فريق منتدى الدي في دي العربي
09-08-2022, 10:05 AM
حكم سبِّ الصَّحابة رضي الله عنهم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم صفوة البشر، وهم الذين اصطفاهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولحمل شريعته، ونقل كتاب الله العزيز، رفقاء دعوتـه، الذين أثنى الله عليهم في مواضع من كتابه، فقـال تعالى: وَالسَّابقونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالدِّين فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم
(التوبة-1..)وقال سبحانه: محمَّد رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجدا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ
(الفتح-29)وفي الصحيحين من حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فلو أنَّ أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبا ما بلغ مدَّ أحدِهِم ولا نصيفَه) فالواجب أن نعرف لهم فضلهم، وما أوجبه الله على المسـلمين نحوهم، من محبتهم والترضي عنهم، والدفاع والذود عنهم، وردِّ من تعرض لأعراضهم، فحُبُّهم دِينٌ وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وبهتان، قوم أطبقت الأمة على عدالتهم، فوجب إنزالهم منزلتهم التي أنزلهم الله إياها، مع الإمساك عمَّا شَجَر بينهم.
وقد أجمع المسلمون على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، وتلك جملة من عبارات الفقهاء في التنفير من ذلك، وبيان خطره:
قال الإمام أحمد: "فمن سبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحداً منهم، أو تنقَّصَ، أو طعن عليهم، أو عرَّض بعيبهم، أو عاب أحداً فهو مبتدع رافضي خبيث، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا". طبقات الحنابلة 1/24، وانظر: المدخل لمذهب الإمام أحمد (94)0
وسئل الإمام أحمد عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم؟ فقال: "ما أراه على الإسلام". المسائل المروية عن الإمام أحمد 2/363،358 0
وقال الإمام مالك: "من شتم أحداً من أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص رضي الله عنهم، فإن قال: كانوا على ضلال وكفر قُتل". الشفاء بتعريف حقوق المصطفى (378).
وقال ابن كثير: "وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى تكفير من سبّ الصَّحابة رضي الله عنهم". تفسير القُرْآن العظيم 1/487 0
وقال النووي رحمه الله: "واعلم أن سبّ الصَّحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المُحرَّمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره". شرح النووي على صحيح مسلم16/92، ط/دار إحياء التراث العربي 0
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "كما أن من سبّ الصَّحابة رضي الله عنهم فوق كونه تنقصا لهم، فهو يتضمن سبّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث كان أصحابه محلا للنقص والعيب، وسبَّ الشريعةِ؛ لأنها ما جـاءت إلا عن طريقهم، وسبَّ اللهِ حيث اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم مثل هؤلاء الصَّحابة". بتصرف من شرح العقيدة الواسطية 2/184،183.
الخلاف في سبّ الصَّحابة:
تحرير محل النزاع:
أولا: اتفق العلماء على أن من سبّ الصَّحابة بما لا يقدح في عدالتهم أنه لا يكفر، كأن يسبهم بما لا يطعن في دينهم، كقوله: كان فيهم قلة علم، وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة، أو فيهم شُحٌّ وحب دنيا، أو وصفهم بالجبن وعدم الزهد، أو يسبهم بقصد غيظهم، فهذا يستحق التأديب والتعزير، ولا يحكم بكفره بمجرَّد ذلك، وعلى هذا يحمـل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم. الشفاء بتعريف حقوق المصطفى (379)، والصارم المسلول على شاتم الرسول (586)، وانظر: نواقض الإيمان القولية والعملية(422)0
ثانيا: اتفق الفقهاء على أن من سبَّهم بما يقدح في عدالتهم ودينهم أنه يكفر، كَرَمْيِهم بالكفر والنفاق، أو أنهم ارتـدوا بعد الإسلام إلا نفـرا قليلا منهم، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب في كفره؛ لأنه مكذب للقرآن. المصادر السابقة، وفتاوى السبكي 2/575، والإعلام بقواطع الإسلام (380)0
ثالثا: اتفق الفقهاء على كُفْر من استحلَّ سبّ الصَّحابة رضي الله عنهم على الوجه المذكور في القسم الثاني من تحرير النزاع، أو اقترن بسَبِّه دعوى أن عليًّا رضي الله عنه إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبريل في الرسالة، أو إذا سبّ أحدهم من حيث هو صحابي، فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. الصارم المسلول على شاتم الرسول (586)، وفتاوى السبكي 2/575، والرد على الرافضة(19،18).
رابعا: اختلف أهل العلم فيمن لعن الصَّحابة أو قبح مطلقا، لتردُّدِ الأمر بين لعن وتقبيح الغيظ، أو لعن وتقبيح الاعتقاد، والنزاع فيه على قولين:
القول الأول: أنه لا يكفـر ولا يقتل، وهو مذهب الحنفيَّـة، والمالكية، والشافعية والحنابلة، واختاره إسحاق بن راهويه، وعمر بن عبد العزيز، وجماعة من أهل العلم. انظر: حاشية ابن عابدين 7/162، والفواكه الدواني2/202، وحاشية الدسوقي4/312 ، وروضة الطالبين 11/240، وإعانة الطالبين4/138، و المغني 10/168، ط/دار الفكر، والإنصاف10/324، والشفاء بتعريف حقوق المصطفى(378)، والصارم المسلول على شاتم الرسول (568)0
قال ابن المنذر: "لا أعلم أحدا يوجب قتل من سبَّ مَنْ بعد النبي صلى الله عليه وسلم". الصارم المسلول على شاتم الرسول (568)0
وقال إسحاق بن راهويه: "من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس".
قال مالك: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قُتل، ومن سبّ أصحابه رضي الله عنهم أُدِّب، ومن شـتمهم بغير هذا، يعني الضلال والكفر، من مشاتمة الناس نكل نكالا شديدا". الشفاء بتعريف حقوق المصطفى (378)0
قال شيخ الإسلام: "وقد أطلق الإمام أحمد فيمن سبّ أحدا من الصَّحابة رضي الله عنهم فقال: يضرب ضربا نكالا، وتوقف عن قتله وكفره، قال أبو طالب: سألت أحمد عمَّن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: القتل أَجْبَنُ عنه، ولكن أضربُه ضربا نكالا، وقال في موضع آخر: ما أراه على الإسلام". الصارم المسلول على شاتم الرسول(567) وكشاف القناع6/171، والمسائل المروية عن الإمام أحمد2/363،358.
