zoro1
11-30-2023, 10:31 AM
حديث: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما...
شرح مئة حديث (47)
٤٧ - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفِقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا))؛ متفق عليه.
ﺍﻟﻤﺎﻝ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻨﻲ ﺁﺩﻡ، ﺃﻋﻄﺎﻫﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺇﻳﺎﻩ ﻓﺘﻨﺔ؛ ﻟﻴﺒﻠﻮﻫﻢ ﻫﻞ ﻳﺤﺴﻨﻮﻥ ﺍﻟﺘﺼﺮﻑ ﻓﻴﻪ ﺃﻡ لا! ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التغابن: 15].
ﻓﻤﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻣﻦ ﻳﻨﻔﻘﻪ ﻓﻲ ﺷﻬﻮﺍﺗﻪ ﺍﻟﻤﺤﺮﻣﺔ، ﻭﻓﻲ ﻟﺬﺍﺋﺬﻩ ﺍﻟﺘﻲ لا ﺗﺰﻳﺪﻩ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺇلا بُعدًا، ﻓﻬﺬﺍ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺎﻟﻪ وبالاً ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺍﻟﻌﻴﺎﺫ ﺑﺎﻟﻠﻪ.
ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻣﻦ ﻳﻨﻔﻘﻪ ﺍﺑﺘﻐﺎﺀ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻴﻤﺎ يُقرِّب ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺐ ﺷﺮﻳﻌﺔ ﺍﻟﻠﻪ، ﻓﻬﺬﺍ يكون ﻣﺎﻟﻪ خيرًا ﻟﻪ.
ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻣﻦ ﻳﺒﺬﻝ ﻣﺎﻟﻪ ﻓﻲ ﻏﻴﺮ ﻓﺎﺋﺪﺓ، ﻟﻴﺲ ﻓﻲ ﺷﻲﺀ ﻣﺤﺮﻡ ولا ﻓﻲ ﺷﻲﺀ ﻣﺸﺮﻭﻉ، ﻓﻬﺬﺍ ﻣﺎﻟﻪ ﺿﺎﺋﻊ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ ﺇﺫﺍ ﺑﺬﻝ ﻣﺎﻟﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺮﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ واثقًا ﺑﻮﻋﺪ ﺍﻟﻠﻪ - ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ - ﺣﻴﺚ ﻗﺎﻝ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ:﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين ﴾ [سبأ: 39].
﴿ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾؛ ﺃﻱ: ﻳﻌﻄﻴﻜﻢ خلفًا ﻋﻨﻪ.
ﻭﻟﻴﺲ ﻣﻌﻨﺎﻩ ﻓﻬﻮ يخلفه، ﺇﺫ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻬﻮ يخلفه، ﻟﻜﺎﻥ ﻣﻌﻨﻰ الآﻳﺔ: ﺃﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﺧﻠﻴﻔﺔ، ﻭﻟﻴﺲ الأﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ، ﺑﻞ ﻓﻬﻮ يُخلف؛ ﺃﻱ: ﻳﻌﻄﻴﻜﻢ خلفًا ﻋﻨﻪ.
ﻭﻣﻨﻪ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ: ((ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺃﺟﺮﻧﻲ ﻓﻲ ﻣﺼﻴﺒﺘﻲ ﻭﺃﺧﻠﻒ ﻟﻲ خيرًا ﻣﻨﻬﺎ))، ولا ﺗﻘﻞ ﻭﺍﺧﻠﻒ لي خيرًا ﻣﻨﻬﺎ، ﺑﻞ ﻭﺃﺧﻠﻒ بـ كسر اللام؛ ﺃﻱ: اﺭﺯﻗﻨﻲ خلفًا ﻋﻨﻬﺎ خيرًا ﻣﻨﻬﺎ، ﻓﺎﻟﻠﻪ - ﻋﺰ ﻭﺟﻞ - ﻭﻋﺪ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺃﻥ ﻣﺎ ﺃﻧﻔﻘﻪ الإﻧﺴﺎﻥ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻠﻪ يخلفه ﻋﻠﻴﻪ، ﻳﻌﻄﻴﻪ خلفًا ﻋﻨﻪ، ﻭﻫﺬﺍ ﻳﻔﺴﺮﻩ ﻗﻮﻝ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ - ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺼﻼﺓ ﻭﺍﻟﺴﻼم -: ((ﻣﺎ ﻣﻦ ﻳﻮﻡ ﻳﺼﺒﺢ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩ ﻓﻴﻪ ﺇلا ملكان ﻳﻨﺰلاﻥ ﻓﻴﻘﻮﻝ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ﻭﻳﻘﻮﻝ الآﺧﺮ: ((اللهم ﺃﻋﻂ ممسكًا تلفًا))؛ يعني ﺃﺗﻠﻒ ﻣﺎﻟﻪ.
ﻭﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﺑﺬﻟﻚ من ﻳﻤﺴﻚ ﻋﻤﺎ ﺃﻭﺟﺐ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺑﺬﻝ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﻓﻴﻪ، ﻭﻟﻴﺲ ﻛﻞ ﻣﻤﺴﻚ ﻳﺪﻋﻰ ﻋﻠﻴﻪ، ﺑﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﺴﻚ ﻣﺎﻟﻪ ﻋﻦ ﺇﻧﻔﺎﻗﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺃﻭﺟﺐ ﺍﻟﻠﻪ، ﻓﻬﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺪﻋﻮ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻳﺘﻠﻔﻪ ﻭﻳﺘﻠﻒ ﻣﺎﻟﻪ.
ﻭﺍﻟﺘﻠﻒ ﻧﻮﻋﺎﻥ: ﺗﻠﻒ ﺣﺴﻲ، ﻭﺗﻠﻒ ﻣﻌﻨﻮﻱ:
ﺍﻟﺘﻠﻒ ﺍﻟﺤﺴﻲ: ﺃﻥ ﻳﺘﻠﻒ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﻧﻔﺴﻪ، ﺑﺄﻥ ﻳﺄﺗﻴﻪ ﺁﻓﺔ ﺗﺤﺮﻗﻪ ﺃﻭ ﻳﺴﺮﻕ ﺃﻭ ﻣﺎ ﺃﺷﺒﻪ ﺫﻟﻚ.
ﻭﺍﻟﺘﻠﻒ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ: ﺃﻥ ﺗﻨﺰﻉ ﺑﺮﻛﺘﻪ، ﺑﺤﻴﺚ لا ﻳﺴﺘﻔﻴﺪ الإﻧﺴﺎﻥ ﻣﻨﻪ ﻓﻲ ﺣﺴﻨﺎﺗﻪ، ﻭﻣﻨﻪ ﻣﺎ ﺫﻛﺮﻩ ﺍﻟﻨﺒﻲ - صلى الله عليه وسلم - ﺣﻴﺚ ﻗﺎﻝ لأﺻﺤﺎﺑﻪ: ((ﺃﻳﻜﻢ ﻣﺎﻝ ﻭﺍﺭﺛﻪ ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﻣﺎﻟﻪ؟))، ﻗﺎﻟﻮﺍ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ، ﻣﺎ ﻣﻨﺎ ﺃﺣﺪ ﺇلا ﻭﻣﺎﻟﻪ ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻴﻪ، ﻓﻤﺎﻟﻚ ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻴﻚ ﻣﻦ ﻣﺎﻝ ﺯﻳﺪ ﻭﻋﻤﺮﻭ ﻭﺧﺎﻟﺪ، ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﻭﺭﺛﺘﻚ، ﻗﺎﻝ: ((ﻓﺈﻥ ﻣﺎﻟﻪ ﻣﺎ ﻗﺪﻡ ومال ﻭﺍﺭﺛﻪ ﻣﺎ ﺃﺧﺮ)).
ﻭﻫﺬﻩ ﺣﻜﻤﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻣﻤﻦ ﺃﻭﺗﻲ ﺟﻮﺍﻣﻊ الكَلِم - صلى الله عليه وسلم - ﻓﻤﺎﻟﻚ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻘﺪﻣﻪ ﻟﻠﻪ - ﻋﺰ ﻭﺟﻞ - ﺗﺠﺪﻩ ﺃﻣﺎﻣﻚ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ، ﻭﻣﺎﻝ ﺍﻟﻮﺍﺭﺙ ﻣﺎ ﻳﺒﻘﻰ ﺑﻌﺪﻙ ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻨﺘﻔﻊ ﺑﻪ ﻭﻳﺄﻛﻠﻪ ﻫﻮ ﺍﻟﻮﺍﺭﺙ، ﻓﻬﻮ ﻣﺎﻝ ﻭﺍﺭﺛﻚ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ.
