zoro1
10-30-2023, 01:47 PM
بناء الأوطان واتحاد الأمة في ضوء سورة النمل
حمد رضوان محمد وزيري
بناء الأوطان في ضوء سورة النمل
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
العناصر:
١- أولى ركائز التقدم وبناء الوطن: إعلاء شأن العلم.
٢- التعليم ونشر العلم.
٣- تحقيق الاكتفاء الذاتي.
٤- التعددية في اللون والفكر والمعتقد لا تنافي استقرار الوطن وتقدمه.
٥- الاتحاد والترابط بين أفراد المجتمع.
٦- ونحن نعمل على تقدم البلاد ونفع العباد لا بد من شكر الله تعالى على كل إنجاز.
٧- تفقُّد أحوال الرعية.
٨- على الرعية كذلك أن يكونوا إيجابيين، حريصين على صلاح دينهم ودنياهم.
٩- على المسئول أن يتثبَّت مما يرد إليه من اتهامات في حق الآخرين.
١٠- الشورى من أركان توطيد الحكم الرشيد، والوصول للرأي السديد.
١- أولى ركائز التقدم إعلاء شأن العلم:
فهناك علاقة مطردة بين تقدم الأمم وازدهارها وسبقها في مجال العلوم، فكلما وُجد العلم واحترام العلماء، وجد التقدم في كل المجالات والحضارة، والواقع يشهد بذلك والتاريخ يصدقه؛ أما الواقع فمعلوم، وأما التاريخ، فالتاريخ حافل بقصص البارزين من العلماء الذين قادوا أممهم إلى سبيل الرفعة والمجد قديمًا وحديثًا، سواء في الأمة الإسلامية، من أمثال: الرازي، وجابر بن حيان، والخوارزمي، وعلي مصطفى مشرَّفة، وجمال حمدان، والطبري والسيوطي والغزالي، قال تعالى مبينًا ركنا عظيمًا من أركان الملك الرشيد: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النمل: 15]، وجاءت ﴿ عِلْمًا ﴾ نكرة لتشمل كل العلوم؛ علم اللغات وعلم الصناعة ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 80]﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ﴾؛ أي: علم الله داود عليه السلام صنعة الدروع، فهو أول من صنعها وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده، فألانَ اللهُ له الحديد، وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها كبيرة ﴿ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ﴾ [الأنبياء: 80]؛ أي: هي وقاية لكم، وحفظ عند الحرب، واشتداد البأس.
نحن أمة (اقرأ) أَولى الناس بكل ثمرة للعلوم، وأحرى بكل سبيل للتقدم والتعلُّم، ومن عجيب هذه السورة التي ابتُدئت بالحث على القراءة ومكانة القلم أن تُسمَّى العَلَق، وهي مرحلة من مراحل تكوين الجنين في بطن أمه وإتيانها بهذا الوصف "العلق" من الإعجاز العلمي الذي أبهر العلماء.
بالعلم يتمكن أولياء الأمور -على كل المستويات- من إحسان التصرف في المال، فقد بيَّن النبي أن للعلم دورًا عظيمًا في صلاح الدين والدنيا، وحسن إدارة المال دليل على العلم والعقل، فقال صلى الله عليه وسلم: «أحدثكم حديثًا فاحفظوه: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصِلُ فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا فهو يخبِط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربَّه، ولا يصِل فيه رحِمَه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء»؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ومن مظاهر التقدم والحضارة التي وصل إليها ملك سيدنا سليمان باستخدام العلم، ما أبهر مملكة سبأ! ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ﴾ [النمل: 44] وكان صحنه مِن زجاج تحته ماء، فلما رأته ظنته ماءً تتردَّد أمواجه، وكشفت عن ساقيها لتخوض الماء، فقال لها سليمان: إنه صحن أملس من زجاج صافٍ والماء تحته، فأدركت عظمة ملك سليمان ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾ [النمل: 44] بما كنت عليه من الشرك، وانقدتُ متابعةً لسليمان داخلةً في دين رب العالمين أجمعين.
وكان سليمان عليه السلام قد بنى هذا الصرح، وجعل بلاطه من زجاج نقي صافٍ كالبلور بحيث يرى الناظر ما يجري تحته من ماء؛ التفسير المُيسَّر.
بل انظر كيف ارتفع شأن الذي عنده عِلْم من الكتاب، وظهر فضله على غيره لمَّا طلب سليمان عرش بلقيس ﴿ قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 38 - 40].