قال القاضي أبو يعلى: "الذي عليه الفقهاء في سبّ الصَّحابة رضي الله عنهم، إن كان مستحلا لذلك كفر، وإن لم يكن مستحلا فَسَقَ ولم يكفر". الصارم المسلول على شاتم الرسول (569)0
واستدلوا بالآتي:
أولا: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلابإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو رجل قتل نفسا فيقتل بها". أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه2/77.
ومطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر. الصارم المسلول على شاتم الرسول (578)0
المناقشة: يناقش هذا بأن الحديث ليس فيه حصرٌ لصور القتل المباح شرعا، فهناك أمور أخرى توجب قتل الفاعل، ولم تذكر في الحديث، وعدم ذكرها لا يعني عدم جوازها، فإذا جاز ذلك جاز أن يكون قتل السابِّ من الصور التي لم تذكر في الحديث.
ثانيا: قصة أبي بكر رضي الله عنه وهي أن رجلا أغلظ له، وفي رواية: شتمه، فقال له أبو برزة: أقتلُهُ؟ فانتهره، وقال: ليس هذا لأحدٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، وهو صحيح الإسناد0
المناقشة: يمكن أن يناقش بأن هذا حقٌّ لأبي بكر رضي الله عنه وقد أسقطه في حياته، أما بعد موته فإن سبَّه أعظم الامتهان والتكذيب لكتاب الله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: أن أبابـكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي أُميَّة: "إنَّ حدَّ الأنبياء ليس يشبه الحدود". أورده المتقي الهندي في كنز العمال ولم يعزه 5/808 0
رابعا: أن الله تعالى ميَّزَ بَيْنَ مؤذي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومؤذي المؤمنين، فجعل الأوَّل ملعوناً في الدنيا والآخرة، وقال في الثـاني: )فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً
(الأحزاب-58) ومطلق البهتان والإثم ليس بموجبٍ للقتل، وإنما هو موجبٌ للعقوبة في الجملة، فتكون عليه عقوبةٌ مطلقةٌ، ولا يلزم من العقوبة جواز القتل. الصارم المسلول(578)0
المناقشة: ويناقش بأن مطلق البهتان وإن لم يستلزم القتل ولا يوجبه، إلا أنه لا ينفيه، فإذا علم من قواعد الشرع أن السابَّ يقتل إذ يقتضي ذلك حفظ الشريعة، فلا مانع من قتله، بل ظاهر فعل الصَّحابة رضي الله عنهم حلُّ القتل إذا سبّ الصحابي، سيما الكبار منهم.
خامسا: أن بعض مَنْ كان على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان ربما سبّ بعضُهم بعضاً، ولم يكفر أحدٌ بذلك، ومن ذلك أن خالد بن الوليد رضي الله عنه سبَّ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تسُبُّوا أصحابي..." ولم يكفر بذلك .
المناقشة: يناقش هذا الوجه بأن منزلة الصَّحابة في الجملة منزلة عظيمة، وقد أبلى خالد بن الوليد رضي الله عنه في الإسلام بلاء حسنا، ولا يمكن أن يكفره النبي صلى الله عليه وسلم ويستحل قتله لمجرَّد أنه سبّ صحابيا آخر، ولا يمكن أن يسوى غير خالد بخالد، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لو أباح دمه لمجرَّد ذلك لكان في ذلك أعظم الحرج، وربما كان ذلك سببا في الفتنة، فلا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بحكمته وكمال هديه راعى ذلك.
سادسا: أن أشخاص الصَّحابة رضي الله عنهم لا يجب الإيمانُ بهم بأعيانهم، فسبُّ الواحد لا يقدح في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. الصارم المسلول على شاتم الرسول (579)0
المناقشة: يناقش بأن قتل السابِّ ليس لأن الإيمان بالصَّحابة رضي الله عنهم ركنٌ من أركـان الإيمان، لكن لما يترتب على السبِّ من محاذير عظيمة، فكان الواجب تعزير الساب بأعظم تعزير، فالموجب للقتل مختلف، وهو ما يقتضيه سبّ الصَّحابة رضي الله عنهم من طعن في الشريعة وفي حكمة الله تعالى.
القول الثاني: أن ساب الصَّحابة يكفر، ويقتل، وهو قول طائفة من فقهاء الكوفة، وهو رواية عند الحنفية في الشيخين خاصة، وهو مذهب مالك بشرط أن يستحل السبَّ، وهو قول لبعض الشافعية، وهو رواية عن أحمد. حاشية ابن عابدين 4/237، ، وفتاوى السبكي 2/577، وحاشيتي قليوبي وعميرة 4/175، والمسائل المروية عن الإمام أحمد 2/358، والشفاء بتعريف حقوق المصطفى (378)، والصارم المسلول على شاتم الرسول (571).
وهذا القول يبدو أن قصد القائل به من سبّ كبار الصَّحابة، كأبي بكر وعمر وعلي وبقية العشرة، لا سائر الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين، كما يبدو أنه لم يذهب أحدٌ من أهل العلم إلى تكفير الساب مطلقا، وهو الذي يمكن به الجمع بين نصوص أحمد، ولذلك قال السبكي: فيتلخص أن سبّ أبي بكر رضي الله عنه على مذهب أبي حنيفة وأحد الوجهين عند الشافعية كفر... والقائل بأن الساب لا يكفر لا نتحقق منه أنه يطرده فيمن يكفِّر أعلام الصَّحابة رضوان الله عليهم. فتاوى السبكي 2/590.
واستدلوابالآتي:
أولا: قوله تعـالى: ) محمَّد رَسُولُ اللهِ وَالّّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ إلى قوله تعالى: )لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ
(الفتح-29) قال شيخ الإسلام: "فلابد أن يَغِيظ بهم الكفار، وإذا كان الكفـار يُغَاظون بهم، فمن غِيْظ بهم فقد شـارك الكفار فيما أذلَّهم الله به وأخزاهم وكَبَتهم على كفـرهم، ولا يشارك الكفار في غيظهم الذي كُبِتوا به جــزاء لكفرهم إلا كافر؛ لأن المؤمن لا يُكبَت جزاءً للكفر". الصارم المسلول على شاتم الرسول (567)0
ثانيا: عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثلَ أحدٍ ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ).
