08-14-2022, 12:02 AM
من و*ي الهجرة: من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه
الخطبة الأولى:
أما بعد:
إخوة الإسلام، *ديثنا عن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنستلهم منها الدروسَ والعبر، ومن تلك العبر أن من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، فأعيروني القلوب والأسماع:
أولًا: من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه: تلك من سنن الله في خلقه أن مَن آثَر رضاه على رضا غيره، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن ترك الم*رمات لله عوَّضه الله خيرًا منها من ال*لال.
إن من آثر ال*ياة الآخرة على الدنيا، *صل له نعيم الآخرة والدنيا؛ لأن عمل الآخرة يسير على من يسره الله عليه، ولا يفوت من الدنيا شيئًا، فإن من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، والله سب*انه وتعالى يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِ*ًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُ*ْيِيَنَّ هُ *َيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَجْرَهُمْ بِأَ*ْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الن*ل: 97]، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ *َرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي *َرْثِهِ} [الشورى: 20].
أما من آثر ال*ياة الدنيا على الآخرة، فإنه قد يؤتى من الدنيا، ولكن ليس له في الآخرة من نصيب: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْ*َيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: 15]، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَ*َبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16].
قال قتادة بن دعامة السدوسي التابعي الجليل: لا يقْدِرُ رَجلٌ على *َرَامٍ، ثم يَدَعه ليس به إلا مخافة الله عز وجل إلا أبْدَله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خيرٌ له من ذلك.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: ما من عبد ترك شيئًا لله إلا أبدله الله به ما هو خيرٌ منه من *يث لا ي*تسب، ولا تهاون به عبد، فأخذ من *يث لا يصل* إلا أتاه الله بما هو أشد عليه[1].
وعن الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعًا: ما ترك عبد شيئًا لله لا يتركه إلا له عوَّض الله منه ما هو خير له في دينه ودنياه[2].
وعن أبي قتادة وأبي الدهماء وكانا يكثران السفر ن*و البيت قالا أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل وقال: «إنك لا تدع شيئًا إتقاء الله تعالى إلا أعطاك الله عز وجل خيرًا منه».[3]
ثانيًا: هجرة خليل الر*من إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتعويضه خيرًا مما ترك:
وها هو خليل الر*من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما اعتزل قومه وهاجر بدينه يعوضه الله جل جلاله الخير العظيم في الدنيا والأخرة {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْ*َاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُو*ًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُ*ْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَ*ْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِ*ِينَ} [الأنعام: 84، 85]
يقول ابن كثير ر*مه الله: وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام، *ين اعتزل قومه وتركهم ونز* عنهم، وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته، بأولاد صال*ين من صلبه على دينه، لتقر بهم عينه، كما قال تعالى: «فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إس*اق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا» [مريم: 49] وقال هاهنا ووهبنا له إس*اق ويعقوب كلا هدينا.[4]
قال السعدي - ر*مه الله -: «ولما كان مُفَارَقة الإنسان لوطنه ومَأْلَفِه وأهله وقومه من أشق شيء على النفس لأمور كثيرة معروفة، ومنها انفراده عمن يَتَعَزَّز بهم ويتكثر، وكان من تَرَك شيئًا لله عَوَّضَه الله خيرًا منه، واعتزل إبراهيم قومه -قال الله في *قه {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْ*َاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا} -من إس*اق ويعقوب- {جَعَلْنَا نَبِيًّا}؛ ف*صل له هبة هؤلاء الصال*ين المُرسَلين إلى الناس الذين خَصَّهم الله بو*يه، واختارهم لرسالته، واصطفاهم من العالمين» [5]
ثانيًا: الهجرة النبوية وقاعدة من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه:
إخوة الإسلام: إذا أردنا أن نطبق هذه القاعدة على هجرة النبي صلي الله عليه وسلم لرأينا ذلك واض*ا جليا في مواقف كثيرة من هجرة ال*بيب صلى الله عليه وسلم وص*به الكرم وإليكم بيان ذلك ب*ول الله وطوله:
أولا: تركوا الوطن والأهل لله تعالى فعوضهم الله بذلك المدينة وإخوة الأنصار وهم خير من أهل مكة:
فقد ضاقت الأرض بما ر*بت على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أص*ابه الكرام فقد ذاقوا من ألوان العذاب والتنكيل والتضيق ما دفعهم إلى أن يتركوا أوطانهم التي تربوا فيها وعشقوا ترابها بل تركوا أهليهم وأموالهم كل ذلك في سبيل الله تعالى ونصرة دينه قال الله تعالى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ *َادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُو*ٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَ*ْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ *ِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ *ِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِ*ُونَ} [المجادلة: 22].
