فريق منتدى الدي في دي العربي
08-13-2022, 08:42 AM
هذا محمد صلى الله عليه وسلم لو كنت تعلمون
حسام الدين كاظم السامرائي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
يقول أحد المستشرقين واصفا إمام المرسلين وخاتم النبيين: (لو لم يكن لمحمدمعجزة إلا أنه صنع أمة من البدو، فجعلها أمة كبرى فيالتاريخ، لكفته معجزة في العالمين).
وكما قال المثل العربي القديم: والفضل ما شهدت به الأعداء.
إنه محمد سيد الخلق وإمام الحق، الذي تطاول عليه الجاحدون، وانتقص منه السفهاء والمبطلون، وكاد به الضالون المنحرفون.
فمنذ بعثته - عليه الصلاة والسلام - وهو يصارع أهل الطغيان بالبيان تارة وبالسنان تارة أخرى، فوصفوه بالكذاب والشاعر والمجنون والساحر، وليس ذلك الوصف له فحسب بل إنه وصفٌ لكل من سبقه من الأنبياء والمرسلين والصلحاء المتقين: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا).
ولا نزال بين آونة وأخرى نسمع ونرى صنفاً من أولئك الحاقدين يرفعون أصواتهم هنا أو هناك وهم يحاولون تغطية ضوء شمس النبوة بغربال الشبهة تارة والسخرية تارة أخرى، ولكي لا تكون أفعالنا ردود أفعال فإننا سنقف متأملين لنعرف منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومكانته عند الله وعند الأنبياء وعند الأصحاب وحينها سنعرف قدر هذا النبي الكريم وما يجب علينا فعله تجاهه.
أولاً: منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ربه
فقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع)).
إنه محمد - صلى الله عليه وسلم - أقرب الخلق إلى الله وسيلة وأسمعهم لديه شفاعة، أرسله ربه بالإيمان منادياً وإلى الجنة داعياً وإلى الصراط المستقيم هادياً، فرفع قدره وأعلى منزلته، وشرح صدره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره.
دعونا نتأمل في منزلته عند ربه وما يترتب عليها من عمل، أخي المسلم أختي المسلمة لتعرف قدر نبيك عند الله، إليك الآتي:
1- تأمل باصطفائه على البشرية:
قال الله - تعالى -: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، ويؤكد هذا الاصطفاء ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث واثلة بن الاسقع أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم)، وهكذا نرى أنه - عليه الصلاة والسلام - مختار ومصطفى وهو في صلب آبائه كما قال - عز وجل -: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي وأنت تتنقل في أصلاب آبائك المؤمنين آدم وإبراهيم وإسماعيل.
2- تأمل كيف رفع الله له ذكره:
فاليوم لا يذكر اسم الجلالة في التشهد إلا ويُقرن بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيرفع كل حين في الأذان فلا يقال لا إله إلا الله إلا ويتبعها محمد رسول الله، ومن يقر بالأولى فيلزمه الإقرار بالثانية ولا تستقيم الشهادة لدخول الإسلام إلا باقتران الشهادتين، ومن فرق بين الشهادتين فأقر بالأولى وأنكر الثانية فإنه بعيد عن دائرة الإيمان وقريب من دائرة الكفر والعياذ بالله، فكما أنك أيها المسلم تقر بوحدانية الله وربوبيته وأسمائه وصفاته فكذلك لابد أن تقر بوحدانية الإتباع للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو مفهوم عبارة " أشهد أن محمدا رسول الله " فإطاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر والانتهاء عما نهى عنه وزجر.
قال - جل وعلا -: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) فالله - عز وجل - رفع ذكر نبيه وهذه دلالة واضحة على عظيم منزلته ومكانته عند ربه، حتى قال حسان بن ثابت - رضي الله عنه - (شاعر الرسول) مبينا تلك المنزلة:
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
3-لتعرف منزلته عند ربه تأمل في حب الله له:
ونحن نقرأ القرآن يستوقفنا القسم الرباني بعُمُر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله - عز وجل - لا يقسم إلا بعظيم فقال - سبحانه -: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) فلم يقسم ربنا بحياة أحد إلا رسوله - عليه الصلاة والسلام - بل اتخذه خليلا فقال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: (وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا)، والخلة أعلى درجات المحبة فالخليل لا يفارق خليله ولا يتركه وهو معه على الدوام، قال - عز وجل -: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) أي لا يتركك ربك من ملازمة الخلة، بل سيعطيك حتى ترضى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى).