ولمسلم قال: "كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ). أخرجه مسلم (2541)0
ثالثا: عن عبدالرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله اختارني واختار لي أصحابا، جعـل لي منهـم وزراء وأنصارا وأصهارا، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لايقبل الله منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا ) . أخرجه الطبراني في الأوسط1/144، والحاكم في المستدرك 3/732، وابن أبي عاصم في السنة 2/483، وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد 10/17، والألباني في الضعيفة 7/370.
رابعا: عن عبدالله بن مُغَفّلٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهََ اللهَ في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً من بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه ). أخرجه أحمد، والترمذي، والحديث ضعفه الألباني في الضعيفة6/4030.
وأذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كفرٌ موجبٌ للقتل.
خامسا: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا ذُكِر القدر فأمسكوا، وإذا ذُكِر أصحابي فأمسكوا". أخرجه الطبراني في الكبير2/96، والحارث في مسنده2/748، وابن بطة في الإبانة1/239، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة1/126، وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة1/75 0
سادسا: عن أنس رضي الله عنهٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار".أخرجه البخاري (17)، ومسلم (74) عن أنس رضي الله عنه، وهذا لفظ البخاري0
وفي لفظٍ لهما عن البراء رضي الله عنه قال في الأنصارِ: "لا يحبهم إلا مؤمنٌ، ولا يبغضهم إلا منافقٌ".
ولمسلمٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبغض الأنصار رجل آمن بالله واليوم الآخر".
قال شيخ الإسلام: "فمن سبَّهم فقد زاد على بغضهم، فيجب أن يكون منافقاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وإنما خصَّ الأنصار -والله أعلم- لأنهم هم الذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبل المهاجرين، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروهُ ومنعوهُ". الصارم المسلول على شاتم الرسول(581) 0
سابعا: أن عليًّا رضي الله عنه بلغه أن ابْنَ السَّوْداء انتقص أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، قال: فدعاه ودعا بالسيف، أو قال: فَهَمَّ بقتله، فكُلِّم فيه، فقال: لا يساكنني ببلد أنا فيه، فنفاه إلى المدائن". أورده شيخ الإسلام في الصارم(584)، وعزاه إلى ابن بطة واللالكائي0
ومن المعلوم أن عليا رضي الله عنه من فقهاء الصَّحابة وكبارهم، وما كان لِيَهِمَّ بقتل السابِّ إلا وقتله عنده مباح.
ثامنا: عن سعيد بن عبدالرحمن بن أَبْزَى، قال: "قلت لأبي: لو أتيت برجل يسُبُّ أَبَا بكر ما كنتَ صانعا؟ قال: أضربُ عنقه، قلتُ: فعمرَ؟ قال: أضربُ عنقه". أخرجه إسحق بن راهويه في مسنده 3/729 ، وفي إسناده الأعمش وهو مدلس، وقد عنعنه0
وعبد الرحمن بن أَبْزَى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أدركه وصَلَّى خلفَه.
تاسعا: لما وقع بين عبيد الله بن عمر وبين المقداد كلامٌ، فشتم عبيدُ الله المقدادَ، فقال عمر: "عليَّ بالحدَّاد أقطع لسانه؛ لا يجترئُ أحدٌ بعده بشتم أحدٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
وفي رواية: "فَهَمَّ عمر بقطع لسانه، فكلمه فيه أصحابُ محمَّد صلى الله عليه وسلم فقال: "ذروني أقطع لسان ابني حتَّى لا يجترئَ أحد بعده يسبُّ أحداً من أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم ". أورده شيخ الإسلام في الصارم(584) وعزاه إلى ابن بطة واللالكائي0
وهـذا يـدل على أن هذا الحكم هو المستقرُّ عند الصَّحابة رضي الله عنهم.
التَّرجيح:
الرَّاجح والله أعلم التفصيل، وأن من سبّ أبا بكر أو عمـر أو عثمان أو عليًّـا أوغيرهم رضي الله عنهم ممن اتفقت الأمة على فضلهم، وتواترت النصوص بذلك أنه يكفر؛ وذلك للآتي: -
أولا: أن هؤلاء الصَّحابة رضي الله عنهم جاءت الشريعة بتمييزهم عن غيرهم، وتواترت النصوص في فضلهم، ونقل عن الصَّحابة تكفير من سبَّهم خاصة، مما يدلُّ على أن قتل سابهم هو المستقرُّ عند جمهور الصَّحابة رضي الله عنهم، إذ لولا استقرَّ ذلك لما أقدم عمر أو علي رضي الله عنهما على قتل سابهم ونفيه.
ثانيا: أن أبا بكر وعمر ونحوهم من الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين لهم في الإسلام من الفضائل والمآثر والمفاخر ما ليس لغيرهم، من الصحبة الخاصة والخلافة والنصرة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد، فكان مقتضى ذلك التفريق بينهم وبين مَنْ دونهم، فيكفر ويُقتل سابهم.
ثالثا: أن سبهم يدلُّ على بغضهم وتنقصهم، وعدم القيام بالواجب لهم، ولا شك أن بغضهم والقدح فيهم قدح في حكمة الله، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي شريعة الله، وكتاب الله، والقدح في ذلك كفر ونفاق يوجب قتل فاعله.
رابعا: أن سبّ كبار الصحابة رضي الله عنهم طعن في الشرع وإبطال له، وقدح في حكمة الله سبحانه وتعالى حيث اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم من ليس أهلا لصحبته؛ ولذلك لما أراد المستشرقون الطعن والتشكيك في الشريعة قصدوا إلى الجبال من نَقَلة السُّنة، كأبي هريرة رضي الله عنه من الصَّحابة، ومحمَّد بن شهاب الزهري رحمه الله من التابعين، فإذا ما طُعِن هؤلاء وذهبت مصداقيتهم، كان ذلك طريقا إلى بطلان ما نقلوه من الشريعة، ومن المعلوم أن هذَيْنِ الرَّجُلين أكثر وأوثق من نقل السنة، فيحصل بذلك التشكيك والإبطال لأكثر الشريعة، بل كل الشريعة. السنة ومكانتها في التشريع (364)وما بعدها0
ولا شك في كفر ونفاق من أتى بما يوجب بطلان الشريعة.