فهاجروا إلى المدينة فكانت المكافاة من الله جل جلاله فأبدلهم خيرا منهم إنهم الأنصار الذين نصروا رسولنا صلى الله عليه وسلم وأص*ابه الأطهار واقتسموا معهم أموالهم وديارهم قال الله تعالى{لِلْفُقَر اءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُ*ِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ *َاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُ*َّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِ*ُونَ} [ال*شر: 8، 9]
ثانيا: سراقة بن مالك يترك ومطاردة النبي وجائزة مكة فيعوضه الله جل جلاله سواري كسرى:
فقد رصدت قريش جائزة كبرى لمن يأتي بالنبي وصا*به فعَنْ عَبْدِ الرَّ*ْمَنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ، عَنْ أَبِيهِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، عَنْ أَخِيهِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا جَعَلَتْ قُرَيْشٌ لِمَنْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَّا فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَكْبًا ثَلَاثَةً مَرُّوا عَلَيَّ آنِفًا إِنِّي لَأَرَاهُ مُ*َمَّدًا وَأَصْ*َابَهُ قَالَ: فَأَوْمَأْتُ إِلَيْهِ بِعَيْنَيَّ أَنِ اسْكُتْ ثُمَّ قُلْتُ: إِنَّمَا هُمْ بَنُو فُلَانٍ يَبْغُونَ ضَالَّةً لَهُمْ قَالَ: لَعَلَّهُ قَالَ: فَمَكَثْتُ قَلِيلًا ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ بَيْتِي فَأَمَرْتُ بِفَرَسِي إِلَى بَطْنِ الْوَادِي وَأَمَرْتُ بِسِلَا*ِي فَأُخْرِجْتُ مِنْ وَرَاءِ *َجَرٍ ثُمَّ أَخَذْتُ قِدَا*ِي لِأَسْتَقْسِمَ بِهَا ثُمَّ انْطَلَقْتُ فَلَبِسْتُ لَأْمَتِي ثُمَّ أَخْرَجْتُ قِدَا*ِي فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ لَا يَضُرَّهُ قَالَ: وَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَرُدَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ فَآخُذَ الْمِائَةَ، فَرَكِبْتُ فِي أَثَرِهِ فَبَيْنَا فَرَسِي يَشْتَدُّ بِي عَثَرَ بِي فَسَقَطْتُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: مَا هَذَا؟ ثُمَّ أَخْرَجْتُ قِدَا*ِي فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا فَخَرَجَ السَّهْمُ الَّذِي أَكْرَهُ لَا يَضُرُّهُ قَالَ: فَأَبَيْتُ إِلَّا أَنْ أَتْبَعَهُ فَرَكِبْتُ فِي أَثَرِهِ فَبَيْنَا فَرَسِي يَشْتَدُّ بِي عَثَرَ بِي فَسَقَطْتُ عَنْهُ قَالَ: فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ ثُمَّ أَخْرَجَتْ قِدَا*ِي فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ لَا يَضُرُّهُ قَالَ: فَأَبَيْتُ إِلَّا أَنْ أَتْبَعَهُ فَرَكِبْتُ فَلَمَّا بَدَا لِي الْقَوْمُ فَرَأَيْتُهُمْ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: *َتَّى إِذَا دَنَوْتُ سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يَلْتَفِتُ وَيُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ *َتَّى بَلَغَتِ الرُّكْبَتَيْنِ فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَزَجَرْتُهَا فَتَمَعَّضَت فَلَمْ تَكَدْ تَخْرُجْ فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذْ لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ مِنَ الدُّخَانِ. وَفِي سِيَاقِ مُ*َمَّدِ بْنِ إِسْ*َاقَ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فَنَادَيْتُ: أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَنْظِرُونِي أُكَلِّمْكُمْ فَوَاللَّهِ لَا أُرِيبكُمْ وَلَا يَأْتِيكُمْ مِنِّي شَيْءٌ تَكْرَهُونَهُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: قُلْ لَهُ: مَا تَبْغِي مِنَّا؟ قَالَ: فَقَالَ لِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ: قُلْتُ: تَكْتُبُ لِي كِتَابًا يَكُونُ لِي آيَةً بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَالَ: اكْتُبْ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ قَالَ: فَكَتَبَ لِي كِتَابًا فِي عَظْمٍ أَوْ فِي رَقِّ أَوْ فِي خِرْقَةٍ ثُمَّ أَلْقَاهُ إِلَيَّ، فَأَخَذْتُهُ فَجَعَلْتُهُ فِي كِنَانَتِي ثُمَّ رَجَعْتُ[6]
عن ال*سن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لسراقة بن مالك: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى»؟، قال: فلما أتى عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة بن مالك فألبسه إياها، وكان سراقة رجلًا أزب[7] كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك، فقال: الله أكبر، ال*مد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس، وألبَسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابي من بني مدلج، ورفع بها عمر صوته، ثم أركب سراقة، وطيف به المدينة، والناس *وله، وهو يرفع عقيرته مرددًا قول الفاروق: الله أكبر، ال*مد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابيًّا من بني مدلج[8].
الله أكبر، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا من دلائل نبوته وصدق صلى الله عليه وسلم، والله أكبر، فمن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.
ثالثًا: صهيب الرومي رضي الله عنه يترك ماله لله:
كان صهيب الرومي رضي الله عنه ممن شر* الله صدورهم للإسلام، وكان يعيش في مكة وبارك الله له في ماله، عندما أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة، فأتبعه نفرٌ من قريش، فقالوا له: أتيتنا صعلوكًا *قيرًا، فكثر مالك عندنا، فبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟! والله لا يكون ذلك، فنزل عن را*لته وانتثَل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجالًا، وايم الله لا تصلون إليَّ *تى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي من يدي منه شيء، فافعلوا ما شئتم، فإن شئتم دللتكم على مالي وخليتم سبيلي، قالوا: نعم، ففعل، فلما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ربِ* البيع أبا ي*يى، رب* البيع»، ونزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[9].
رابعًا: أسماء تشق نطاقها فيبدلها الله بهما نطاقين في الجنة:
وفي أثناء الهجرة التي هاجر فيها المسلمون من مكة إلى المدينة، وظل أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينتظر الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة معه، وعندما كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يربط الأمتعة، ويعدها للسفر لم يجد *بلًا ليربط به الزاد الطعام والسقا، فأخذت أسماء رضي الله عنها نطاقها الذي كانت تربطه في وسطها، فشقته نصفين وربطت به الزاد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى ذلك كله، فسماها أسماء ذات النطاقين، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: صَنَعْتُ سُفْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ *ِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَتْ: فَلَمْ نَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلَا لِسِقَائِهِ مَا نَرْبِطُهُمَا بِهِ، فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: وَاللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلَّا نِطَاقِي، قَالَ: فَشُقِّيهِ بِاثْنَيْنِ فَارْبِطِيهِ بِوَا*ِدٍ السِّقَاءَ وَبِالْآخَرِ السُّفْرَةَ، فَفَعَلْتُ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْ[10].
وأصب*ت هذه منقبة لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، لا يج*دها إلا *اقد *اسدٌ.
ومن هذا الموقف جاءت تسمية أسماء بنت أبي بكر بذات النطاقين، وقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: «أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة» [11].
خامسًا: تركوا الدنيا فعوضهم الله الدنيا والأخرة:
وها هو النبي المختار صلى الله عليه وسلم وص*ابته الأطهار، يؤثرون رضا الله على الدنيا وزخارفها، ورضوا بأقل متاع منها باعوا أنفسهم لله تعالى، فوفَّاهم الله أجورهم في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّه ُمْ فِي الدُّنْيَا *َسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الن*ل: 41].
قال ابن كثير - ر*مه الله -: «فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم، فعوَّضهم الله خيرًا منها في الدنيا؛ فإن من ترك شيئًا لله، عَوَّضَه الله بما هو خير له منه، وكذلك وقع، فإنهم مَكَّن الله لهم في البلاد، و*َكَّمَهم على رقاب العباد، فصاروا أمراءً *ُكامًا، وكل منهم للمتقين إمامًا» [12].
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ *َقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
اسمعوا وتأملوا إلى ما فت* الله عليهم من خيرات: {إِنَّا فَتَ*ْنَا لَكَ فَتْ*ًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا *َكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَ*ْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفت*: 1 - 5]
رضوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبم*مد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، فعوضهم الله الرضا والرضوان، {وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَ*ْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 22].
