين قلبين؛ ولذلك جعل الله للمصل* أجرًا عظيمًا؛ يقول سيدنا أنس رضي الله عنه: ((من أصل* بين اثنين، أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة))[5] ، وقال الإمام الأوزاعي الفقيه الم*دث ر*مه الله: ((ما خطوة أ*ب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلا* ذات البين، ومن أصل* بين اثنين كتب الله له براءةً من النار))[6]، لماذا كل هذا الأجر والثواب للمصل*؟

لأن المصل* بإصلا*ه تكون الطمأنينة والهدوء والاستقرار والأمن، وتتفجر ينابيع الألفة والم*بة بين الناس، ولو نظرنا في واقعنا، لرأينا كم من بيت كاد أن يتهدم، وكم من أسرة كادت أن تتشتت، وكم من زوجة كادت أن تطلق، وكم من قطيعة كادت أن تكون بين أخوين أو صديقين أو قريبين أو جارين، وكم من دماء كادت أن تسيل - لولا تدخل هذا المصل* بكلمته الطيبة، ونصي*ته الغالية، استطاع أن يعيد المياه إلى مجاريها!

إن الخلاف والنزاع أمر طبيعي لا يسلم منه أ*د من البشر، فقد يقع خلاف بينك وبين أخيك، أو أ*د أقاربك، أو مع زوجتك، أو مع جارك، فهذا أمر طبيعي فلا تنزعج منه، ولو سلِم أ*د من الخلاف لسلم منه خيرة البشر ص*ابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى الإمام البخاري أن أهل قباء ص*ابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذين أنزل الله في *قهم:{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَ*َقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُ*ِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُ*ِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ} [التوبة: 108]،فهؤلاء *صل بينهم خلاف، واقتتلوا *تى ترامَوا بال*جارة، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «اذهبوا بنا نصل* بينهم»[7].

إن الخلاف ليس عيبًا، ولكن العيب في الاستمرار على الخلاف، والخصومة وعدم الصل*، فالمسلم ي*صل خلاف بينه وبين أخيه، ولكن عليه أن يسارع إلى الصل* والعفو والتسام*.

وبعض الناس يظن أن مَن يعفو ويسام* ويتنازل عن *قه جبانٌ، وأنها منقصة في *قه، لا، هذا غير ص*ي*، إياك - يا أخي - أن تصدق هذا الكلام، فهؤلاء إنما يدعونك للشر، ولا يريدون لك الخير.

ثم هل أنت تصدق هؤلاء أم تصدق الله عز وجل الذي يقول:{وَالصُّلْ* ُ خَيْرٌ} [النساء: 128]؟ هل أنت تصدق هؤلاء أم تصدق الله عز وجل الذي يقول:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَ*َ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]؟ هل أنت تصدق هؤلاء أم تصدق نبيك صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا»[8]؟ هذا الذي يشجعك على الانتقام وأخذ الثأر وعدم الصل*، هذا يمثل دور الشيطان الذي قال عنه:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91].

سلفنا الصال* رضي الله عنهم كانوا يقابلون السيئة بال*سنة، وكانوا يقولون لكل من يتجاوز عليهم: سام*ك الله، وغفر الله لك، هذا سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه الص*ابي الجليل، كان عنده غلام، هذا الغلام أدخل شاة على علف الفرس لتأكل منه، فسأله سيدنا أبو ذر: أدخلت الشاة على علف الفرس؟ فقال له الغلام: أدخلتها لأغيظك... تأملوا كيف يجيب هذا الغلام سيده، كيف يرد عليه بأسلوب استفزازي، ماذا تظنون من صا*ب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل؟ وكيف سيتعامل مع هكذا موقف؟

اسمعوا - أيها الناس - ماذا فعل سيدنا أبو ذر رضي الله عنه مع هذا الغلام، قال له: "أيها الغلام، لأجمعنَّ مع الغيظ أجرًا، أنت *ر لوجه الله تعالى"[9]، إنه ال*لم والعفو والصف*، هذه الأخلاق التي ضاعت من واقع الكثير من الناس في دنيا اليوم، أتدرون لماذا تعامل أبو ذر رضي الله عنه مع هذا الغلام بهذه الأخلاق؟ لأنه جعل نُصب عينه قوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَ*ْ إِنَّ اللَّهَ يُ*ِبُّ الْمُ*ْسِنِينَ} [المائدة: 13]، وقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَ*َ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُ*ِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40].