٢- التعليم ونشر العلم:
﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 16].
أهمية دور المعلم والمدرس لا بد أن يكون في الصدارة، قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
فهناك دورٌ للأسرة التي هي الأساس الأول في تنشئة العلماء من خلال دور الأم والأب والزوجة، وهناك دور الدولة التي تجعل من اختراعات واكتشافات العلماء واقعًا ملموسًا، وتجعل للعلماء قيمةً عاليةً في بلادهم.
كما أن هناك دورًا لرجال الأعمال الذين يرعون العلماء وطلاب العلم، وييسرون لهم التفرُّغ لطلب العلم وتعليمه، ويُخصِّصون الجوائز لأفضل الباحثين.
وهناك دور المجتمع الذي يرفع قيمة العالم أو يخفضها، ويوفر له التقدير المناسب؛ فيجعل لطلبه العلم معنًى يشجعه على الاستمرار في سبيله.
لا بد من نشر العلم وبيان مكانته حتى تعود الأمة إلى عزتها وتقدمها، فقد ظلت الأمة الإسلامية قرونًا عديدة تقود البشرية نحو التمدُّن والرُّقي متسلِّحةً بالعلم، ثم تلقَّى الغرب ذلك الفيض من العلم عن طريق الاحتكاك بالمسلمين من طريق الأندلس خاصةً، واستطاع هضمه، والاستفادة منه، ثم تطويره؛ فكانت نهضته القوية، ووثبته نحو آفاق المستقبل، في حين غفل العالم الإسلامي برهةً عن سبيل العلم، وترك المنهج العلمي؛ فكانت النتيجة ضعفًا يعاني منه حتى الآن، واعتمادًا على الغرب في أغلب الاحتياجات.
وتدبَّر قول الله تعالى على لسان سليمان مبينًا مكانة العلم والحرص عليه:﴿ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 42].
3- تحقيق الاكتفاء الذاتي:
﴿ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 16]، ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ [الأنفال: 60] كل أنواع القوة المتعددة اقتصاديًّا،وعلميًّا، وعسكريًّا، ومعنويًّا، قوة الوطن في استغنائه عن عدوه، ورحم الله الشيخ الشعراوي حين يقول: "لن تكون كلمتنا من رأسنا إلا إذا كانت لقمتنا من فَأسِنا"، وباستقراء السيرة النبوية نجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بالتعاون مع الصحابة الكرام وتوجيههم حقَّقوا الكفاية لسكان المدينة وكانوا حريصين على أقوات الناس، والدليل على ذلك أنَّه لما حاصر الأحزاب المدينة أراد النبي أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا عنه وعن أصحابه، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا له: «يا رسول الله، أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به، لا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟»، قال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة! وكَالَبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما»، فقال له سعد بن معاذ: «يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرى أو بَيعًا، أفحينَ أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزَّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا، والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف؛ حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنت وذاك»؛ السيرة النبوية لابن هشام.
ومن الأمور الهامة: الشكر فهو قرين المزيد، ونحن نعمل على توفير متطلبات الوطن لا ننسى صاحب الفضل سبحانه ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 16].
٤- التعددية في الفكر والمعتقد واللون لا تنافي استقرار الوطن وتقدمه:
﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [النمل: 17]، قال ابن إسحاق: "وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادَعَ فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم..."، وحوى هذا الكتاب الذي يمكن أن نطلق عليه اسم الدستور في العرف الحاضر ما يقارب سبعًا وأربعين بندًا أو مادة، جاءت لتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين المسلمين بعضهم البعض وبين غير المسلمين، ونظمت العلاقة بين أهل المدينة وغيرهم ممن يحاربهم أو يناصرهم، فعززت مفهوم سيادة القانون، وحقوق المواطنة، والمسؤولية الجماعية، كما عززت مفهوم التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد؛ الدكتور أحمد الحسنات.