فأرضاه في قبلته:( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) وأرضاه في حاله: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى).
وأرضاه في أمته فكانت خير أمة أخرجت للناس.
وأرضاه في كتابه ليكون مهيمنا على الكتب.
وأرضاه في نبوته لتكون خاتم النبيين.
وأرضاه في أصحابه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ - رضي الله عنهم - وَرَضُوا عَنْهُ).
4- لتعرف منزلته عند ربه تأمل في اقتران اسمه - سبحانه - باسم رسوله:
ففي الطاعة قال - جل وعلا -: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
وفي منزل العصيان قال - سبحانه -: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا).
وفي محل الرضا قال - عز وجل -: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ).
وفي محل البراءة قال - سبحانه -: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
بل جعل من لوازم طاعته طاعة رسوله فقال - عز وجل -: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وقال - جل وعلا -: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، ومن يشك في حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشك في حقيقة الإيمان قال - عز وجل -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ).
5-لتعرف مكانة نبيك عند الله تأمل في شهادة التزكية الربانية التي منحها له ربك - جل وعلا -:
فزكاه في لسانه فقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)
وزكاه في صدره فقال: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)
وزكاه في عقله فقال: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)
وزكاه في بصره فقال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)
وزكاه في أذنه فقال: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)
وزكاه في فؤاده فقال: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)
وزكاه في قلبه فقال: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)
وزكاه في أهله فقال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)
وزكاه كله فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
6-إذا أردت أن تعرف منزله رسولك عند الله تأمل في رحلة الإسراء والمعراج التي لم يشاركه فيها أحد من البشر: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)
7- إذا أردت أن تعرف منزلته ومكانته عند الله أختم لك بالآية العظيمة الجليلة التي لا تقرع حروفها الأسماع إلا ووجدت صداها في القلب وتأثيرها في النفس ورقتها على المشاعر والأحاسيس وهي قوله عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) فالله - جل وعلا - في عليائه والملائكة في السماء يصلون عليه...فلا إله إلا الله ما أروعها من منزلة لهذا الرسول العظيم..
اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
ثانياً: منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الأنبياء
أرأيت قصرا جميلا؟ أبوابه عالية؟ جدرانه من الرخام اللامع؟ شبابيكه من نحاس براق؟ سلالمه من الفضة؟ طلائه يبهر الألباب؟ إنارته تراها من مكان بعيد؟
لكن ينقصه حجر ولبنة في تلك الزاوية، فلو وضعت في محلها لكان المنظر أجمل ما يكون.
هكذا يصور النبي - صلى الله عليه وسلم - مكانته ومنزلته بين الأنبياء فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله فجعل الناس يطوفون به ويقولون ما رأينا بنيانا أحسن من هذا إلا هذه اللبنة، فكنت أنا تلك اللبنة.
لا أريد في هذا المقام المفاضلة بين الأنبياء فنحن مأمورون بحبهم جميعاً قال - تعالى -: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)
والتفريق بين الأنبياء من سمات اليهود كما قال ربنا - سبحانه -: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)
وليس المقصد من ذكر فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - انتقاص بقية الأنبياء لكنه من باب ذكر الفضل لصاحب الفضل، فالله فاضل بين أنبيائه فقال: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)
ودعونا نتأمل في فضله - صلى الله عليه وسلم - ومكانته بين الأنبياء، حينها سنعرف قدره على الحقيقة، يقول الله - تعالى -مخاطباً رسله وأنبيائه: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)
فالله جل علا أخذ ميثاقاً على الأنبياء جميعاً، آدم، نوح، إبراهيم، موسى، وحتى ختمهم بعيسى أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وينصرونه.، وهنا نراهم أي الأنبياء يبشرون قومهم بمقدمه نصرة له - صلى الله عليه وسلم - تأكيداً على هذا الميثاق.