فيا أخي الكريم: كُنْ من المصل*ين الذين يصل*ون بين الناس، كن مفتا*ًا للخير مغلاقًا للشر، قل كلمة تجمع بها بين الأخ وأخيه، بين الجار وجاره، وبين الزوج وزجته، فإنك إن فعلت ذلك، زادك الله عزة وكرامة، وإياك أن تكون ممن يسعون في الأرض فسادًا، فإن لم تستطع أن تقول كلمةَ خيرٍ تجمع بها بين الأطراف المتنازعة، فالزم الصمت؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو ليصمت...»[10].

فهنيئًا لمن جعله الله من الساعين في الإصلا* بين الناس، هنيئًا لمن جعله الله مفتا*ًا للخير مغلاقًا للشر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصل* ذات بيننا، واهدنا سبل السلام... أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

مسألتنا الفقهية لهذه الجمعة تتعلق بالقيام للصلاة عند الإقامة:أقوال المذاهب فيها ما يلي:
ال*نفية:يقوم عند قول المقيم: (*ي على الفلا*)، والمالكية: يقوم لها *ال الإقامة، أو بعدها بقدر ما يستطيع، ولا يُ*َدُّ ذلك بزمن معين، والشافعية: يسن أن يكون القيام للصلاة عقب فراغ المقيم من الإقامة، وال*نابلة: يسن أن يقـوم عنـد قـول المقيم: قد قامت الصـلاة، إذا رأى الإمام قد قام، وإلا تأخر *تى يقوم[11].

وعليه، فالأمر في هذا واسع، فللمأموم أن يقوم متى شاء في أول الإقامة أو في أثنائها.

[1] (وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْ*َالِقَةُ)؛ أَيِ: الْمَا*ِيَةُ وَالْمُزِيلَةُ لِلْمَثُوبَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَالْمَعْنَى يَمْنَعُهُ شُؤْمُ هَذَا الْفِعْلِ عَنْ تَ*ْصِيلِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ ؛ [مرقاة المفاتي* شر* مشكاة المصابي* للملا علي القاري: (8/ 3154)].
[2] سنن الترمذي، أَبْوَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالرَّقَائِقِ وَالْوَرَعِ، باب:(4/ 244)، برقم (2509)، وقال الترمذي: هَذَا *َدِيثٌ *َسَنٌ صَ*ِي*ٌ.
[3] مرقاة المفاتي* شر* مشكاة المصابي* للملا علي القاري: (8/ 3154).
[4] ص*ي* البخاري، كتاب الرقاق - بَاب *ِفْظِ اللِّسَانِ: (8/ 125)، برقم (6478).
[5] تنبيه الغافلين بأ*اديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي (ص: 522).
[6]الجامع لأ*كام القرآن، للقرطبي: (5/ 385).
[7] ص*ي* البخاري، كتاب الصل* - باب قول الإمام لأص*ابه اذهبوا بنا نصل*: (3/ 240)، برقم (2693).
[8] ص*ي* مسلم، كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ - بَابُ اسْتِ*ْبَابِ الْعَفْوِ وَالتَّوَاضُعِ: (4/ 2001)، برقم (2588).
[9] ربيع الأبرار ونصوص الأخيار للزَّمَخْشَرِي: (2/ 227).
[10] ص*ي* البخاري، كتاب الرقاق، بَاب *ِفْظِ اللِّسَانِ: (8/ 125)، برقم (6475).
[11] المسألة منقولة من كتاب: (مسائل فقهية وفوائد شرعية، د. م*مد مطلق عبيد الم*مدي).
______________________________ _________________

الكاتب: د. م*مد جمعة ال*لبوسي

Adsense Management by Losha