وخير مثال على ذلك المدينة المنوَّرة؛ حيث كانت بوتقة صهرت جميع الأعراق، فكانت طيبة الطيِّبة نموذجًا أوْحَد قديمًا متفردًا في التعددية المذهبية والعرقية، قبل أن تصل أوروبا إلى هذا، فقد ترجم السخاوي لكثير من أهل المدينة ما بين مشرقي ومغربي، وهندي ورومي، وكردي وصقلبي، وشامي ومصري ويمني، وأصفر وأحمر وأسود، وحنفي ومالكي وشافعي وحنبلي، وسني وشيعي، نعم كانت تدور مناوشات طفيفة، مما لا يخلو منه مجتمع فيه مثل هذا، غير أن الجو العام كان منسجمًا وتعدُّديًّا، بلا تمييز ولا عنصرية ولا طائفية بغيضة.
لقد أقام رسول الله دولة المدينة المنورة على أساس المساواة بين الناس جميعًا، وهذا أساس من أسس الاعتقاد في الإسلام ﴿ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13].
وهذا الأساس من أسس الاعتقاد الإسلامي، يجسد معنيين من معاني ثقافة المواطنة، هما معنى المساواة بين الناس دون التفريق بينهم على أساس الدين أو اللون أو العرق على اعتبار أن أصل وجودهم واحد، وأن الهدف من هذا الوجود هو التعاون الذي لا يتم إلا في إطار روح الجماعة والتكافل، وهذا مكون رئيس من مكونات المواطنة وثقافتها.
وهذه المساواة التي تمت في دولة المدينة والتي تجسد ثقافة المواطنة لم تكن أمرًا نظريًّا؛ بل كانت واقعًا عمليًّا يعيشه الناس في تفاصيل حياتهم اليومية على قاعدة «والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها»، وعلى قاعدة «الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع إليه حقَّه، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه»؛ أي: إن الناس أمام القانون سواء، ولا سبيل إلى الواسطة والمحسوبية، وهذه من أهم مكونات ثقافة المواطنة ودولتها التي هي دولة سيادة القانون.
٥- الاتحاد والترابط بين أفراد المجتمع:
والشعور بالمسئولية تجاه أبناء الوطن والحرص على حمايتهم من أي عدوان، نتعلم هذا الدرس من ذلك الكائن الذي سميت السورة باسمه [النمل] فبينما سليمان في مسيرة مع جيشه وجنوده رأته نملة من بعيد، فلم تنتظر حتى يقع الخطر؛ وإنما بادرت بتحذير قومها حتى يتأهبوا وأبدت رأيها لتفادي الخطر ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18].
ودرس آخر ألا وهو إحسان الظن ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ كم من علاقات انتهت بسبب سوء الظن، كم من أرحام قطعت.
«فكل فرد في المجتمع على ثغرة من ثغـورة الإسلام فلا يؤتيَن من قِبله»، وها هو سيدنا أبو بكر يُبيِّن دور الفرد تجاه مجتمعه حيث يقول رضي الله عنه: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وإنكم تضعونها على غير موضعها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يُغيِّروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه».
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، الأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلُّكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته».
٦-ونحن نعمل على تقدم البلاد ونفع العباد، لا بد من شكر الله تعالى على كل إنجاز: فالشكر قرين المزيد ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19].
٧-تفقد أحوال الرعية:
﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ [النمل: 20] فإذا كان هذا اهتمامه بالطيور، فلك أن تتخيل كيف كان تفقده للبشر الذين يتولَّى مسئوليتهم ورعايتهم في مملكته؟ كما كان حال النبي والخلفاء من بعده، يقول زَيْد بْن أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ فَقَالَ: «أَيْنَ فُلَانٌ؟ أَيْنَ فُلَانٌ؟ فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، وَيَتَفَقَّدَهُمْ وَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى تَوَافَوْا عِنْدَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَآخَى بَيْنَهُمْ..»، وروى مسلم عَنْ أَبِي بَرْزَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ فِي مَغْزًى لَهُ، فَأَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ، فَطُلِبَ فِي الْقَتْلَى، فَوَجَدُوهُ إلى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: قَتَلَ سَبْعَةً، ثُمَّ قَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ»؛ رواه مسلم.
وعن مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَلَكَ -أي مات- فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَلْقَةَ لِذِكْرِ ابْنِهِ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا لِي لَا أَرَى فُلَانًا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بُنَيُّهُ الَّذِي رَأَيْتَهُ هَلَكَ، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ بُنَيِّهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ، فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:يَا فُلَانُ، أَيُّمَا كَانَ أَحَب إِلَيْكَ أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ، أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إلى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَلْ يَسْبِقُنِي إلى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُها لِي لَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ: فَذَاكَ لَكَ»؛ النسائي.