*أما غيرهم من الصَّحابة رضي الله عنهم فإن مرتبتهم تختلف؛ ولذلك لا يمكن الجزم أن سبهم كفر، إنما هو فسق، وكبيرة من الكبائر؛ حيث تضمَّن هذا السبُّ القدحَ والانتقاصَ للشريعة.
وأيًّا كان الأمر فإن أقلَّ أحوال سبّ الصَّحابة رضي الله عنهم كونه فسقا، وخروجا عن الشرع ونصوصه، الموجبة لتعظيمهم وإجلالهم وتوقيرهم.
قال السبكي: "وأجمع القائلون بعدم تكفير من سبّ الصَّحابة أنهم?أي: السابُّون- فساق". فتاوى السبكي 2/5760
وأن الساب أقل ما يفعل به التعزير والضرب الشديد.
سبُّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:
هذه المسألة لا تخلو من حالين: إما أن يكون السب لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على وجه الخصوص، أو يكون السب لغيرها من أزواجه صلى الله عليه وسلم.
فأما سبّ عائشة رضي الله عنها، فقال القاضي أبو يعلى: "من قذف عائشة مما برَّأها الله منه كَفَر بلا خلاف، وقد حكى الإجماع على هذا، وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم. الصارم المسلول على شاتم الرسول (566)، وكشاف القناع6/1710
وروي عن مالك أنه قال: "من سبَّ أبا بكر جلد، ومن سبّ عائشة قتل!
قيل: لمَ؟!
فقال: "من رماها فقد خالف القُرْآن؛ لأن الله تعالى قال: )يَعِظُكُمُ اللهُ أنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنْتُمْ مُؤمِنِينَ
(النور-17)". الشفاء بتعريف حقوق المصطفى (376) 0
ولذا جاء في فتاوى السبكي قال: "وأما الوقيعة في عائشة رضي الله عنها-والعياذ بالله- فموجبة القتل لأمرين:
أحدهما: أن القُرْآن يشهد ببراءتها فتكذيبه كفر، والوقيعة فيها تكذيب له.
والثاني: أنها فِراش النبي صلى الله عليه وسلم والوقيعة فيها تنقيص له وكفر". فتاوى السبكي 2/592.
قال شيخ الإسلام: "ذكر غير واحد من العلماء اتفاق الناس على أن من قذفها بما برَّأها الله تعالى منه فقد كفر؛ لأنه مكذِّب للقرآن". الرَّدُّ على البكري (340)0
أما إن كان السب بغير ما برأها الله منه في كتابه، فإن فيها نفس الخلاف الآتي.
أما من سبّ غير عائشة رضي الله عنها من أزواجه صلى الله عليه وسلم، فقد اختلف في ذلك أهل العلم على قولين:
القول الأول: أنه يكفـر، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة، واختـاره القاضي عياض وابن حزم وشيخ الإسلام والسبكي. فتاوى السبكي 2/592، وكشاف القناع 6/171، والمحلى 11/415 ، والشفاء بتعريف حقوق المصطفى (380)، والصارم المسلول على شاتم الرسول (567)0
ودليلهم: أن جميع أمهات المؤمنين فراش للنبي صلى الله عليه وسلم، والوقيعة في أعراضـهن أو سبـهن مسبةٌ وتنقُّصٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المعلوم أن سبّ النبي صلى الله عليه وسلم كفر، وخروج عن الملة بالإجماع،كما سبق بيـان ذلك، ومما يؤيـد ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(النور-23) فهذه الآية نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو المروي عن الضَّحاك وابن الجوزاء. جامع البيان عن تفسير آي القرآن 17/227، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/287 0
قال شيخ الإسلام: "وأما من سبّ غير عائشة من أزواجه صلى الله عليه وسلم ففيه قولان، والأصح أنَّ من قذف واحدةً من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها، وقد تقدم معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ وذلك لأن هذا فيه عـارٌ وغضاضةٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده". الصارم المسلول على شاتم الرسول (567) 0
القول الثـاني: أنه لا يكفر، وهو ظاهر اختيار ابن العربي المالكي، ورواية عند الحنابلة.أحكام القرآن لابن العربي 3/366، وكشاف القناع 6/171، وانظر: الصواعق المحرقة 1/144.
ودليلهم: أن القُرْآن شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها، فمن خالف ذلك وأنكره فهو مكذِّب للقرآن، ولم يرد مثل هذا في بقية أمهات المؤمنين.كشاف القناع 6/171.
المناقشة: يناقش هذا الدليل بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مرتبتهن واحدة، وإنما الفضل لهن بنكاحهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم تختص عائشة رضي الله عنها بمزيد فضل على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما برَّأها الله حيث كان الطَّعن فيها طعنا في رسوله صلى الله عليه وسلم وتدنيسا لفراشه، فكل من شاركتها في هذا المعنى وجب أن تأخذ حكمها، ولم يعلم من الشرع كون هذا خاصا بعائشة رضي الله عنها، إلا للمعنى الذي ذكر، فالوقيعة في أعراض أمهات المؤمنين وسبهن وتنقصهن هو تنقصٌ وسبٌّ وإيذاءٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب من الأحكام لكل واحدة منهن ما يوجب للأخرى، فإذا كان سبُّها كفرا وجب أن يكون سبُّهن كفرا أيضا.
التَّرجيح:
الرَّاجح في هذه المسألة القول الأول، وأن سبّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالفراش كفر؛ وذلك لسلامة دليل هذا القول، والاعتراض على دليل القول الثاني بما يوجب بطلانه، وعدم حجيته.
وتبين بذلك أن الفقهاء حينما ذكروا هذه المسألة والنزاع فيها، إنما يقصدون بذلك ما إذا كان السبُّ بالقذف أو الطعن في إحدى أمهات المؤمنين المفضي إلى تدنيس فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان السب بما سوى ذلك فالقول فيهن رضي الله عنهن هو عين ما جرى من خلاف في سائر الصَّحابة رضي الله عنهم، والله أعلم.
