مشاهدة النسخة كاملة : الهدية الثمينة فيما يحفظ به المرء دينه


فريق منتدى الدي في دي العربي
08-14-2022, 06:07 PM
قال الشيخ عبد الله بن سليمان بن حميد فى رسالته : "الهدية الثمينة فيما يحفظ به المرء دينه"
اعلموا رحمني الله وإياكم أن أكثر الناس في هذا الزمان، نبذوا كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وراءهم ظهريا، وزهدوا فيما فيهما من العلم النافع والعمل به؛ حتى صار الإسلام في هذا الوقت إلى ما إليه صار، وذلك لالتفات غالب الخلق لأمر الدنيا وإصلاحها، ولو بفساد الدين وذهابه.
ونسوا دينهم الصحيح المقرر بكتاب الله، وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فعميت البصائر، واستحكمت غربة الدين، وعمت الفتن وانتشرت، حتى اجتمع الصالح بالفاسد،والفاسق بالعابد، واختلط الحابل بالنابل، وخالط المسلمون الكفار والمشركين، والرافضة والملحدين.
وكانوا عندهم خداما، ولهم عمالا، ومنهم متعلمين، وفي التجارة وسائر المعاملات معاملين، وفي شركاتهم مشتركين، وبمجالسهم مستأنسين، ولطعامهم وشرابهم آكلين شاربين، ولهم مؤانسين.
وحصل بهذا الاختلاط فساد الاعتقاد، وفساد الأخلاق، وظهر الإلحاد، والتكذيب في تعاليم الدين، وانتشر هذا الداء إلى المقيمين بأوطانهم، من بادية وحاضرة، بتلقي أولادهم وأقربائهم، المتلبسين بالمشركين، الموالين لهم، بإكرامهم وتحسين أعمالهم، والذب عنهم.
والحامل على هذا للجميع: الجهل بدين الإسلام، ومحبة الدنيا، والافتتان بها، وتقديمها على ما يرضي الله، ونسوا أن الرزق والأجل قرينان، فما دام الأجل باقيا فالرزق جاريا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [سورة الطلاق آية: 2-3].
وفي حديث:"إذا عظمت أمتي الدنيا نزعت منها هيبة الإسلام، وإذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرمت بركة الوحي، وإذا تسابت سقطت من عين الله"، وقال صلى الله عليه وسلم: "صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، وهلاك آخرها بالبخل والأمل"، وقال:"ليأتين على الناس زمان،رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [سورة البقرة آية: 200]، {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [سورة الشورى آية: 20]، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [سورة الإسراء آية: 18]، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [سورة الأعلى آية: 16-17].
والآيات، والأحاديث في ذم الدنيا والمشتغلين بها أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، ومع هذا فقد تحكم حبها في القلوب، وحصل بسببها ما يسخط علّام الغيوب.
أيها المسلمون، الدنيا لا تدوم نعمتها، ولا يستمر خيرها؛ بل هي مجمع الآفات، ومستودع المصائب، لا يركن إليها إلا مغرور، ولا ينخدع بها إلا مفتون.
أما المؤمن الحقيقي، فهي مطيته إلى الآخرة، إن أتته سراء شكر الله عليها، وإن أصابته ضراء صبر لها؛ يأمر بالمعروف ويسارع إليه، وينهى عن المنكر ولا يقر به،لا يداهن العصاة والفاسقين، ولا يجامل الرؤساء والأعيان بما يسخط الله.
عباد الله، ليست المصيبة أن يصاب الإنسان بنفسه أو ماله أو ولده، وإنما المصيبة العظيمة، والكسر الذي لا ينجبر، أن يصاب الإنسان بدينه، فيحل الشك محل اليقين، فيرى الباطل حقا، والحق باطلا، والمعروف منكرا، والمنكر معروفا.
أيها المسلمون، لا يفتننكم الذين كفروا عن دينكم بعرض من الدنيا فتصبحوا خاسرين; الله، الله، في حفظ دينكم والعمل بتعاليمه، فإنه من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه.
أيها المسلمون:ليس الإسلام مقصورا على الصلاة والزكاة والصوم والحج، ولكنه ذلك، والكف عن محارم الله، ومحبة أولياء الله، ومعاداة أعداء الله، والبعد عنهم، وإنكار ما هم عليه، وعدم مخالطتهم، وترك مشابهتهم وتقليدهم، إلى غير ذلك من حقوق الإسلام وشروطه ولوازمه.
ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. أكثر الناس يقولون آمنا بالله {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [سورة البقرة آية: 8-9-10] بحب الشهوات وأكل الحرام.{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [سورة المنافقون آية: 4] لكنهم عن الحق معرضون، ولأهله معادون مبغضون، ولأعداء الله محبون موالون.
والحقيقة أن من خالف أمر القرآن ونهيه، لم يؤمن به،شاء أم أبى، ومن لم يتبع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لم يصدقه، شاء أم أبى، لا تقبل دعوى بلا حقيقة، ولا قول بلا عمل.