وروى مسلم في صحيحه أن عبدالرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة رضي الله عنها أسألها عن شيء، فقالت ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كـان صاحبكـم - يعني معاوية بن خديج - لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئًا، إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج النفقة فيعطيه النفقة.
فالجميع في مركب واحد، ولا بد أن يحرص كل فرد على عبورها إلى برِّ الأمان، وانظر لهذا التشبيه النبوي البديع للتحذير من انتهاك محارم الله، وهو مثال يمكن أن ينطبق على التحذير من التعدي على مقدرات الوطن وخطورة العبث بثوابت الأمة؛ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا»؛ رواهُ البخاري.
8-وعلى الرعية كذلك أن يكونوا إيجابيين، حريصين على صلاح الدين والدنيا ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ [النمل: 22].
معرفة أحوال البلاد المجاورة وما عندهم من إمكانات ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ [النمل: 23].
مع القيام بواجب الدعوة فقد حزن الهدهد أن يُعبَد غير الله ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ [النمل: 24، 25].
ومن الأخبار العظيمة التـي تبين واجب الرعية نحو وطنهم، ما رواه أبو قبيل قال: «خطبنا معاوية رضي الله عنه في يوم جمعة فقال: إنما المال مالنا، والفيء فيئُنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا، فلم يردَّ عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يردَّ عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام رجل ممَّن شهد المسجد فقال: كلا، بل المال مالنا، والفيء فيئُنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا، فلما صلى أمر بالرجل فأُدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس، إني تكلمت في أول جمعة فلم يردَّ عليَّ أحد، وفي الثانية فلم يردَّ عليَّ أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا أحياه الله! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيأتي قوم يتكلمون فلا يُرَدُّ عليهم، يتقاحمون في النار تقاحم القردة»، فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلمَّا ردَّ هذا عليَّ أحياني أحياه الله، ورجوت ألَّا يجعلني الله منهم؛ أخرجه أبو يعلى وحسنه الألباني.
وانظر كيف جمع سيدنا سليمان قومَه على قلب رجلٍ واحد، حتى إذا جدَّ الجدُّ هبُّوا مسرعين استجابةً لقائدهم ونصرة لدينهم وحماية لوطنهم ﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [النمل: 37].
٩- على المسئول أن يتثبت مما يرد إليه من اتهامات في حق الآخرين:
فكم من بريء عوقب ظلمًا بسبب التساهل في التحريات والتثبت من الادعاءات ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]، وقد حذَّرنا القرآن من اتهام البرءاء ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 112].
ومن النماذج العملية لتحقق التوازن في هذا الشأن: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب في رعيته قائلًا: «ألا إني -والله - ما أرسل عمالي إليكـم ليضـربوا أبشـاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسُنَّتكم؛ فمن فُعِل به شيء سوى ذلك فَلْيرفعه إليَّ، فوالذي نفسي بيده إذًا لأقصنه منه، فوثب عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين، أَوَ رأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، أئنك لمقتصُّه منه؟ قال: إي والذي نفس عمرَ بيده؛ إذًا لأقصَّنَّه منه، أنَّى لي لا أقِصُّه منه! وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقِصُّ من نفسه؟
ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تُجَمِّروهم فتَفْتِنُوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتُكفِّروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم»؛ (أخرجه: أحمد).
فمن العدل الذي تقوم على أساسه الأمم عدم المحاباة والتثبت ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6].
وفي قصة سيدنا سعد عندما كان واليًا على الكوفة وموقف الفاروق عمر خير شاهد على ذلك.
١٠- الشورى من أركان توطيد الحكم الرشيد، والوصول للرأي السديد:
﴿ قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ [النمل: 29 - 32]، فماذا كانت نهاية تلك المشورة؟ الانتهاء لقرار صحيح وحماية لمملكة بلقيس سبأ، وحفظت قومها من الهلاك، بل والفوز بخيري الدنيا الآخرة ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44].
وتكمن أهمية الشورى في حفظ المجتمع من القرارات الخاطئة، تظهر أهمية الشورى في الإسلام من خلال قول الله تعالى لرسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159].
وكذلك تظهر أهمية الشورى من خلال قول الله تعالى في بيانه لصفات المؤمنين المستجيبين لأمره حيث قرن الشورى بالصلاة: ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 38].
اللهمَّ ارحمنا واغفر لنا وللمسلمين والمسلمات، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.