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم صفوة البشر، وهم الذين اصطفاهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولحمل شريعته، ونقل كتاب الله العزيز، رفقاء دعوتـه، الذين أثنى الله عليهم في مواضع من كتابه، فقـال تعالى: وَالسَّابقونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالدِّين فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم
(التوبة-1..)وقال سبحانه: محمَّد رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجدا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ
(الفتح-29)وفي الصحيحين من حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فلو أنَّ أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبا ما بلغ مدَّ أحدِهِم ولا نصيفَه) فالواجب أن نعرف لهم فضلهم، وما أوجبه الله على المسـلمين نحوهم، من محبتهم والترضي عنهم، والدفاع والذود عنهم، وردِّ من تعرض لأعراضهم، فحُبُّهم دِينٌ وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وبهتان، قوم أطبقت الأمة على عدالتهم، فوجب إنزالهم منزلتهم التي أنزلهم الله إياها، مع الإمساك عمَّا شَجَر بينهم.
وقد أجمع المسلمون على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، وتلك جملة من عبارات الفقهاء في التنفير من ذلك، وبيان خطره:
قال الإمام أحمد: "فمن سبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحداً منهم، أو تنقَّصَ، أو طعن عليهم، أو عرَّض بعيبهم، أو عاب أحداً فهو مبتدع رافضي خبيث، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا". طبقات الحنابلة 1/24، وانظر: المدخل لمذهب الإمام أحمد (94)0
وسئل الإمام أحمد عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم؟ فقال: "ما أراه على الإسلام". المسائل المروية عن الإمام أحمد 2/363،358 0
وقال الإمام مالك: "من شتم أحداً من أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص رضي الله عنهم، فإن قال: كانوا على ضلال وكفر قُتل". الشفاء بتعريف حقوق المصطفى (378).
وقال ابن كثير: "وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى تكفير من سبّ الصَّحابة رضي الله عنهم". تفسير القُرْآن العظيم 1/487 0
وقال النووي رحمه الله: "واعلم أن سبّ الصَّحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المُحرَّمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره". شرح النووي على صحيح مسلم16/92، ط/دار إحياء التراث العربي 0
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "كما أن من سبّ الصَّحابة رضي الله عنهم فوق كونه تنقصا لهم، فهو يتضمن سبّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث كان أصحابه محلا للنقص والعيب، وسبَّ الشريعةِ؛ لأنها ما جـاءت إلا عن طريقهم، وسبَّ اللهِ حيث اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم مثل هؤلاء الصَّحابة". بتصرف من شرح العقيدة الواسطية 2/184،183.
الخلاف في سبّ الصَّحابة:
تحرير محل النزاع:
أولا: اتفق العلماء على أن من سبّ الصَّحابة بما لا يقدح في عدالتهم أنه لا يكفر، كأن يسبهم بما لا يطعن في دينهم، كقوله: كان فيهم قلة علم، وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة، أو فيهم شُحٌّ وحب دنيا، أو وصفهم بالجبن وعدم الزهد، أو يسبهم بقصد غيظهم، فهذا يستحق التأديب والتعزير، ولا يحكم بكفره بمجرَّد ذلك، وعلى هذا يحمـل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم. الشفاء بتعريف حقوق المصطفى (379)، والصارم المسلول على شاتم الرسول (586)، وانظر: نواقض الإيمان القولية والعملية(422)0
ثانيا: اتفق الفقهاء على أن من سبَّهم بما يقدح في عدالتهم ودينهم أنه يكفر، كَرَمْيِهم بالكفر والنفاق، أو أنهم ارتـدوا بعد الإسلام إلا نفـرا قليلا منهم، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب في كفره؛ لأنه مكذب للقرآن. المصادر السابقة، وفتاوى السبكي 2/575، والإعلام بقواطع الإسلام (380)0
ثالثا: اتفق الفقهاء على كُفْر من استحلَّ سبّ الصَّحابة رضي الله عنهم على الوجه المذكور في القسم الثاني من تحرير النزاع، أو اقترن بسَبِّه دعوى أن عليًّا رضي الله عنه إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبريل في الرسالة، أو إذا سبّ أحدهم من حيث هو صحابي، فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. الصارم المسلول على شاتم الرسول (586)، وفتاوى السبكي 2/575، والرد على الرافضة(19،18).
رابعا: اختلف أهل العلم فيمن لعن الصَّحابة أو قبح مطلقا، لتردُّدِ الأمر بين لعن وتقبيح الغيظ، أو لعن وتقبيح الاعتقاد، والنزاع فيه على قولين:
القول الأول: أنه لا يكفـر ولا يقتل، وهو مذهب الحنفيَّـة، والمالكية، والشافعية والحنابلة، واختاره إسحاق بن راهويه، وعمر بن عبد العزيز، وجماعة من أهل العلم. انظر: حاشية ابن عابدين 7/162، والفواكه الدواني2/202، وحاشية الدسوقي4/312 ، وروضة الطالبين 11/240، وإعانة الطالبين4/138، و المغني 10/168، ط/دار الفكر، والإنصاف10/324، والشفاء بتعريف حقوق المصطفى(378)، والصارم المسلول على شاتم الرسول (568)0
قال ابن المنذر: "لا أعلم أحدا يوجب قتل من سبَّ مَنْ بعد النبي صلى الله عليه وسلم". الصارم المسلول على شاتم الرسول (568)0
وقال إسحاق بن راهويه: "من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس".
قال مالك: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قُتل، ومن سبّ أصحابه رضي الله عنهم أُدِّب، ومن شـتمهم بغير هذا، يعني الضلال والكفر، من مشاتمة الناس نكل نكالا شديدا". الشفاء بتعريف حقوق المصطفى (378)0
قال شيخ الإسلام: "وقد أطلق الإمام أحمد فيمن سبّ أحدا من الصَّحابة رضي الله عنهم فقال: يضرب ضربا نكالا، وتوقف عن قتله وكفره، قال أبو طالب: سألت أحمد عمَّن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: القتل أَجْبَنُ عنه، ولكن أضربُه ضربا نكالا، وقال في موضع آخر: ما أراه على الإسلام". الصارم المسلول على شاتم الرسول(567) وكشاف القناع6/171، والمسائل المروية عن الإمام أحمد2/363،358.