والمصيبة العظيمة أن حرمات الله قد انتهكت، والفسوق قد انتشر بين المسلمين، ويحاول إخوان الشياطين: أن يقضوا على بقية الدين، ولا أحد ينكر أو يغار، أو يحزن لما يرى ويسمع من الأشرار، وينتحب على موت السنن وظهور البدع؛ ولا شك أن هذا علامة موت القلوب.
رحم الله ابن عقيل حيث يقول في زمانه: من عجيب ما نقدت من أحوال الناس، كثرة ما ناحوا على خراب الديار، وموت الأقارب والأسلاف، والتحسر على الأرزاق، وذم الزمن وأهله، وذكر نكد العيش فيه.
وقد رأوا من انهدام الإسلام، وتشعب الأديان، وموت السنن، وظهور البدع، وارتكاب المعاصي، وتقضي الأعمار في الفارغ الذي لا يجدي، والقبيح الذي يوبق ويؤذي.
فلا أجد منهم من ناح على دينه، ولا بكى على ما فرط من عمره، ولا أسى على فائت دهره، وما أرى لذلك سببا إلا قلة مبالاتهم بالأديان، وعظم الدنيا في عيونهم، ضد ما كان عليه السلف الصالح، يرضون بالبلاغ من الدنيا، وينوحون على الدين، اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله:
لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم عند ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، عمتهم هذه الأمور، وغلبت عليهم، حتى ربا فيها الصغير وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكرا.
فجاءتهم دولة أخرى أقامت فيها البدع مكان السنن، والنفس مكان العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور، وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلها هم المشار إليهم، إلى أن قال رحمه الله:
اقشعرت الأرض وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة، والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش، وغلبة المنكرات والقبائح.
وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السبيل، بتوبة نصوح، ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالجناب وقد علق {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227].
وقال رحمه الله:
علماء السوء جلسوا على باب الجنة، يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالوا للناس هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فهم في الصورة أدلَّاء، وفي الحقيقة قطاع طريق، اهـ.
فكيف لو رأى ابن القيم رحمه الله هذا الزمان، الذي انهدم فيه جانب الحق، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في غالب الناس، واختلط الخبيث بالطيب، وظهر الفاسد، وتكلم بملء شدقيه بلا خفية، وسكت المحق، فإن تكلم، فبينه وبين نفسه، وانعكست الأمور، وتغيرت الأحوال، وكثر العلم وقل العمل، وتعلم العلم للدنيا.
واتصف غالب أهله بالعقائد الفاسدة، والأعمال الخبيثة: إلحاد، وزندقة، واستهزاء بالسنن وأهلها، وخلاعة، وفجور، وزنى، ولواط، وشرب مسكرات، وترك للصلوات، ومروق من الدين والآداب العربية بكل الكلمة، لا خوف من الله ولا حياء من خلقه.
همهم القيل والقال، والعكوف على آلات اللهو، والشهوات المحرمة، وأكل أموال الناس بالباطل، والربا، وأنواع الحيل المحرمة، والتفاخر في المآكل والملابس، والمباهاة في البنيان والأثاث، وصار الحب للدنيا، والبغض لها، والموالاة فيها، والمعاداة عليها.
فهم كما قال كعب الأحبار: "والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل شرابين للقهوات "أي الخمور"، تراكين الصلوات، لعّابين بالكعبات، رقّادين عن العتمات 1، مفرطين في الغدوات، تاركين للجماعات".
ومن صفتهم: يقرؤون القرآن، وهم بين كافر به وفاجر يتأكل به; وفي حديث لأبي سعيد: "ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم" 2، وفي حديث آخر "وأما القرآن فيتعلمه المنافق فيجادل به المؤمنين" 3 كما هو الواقع، فهذه والله صفات غالب أهل زماننا هذا.
ورحم الله ابن القيم حيث قال: الزنادقة قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله؛ وهؤلاء هم المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار.
وذكر رحمه الله من صفاتهم ما ينطبق على غالب أهل هذا الزمان، فراجعه في كتابه "طريق الهجرتين، وباب السعادتين"
في الطبقة الخامسة عشر، يتبين لك أحوال الناس، وما أخلوا به وضيعوه، من تعاليم دينهم، وسنّة نبيهم.
وهلاك الأكثرين بانغماسهم في الشهوات المحرمة، وموالاتهم لأعداء الله ورسوله، وتركهم الصلاة التي هي عمود الإسلام، والذين يصلون منهم يؤخرونها عن أوقاتها.
وتأمل ذلك تجده عامًّا في القرى والأمصار والبوادي، إلا بقايا ممن رسخت في التوحيد عقائدهم،واستنارت بالعلم قلوبهم وبصائرهم، وعن الشر يحذرون، وبالأدلة يرشدون، وعلى الأذى في الله يصبرون.
وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله"1، لكنهم قليل.[الدرر السنية]

Adsense Management by Losha