الالوكة
........................
حمد رضوان محمد وزيري
بناء الأوطان في ضوء سورة النمل
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
العناصر:
١- أولى ركائز التقدم وبناء الوطن: إعلاء شأن العلم.
٢- التعليم ونشر العلم.
٣- تحقيق الاكتفاء الذاتي.
٤- التعددية في اللون والفكر والمعتقد لا تنافي استقرار الوطن وتقدمه.
٥- الاتحاد والترابط بين أفراد المجتمع.
٦- ونحن نعمل على تقدم البلاد ونفع العباد لا بد من شكر الله تعالى على كل إنجاز.
٧- تفقُّد أحوال الرعية.
٨- على الرعية كذلك أن يكونوا إيجابيين، حريصين على صلاح دينهم ودنياهم.
٩- على المسئول أن يتثبَّت مما يرد إليه من اتهامات في حق الآخرين.
١٠- الشورى من أركان توطيد الحكم الرشيد، والوصول للرأي السديد.
١- أولى ركائز التقدم إعلاء شأن العلم:
فهناك علاقة مطردة بين تقدم الأمم وازدهارها وسبقها في مجال العلوم، فكلما وُجد العلم واحترام العلماء، وجد التقدم في كل المجالات والحضارة، والواقع يشهد بذلك والتاريخ يصدقه؛ أما الواقع فمعلوم، وأما التاريخ، فالتاريخ حافل بقصص البارزين من العلماء الذين قادوا أممهم إلى سبيل الرفعة والمجد قديمًا وحديثًا، سواء في الأمة الإسلامية، من أمثال: الرازي، وجابر بن حيان، والخوارزمي، وعلي مصطفى مشرَّفة، وجمال حمدان، والطبري والسيوطي والغزالي، قال تعالى مبينًا ركنا عظيمًا من أركان الملك الرشيد: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النمل: 15]، وجاءت ﴿ عِلْمًا ﴾ نكرة لتشمل كل العلوم؛ علم اللغات وعلم الصناعة ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 80]﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ﴾؛ أي: علم الله داود عليه السلام صنعة الدروع، فهو أول من صنعها وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده، فألانَ اللهُ له الحديد، وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها كبيرة ﴿ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ﴾ [الأنبياء: 80]؛ أي: هي وقاية لكم، وحفظ عند الحرب، واشتداد البأس.
نحن أمة (اقرأ) أَولى الناس بكل ثمرة للعلوم، وأحرى بكل سبيل للتقدم والتعلُّم، ومن عجيب هذه السورة التي ابتُدئت بالحث على القراءة ومكانة القلم أن تُسمَّى العَلَق، وهي مرحلة من مراحل تكوين الجنين في بطن أمه وإتيانها بهذا الوصف "العلق" من الإعجاز العلمي الذي أبهر العلماء.
بالعلم يتمكن أولياء الأمور -على كل المستويات- من إحسان التصرف في المال، فقد بيَّن النبي أن للعلم دورًا عظيمًا في صلاح الدين والدنيا، وحسن إدارة المال دليل على العلم والعقل، فقال صلى الله عليه وسلم: «أحدثكم حديثًا فاحفظوه: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصِلُ فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا فهو يخبِط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربَّه، ولا يصِل فيه رحِمَه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء»؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ومن مظاهر التقدم والحضارة التي وصل إليها ملك سيدنا سليمان باستخدام العلم، ما أبهر مملكة سبأ! ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ﴾ [النمل: 44] وكان صحنه مِن زجاج تحته ماء، فلما رأته ظنته ماءً تتردَّد أمواجه، وكشفت عن ساقيها لتخوض الماء، فقال لها سليمان: إنه صحن أملس من زجاج صافٍ والماء تحته، فأدركت عظمة ملك سليمان ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾ [النمل: 44] بما كنت عليه من الشرك، وانقدتُ متابعةً لسليمان داخلةً في دين رب العالمين أجمعين.
وكان سليمان عليه السلام قد بنى هذا الصرح، وجعل بلاطه من زجاج نقي صافٍ كالبلور بحيث يرى الناظر ما يجري تحته من ماء؛ التفسير المُيسَّر.
بل انظر كيف ارتفع شأن الذي عنده عِلْم من الكتاب، وظهر فضله على غيره لمَّا طلب سليمان عرش بلقيس ﴿ قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 38 - 40].