قال القاضي أبو يعلى: "الذي عليه الفقهاء في سبّ الصَّحابة رضي الله عنهم، إن كان مستحلا لذلك كفر، وإن لم يكن مستحلا فَسَقَ ولم يكفر". الصارم المسلول على شاتم الرسول (569)0
واستدلوا بالآتي:
أولا: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلابإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو رجل قتل نفسا فيقتل بها". أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه2/77.
ومطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر. الصارم المسلول على شاتم الرسول (578)0
المناقشة: يناقش هذا بأن الحديث ليس فيه حصرٌ لصور القتل المباح شرعا، فهناك أمور أخرى توجب قتل الفاعل، ولم تذكر في الحديث، وعدم ذكرها لا يعني عدم جوازها، فإذا جاز ذلك جاز أن يكون قتل السابِّ من الصور التي لم تذكر في الحديث.
ثانيا: قصة أبي بكر رضي الله عنه وهي أن رجلا أغلظ له، وفي رواية: شتمه، فقال له أبو برزة: أقتلُهُ؟ فانتهره، وقال: ليس هذا لأحدٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، وهو صحيح الإسناد0
المناقشة: يمكن أن يناقش بأن هذا حقٌّ لأبي بكر رضي الله عنه وقد أسقطه في حياته، أما بعد موته فإن سبَّه أعظم الامتهان والتكذيب لكتاب الله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: أن أبابـكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي أُميَّة: "إنَّ حدَّ الأنبياء ليس يشبه الحدود". أورده المتقي الهندي في كنز العمال ولم يعزه 5/808 0
رابعا: أن الله تعالى ميَّزَ بَيْنَ مؤذي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومؤذي المؤمنين، فجعل الأوَّل ملعوناً في الدنيا والآخرة، وقال في الثـاني: )فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً
(الأحزاب-58) ومطلق البهتان والإثم ليس بموجبٍ للقتل، وإنما هو موجبٌ للعقوبة في الجملة، فتكون عليه عقوبةٌ مطلقةٌ، ولا يلزم من العقوبة جواز القتل. الصارم المسلول(578)0
المناقشة: ويناقش بأن مطلق البهتان وإن لم يستلزم القتل ولا يوجبه، إلا أنه لا ينفيه، فإذا علم من قواعد الشرع أن السابَّ يقتل إذ يقتضي ذلك حفظ الشريعة، فلا مانع من قتله، بل ظاهر فعل الصَّحابة رضي الله عنهم حلُّ القتل إذا سبّ الصحابي، سيما الكبار منهم.
خامسا: أن بعض مَنْ كان على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان ربما سبّ بعضُهم بعضاً، ولم يكفر أحدٌ بذلك، ومن ذلك أن خالد بن الوليد رضي الله عنه سبَّ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تسُبُّوا أصحابي..." ولم يكفر بذلك .
المناقشة: يناقش هذا الوجه بأن منزلة الصَّحابة في الجملة منزلة عظيمة، وقد أبلى خالد بن الوليد رضي الله عنه في الإسلام بلاء حسنا، ولا يمكن أن يكفره النبي صلى الله عليه وسلم ويستحل قتله لمجرَّد أنه سبّ صحابيا آخر، ولا يمكن أن يسوى غير خالد بخالد، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لو أباح دمه لمجرَّد ذلك لكان في ذلك أعظم الحرج، وربما كان ذلك سببا في الفتنة، فلا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بحكمته وكمال هديه راعى ذلك.
سادسا: أن أشخاص الصَّحابة رضي الله عنهم لا يجب الإيمانُ بهم بأعيانهم، فسبُّ الواحد لا يقدح في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. الصارم المسلول على شاتم الرسول (579)0
المناقشة: يناقش بأن قتل السابِّ ليس لأن الإيمان بالصَّحابة رضي الله عنهم ركنٌ من أركـان الإيمان، لكن لما يترتب على السبِّ من محاذير عظيمة، فكان الواجب تعزير الساب بأعظم تعزير، فالموجب للقتل مختلف، وهو ما يقتضيه سبّ الصَّحابة رضي الله عنهم من طعن في الشريعة وفي حكمة الله تعالى.
القول الثاني: أن ساب الصَّحابة يكفر، ويقتل، وهو قول طائفة من فقهاء الكوفة، وهو رواية عند الحنفية في الشيخين خاصة، وهو مذهب مالك بشرط أن يستحل السبَّ، وهو قول لبعض الشافعية، وهو رواية عن أحمد. حاشية ابن عابدين 4/237، ، وفتاوى السبكي 2/577، وحاشيتي قليوبي وعميرة 4/175، والمسائل المروية عن الإمام أحمد 2/358، والشفاء بتعريف حقوق المصطفى (378)، والصارم المسلول على شاتم الرسول (571).
وهذا القول يبدو أن قصد القائل به من سبّ كبار الصَّحابة، كأبي بكر وعمر وعلي وبقية العشرة، لا سائر الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين، كما يبدو أنه لم يذهب أحدٌ من أهل العلم إلى تكفير الساب مطلقا، وهو الذي يمكن به الجمع بين نصوص أحمد، ولذلك قال السبكي: فيتلخص أن سبّ أبي بكر رضي الله عنه على مذهب أبي حنيفة وأحد الوجهين عند الشافعية كفر... والقائل بأن الساب لا يكفر لا نتحقق منه أنه يطرده فيمن يكفِّر أعلام الصَّحابة رضوان الله عليهم. فتاوى السبكي 2/590.
واستدلوابالآتي:
أولا: قوله تعـالى: ) محمَّد رَسُولُ اللهِ وَالّّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ إلى قوله تعالى: )لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ
(الفتح-29) قال شيخ الإسلام: "فلابد أن يَغِيظ بهم الكفار، وإذا كان الكفـار يُغَاظون بهم، فمن غِيْظ بهم فقد شـارك الكفار فيما أذلَّهم الله به وأخزاهم وكَبَتهم على كفـرهم، ولا يشارك الكفار في غيظهم الذي كُبِتوا به جــزاء لكفرهم إلا كافر؛ لأن المؤمن لا يُكبَت جزاءً للكفر". الصارم المسلول على شاتم الرسول (567)0
ثانيا: عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثلَ أحدٍ ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ).