قال إبراهيم وإسماعيل: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
وقال عيسى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)
وقال موسى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فالأنبياء جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم بشروا بمقدمه وما ذاك إلا لمنزلته ومكانته عندهم.
تأمل منزلته بين الأنبياء وهو يصلي بهم إماماً يوم أن أسري به إلى بيت المقدس.
تأمل منزلته بين الأنبياء كما في حديث الشفاعة الطويل: (أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين و الآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس منهم فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبونا أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح ; فيأتون نوحا فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض و سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم ; فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم؟ أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى ; فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله فضلك الله برسالاته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى ; فيأتون عيسى! فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله و كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد ; فيأتوني فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ ; فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله علي و يلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول: يا رب! أمتي أمتي فيقال: يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب والذي نفسي بيده إن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى. (صحيح الجامع برقم 2346).
وهذا هو المقام المحمود.. الذي تحمده كل الخلائق عليه
تأمل منزلة النبي بين الأنبياء وأنت تستشعر خطاب الله لأنبيائه جميعاً، فقد خاطبهم بأسمائهم فقال: (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وقال (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) وقال: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) وقال (يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) وقال: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقال: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى) وقال: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) وقال: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً) فكل الأنبياء خاطبهم ربنا - عز وجل - بأسمائهم، أما رسولك - صلى الله عليه وسلم - فلم يخاطبه ربه إلا بالنبي أو الرسول فقال - جل وعلا -: (يا أيها النبي) (يا أيها الرسول).
ولم يأت بلفظ محمد في القرآن إلا مقروناً، فقال - جل وعلا -: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) وقال: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ) وقال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) وهذه إشارة عظيمة إلى منزلته ومكانته - صلى الله عليه وسلم - بين الأنبياء.
تأمل في رحلة المعراج التي اختصه الله بها دون الأنبياء
تأمل في أن جزءا من شرعه - صلى الله عليه وسلم - فرض في السماء
تأمل بأن الله ميزه فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وما ذلك إلا له
تأمل كيف أن الله جعل بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة
تأمل كيف أعطاه الله الكوثر والمقام المحمود والوسيلة والفضيلة
تأمل في معجزات الأنبياء التي انتهت وانقرضت بخلاف معجزته - صلى الله عليه وسلم - وهي القرآن، فهو ذكر الله الخالد إلى قيام الساعة
إنها منزلته - صلى الله عليه وسلم - بين الأنبياء فاحفظها يا رعاك الله.
ثالثا: منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الصحابة
للنبي - صلى الله عليه وسلم - مكانته ومنزلته في قلوب أصحابه، فكانوا يعظمونه ويوقرونه، وأنقل الصورة إلى عروة بن مسعود (والفضل ما شهدت به الأعداء) ليصف لنا يوم أن جاء مفاوضاً عن مشركي قريش يوم الحديبية وهو يسجل توقير الصحابة لرسول الله - عليه الصلاة والسلام -، فقال: "فوالله ما تنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم – نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً والله إن تنخم نخامة ً إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً له وإنه قد عرض عليكم خطة رشدٍ فاقبلوها) [رواه البخاري ومسلم].
إنه الرسول الذي جاءهم فاستنارت الأرض بعد ظلمتها واهتدت به البشرية بعد ضلالها وحيرتها
تأمل في منزلته عند أصحابه وأنت تقرأ فعل ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان شديد الحب لرسول الله - عليه الصلاة والسلام -، رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فعرف في وجهه الحزن، فقال: يا ثوبان ما غير وجهك؟ فقال: ما بي من وجع يا رسول الله غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك فأذكر الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك، فنزل قول الله - تعالى -: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا).