٢- التعليم ونشر العلم:
﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 16].
أهمية دور المعلم والمدرس لا بد أن يكون في الصدارة، قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
فهناك دورٌ للأسرة التي هي الأساس الأول في تنشئة العلماء من خلال دور الأم والأب والزوجة، وهناك دور الدولة التي تجعل من اختراعات واكتشافات العلماء واقعًا ملموسًا، وتجعل للعلماء قيمةً عاليةً في بلادهم.
كما أن هناك دورًا لرجال الأعمال الذين يرعون العلماء وطلاب العلم، وييسرون لهم التفرُّغ لطلب العلم وتعليمه، ويُخصِّصون الجوائز لأفضل الباحثين.
وهناك دور المجتمع الذي يرفع قيمة العالم أو يخفضها، ويوفر له التقدير المناسب؛ فيجعل لطلبه العلم معنًى يشجعه على الاستمرار في سبيله.
لا بد من نشر العلم وبيان مكانته حتى تعود الأمة إلى عزتها وتقدمها، فقد ظلت الأمة الإسلامية قرونًا عديدة تقود البشرية نحو التمدُّن والرُّقي متسلِّحةً بالعلم، ثم تلقَّى الغرب ذلك الفيض من العلم عن طريق الاحتكاك بالمسلمين من طريق الأندلس خاصةً، واستطاع هضمه، والاستفادة منه، ثم تطويره؛ فكانت نهضته القوية، ووثبته نحو آفاق المستقبل، في حين غفل العالم الإسلامي برهةً عن سبيل العلم، وترك المنهج العلمي؛ فكانت النتيجة ضعفًا يعاني منه حتى الآن، واعتمادًا على الغرب في أغلب الاحتياجات.
وتدبَّر قول الله تعالى على لسان سليمان مبينًا مكانة العلم والحرص عليه:﴿ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 42].
3- تحقيق الاكتفاء الذاتي:
﴿ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 16]، ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ [الأنفال: 60] كل أنواع القوة المتعددة اقتصاديًّا،وعلميًّا، وعسكريًّا، ومعنويًّا، قوة الوطن في استغنائه عن عدوه، ورحم الله الشيخ الشعراوي حين يقول: "لن تكون كلمتنا من رأسنا إلا إذا كانت لقمتنا من فَأسِنا"، وباستقراء السيرة النبوية نجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بالتعاون مع الصحابة الكرام وتوجيههم حقَّقوا الكفاية لسكان المدينة وكانوا حريصين على أقوات الناس، والدليل على ذلك أنَّه لما حاصر الأحزاب المدينة أراد النبي أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا عنه وعن أصحابه، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا له: «يا رسول الله، أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به، لا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟»، قال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة! وكَالَبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما»، فقال له سعد بن معاذ: «يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرى أو بَيعًا، أفحينَ أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزَّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا، والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف؛ حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنت وذاك»؛ السيرة النبوية لابن هشام.
ومن الأمور الهامة: الشكر فهو قرين المزيد، ونحن نعمل على توفير متطلبات الوطن لا ننسى صاحب الفضل سبحانه ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 16].
٤- التعددية في الفكر والمعتقد واللون لا تنافي استقرار الوطن وتقدمه:
﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [النمل: 17]، قال ابن إسحاق: "وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادَعَ فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم..."، وحوى هذا الكتاب الذي يمكن أن نطلق عليه اسم الدستور في العرف الحاضر ما يقارب سبعًا وأربعين بندًا أو مادة، جاءت لتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين المسلمين بعضهم البعض وبين غير المسلمين، ونظمت العلاقة بين أهل المدينة وغيرهم ممن يحاربهم أو يناصرهم، فعززت مفهوم سيادة القانون، وحقوق المواطنة، والمسؤولية الجماعية، كما عززت مفهوم التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد؛ الدكتور أحمد الحسنات.
وخير مثال على ذلك المدينة المنوَّرة؛ حيث كانت بوتقة صهرت جميع الأعراق، فكانت طيبة الطيِّبة نموذجًا أوْحَد قديمًا متفردًا في التعددية المذهبية والعرقية، قبل أن تصل أوروبا إلى هذا، فقد ترجم السخاوي لكثير من أهل المدينة ما بين مشرقي ومغربي، وهندي ورومي، وكردي وصقلبي، وشامي ومصري ويمني، وأصفر وأحمر وأسود، وحنفي ومالكي وشافعي وحنبلي، وسني وشيعي، نعم كانت تدور مناوشات طفيفة، مما لا يخلو منه مجتمع فيه مثل هذا، غير أن الجو العام كان منسجمًا وتعدُّديًّا، بلا تمييز ولا عنصرية ولا طائفية بغيضة.