ولمسلم قال: "كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ). أخرجه مسلم (2541)0
ثالثا: عن عبدالرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله اختارني واختار لي أصحابا، جعـل لي منهـم وزراء وأنصارا وأصهارا، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لايقبل الله منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا ) . أخرجه الطبراني في الأوسط1/144، والحاكم في المستدرك 3/732، وابن أبي عاصم في السنة 2/483، وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد 10/17، والألباني في الضعيفة 7/370.
رابعا: عن عبدالله بن مُغَفّلٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهََ اللهَ في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً من بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه ). أخرجه أحمد، والترمذي، والحديث ضعفه الألباني في الضعيفة6/4030.
وأذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كفرٌ موجبٌ للقتل.
خامسا: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا ذُكِر القدر فأمسكوا، وإذا ذُكِر أصحابي فأمسكوا". أخرجه الطبراني في الكبير2/96، والحارث في مسنده2/748، وابن بطة في الإبانة1/239، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة1/126، وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة1/75 0
سادسا: عن أنس رضي الله عنهٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار".أخرجه البخاري (17)، ومسلم (74) عن أنس رضي الله عنه، وهذا لفظ البخاري0
وفي لفظٍ لهما عن البراء رضي الله عنه قال في الأنصارِ: "لا يحبهم إلا مؤمنٌ، ولا يبغضهم إلا منافقٌ".
ولمسلمٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبغض الأنصار رجل آمن بالله واليوم الآخر".
قال شيخ الإسلام: "فمن سبَّهم فقد زاد على بغضهم، فيجب أن يكون منافقاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وإنما خصَّ الأنصار -والله أعلم- لأنهم هم الذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبل المهاجرين، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروهُ ومنعوهُ". الصارم المسلول على شاتم الرسول(581) 0
سابعا: أن عليًّا رضي الله عنه بلغه أن ابْنَ السَّوْداء انتقص أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، قال: فدعاه ودعا بالسيف، أو قال: فَهَمَّ بقتله، فكُلِّم فيه، فقال: لا يساكنني ببلد أنا فيه، فنفاه إلى المدائن". أورده شيخ الإسلام في الصارم(584)، وعزاه إلى ابن بطة واللالكائي0
ومن المعلوم أن عليا رضي الله عنه من فقهاء الصَّحابة وكبارهم، وما كان لِيَهِمَّ بقتل السابِّ إلا وقتله عنده مباح.
ثامنا: عن سعيد بن عبدالرحمن بن أَبْزَى، قال: "قلت لأبي: لو أتيت برجل يسُبُّ أَبَا بكر ما كنتَ صانعا؟ قال: أضربُ عنقه، قلتُ: فعمرَ؟ قال: أضربُ عنقه". أخرجه إسحق بن راهويه في مسنده 3/729 ، وفي إسناده الأعمش وهو مدلس، وقد عنعنه0
وعبد الرحمن بن أَبْزَى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أدركه وصَلَّى خلفَه.
تاسعا: لما وقع بين عبيد الله بن عمر وبين المقداد كلامٌ، فشتم عبيدُ الله المقدادَ، فقال عمر: "عليَّ بالحدَّاد أقطع لسانه؛ لا يجترئُ أحدٌ بعده بشتم أحدٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
وفي رواية: "فَهَمَّ عمر بقطع لسانه، فكلمه فيه أصحابُ محمَّد صلى الله عليه وسلم فقال: "ذروني أقطع لسان ابني حتَّى لا يجترئَ أحد بعده يسبُّ أحداً من أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم ". أورده شيخ الإسلام في الصارم(584) وعزاه إلى ابن بطة واللالكائي0
وهـذا يـدل على أن هذا الحكم هو المستقرُّ عند الصَّحابة رضي الله عنهم.
التَّرجيح:
الرَّاجح والله أعلم التفصيل، وأن من سبّ أبا بكر أو عمـر أو عثمان أو عليًّـا أوغيرهم رضي الله عنهم ممن اتفقت الأمة على فضلهم، وتواترت النصوص بذلك أنه يكفر؛ وذلك للآتي: -
أولا: أن هؤلاء الصَّحابة رضي الله عنهم جاءت الشريعة بتمييزهم عن غيرهم، وتواترت النصوص في فضلهم، ونقل عن الصَّحابة تكفير من سبَّهم خاصة، مما يدلُّ على أن قتل سابهم هو المستقرُّ عند جمهور الصَّحابة رضي الله عنهم، إذ لولا استقرَّ ذلك لما أقدم عمر أو علي رضي الله عنهما على قتل سابهم ونفيه.
ثانيا: أن أبا بكر وعمر ونحوهم من الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين لهم في الإسلام من الفضائل والمآثر والمفاخر ما ليس لغيرهم، من الصحبة الخاصة والخلافة والنصرة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد، فكان مقتضى ذلك التفريق بينهم وبين مَنْ دونهم، فيكفر ويُقتل سابهم.
ثالثا: أن سبهم يدلُّ على بغضهم وتنقصهم، وعدم القيام بالواجب لهم، ولا شك أن بغضهم والقدح فيهم قدح في حكمة الله، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي شريعة الله، وكتاب الله، والقدح في ذلك كفر ونفاق يوجب قتل فاعله.
رابعا: أن سبّ كبار الصحابة رضي الله عنهم طعن في الشرع وإبطال له، وقدح في حكمة الله سبحانه وتعالى حيث اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم من ليس أهلا لصحبته؛ ولذلك لما أراد المستشرقون الطعن والتشكيك في الشريعة قصدوا إلى الجبال من نَقَلة السُّنة، كأبي هريرة رضي الله عنه من الصَّحابة، ومحمَّد بن شهاب الزهري رحمه الله من التابعين، فإذا ما طُعِن هؤلاء وذهبت مصداقيتهم، كان ذلك طريقا إلى بطلان ما نقلوه من الشريعة، ومن المعلوم أن هذَيْنِ الرَّجُلين أكثر وأوثق من نقل السنة، فيحصل بذلك التشكيك والإبطال لأكثر الشريعة، بل كل الشريعة. السنة ومكانتها في التشريع (364)وما بعدها0
ولا شك في كفر ونفاق من أتى بما يوجب بطلان الشريعة.