وتأمل في أمنية ربيعة ابن كعب الأسلمي يوم أن قال: كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآتيه بوضوئه وحاجته فقال لي سل، فقلت أسألك مرافقتك في الجنة، قال أو غير ذلك، قلت هو ذاك، قال فأعني على نفسك بكثرة السجود.
كانوا لا يقدمون عليه أحداً، فهذا مصعب ابن عمير يعود للمدينة بعد سنة من الدعوة والجهاد فيذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولاً، وكانت له أم هو من أبر الناس بها فترسل أمه إليه تعاتبه وتقول: يا عاق أتقدم بلداً أنا فيه لا تبدأ بي؟ فقال ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - يرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - مفاوضاً إلى قريش وكانت قريش تحب عثمان فعرضوا عليه أن يطوف هو بالبيت، فقال والله ما كنت لأطوف قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
كانوا يتبركون بآثاره - صلى الله عليه وسلم - يقول أنس والحديث من رواية مسلم: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحلاق يحلقه وحوله أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل، وعند مسلم أيضاً من رواية أنس كذلك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه - قال - فجاء ذات يوم فنام على فراشها فأتيت فقيل لها هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - نام في بيتك على فراشك - قال - فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها ففزع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال « ما تصنعين يا أم سليم ». فقالت يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا قال « أصبت ».... إنه غاية التعظيم والتوقير والحب والطاعة والأدب، يقول المغيرة: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرعون بابه بالأظافير، قال الصنعاني والظاهر أنهم كانوا يقرعونه بالأظافير تأدباً.
تأمل لما نزل قول الله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) ظن ثابت ابن قيس أنه المقصود في الآية فقد كان جهوري الصوت، فحبس نفسه في بيته، يقول أنس كما اخرج الإمام البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابت ابن قيس فقال رجل أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه فقال ما شأنك قال شرٌّ كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حبط عمله وهو من أهل النار فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه قال كذا وكذا فقال موسى بن أنس فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة.
فمن شدة حبهم له كانوا رضوان الله عليهم يخافون أن يؤذونه ويهابونه حتى قال البراء بن عا زب لقد كنت أريد أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأمر فأواخره سنين من هيبته، وهكذا سار على طريقهم العلماء والصالحون، فقد ناظر أبو جعفر المنصور-أمير المؤمنين- الإمام مالك في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع صوته فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في المسجد فإن الله - تعالى - أدب قوما فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ومدح قوما فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) وذم قوما فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً فاستكان لها أبو جعفر.
تأمل في الفعل العجيب لابن الزبير والحديث أخرجه البغوي وغيره: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يحتجم فلما فرغ قال يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد وفى لفظ فواره حيث لا يراه أحد فلما برز عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمد إلى الدم فشربه فلما رجع قال يا عبد الله ما صنعت قال جعلته في أخفى مكان علمت أنه خاف عن الناس فقال لعلك شربته قلت نعم قال ولم شربت الدم ويل للناس منك وويل لك من الناس قال أبو عاصم كانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم.
لقد فداه علي - رضي الله عنه - يوم هجرته، وحماه أبو دجانة في معركة أحد يوم أن وقف خلفه ليستقبل ظهره سهام المشركين.
إنها منزلة عظيمة ومكانة رفيعة تلك المكانة التي كانت لرسول الله عليه والصلاة والسلام في قلوب ونفوس أصحابه.
مما تقدم... أيها الأحبة: من لوازم هذه المنزلة الإيمان به - عليه الصلاة والسلام -، والإيمان بنبوته ورسالته، من لوازم هذه المنزلة تصديقه فيما أخبر وإطاعته فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر، من لوازم هذه المنزلة نصرته والدفاع عنه وتوقيره واحترامه، من لوازم هذه المنزلة صيانة عرضه وشرفه والدفاع عن أزواجه، من لوازم هذه المكانة الاقتداء بسنته العمل بشرعته، من لوازم هذه المكانة الحفاظ على مكانة أصحابه وأنصاره والذين دافعوا عنه وذادوا عن حياضه، من لوازم هذه المكانة تقديم سنته على الآراء والأهواء والعقول، من لوازم هذه المكانة الدفاع عنه في كل حين: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
والله من وراء القصد..