لقد أقام رسول الله دولة المدينة المنورة على أساس المساواة بين الناس جميعًا، وهذا أساس من أسس الاعتقاد في الإسلام ﴿ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13].
وهذا الأساس من أسس الاعتقاد الإسلامي، يجسد معنيين من معاني ثقافة المواطنة، هما معنى المساواة بين الناس دون التفريق بينهم على أساس الدين أو اللون أو العرق على اعتبار أن أصل وجودهم واحد، وأن الهدف من هذا الوجود هو التعاون الذي لا يتم إلا في إطار روح الجماعة والتكافل، وهذا مكون رئيس من مكونات المواطنة وثقافتها.
وهذه المساواة التي تمت في دولة المدينة والتي تجسد ثقافة المواطنة لم تكن أمرًا نظريًّا؛ بل كانت واقعًا عمليًّا يعيشه الناس في تفاصيل حياتهم اليومية على قاعدة «والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها»، وعلى قاعدة «الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع إليه حقَّه، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه»؛ أي: إن الناس أمام القانون سواء، ولا سبيل إلى الواسطة والمحسوبية، وهذه من أهم مكونات ثقافة المواطنة ودولتها التي هي دولة سيادة القانون.
٥- الاتحاد والترابط بين أفراد المجتمع:
والشعور بالمسئولية تجاه أبناء الوطن والحرص على حمايتهم من أي عدوان، نتعلم هذا الدرس من ذلك الكائن الذي سميت السورة باسمه [النمل] فبينما سليمان في مسيرة مع جيشه وجنوده رأته نملة من بعيد، فلم تنتظر حتى يقع الخطر؛ وإنما بادرت بتحذير قومها حتى يتأهبوا وأبدت رأيها لتفادي الخطر ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18].
ودرس آخر ألا وهو إحسان الظن ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ كم من علاقات انتهت بسبب سوء الظن، كم من أرحام قطعت.
«فكل فرد في المجتمع على ثغرة من ثغـورة الإسلام فلا يؤتيَن من قِبله»، وها هو سيدنا أبو بكر يُبيِّن دور الفرد تجاه مجتمعه حيث يقول رضي الله عنه: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وإنكم تضعونها على غير موضعها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يُغيِّروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه».
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، الأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلُّكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته».
٦-ونحن نعمل على تقدم البلاد ونفع العباد، لا بد من شكر الله تعالى على كل إنجاز: فالشكر قرين المزيد ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19].
٧-تفقد أحوال الرعية:
﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ [النمل: 20] فإذا كان هذا اهتمامه بالطيور، فلك أن تتخيل كيف كان تفقده للبشر الذين يتولَّى مسئوليتهم ورعايتهم في مملكته؟ كما كان حال النبي والخلفاء من بعده، يقول زَيْد بْن أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ فَقَالَ: «أَيْنَ فُلَانٌ؟ أَيْنَ فُلَانٌ؟ فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، وَيَتَفَقَّدَهُمْ وَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى تَوَافَوْا عِنْدَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَآخَى بَيْنَهُمْ..»، وروى مسلم عَنْ أَبِي بَرْزَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ فِي مَغْزًى لَهُ، فَأَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ، فَطُلِبَ فِي الْقَتْلَى، فَوَجَدُوهُ إلى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: قَتَلَ سَبْعَةً، ثُمَّ قَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ»؛ رواه مسلم.
وعن مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَلَكَ -أي مات- فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَلْقَةَ لِذِكْرِ ابْنِهِ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا لِي لَا أَرَى فُلَانًا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بُنَيُّهُ الَّذِي رَأَيْتَهُ هَلَكَ، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ بُنَيِّهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ، فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:يَا فُلَانُ، أَيُّمَا كَانَ أَحَب إِلَيْكَ أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ، أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إلى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَلْ يَسْبِقُنِي إلى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُها لِي لَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ: فَذَاكَ لَكَ»؛ النسائي.