*أما غيرهم من الصَّحابة رضي الله عنهم فإن مرتبتهم تختلف؛ ولذلك لا يمكن الجزم أن سبهم كفر، إنما هو فسق، وكبيرة من الكبائر؛ حيث تضمَّن هذا السبُّ القدحَ والانتقاصَ للشريعة.
وأيًّا كان الأمر فإن أقلَّ أحوال سبّ الصَّحابة رضي الله عنهم كونه فسقا، وخروجا عن الشرع ونصوصه، الموجبة لتعظيمهم وإجلالهم وتوقيرهم.
قال السبكي: "وأجمع القائلون بعدم تكفير من سبّ الصَّحابة أنهم?أي: السابُّون- فساق". فتاوى السبكي 2/5760
وأن الساب أقل ما يفعل به التعزير والضرب الشديد.
سبُّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:
هذه المسألة لا تخلو من حالين: إما أن يكون السب لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على وجه الخصوص، أو يكون السب لغيرها من أزواجه صلى الله عليه وسلم.
فأما سبّ عائشة رضي الله عنها، فقال القاضي أبو يعلى: "من قذف عائشة مما برَّأها الله منه كَفَر بلا خلاف، وقد حكى الإجماع على هذا، وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم. الصارم المسلول على شاتم الرسول (566)، وكشاف القناع6/1710
وروي عن مالك أنه قال: "من سبَّ أبا بكر جلد، ومن سبّ عائشة قتل!
قيل: لمَ؟!
فقال: "من رماها فقد خالف القُرْآن؛ لأن الله تعالى قال: )يَعِظُكُمُ اللهُ أنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنْتُمْ مُؤمِنِينَ
(النور-17)". الشفاء بتعريف حقوق المصطفى (376) 0
ولذا جاء في فتاوى السبكي قال: "وأما الوقيعة في عائشة رضي الله عنها-والعياذ بالله- فموجبة القتل لأمرين:
أحدهما: أن القُرْآن يشهد ببراءتها فتكذيبه كفر، والوقيعة فيها تكذيب له.
والثاني: أنها فِراش النبي صلى الله عليه وسلم والوقيعة فيها تنقيص له وكفر". فتاوى السبكي 2/592.
قال شيخ الإسلام: "ذكر غير واحد من العلماء اتفاق الناس على أن من قذفها بما برَّأها الله تعالى منه فقد كفر؛ لأنه مكذِّب للقرآن". الرَّدُّ على البكري (340)0
أما إن كان السب بغير ما برأها الله منه في كتابه، فإن فيها نفس الخلاف الآتي.
أما من سبّ غير عائشة رضي الله عنها من أزواجه صلى الله عليه وسلم، فقد اختلف في ذلك أهل العلم على قولين:
القول الأول: أنه يكفـر، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة، واختـاره القاضي عياض وابن حزم وشيخ الإسلام والسبكي. فتاوى السبكي 2/592، وكشاف القناع 6/171، والمحلى 11/415 ، والشفاء بتعريف حقوق المصطفى (380)، والصارم المسلول على شاتم الرسول (567)0
ودليلهم: أن جميع أمهات المؤمنين فراش للنبي صلى الله عليه وسلم، والوقيعة في أعراضـهن أو سبـهن مسبةٌ وتنقُّصٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المعلوم أن سبّ النبي صلى الله عليه وسلم كفر، وخروج عن الملة بالإجماع،كما سبق بيـان ذلك، ومما يؤيـد ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(النور-23) فهذه الآية نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو المروي عن الضَّحاك وابن الجوزاء. جامع البيان عن تفسير آي القرآن 17/227، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/287 0
قال شيخ الإسلام: "وأما من سبّ غير عائشة من أزواجه صلى الله عليه وسلم ففيه قولان، والأصح أنَّ من قذف واحدةً من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها، وقد تقدم معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ وذلك لأن هذا فيه عـارٌ وغضاضةٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده". الصارم المسلول على شاتم الرسول (567) 0
القول الثـاني: أنه لا يكفر، وهو ظاهر اختيار ابن العربي المالكي، ورواية عند الحنابلة.أحكام القرآن لابن العربي 3/366، وكشاف القناع 6/171، وانظر: الصواعق المحرقة 1/144.
ودليلهم: أن القُرْآن شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها، فمن خالف ذلك وأنكره فهو مكذِّب للقرآن، ولم يرد مثل هذا في بقية أمهات المؤمنين.كشاف القناع 6/171.
المناقشة: يناقش هذا الدليل بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مرتبتهن واحدة، وإنما الفضل لهن بنكاحهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم تختص عائشة رضي الله عنها بمزيد فضل على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما برَّأها الله حيث كان الطَّعن فيها طعنا في رسوله صلى الله عليه وسلم وتدنيسا لفراشه، فكل من شاركتها في هذا المعنى وجب أن تأخذ حكمها، ولم يعلم من الشرع كون هذا خاصا بعائشة رضي الله عنها، إلا للمعنى الذي ذكر، فالوقيعة في أعراض أمهات المؤمنين وسبهن وتنقصهن هو تنقصٌ وسبٌّ وإيذاءٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب من الأحكام لكل واحدة منهن ما يوجب للأخرى، فإذا كان سبُّها كفرا وجب أن يكون سبُّهن كفرا أيضا.
التَّرجيح:
الرَّاجح في هذه المسألة القول الأول، وأن سبّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالفراش كفر؛ وذلك لسلامة دليل هذا القول، والاعتراض على دليل القول الثاني بما يوجب بطلانه، وعدم حجيته.
وتبين بذلك أن الفقهاء حينما ذكروا هذه المسألة والنزاع فيها، إنما يقصدون بذلك ما إذا كان السبُّ بالقذف أو الطعن في إحدى أمهات المؤمنين المفضي إلى تدنيس فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان السب بما سوى ذلك فالقول فيهن رضي الله عنهن هو عين ما جرى من خلاف في سائر الصَّحابة رضي الله عنهم، والله أعلم.
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي