فريق منتدى الدي في دي العربي
09-09-2022, 05:37 AM
أبو العتاهية
الشيخ محمد شريف الزيبق
دراسات أدبية
أبو العتاهية
هو إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان أبو إسحاق من الموالي، وولاؤه في قبيلة عنزة، فهو عنزي بالولاء، وكان جده كيسان من سبي عين التمر، وهو أول سبي دخل المدينة، سباهم خالد بن الوليد، وقدِم بهم على أبي بكر رضي الله عنه، وأم أبي العتاهية وتكنى أم زيد كانت أيضا مولاة لبني زهرة.وقد اشتَهر بلقب أبي العتاهية - وليس هذا كنيته، فكنيته أبو إسحاق كما سبق - وعتاهية كلمة تدل على معان كثيرة؛ يقول بن منظور في لسان العرب: "عته في العلم: أُولع به، وحرَص عليه، والعتاهة والعتاهية مصدر عته؛ مثل الرفاهة والرفاهية، والعتاهية ضلال الناس من التجنن والدهش، والتعتُّه المبالغة في الملبس والمأكل، ورجل عتاهية أحمق، وتعته تنظف، وأبو العتاهية الشاعر المعروف، ذكر أنه كان له ولد يقال له عتاهية، وقيل: لو كان الأمر كذالك، لقيل أبو عتاهية بغير تعريف".والسبب في تلقيبه به أن الخليفة المهدي قال له يومًا: "أنت إنسان متحذلق - أي متظرف - متعتِّه، فاستوى له من ذلك لقب غلب عليه دون اسمه وكنيته[1].ويقول بن منظور: "لقِّب بذلك؛ لأن المهدي قال له: أراك متخلطًا متعتِّهًا، وكان قد نعته بجارية للمهدي، واعتقل بسببها، وعرض عليها المهدي أن يزوِّجها له فأبت، واسم الجارية عتبة، وقيل: لقِّب بذلك؛ لأنه كان طويلًا مضطربًا، وقيل: لأنه يُرمى بالزندقة، ولأنه كان يحب المجون والتعتُّه".وقد أصاب المهدي في إطلاق هذا اللقب أبي العتاهية على الشاعر، لدلالته أبلغ دلالة على صفاته الجسمية والخلقية، فدل على اختلاطه واضطرابه ومجونه وطوله، وتعتُّهه بحب عتبة.وكانت ولادة الشاعر في عين التمر وهي قرية قرب الأنبار غربي الكوفة سنة 130، وانتقل مع أبيه صغيرًا إلى الكوفة، وكانت الكوفة مدينة العلماء والمحدثين والعبَّاد والزُّهاد، وقد عاصر فيها الشاعر أمثال علقمة بن قيس وعمرو بن عتبة بن فرقد، والربيع بن خيثم، وأويس القرني، والنخعي والشعبي، وسفيان الثوري وشريك القاضي، وابن أبي ليلى، وأبي حنيفة والكسائي والفراء.ومع اتساع الكوفة وانتشار الرخاء، نشأت فيها طوائف من المُجَّان يقولون الشعر، متنقلين على معاهد اللهو، وموغلين في حمأة المفاسد، يفسقون ويتهتكون ويتزندقون، وينعتون أنفسهم بالظرف، وأنهم حلية الأرض ونقش الزمان؛ أمثال حماد عجرد، ووالبة بن الحباب، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد وشراعة بن زندبود[2].فيحيى بن زياد مثلًا كان زنديقًا، وكان يتصنع الظرف وحسن المظهر؛ يقول فيه الخطيب البغدادي: "كان شاعرًا أديبًا ماجنًا، نُسب إلى الزندقة، وكان صديقًا لمطيع، وحماد، ووابلة، وغيرهم من ظرفاء الكوفيين" [3].في هذه البيئة نشأ أبو العتاهية، وكان يخالط هؤلاء الشعراء الْمُجَّان، ويختلف إلى حلقات العلماء ومجالس العباد، وقد كان فقيرًا، فكان يعمل مع أبيه في بيع الفخَّار بالكوفة، وقال الشعر وبرع فيه وهو حدثٌ، وظهر نبوغه في وقت مبكر.رُوي أنه اجتاز بفتيان جلوس يتناشدون الشعر، وكان يحمل قفص فخار، ويدور به ويبيع منه، فسلم ووضع القفص عن ظهره، ثم قال للفتيان: "أراكم تتذاكرون الشعر وتقولونه، أفأقول شيئًا منه فتجيزونه؟ فإن فعلتم فلكم علي عشر دراهم، وإن لم تفعلوا فعليكم عشرة دراهم؟"، فهَزِئوا منه وسخروا، وقالوا: "نعم لا بد أن نشتري بأحد القمارين رطبًا يؤكل، فإنه قمار حاصل". وجعل رهنه على يد أحدهم، ففعلوا فقال: أجيزوا ساكني الأجداث أنتم، وجعل بينه وبينهم وقتًا وعلامة في ذلك الموضع إذا بلغته الشمس ولم يجيزوا البيت، وجب القمار عليهم، فلم يأتوا بشيء، فأخذ الدراهم، وجعل يهزأ منهم وتمم الشعر:ساكني الأجداث أنتم
مثلنا بالأمس كنتم
ليت شعري ما صنعتُم
أربحتم أم خسرتم
ومع أن أبا العتاهية بدأ حياته مع المجَّان والمتخنثين، وفساق الشعراء، وكان في أول أمره يتخنث ويحمل زاملة المخنثين، فإن بواكير شعره كانت في الزهد ووصف الموت وأحواله، ونزل (الحيرة) وهي قريبة من الكوفة، فهوى امرأة نائحة من أهل الحيرة لها حسن وجمال، وتُدعى سعدى، وكان ينظم لها الشعر الذي تنوح به على الموتى، وكانت سعدى مولاة لبني معن بن زائدة، وقد أدت صلته بها إلى خلاف ومهاجاة بينه وبين عبدالله بن معن بن زائدة [4].انتقاله إلى بغداد:وفد أبو العتاهية إلى بغداد في خلافة المهدي (158- 169) في نحو الثلاثين من عمره، وكانت بغداد - التي أنشأها أبو جعفر المنصور سنة 149هـ - قد أخذت في الازدهار، فانتقل النشاط العلمي من الكوفة والبصرة إليها بعد أن أصبحت دار الخلافة ودار الإسلام، وكان أبو العتاهية حين وصل إلى بغداد يجتهد في الوصول إلى قصر الخلافة، فأقبل يمدح المهدي، ويفكر في الوسائل التي تُدنيه منه؛ يقول ابنه محمد: "فلما تطاولت أيامه، أحبَّ أن يُشهر نفسه بأمر يصل به إليه، فلما بصر بعتبة راكبة في جمع من الخدم تتصرف في حوائج الخلافة تعرَّض لها، وأمل أن يكون تولُّعه بها هو السبب الموصل إلى حاجته، وانهمك في التشبيب والتعرض في كل مكان لها، والتغرد بذكرها وإظهار شدة عشقها"[5].وله مع عتبة حوادث عديدة؛ منها ما رواه المبرد أن أبا العتاهية أهدى إلى المهدي برنية صينية فيها ثوب ممسك فيه سطران مكتوبًا عليه بالغالية:نفسي بشيء من الدنيا معلقة
لله والقائم المهدي يكفيها
إني لأيئَس منها ثم يُطمعني
فيها احتقارك للدنيا وما فيها
قال: فهم أن يدفع إليه عتبة، فقالت له: "يا أمير المؤمنين، مع حرمتي وخدمتي تدفعني إلى بائع جرار متكسب بالشعر؟"، فبعث إليه: "أما عتبة، فلا سبيل لك إليها، وقد أمرنا لك بملء برنية مالًا"[6].وكان يتجاسر على التشبيب بها في مقدمة مدائحه للمهدي، فقد روى الحافظ ابن عبدالبر في مقدمته لديوان شعر أبو العتاهية أن الشعراء حضروا يومًا عند المهدي، فقدم أبو العتاهية في الإنشاد، فقال بشار بن برد لأشجع السلمي: "يا أخا سليم، من هذا الذي قدم للإنشاد علينا؟ أهو ذلك الكوفي الملقب؟"، قال: "نعم"، فقال بشار: "لا جزى الله خيرًا من جمعنا به أيستنشد قبلنا؟"، فقال له أشجع: "هو ما ترى"، فأنشد أبو العتاهية:ألا ما لسيدتي ما لها
تدل فأحمل إدلالها
وإلا ففيما تجنَّت وما
جنيت سقى الله أطلالها
ألا إن جارية للإما
م قد أسكن الحب سربالها
مشت بين حور قصار الخطا
تجاذب في المشي أكفالها
وقد أتعب الله نفسي بها