وروى مسلم في صحيحه أن عبدالرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة رضي الله عنها أسألها عن شيء، فقالت ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كـان صاحبكـم - يعني معاوية بن خديج - لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئًا، إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج النفقة فيعطيه النفقة.
فالجميع في مركب واحد، ولا بد أن يحرص كل فرد على عبورها إلى برِّ الأمان، وانظر لهذا التشبيه النبوي البديع للتحذير من انتهاك محارم الله، وهو مثال يمكن أن ينطبق على التحذير من التعدي على مقدرات الوطن وخطورة العبث بثوابت الأمة؛ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا»؛ رواهُ البخاري.
8-وعلى الرعية كذلك أن يكونوا إيجابيين، حريصين على صلاح الدين والدنيا ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ [النمل: 22].
معرفة أحوال البلاد المجاورة وما عندهم من إمكانات ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ [النمل: 23].
مع القيام بواجب الدعوة فقد حزن الهدهد أن يُعبَد غير الله ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ [النمل: 24، 25].
ومن الأخبار العظيمة التـي تبين واجب الرعية نحو وطنهم، ما رواه أبو قبيل قال: «خطبنا معاوية رضي الله عنه في يوم جمعة فقال: إنما المال مالنا، والفيء فيئُنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا، فلم يردَّ عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يردَّ عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام رجل ممَّن شهد المسجد فقال: كلا، بل المال مالنا، والفيء فيئُنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا، فلما صلى أمر بالرجل فأُدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس، إني تكلمت في أول جمعة فلم يردَّ عليَّ أحد، وفي الثانية فلم يردَّ عليَّ أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا أحياه الله! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيأتي قوم يتكلمون فلا يُرَدُّ عليهم، يتقاحمون في النار تقاحم القردة»، فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلمَّا ردَّ هذا عليَّ أحياني أحياه الله، ورجوت ألَّا يجعلني الله منهم؛ أخرجه أبو يعلى وحسنه الألباني.
وانظر كيف جمع سيدنا سليمان قومَه على قلب رجلٍ واحد، حتى إذا جدَّ الجدُّ هبُّوا مسرعين استجابةً لقائدهم ونصرة لدينهم وحماية لوطنهم ﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [النمل: 37].
٩- على المسئول أن يتثبت مما يرد إليه من اتهامات في حق الآخرين:
فكم من بريء عوقب ظلمًا بسبب التساهل في التحريات والتثبت من الادعاءات ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]، وقد حذَّرنا القرآن من اتهام البرءاء ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 112].
ومن النماذج العملية لتحقق التوازن في هذا الشأن: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب في رعيته قائلًا: «ألا إني -والله - ما أرسل عمالي إليكـم ليضـربوا أبشـاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسُنَّتكم؛ فمن فُعِل به شيء سوى ذلك فَلْيرفعه إليَّ، فوالذي نفسي بيده إذًا لأقصنه منه، فوثب عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين، أَوَ رأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، أئنك لمقتصُّه منه؟ قال: إي والذي نفس عمرَ بيده؛ إذًا لأقصَّنَّه منه، أنَّى لي لا أقِصُّه منه! وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقِصُّ من نفسه؟
ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تُجَمِّروهم فتَفْتِنُوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتُكفِّروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم»؛ (أخرجه: أحمد).
فمن العدل الذي تقوم على أساسه الأمم عدم المحاباة والتثبت ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6].
وفي قصة سيدنا سعد عندما كان واليًا على الكوفة وموقف الفاروق عمر خير شاهد على ذلك.
١٠- الشورى من أركان توطيد الحكم الرشيد، والوصول للرأي السديد:
﴿ قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ [النمل: 29 - 32]، فماذا كانت نهاية تلك المشورة؟ الانتهاء لقرار صحيح وحماية لمملكة بلقيس سبأ، وحفظت قومها من الهلاك، بل والفوز بخيري الدنيا الآخرة ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44].
وتكمن أهمية الشورى في حفظ المجتمع من القرارات الخاطئة، تظهر أهمية الشورى في الإسلام من خلال قول الله تعالى لرسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159].
وكذلك تظهر أهمية الشورى من خلال قول الله تعالى في بيانه لصفات المؤمنين المستجيبين لأمره حيث قرن الشورى بالصلاة: ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 38].
اللهمَّ ارحمنا واغفر لنا وللمسلمين والمسلمات، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.
الالوكة
........................