حسام الدين كاظم السامرائي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
يقول أحد المستشرقين واصفا إمام المرسلين وخاتم النبيين: (لو لم يكن لمحمدمعجزة إلا أنه صنع أمة من البدو، فجعلها أمة كبرى فيالتاريخ، لكفته معجزة في العالمين).
وكما قال المثل العربي القديم: والفضل ما شهدت به الأعداء.
إنه محمد سيد الخلق وإمام الحق، الذي تطاول عليه الجاحدون، وانتقص منه السفهاء والمبطلون، وكاد به الضالون المنحرفون.
فمنذ بعثته - عليه الصلاة والسلام - وهو يصارع أهل الطغيان بالبيان تارة وبالسنان تارة أخرى، فوصفوه بالكذاب والشاعر والمجنون والساحر، وليس ذلك الوصف له فحسب بل إنه وصفٌ لكل من سبقه من الأنبياء والمرسلين والصلحاء المتقين: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا).
ولا نزال بين آونة وأخرى نسمع ونرى صنفاً من أولئك الحاقدين يرفعون أصواتهم هنا أو هناك وهم يحاولون تغطية ضوء شمس النبوة بغربال الشبهة تارة والسخرية تارة أخرى، ولكي لا تكون أفعالنا ردود أفعال فإننا سنقف متأملين لنعرف منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومكانته عند الله وعند الأنبياء وعند الأصحاب وحينها سنعرف قدر هذا النبي الكريم وما يجب علينا فعله تجاهه.
أولاً: منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ربه
فقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع)).
إنه محمد - صلى الله عليه وسلم - أقرب الخلق إلى الله وسيلة وأسمعهم لديه شفاعة، أرسله ربه بالإيمان منادياً وإلى الجنة داعياً وإلى الصراط المستقيم هادياً، فرفع قدره وأعلى منزلته، وشرح صدره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره.
دعونا نتأمل في منزلته عند ربه وما يترتب عليها من عمل، أخي المسلم أختي المسلمة لتعرف قدر نبيك عند الله، إليك الآتي:
1- تأمل باصطفائه على البشرية:
قال الله - تعالى -: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، ويؤكد هذا الاصطفاء ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث واثلة بن الاسقع أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم)، وهكذا نرى أنه - عليه الصلاة والسلام - مختار ومصطفى وهو في صلب آبائه كما قال - عز وجل -: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي وأنت تتنقل في أصلاب آبائك المؤمنين آدم وإبراهيم وإسماعيل.
2- تأمل كيف رفع الله له ذكره:
فاليوم لا يذكر اسم الجلالة في التشهد إلا ويُقرن بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيرفع كل حين في الأذان فلا يقال لا إله إلا الله إلا ويتبعها محمد رسول الله، ومن يقر بالأولى فيلزمه الإقرار بالثانية ولا تستقيم الشهادة لدخول الإسلام إلا باقتران الشهادتين، ومن فرق بين الشهادتين فأقر بالأولى وأنكر الثانية فإنه بعيد عن دائرة الإيمان وقريب من دائرة الكفر والعياذ بالله، فكما أنك أيها المسلم تقر بوحدانية الله وربوبيته وأسمائه وصفاته فكذلك لابد أن تقر بوحدانية الإتباع للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو مفهوم عبارة " أشهد أن محمدا رسول الله " فإطاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر والانتهاء عما نهى عنه وزجر.
قال - جل وعلا -: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) فالله - عز وجل - رفع ذكر نبيه وهذه دلالة واضحة على عظيم منزلته ومكانته عند ربه، حتى قال حسان بن ثابت - رضي الله عنه - (شاعر الرسول) مبينا تلك المنزلة:
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
3-لتعرف منزلته عند ربه تأمل في حب الله له:
ونحن نقرأ القرآن يستوقفنا القسم الرباني بعُمُر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله - عز وجل - لا يقسم إلا بعظيم فقال - سبحانه -: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) فلم يقسم ربنا بحياة أحد إلا رسوله - عليه الصلاة والسلام - بل اتخذه خليلا فقال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: (وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا)، والخلة أعلى درجات المحبة فالخليل لا يفارق خليله ولا يتركه وهو معه على الدوام، قال - عز وجل -: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) أي لا يتركك ربك من ملازمة الخلة، بل سيعطيك حتى ترضى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى).