سادسًا: صف*ات من *ياة الأنبياء:
وإذا قلبنا صف*ات الأمة الإسلامية، لرأينا صور وأمثلة مشرقة لمن ترك شيئًا لله، وآثر رضا الله تعالى، فالأمثلة التي تُبيِّن عظيم خلف الله تعالى لعباده كثيرة جدًّا، منها: ما قصه الله تعالى عن نبي الله سليمان عليه السلام في سورة (ص)، وخلاصته: أنه كان م*بًّا للجهاد في سبيل الله، ولذلك كانت عنده خيل كثيرة وكان ي*بها *بًّا شديدًا، فاشتغل بها يومًا *تى فاتته صلاة العصر، فغربت الشمس قبل أن يصلي، فأمر بها فرُدَّتْ عليه، فضرب أعناقها وعراقبيها بالسيوف؛ إيثارًا لم*بة الله عز وجل، وقد كان ذلك جائزًا في شريعتهم، فعَوَّضه الله عز وجل خيرًا منها الري* التي تجري بأمره رخاءً *يث أصاب، تقطع في النهار ما يقطعه غيرها في شَهْرَيْن، وإليك الآيات فتدبَّر، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَ*ْبَبْتُ *ُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي *َتَّى تَوَارَتْ بِالْ*ِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْ*ًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَ*َدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ *فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّي*َ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً *َيْثُ أَصَابَ} [ص: 30: 366].
المثال الثالث: نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام عُرِضَتْ عليه المغريات في أرقى صورها، فاستعصم فعصَمه الله، وترك ذلك لله عز وجل؛ لأنَّ الله جعله من المخلصين، وأُوذِيَ بسبب ذلك، فاختار السجن على ما يدعونه إليه، فصبر واختار ما عند الله، فعوَّضه الله تعالى أ*سن العوض، فملَّكه على خزائن الأرض، وعلمه تأويل الرؤيا، فنعم المُعْطِي، ونعم المُعْطَى، ونعمت العَطِيَّة؛ قال تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَ*َبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33: 34]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا *َيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَ*ْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُ*ْسِنِينَ} [يوسف: 56].
أرأيت أيها المسلم إن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، فمن ترك لطم الخدود وشق الجيوب والنيا*ة، وغير ذلك من المنكرات، وا*تسب مصيبته عند الله، واسترجع فإن الله سب*انه يُخلفه وهو خير الوارثين.
اتركوا الش*ناء يعوضكم ربكم الم*بة والإخاء، اتركوا م*بة الدنيا يعوِّضكم الله بالرضا وسعادة الآخرة، اتركوا الربا يعوضكم الله الرزق ال*لال، اتركوا الفا*شة يعوضكم اللذة ال*لال، اتركوا كل ما يغضب الله يعوِّضكم الله بكل ما يرضيكم ويرضي الله.
[1] رواه وكيع في الزهد (2/ 635) وهناد رقم (851) وأبو نعيم في ال*لية (1/ 253) وإسناده لا بأس به
[2] أخرجه أبو نعيم في ال*لية (2/ 196)
[3] رواه أ*مد (5/ 363) وإسناده ص*ي* ورواه البيهقي (5/ 335) ووكيع في الزهد والقضاعي في مسنده.
[4] تفسير ابن كثير ط العلمية (3/ 266)
[5] كتاب القواعد والأصول وتطبيقات التدبر - خامسا قواعد قرآنية ص81
[6] أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - *ديث رقم: 3906، فت* الباري: 7/ 238، ومسلم في الزهد باب *ديث الهجرة: 2009.
[7] التزبب في الإنسان: كثير الشعر وطوله.
[8] السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 495).
[9] *ديث ص*ي* أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 228) وال*اكم في المستدرك (3/ 398)، وقال عقبه: ص*ي* على شرط مسلم ولم يخرجاه، وانظر أسباب النزول للوا*دي (ص 39)، وفقه السيرة (ص 166).
[10] البخاري، كتاب الجهاد، باب *مل الزاد في الغزو. (6/ 129 فت*).
[11] أخرج أ*مد في المسند 6/ 346 عن أسماء قالت لذلك سميت ذات النطاقين والبخاري في ص*ي*ه 7/ 193، 194 كتاب المناقب باب الهجرة.
[12] كتاب القواعد والأصول وتطبيقات التدبر، خامسًا قواعد قرآنية ص81.
______________________________ ______________________________ ____
الكاتب: السيد مراد سلامة
الخطبة الأولى:
أما بعد:
إخوة الإسلام، *ديثنا عن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنستلهم منها الدروسَ والعبر، ومن تلك العبر أن من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، فأعيروني القلوب والأسماع:
أولًا: من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه: تلك من سنن الله في خلقه أن مَن آثَر رضاه على رضا غيره، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن ترك الم*رمات لله عوَّضه الله خيرًا منها من ال*لال.
إن من آثر ال*ياة الآخرة على الدنيا، *صل له نعيم الآخرة والدنيا؛ لأن عمل الآخرة يسير على من يسره الله عليه، ولا يفوت من الدنيا شيئًا، فإن من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، والله سب*انه وتعالى يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِ*ًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُ*ْيِيَنَّ هُ *َيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَجْرَهُمْ بِأَ*ْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الن*ل: 97]، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ *َرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي *َرْثِهِ} [الشورى: 20].
أما من آثر ال*ياة الدنيا على الآخرة، فإنه قد يؤتى من الدنيا، ولكن ليس له في الآخرة من نصيب: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْ*َيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: 15]، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَ*َبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16].
قال قتادة بن دعامة السدوسي التابعي الجليل: لا يقْدِرُ رَجلٌ على *َرَامٍ، ثم يَدَعه ليس به إلا مخافة الله عز وجل إلا أبْدَله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خيرٌ له من ذلك.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: ما من عبد ترك شيئًا لله إلا أبدله الله به ما هو خيرٌ منه من *يث لا ي*تسب، ولا تهاون به عبد، فأخذ من *يث لا يصل* إلا أتاه الله بما هو أشد عليه[1].
وعن الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعًا: ما ترك عبد شيئًا لله لا يتركه إلا له عوَّض الله منه ما هو خير له في دينه ودنياه[2].
وعن أبي قتادة وأبي الدهماء وكانا يكثران السفر ن*و البيت قالا أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل وقال: «إنك لا تدع شيئًا إتقاء الله تعالى إلا أعطاك الله عز وجل خيرًا منه».[3]
ثانيًا: هجرة خليل الر*من إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتعويضه خيرًا مما ترك:
وها هو خليل الر*من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما اعتزل قومه وهاجر بدينه يعوضه الله جل جلاله الخير العظيم في الدنيا والأخرة {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْ*َاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُو*ًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُ*ْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَ*ْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِ*ِينَ} [الأنعام: 84، 85]
يقول ابن كثير ر*مه الله: وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام، *ين اعتزل قومه وتركهم ونز* عنهم، وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته، بأولاد صال*ين من صلبه على دينه، لتقر بهم عينه، كما قال تعالى: «فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إس*اق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا» [مريم: 49] وقال هاهنا ووهبنا له إس*اق ويعقوب كلا هدينا.[4]
قال السعدي - ر*مه الله -: «ولما كان مُفَارَقة الإنسان لوطنه ومَأْلَفِه وأهله وقومه من أشق شيء على النفس لأمور كثيرة معروفة، ومنها انفراده عمن يَتَعَزَّز بهم ويتكثر، وكان من تَرَك شيئًا لله عَوَّضَه الله خيرًا منه، واعتزل إبراهيم قومه -قال الله في *قه {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْ*َاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا} -من إس*اق ويعقوب- {جَعَلْنَا نَبِيًّا}؛ ف*صل له هبة هؤلاء الصال*ين المُرسَلين إلى الناس الذين خَصَّهم الله بو*يه، واختارهم لرسالته، واصطفاهم من العالمين» [5]
ثانيًا: الهجرة النبوية وقاعدة من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه:
إخوة الإسلام: إذا أردنا أن نطبق هذه القاعدة على هجرة النبي صلي الله عليه وسلم لرأينا ذلك واض*ا جليا في مواقف كثيرة من هجرة ال*بيب صلى الله عليه وسلم وص*به الكرم وإليكم بيان ذلك ب*ول الله وطوله:
أولا: تركوا الوطن والأهل لله تعالى فعوضهم الله بذلك المدينة وإخوة الأنصار وهم خير من أهل مكة:
فقد ضاقت الأرض بما ر*بت على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أص*ابه الكرام فقد ذاقوا من ألوان العذاب والتنكيل والتضيق ما دفعهم إلى أن يتركوا أوطانهم التي تربوا فيها وعشقوا ترابها بل تركوا أهليهم وأموالهم كل ذلك في سبيل الله تعالى ونصرة دينه قال الله تعالى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ *َادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُو*ٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَ*ْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ *ِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ *ِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِ*ُونَ} [المجادلة: 22].
فهاجروا إلى المدينة فكانت المكافاة من الله جل جلاله فأبدلهم خيرا منهم إنهم الأنصار الذين نصروا رسولنا صلى الله عليه وسلم وأص*ابه الأطهار واقتسموا معهم أموالهم وديارهم قال الله تعالى{لِلْفُقَر اءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُ*ِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ *َاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُ*َّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِ*ُونَ} [ال*شر: 8، 9]
ثانيا: سراقة بن مالك يترك ومطاردة النبي وجائزة مكة فيعوضه الله جل جلاله سواري كسرى:
فقد رصدت قريش جائزة كبرى لمن يأتي بالنبي وصا*به فعَنْ عَبْدِ الرَّ*ْمَنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ، عَنْ أَبِيهِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، عَنْ أَخِيهِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا جَعَلَتْ قُرَيْشٌ لِمَنْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَّا فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَكْبًا ثَلَاثَةً مَرُّوا عَلَيَّ آنِفًا إِنِّي لَأَرَاهُ مُ*َمَّدًا وَأَصْ*َابَهُ قَالَ: فَأَوْمَأْتُ إِلَيْهِ بِعَيْنَيَّ أَنِ اسْكُتْ ثُمَّ قُلْتُ: إِنَّمَا هُمْ بَنُو فُلَانٍ يَبْغُونَ ضَالَّةً لَهُمْ قَالَ: لَعَلَّهُ قَالَ: فَمَكَثْتُ قَلِيلًا ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ بَيْتِي فَأَمَرْتُ بِفَرَسِي إِلَى بَطْنِ الْوَادِي وَأَمَرْتُ بِسِلَا*ِي فَأُخْرِجْتُ مِنْ وَرَاءِ *َجَرٍ ثُمَّ أَخَذْتُ قِدَا*ِي لِأَسْتَقْسِمَ بِهَا ثُمَّ انْطَلَقْتُ فَلَبِسْتُ لَأْمَتِي ثُمَّ أَخْرَجْتُ قِدَا*ِي فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ لَا يَضُرَّهُ قَالَ: وَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَرُدَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ فَآخُذَ الْمِائَةَ، فَرَكِبْتُ فِي أَثَرِهِ فَبَيْنَا فَرَسِي يَشْتَدُّ بِي عَثَرَ بِي فَسَقَطْتُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: مَا هَذَا؟ ثُمَّ أَخْرَجْتُ قِدَا*ِي فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا فَخَرَجَ السَّهْمُ الَّذِي أَكْرَهُ لَا يَضُرُّهُ قَالَ: فَأَبَيْتُ إِلَّا أَنْ أَتْبَعَهُ فَرَكِبْتُ فِي أَثَرِهِ فَبَيْنَا فَرَسِي يَشْتَدُّ بِي عَثَرَ بِي فَسَقَطْتُ عَنْهُ قَالَ: فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ ثُمَّ أَخْرَجَتْ قِدَا*ِي فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ لَا يَضُرُّهُ قَالَ: فَأَبَيْتُ إِلَّا أَنْ أَتْبَعَهُ فَرَكِبْتُ فَلَمَّا بَدَا لِي الْقَوْمُ فَرَأَيْتُهُمْ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: *َتَّى إِذَا دَنَوْتُ سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يَلْتَفِتُ وَيُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ *َتَّى بَلَغَتِ الرُّكْبَتَيْنِ فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَزَجَرْتُهَا فَتَمَعَّضَت فَلَمْ تَكَدْ تَخْرُجْ فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذْ لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ مِنَ الدُّخَانِ. وَفِي سِيَاقِ مُ*َمَّدِ بْنِ إِسْ*َاقَ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فَنَادَيْتُ: أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَنْظِرُونِي أُكَلِّمْكُمْ فَوَاللَّهِ لَا أُرِيبكُمْ وَلَا يَأْتِيكُمْ مِنِّي شَيْءٌ تَكْرَهُونَهُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: قُلْ لَهُ: مَا تَبْغِي مِنَّا؟ قَالَ: فَقَالَ لِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ: قُلْتُ: تَكْتُبُ لِي كِتَابًا يَكُونُ لِي آيَةً بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَالَ: اكْتُبْ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ قَالَ: فَكَتَبَ لِي كِتَابًا فِي عَظْمٍ أَوْ فِي رَقِّ أَوْ فِي خِرْقَةٍ ثُمَّ أَلْقَاهُ إِلَيَّ، فَأَخَذْتُهُ فَجَعَلْتُهُ فِي كِنَانَتِي ثُمَّ رَجَعْتُ[6]
عن ال*سن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لسراقة بن مالك: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى»؟، قال: فلما أتى عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة بن مالك فألبسه إياها، وكان سراقة رجلًا أزب[7] كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك، فقال: الله أكبر، ال*مد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس، وألبَسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابي من بني مدلج، ورفع بها عمر صوته، ثم أركب سراقة، وطيف به المدينة، والناس *وله، وهو يرفع عقيرته مرددًا قول الفاروق: الله أكبر، ال*مد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابيًّا من بني مدلج[8].
الله أكبر، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا من دلائل نبوته وصدق صلى الله عليه وسلم، والله أكبر، فمن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.
ثالثًا: صهيب الرومي رضي الله عنه يترك ماله لله:
كان صهيب الرومي رضي الله عنه ممن شر* الله صدورهم للإسلام، وكان يعيش في مكة وبارك الله له في ماله، عندما أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة، فأتبعه نفرٌ من قريش، فقالوا له: أتيتنا صعلوكًا *قيرًا، فكثر مالك عندنا، فبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟! والله لا يكون ذلك، فنزل عن را*لته وانتثَل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجالًا، وايم الله لا تصلون إليَّ *تى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي من يدي منه شيء، فافعلوا ما شئتم، فإن شئتم دللتكم على مالي وخليتم سبيلي، قالوا: نعم، ففعل، فلما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ربِ* البيع أبا ي*يى، رب* البيع»، ونزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[9].
رابعًا: أسماء تشق نطاقها فيبدلها الله بهما نطاقين في الجنة:
وفي أثناء الهجرة التي هاجر فيها المسلمون من مكة إلى المدينة، وظل أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينتظر الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة معه، وعندما كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يربط الأمتعة، ويعدها للسفر لم يجد *بلًا ليربط به الزاد الطعام والسقا، فأخذت أسماء رضي الله عنها نطاقها الذي كانت تربطه في وسطها، فشقته نصفين وربطت به الزاد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى ذلك كله، فسماها أسماء ذات النطاقين، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: صَنَعْتُ سُفْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ *ِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَتْ: فَلَمْ نَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلَا لِسِقَائِهِ مَا نَرْبِطُهُمَا بِهِ، فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: وَاللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلَّا نِطَاقِي، قَالَ: فَشُقِّيهِ بِاثْنَيْنِ فَارْبِطِيهِ بِوَا*ِدٍ السِّقَاءَ وَبِالْآخَرِ السُّفْرَةَ، فَفَعَلْتُ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْ[10].
وأصب*ت هذه منقبة لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، لا يج*دها إلا *اقد *اسدٌ.
ومن هذا الموقف جاءت تسمية أسماء بنت أبي بكر بذات النطاقين، وقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: «أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة» [11].
خامسًا: تركوا الدنيا فعوضهم الله الدنيا والأخرة:
وها هو النبي المختار صلى الله عليه وسلم وص*ابته الأطهار، يؤثرون رضا الله على الدنيا وزخارفها، ورضوا بأقل متاع منها باعوا أنفسهم لله تعالى، فوفَّاهم الله أجورهم في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّه ُمْ فِي الدُّنْيَا *َسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الن*ل: 41].
قال ابن كثير - ر*مه الله -: «فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم، فعوَّضهم الله خيرًا منها في الدنيا؛ فإن من ترك شيئًا لله، عَوَّضَه الله بما هو خير له منه، وكذلك وقع، فإنهم مَكَّن الله لهم في البلاد، و*َكَّمَهم على رقاب العباد، فصاروا أمراءً *ُكامًا، وكل منهم للمتقين إمامًا» [12].
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ *َقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
اسمعوا وتأملوا إلى ما فت* الله عليهم من خيرات: {إِنَّا فَتَ*ْنَا لَكَ فَتْ*ًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا *َكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَ*ْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفت*: 1 - 5]
رضوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبم*مد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، فعوضهم الله الرضا والرضوان، {وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَ*ْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 22].