وأتعب باللوم عذابها
يتبع
الشيخ محمد شريف الزيبق
دراسات أدبية
أبو العتاهية
هو إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان أبو إسحاق من الموالي، وولاؤه في قبيلة عنزة، فهو عنزي بالولاء، وكان جده كيسان من سبي عين التمر، وهو أول سبي دخل المدينة، سباهم خالد بن الوليد، وقدِم بهم على أبي بكر رضي الله عنه، وأم أبي العتاهية وتكنى أم زيد كانت أيضا مولاة لبني زهرة.وقد اشتَهر بلقب أبي العتاهية - وليس هذا كنيته، فكنيته أبو إسحاق كما سبق - وعتاهية كلمة تدل على معان كثيرة؛ يقول بن منظور في لسان العرب: "عته في العلم: أُولع به، وحرَص عليه، والعتاهة والعتاهية مصدر عته؛ مثل الرفاهة والرفاهية، والعتاهية ضلال الناس من التجنن والدهش، والتعتُّه المبالغة في الملبس والمأكل، ورجل عتاهية أحمق، وتعته تنظف، وأبو العتاهية الشاعر المعروف، ذكر أنه كان له ولد يقال له عتاهية، وقيل: لو كان الأمر كذالك، لقيل أبو عتاهية بغير تعريف".والسبب في تلقيبه به أن الخليفة المهدي قال له يومًا: "أنت إنسان متحذلق - أي متظرف - متعتِّه، فاستوى له من ذلك لقب غلب عليه دون اسمه وكنيته[1].ويقول بن منظور: "لقِّب بذلك؛ لأن المهدي قال له: أراك متخلطًا متعتِّهًا، وكان قد نعته بجارية للمهدي، واعتقل بسببها، وعرض عليها المهدي أن يزوِّجها له فأبت، واسم الجارية عتبة، وقيل: لقِّب بذلك؛ لأنه كان طويلًا مضطربًا، وقيل: لأنه يُرمى بالزندقة، ولأنه كان يحب المجون والتعتُّه".وقد أصاب المهدي في إطلاق هذا اللقب أبي العتاهية على الشاعر، لدلالته أبلغ دلالة على صفاته الجسمية والخلقية، فدل على اختلاطه واضطرابه ومجونه وطوله، وتعتُّهه بحب عتبة.وكانت ولادة الشاعر في عين التمر وهي قرية قرب الأنبار غربي الكوفة سنة 130، وانتقل مع أبيه صغيرًا إلى الكوفة، وكانت الكوفة مدينة العلماء والمحدثين والعبَّاد والزُّهاد، وقد عاصر فيها الشاعر أمثال علقمة بن قيس وعمرو بن عتبة بن فرقد، والربيع بن خيثم، وأويس القرني، والنخعي والشعبي، وسفيان الثوري وشريك القاضي، وابن أبي ليلى، وأبي حنيفة والكسائي والفراء.ومع اتساع الكوفة وانتشار الرخاء، نشأت فيها طوائف من المُجَّان يقولون الشعر، متنقلين على معاهد اللهو، وموغلين في حمأة المفاسد، يفسقون ويتهتكون ويتزندقون، وينعتون أنفسهم بالظرف، وأنهم حلية الأرض ونقش الزمان؛ أمثال حماد عجرد، ووالبة بن الحباب، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد وشراعة بن زندبود[2].فيحيى بن زياد مثلًا كان زنديقًا، وكان يتصنع الظرف وحسن المظهر؛ يقول فيه الخطيب البغدادي: "كان شاعرًا أديبًا ماجنًا، نُسب إلى الزندقة، وكان صديقًا لمطيع، وحماد، ووابلة، وغيرهم من ظرفاء الكوفيين" [3].في هذه البيئة نشأ أبو العتاهية، وكان يخالط هؤلاء الشعراء الْمُجَّان، ويختلف إلى حلقات العلماء ومجالس العباد، وقد كان فقيرًا، فكان يعمل مع أبيه في بيع الفخَّار بالكوفة، وقال الشعر وبرع فيه وهو حدثٌ، وظهر نبوغه في وقت مبكر.رُوي أنه اجتاز بفتيان جلوس يتناشدون الشعر، وكان يحمل قفص فخار، ويدور به ويبيع منه، فسلم ووضع القفص عن ظهره، ثم قال للفتيان: "أراكم تتذاكرون الشعر وتقولونه، أفأقول شيئًا منه فتجيزونه؟ فإن فعلتم فلكم علي عشر دراهم، وإن لم تفعلوا فعليكم عشرة دراهم؟"، فهَزِئوا منه وسخروا، وقالوا: "نعم لا بد أن نشتري بأحد القمارين رطبًا يؤكل، فإنه قمار حاصل". وجعل رهنه على يد أحدهم، ففعلوا فقال: أجيزوا ساكني الأجداث أنتم، وجعل بينه وبينهم وقتًا وعلامة في ذلك الموضع إذا بلغته الشمس ولم يجيزوا البيت، وجب القمار عليهم، فلم يأتوا بشيء، فأخذ الدراهم، وجعل يهزأ منهم وتمم الشعر:ساكني الأجداث أنتم
مثلنا بالأمس كنتم
ليت شعري ما صنعتُم
أربحتم أم خسرتم
ومع أن أبا العتاهية بدأ حياته مع المجَّان والمتخنثين، وفساق الشعراء، وكان في أول أمره يتخنث ويحمل زاملة المخنثين، فإن بواكير شعره كانت في الزهد ووصف الموت وأحواله، ونزل (الحيرة) وهي قريبة من الكوفة، فهوى امرأة نائحة من أهل الحيرة لها حسن وجمال، وتُدعى سعدى، وكان ينظم لها الشعر الذي تنوح به على الموتى، وكانت سعدى مولاة لبني معن بن زائدة، وقد أدت صلته بها إلى خلاف ومهاجاة بينه وبين عبدالله بن معن بن زائدة [4].انتقاله إلى بغداد:وفد أبو العتاهية إلى بغداد في خلافة المهدي (158- 169) في نحو الثلاثين من عمره، وكانت بغداد - التي أنشأها أبو جعفر المنصور سنة 149هـ - قد أخذت في الازدهار، فانتقل النشاط العلمي من الكوفة والبصرة إليها بعد أن أصبحت دار الخلافة ودار الإسلام، وكان أبو العتاهية حين وصل إلى بغداد يجتهد في الوصول إلى قصر الخلافة، فأقبل يمدح المهدي، ويفكر في الوسائل التي تُدنيه منه؛ يقول ابنه محمد: "فلما تطاولت أيامه، أحبَّ أن يُشهر نفسه بأمر يصل به إليه، فلما بصر بعتبة راكبة في جمع من الخدم تتصرف في حوائج الخلافة تعرَّض لها، وأمل أن يكون تولُّعه بها هو السبب الموصل إلى حاجته، وانهمك في التشبيب والتعرض في كل مكان لها، والتغرد بذكرها وإظهار شدة عشقها"[5].وله مع عتبة حوادث عديدة؛ منها ما رواه المبرد أن أبا العتاهية أهدى إلى المهدي برنية صينية فيها ثوب ممسك فيه سطران مكتوبًا عليه بالغالية:نفسي بشيء من الدنيا معلقة
لله والقائم المهدي يكفيها
إني لأيئَس منها ثم يُطمعني
فيها احتقارك للدنيا وما فيها
قال: فهم أن يدفع إليه عتبة، فقالت له: "يا أمير المؤمنين، مع حرمتي وخدمتي تدفعني إلى بائع جرار متكسب بالشعر؟"، فبعث إليه: "أما عتبة، فلا سبيل لك إليها، وقد أمرنا لك بملء برنية مالًا"[6].وكان يتجاسر على التشبيب بها في مقدمة مدائحه للمهدي، فقد روى الحافظ ابن عبدالبر في مقدمته لديوان شعر أبو العتاهية أن الشعراء حضروا يومًا عند المهدي، فقدم أبو العتاهية في الإنشاد، فقال بشار بن برد لأشجع السلمي: "يا أخا سليم، من هذا الذي قدم للإنشاد علينا؟ أهو ذلك الكوفي الملقب؟"، قال: "نعم"، فقال بشار: "لا جزى الله خيرًا من جمعنا به أيستنشد قبلنا؟"، فقال له أشجع: "هو ما ترى"، فأنشد أبو العتاهية:ألا ما لسيدتي ما لها
تدل فأحمل إدلالها
وإلا ففيما تجنَّت وما
جنيت سقى الله أطلالها
ألا إن جارية للإما
م قد أسكن الحب سربالها
مشت بين حور قصار الخطا
تجاذب في المشي أكفالها
وقد أتعب الله نفسي بها
وأتعب باللوم عذابها
يتبع