فأرضاه في قبلته:( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) وأرضاه في حاله: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى).
وأرضاه في أمته فكانت خير أمة أخرجت للناس.
وأرضاه في كتابه ليكون مهيمنا على الكتب.
وأرضاه في نبوته لتكون خاتم النبيين.
وأرضاه في أصحابه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ - رضي الله عنهم - وَرَضُوا عَنْهُ).
4- لتعرف منزلته عند ربه تأمل في اقتران اسمه - سبحانه - باسم رسوله:
ففي الطاعة قال - جل وعلا -: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
وفي منزل العصيان قال - سبحانه -: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا).
وفي محل الرضا قال - عز وجل -: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ).
وفي محل البراءة قال - سبحانه -: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
بل جعل من لوازم طاعته طاعة رسوله فقال - عز وجل -: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وقال - جل وعلا -: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، ومن يشك في حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشك في حقيقة الإيمان قال - عز وجل -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ).
5-لتعرف مكانة نبيك عند الله تأمل في شهادة التزكية الربانية التي منحها له ربك - جل وعلا -:
فزكاه في لسانه فقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)
وزكاه في صدره فقال: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)
وزكاه في عقله فقال: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)
وزكاه في بصره فقال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)
وزكاه في أذنه فقال: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)
وزكاه في فؤاده فقال: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)
وزكاه في قلبه فقال: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)
وزكاه في أهله فقال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)
وزكاه كله فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
6-إذا أردت أن تعرف منزله رسولك عند الله تأمل في رحلة الإسراء والمعراج التي لم يشاركه فيها أحد من البشر: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)
7- إذا أردت أن تعرف منزلته ومكانته عند الله أختم لك بالآية العظيمة الجليلة التي لا تقرع حروفها الأسماع إلا ووجدت صداها في القلب وتأثيرها في النفس ورقتها على المشاعر والأحاسيس وهي قوله عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) فالله - جل وعلا - في عليائه والملائكة في السماء يصلون عليه...فلا إله إلا الله ما أروعها من منزلة لهذا الرسول العظيم..
اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
ثانياً: منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الأنبياء
أرأيت قصرا جميلا؟ أبوابه عالية؟ جدرانه من الرخام اللامع؟ شبابيكه من نحاس براق؟ سلالمه من الفضة؟ طلائه يبهر الألباب؟ إنارته تراها من مكان بعيد؟
لكن ينقصه حجر ولبنة في تلك الزاوية، فلو وضعت في محلها لكان المنظر أجمل ما يكون.
هكذا يصور النبي - صلى الله عليه وسلم - مكانته ومنزلته بين الأنبياء فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله فجعل الناس يطوفون به ويقولون ما رأينا بنيانا أحسن من هذا إلا هذه اللبنة، فكنت أنا تلك اللبنة.
لا أريد في هذا المقام المفاضلة بين الأنبياء فنحن مأمورون بحبهم جميعاً قال - تعالى -: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)
والتفريق بين الأنبياء من سمات اليهود كما قال ربنا - سبحانه -: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)
وليس المقصد من ذكر فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - انتقاص بقية الأنبياء لكنه من باب ذكر الفضل لصاحب الفضل، فالله فاضل بين أنبيائه فقال: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)
ودعونا نتأمل في فضله - صلى الله عليه وسلم - ومكانته بين الأنبياء، حينها سنعرف قدره على الحقيقة، يقول الله - تعالى -مخاطباً رسله وأنبيائه: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)
فالله جل علا أخذ ميثاقاً على الأنبياء جميعاً، آدم، نوح، إبراهيم، موسى، وحتى ختمهم بعيسى أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وينصرونه.، وهنا نراهم أي الأنبياء يبشرون قومهم بمقدمه نصرة له - صلى الله عليه وسلم - تأكيداً على هذا الميثاق.
قال إبراهيم وإسماعيل: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
وقال عيسى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)
وقال موسى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فالأنبياء جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم بشروا بمقدمه وما ذاك إلا لمنزلته ومكانته عندهم.
تأمل منزلته بين الأنبياء وهو يصلي بهم إماماً يوم أن أسري به إلى بيت المقدس.
تأمل منزلته بين الأنبياء كما في حديث الشفاعة الطويل: (أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين و الآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس منهم فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبونا أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح ; فيأتون نوحا فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض و سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم ; فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم؟ أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى ; فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله فضلك الله برسالاته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى ; فيأتون عيسى! فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله و كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد ; فيأتوني فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ ; فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله علي و يلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول: يا رب! أمتي أمتي فيقال: يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب والذي نفسي بيده إن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى. (صحيح الجامع برقم 2346).
وهذا هو المقام المحمود.. الذي تحمده كل الخلائق عليه
تأمل منزلة النبي بين الأنبياء وأنت تستشعر خطاب الله لأنبيائه جميعاً، فقد خاطبهم بأسمائهم فقال: (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وقال (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) وقال: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) وقال (يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) وقال: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقال: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى) وقال: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) وقال: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً) فكل الأنبياء خاطبهم ربنا - عز وجل - بأسمائهم، أما رسولك - صلى الله عليه وسلم - فلم يخاطبه ربه إلا بالنبي أو الرسول فقال - جل وعلا -: (يا أيها النبي) (يا أيها الرسول).
ولم يأت بلفظ محمد في القرآن إلا مقروناً، فقال - جل وعلا -: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) وقال: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ) وقال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) وهذه إشارة عظيمة إلى منزلته ومكانته - صلى الله عليه وسلم - بين الأنبياء.
تأمل في رحلة المعراج التي اختصه الله بها دون الأنبياء
تأمل في أن جزءا من شرعه - صلى الله عليه وسلم - فرض في السماء
تأمل بأن الله ميزه فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وما ذلك إلا له
تأمل كيف أن الله جعل بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة
تأمل كيف أعطاه الله الكوثر والمقام المحمود والوسيلة والفضيلة
تأمل في معجزات الأنبياء التي انتهت وانقرضت بخلاف معجزته - صلى الله عليه وسلم - وهي القرآن، فهو ذكر الله الخالد إلى قيام الساعة
إنها منزلته - صلى الله عليه وسلم - بين الأنبياء فاحفظها يا رعاك الله.
ثالثا: منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الصحابة
للنبي - صلى الله عليه وسلم - مكانته ومنزلته في قلوب أصحابه، فكانوا يعظمونه ويوقرونه، وأنقل الصورة إلى عروة بن مسعود (والفضل ما شهدت به الأعداء) ليصف لنا يوم أن جاء مفاوضاً عن مشركي قريش يوم الحديبية وهو يسجل توقير الصحابة لرسول الله - عليه الصلاة والسلام -، فقال: "فوالله ما تنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم – نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً والله إن تنخم نخامة ً إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً له وإنه قد عرض عليكم خطة رشدٍ فاقبلوها) [رواه البخاري ومسلم].
إنه الرسول الذي جاءهم فاستنارت الأرض بعد ظلمتها واهتدت به البشرية بعد ضلالها وحيرتها
تأمل في منزلته عند أصحابه وأنت تقرأ فعل ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان شديد الحب لرسول الله - عليه الصلاة والسلام -، رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فعرف في وجهه الحزن، فقال: يا ثوبان ما غير وجهك؟ فقال: ما بي من وجع يا رسول الله غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك فأذكر الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك، فنزل قول الله - تعالى -: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا).
وتأمل في أمنية ربيعة ابن كعب الأسلمي يوم أن قال: كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآتيه بوضوئه وحاجته فقال لي سل، فقلت أسألك مرافقتك في الجنة، قال أو غير ذلك، قلت هو ذاك، قال فأعني على نفسك بكثرة السجود.
كانوا لا يقدمون عليه أحداً، فهذا مصعب ابن عمير يعود للمدينة بعد سنة من الدعوة والجهاد فيذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولاً، وكانت له أم هو من أبر الناس بها فترسل أمه إليه تعاتبه وتقول: يا عاق أتقدم بلداً أنا فيه لا تبدأ بي؟ فقال ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - يرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - مفاوضاً إلى قريش وكانت قريش تحب عثمان فعرضوا عليه أن يطوف هو بالبيت، فقال والله ما كنت لأطوف قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
كانوا يتبركون بآثاره - صلى الله عليه وسلم - يقول أنس والحديث من رواية مسلم: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحلاق يحلقه وحوله أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل، وعند مسلم أيضاً من رواية أنس كذلك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه - قال - فجاء ذات يوم فنام على فراشها فأتيت فقيل لها هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - نام في بيتك على فراشك - قال - فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها ففزع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال « ما تصنعين يا أم سليم ». فقالت يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا قال « أصبت ».... إنه غاية التعظيم والتوقير والحب والطاعة والأدب، يقول المغيرة: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرعون بابه بالأظافير، قال الصنعاني والظاهر أنهم كانوا يقرعونه بالأظافير تأدباً.
تأمل لما نزل قول الله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) ظن ثابت ابن قيس أنه المقصود في الآية فقد كان جهوري الصوت، فحبس نفسه في بيته، يقول أنس كما اخرج الإمام البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابت ابن قيس فقال رجل أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه فقال ما شأنك قال شرٌّ كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حبط عمله وهو من أهل النار فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه قال كذا وكذا فقال موسى بن أنس فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة.
فمن شدة حبهم له كانوا رضوان الله عليهم يخافون أن يؤذونه ويهابونه حتى قال البراء بن عا زب لقد كنت أريد أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأمر فأواخره سنين من هيبته، وهكذا سار على طريقهم العلماء والصالحون، فقد ناظر أبو جعفر المنصور-أمير المؤمنين- الإمام مالك في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع صوته فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في المسجد فإن الله - تعالى - أدب قوما فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ومدح قوما فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) وذم قوما فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً فاستكان لها أبو جعفر.
تأمل في الفعل العجيب لابن الزبير والحديث أخرجه البغوي وغيره: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يحتجم فلما فرغ قال يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد وفى لفظ فواره حيث لا يراه أحد فلما برز عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمد إلى الدم فشربه فلما رجع قال يا عبد الله ما صنعت قال جعلته في أخفى مكان علمت أنه خاف عن الناس فقال لعلك شربته قلت نعم قال ولم شربت الدم ويل للناس منك وويل لك من الناس قال أبو عاصم كانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم.
لقد فداه علي - رضي الله عنه - يوم هجرته، وحماه أبو دجانة في معركة أحد يوم أن وقف خلفه ليستقبل ظهره سهام المشركين.
إنها منزلة عظيمة ومكانة رفيعة تلك المكانة التي كانت لرسول الله عليه والصلاة والسلام في قلوب ونفوس أصحابه.
مما تقدم... أيها الأحبة: من لوازم هذه المنزلة الإيمان به - عليه الصلاة والسلام -، والإيمان بنبوته ورسالته، من لوازم هذه المنزلة تصديقه فيما أخبر وإطاعته فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر، من لوازم هذه المنزلة نصرته والدفاع عنه وتوقيره واحترامه، من لوازم هذه المنزلة صيانة عرضه وشرفه والدفاع عن أزواجه، من لوازم هذه المكانة الاقتداء بسنته العمل بشرعته، من لوازم هذه المكانة الحفاظ على مكانة أصحابه وأنصاره والذين دافعوا عنه وذادوا عن حياضه، من لوازم هذه المكانة تقديم سنته على الآراء والأهواء والعقول، من لوازم هذه المكانة الدفاع عنه في كل حين: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
والله من وراء القصد..