سادسًا: صف*ات من *ياة الأنبياء:
وإذا قلبنا صف*ات الأمة الإسلامية، لرأينا صور وأمثلة مشرقة لمن ترك شيئًا لله، وآثر رضا الله تعالى، فالأمثلة التي تُبيِّن عظيم خلف الله تعالى لعباده كثيرة جدًّا، منها: ما قصه الله تعالى عن نبي الله سليمان عليه السلام في سورة (ص)، وخلاصته: أنه كان م*بًّا للجهاد في سبيل الله، ولذلك كانت عنده خيل كثيرة وكان ي*بها *بًّا شديدًا، فاشتغل بها يومًا *تى فاتته صلاة العصر، فغربت الشمس قبل أن يصلي، فأمر بها فرُدَّتْ عليه، فضرب أعناقها وعراقبيها بالسيوف؛ إيثارًا لم*بة الله عز وجل، وقد كان ذلك جائزًا في شريعتهم، فعَوَّضه الله عز وجل خيرًا منها الري* التي تجري بأمره رخاءً *يث أصاب، تقطع في النهار ما يقطعه غيرها في شَهْرَيْن، وإليك الآيات فتدبَّر، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَ*ْبَبْتُ *ُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي *َتَّى تَوَارَتْ بِالْ*ِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْ*ًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَ*َدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ *فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّي*َ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً *َيْثُ أَصَابَ} [ص: 30: 366].
المثال الثالث: نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام عُرِضَتْ عليه المغريات في أرقى صورها، فاستعصم فعصَمه الله، وترك ذلك لله عز وجل؛ لأنَّ الله جعله من المخلصين، وأُوذِيَ بسبب ذلك، فاختار السجن على ما يدعونه إليه، فصبر واختار ما عند الله، فعوَّضه الله تعالى أ*سن العوض، فملَّكه على خزائن الأرض، وعلمه تأويل الرؤيا، فنعم المُعْطِي، ونعم المُعْطَى، ونعمت العَطِيَّة؛ قال تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَ*َبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33: 34]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا *َيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَ*ْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُ*ْسِنِينَ} [يوسف: 56].
أرأيت أيها المسلم إن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، فمن ترك لطم الخدود وشق الجيوب والنيا*ة، وغير ذلك من المنكرات، وا*تسب مصيبته عند الله، واسترجع فإن الله سب*انه يُخلفه وهو خير الوارثين.
اتركوا الش*ناء يعوضكم ربكم الم*بة والإخاء، اتركوا م*بة الدنيا يعوِّضكم الله بالرضا وسعادة الآخرة، اتركوا الربا يعوضكم الله الرزق ال*لال، اتركوا الفا*شة يعوضكم اللذة ال*لال، اتركوا كل ما يغضب الله يعوِّضكم الله بكل ما يرضيكم ويرضي الله.
[1] رواه وكيع في الزهد (2/ 635) وهناد رقم (851) وأبو نعيم في ال*لية (1/ 253) وإسناده لا بأس به
[2] أخرجه أبو نعيم في ال*لية (2/ 196)
[3] رواه أ*مد (5/ 363) وإسناده ص*ي* ورواه البيهقي (5/ 335) ووكيع في الزهد والقضاعي في مسنده.
[4] تفسير ابن كثير ط العلمية (3/ 266)
[5] كتاب القواعد والأصول وتطبيقات التدبر - خامسا قواعد قرآنية ص81
[6] أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - *ديث رقم: 3906، فت* الباري: 7/ 238، ومسلم في الزهد باب *ديث الهجرة: 2009.
[7] التزبب في الإنسان: كثير الشعر وطوله.
[8] السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 495).
[9] *ديث ص*ي* أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 228) وال*اكم في المستدرك (3/ 398)، وقال عقبه: ص*ي* على شرط مسلم ولم يخرجاه، وانظر أسباب النزول للوا*دي (ص 39)، وفقه السيرة (ص 166).
[10] البخاري، كتاب الجهاد، باب *مل الزاد في الغزو. (6/ 129 فت*).
[11] أخرج أ*مد في المسند 6/ 346 عن أسماء قالت لذلك سميت ذات النطاقين والبخاري في ص*ي*ه 7/ 193، 194 كتاب المناقب باب الهجرة.
[12] كتاب القواعد والأصول وتطبيقات التدبر، خامسًا قواعد قرآنية ص81.
______________________________ ______________________________ ____
الكاتب: السيد مراد سلامة