ﻓﺄﻧﻔﻖ ﻣﺎﻟﻚ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺮﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﺇﺫﺍ ﺃﻧﻔﻘﺖ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻳﺨﻠﻔﻪ ﻭﻳﻨﻔﻖ ﻋﻠﻴﻚ، ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ - صلى الله عليه وسلم -: ((ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﻳﺎ ﺍﺑﻦ ﺁﺩﻡ، ﺃﻧﻔﻖ ﻳﻨﻔﻖ ﻋﻠﻴﻚ((، وﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ ﺃﻥ ﻳﺒﺬﻝ ﻣﺎﻟﻪ ﺣﺴﺐ ﻣﺎ ﺷﺮﻉ ﺍﻟﻠﻪ - ﻋﺰ ﻭﺟﻞ.
ﻛﻤﺎ ﺟﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺃﻥ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ - صلى الله عليه وسلم - ﻗﺎﻝ: ((لا ﺣﺴﺪ ﺇلا ﻓﻲ ﺍﺛﻨﺘﻴﻦ))؛ ﻳﻌﻨﻲ لا ﻏﺒﻄﺔ، ولا ﺃﺣﺪ ﻳﻐﺒﻂ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ - ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ - ﻣﻦ ﻣﺎﻝ ﻭﻏﻴﺮﻩ ﺇلا ﻓﻲ ﺍﺛﻨﺘﻴﻦ ﻓﻘﻂ:
الأﻭﻟﻰ: ﺭﺟﻞ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﺎلاً، فسلطه ﻋﻠﻰ ﻫﻠﻜﺘﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻖ، ﺻﺎﺭ لا ﻳﺒﺬﻟﻪ ﺇلا ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺮﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ، ﻫﺬﺍ ﻳﺤﺴﺪ؛ لأﻧﻚ الآﻥ ﺗﺠﺪ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭ ﻳﺨﺘﻠﻔﻮﻥ، ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﻨﻔﻖ ﺃﻣﻮﺍﻟﻪ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻠﻪ، ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻴﺮﺍﺕ، ﻓﻲ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺒﺮ، ﺇﻋﺎﻧﺔ ﻓﻘﻴﺮ، ﺑﻨﺎﺀ ﻣﺴﺎﺟﺪ، ﺑﻨﺎﺀ ﻣﺪﺍﺭﺱ، ﻃﺒﻊ ﻛﺘﺐ، ﺇﻋﺎﻧﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺠﻬﺎﺩ، ﻭﻣﺎ ﺃﺷﺒﻪ ﺫﻟﻚ، ﻓﻬﺬﺍ سلَّطه ﻋﻠﻰ ﻫﻠﻜﺘﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻖ.
ﻭﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﺴﻠﻄﻪ ﻋﻠﻰ ﻫﻠﻜﺘﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﺬﺍﺋﺬ ﺍﻟﻤﺤﺮﻣﺔ ﻭﺍﻟﻌﻴﺎﺫ ﺑﺎﻟﻠﻪ، ﻳﺴﺎﻓﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﻓﻴﺰﻧﻲ، ﻭﻳﺸﺮﺏ ﺍﻟﺨﻤﺮ، ويلعب ﺍﻟﻘﻤﺎﺭ، ويُتلِف ﻣﺎﻟﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻐﻀﺐ ﺍﻟﺮﺏ - ﻋﺰ ﻭﺟﻞ.
ﻓﺎﻟﺬﻱ ﺳﻠﻄﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻫﻠﻜﺔ ﻣﺎﻟﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻖ ﻫﺬﺍ يغبط؛ لأﻥ ﺍﻟﻐﺎﻟﺐ ﺃﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺴﺘﻐﻨﻲ ﻳﺒﻄﺮ ﻭﻳﻤﺮﺡ ﻭﻳﻔﺴﻖ، ﻓﺈﺫﺍ ﺭﺅﻱ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﻳﻨﻔﻘﻪ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻠﻪ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻐﺒﻂ.
ﻭﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ: ﺭﺟﻞ ﺁﺗﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ: ﻳﻌﻨﻲ ﺍﻟﻌﻠﻢ، ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻫﻨﺎ ﺍﻟﻌﻠﻢ؛ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾ [النساء: 113]، ﻓﻬﻮ ﻳﻘﻀﻲ ﺑﻬﺎ ﻭﻳﻌﻠﻤﻬﺎ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﻳﻘﻀﻲ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﻓﻲ ﺃﻫﻠﻪ، ﻭﻓﻲ ﻣﻦ تحاكم ﻋﻨﺪﻩ، ﻭﻳﻌﻠﻤﻬﺎ ﺍﻟﻨﺎﺱ أيضًا، ﻟﻴﺲ ﻳﻘﺘﺼﺮ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻳﺄﺗﻴﻪ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻓﻴﻘﻮﻝ: ﺇﺫﺍ ﺟﺎؤﻭﻧﻲ ﺣﻜﻤﺖ ﻭﻗﻀﻴﺖ، ﺑﻞ ﻳﻘﻀﻲ ﻭﻳﻌﻠﻢ، ﻭﻳﺒﺪﺃ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺬﻟﻚ، ﻓﻬﺬﺍ لا ﺷﻚ ﺃﻧﻪ ﻣﻐﺒﻮﻁ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺁﺗﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ - ﻋﺰ ﻭﺟﻞ - ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ.
ﻭﺍﻟﻨﺎﺱ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻳﻨﻘﺴﻤﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﺃﻗﺴﺎﻡ:
ﻗﺴﻢ ﺁﺗﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻓﺒﺨﻞ ﺑﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻪ، لم ﻳﻨﺘﻔﻊ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﻟﻢ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻄﺎﻋﺔ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﻟﻢ ﻳﻨﺘﻪ ﻋﻦ ﻣﻌﺼﻴﺔ ﺍﻟﻠﻪ، ﻓﻬﺬﺍ ﺧﺎﺳﺮ ﻭﺍﻟﻌﻴﺎﺫ ﺑﺎﻟﻠﻪ، ﻭﻫﺬﺍ يشبه ﺍﻟﻴﻬﻮﺩ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻋﻠﻤﻮﺍ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﺍﺳﺘﻜﺒﺮﻭﺍ ﻋﻨﻪ.
ﻭﻗﺴﻢ آﺧﺮ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻓﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ، ﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﻨﻔﻊ ﺑﻬﺎ ﻋﺒﺎﺩ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﻫﺬﺍ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻗﺒﻠﻪ، ﻟﻜﻨﻪ ﻧﺎﻗﺺ.
ﻭﻗﺴﻢ ﺁﺧﺮ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ فقضى ﺑﻬﺎ ﻭﻋﻤﻞ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﻋﻠﻤﻬﺎ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﻓﻬﺬﺍ ﺧﻴﺮ الأﻗﺴﺎﻡ.
ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻗﺴﻢ ﺭﺍﺑﻊ ﻟﻢ ﻳﺆﺕ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ إطلاقًا ﻓﻬﻮ ﺟﺎﻫﻞ، ﻭﻫﺬﺍ حرم خيرًا كثيرًا، ﻟﻜﻨﻪ أقل ضررًا ﻣﻤﻦ ﺃﻭﺗﻲ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻭﻟﻢ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ؛ لأﻥ ﻫﺬﺍ ﻳﺮﺟﻰ ﺇﺫﺍ ﻋﻠﻢ ﺃﻥ ﻳﺘﻌﻠﻢ ﻭﻳﻌﻤﻞ، ﺑﺨﻼﻑ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻌﻠﻢ، ﻭﻛﺎﻥ ﻋﻤﻠﻪ وبالاً ﻋﻠﻴﻪ - ﻭﺍﻟﻌﻴﺎﺫ ﺑﺎﻟﻠﻪ - ﻧﺴﺄﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺃﻥ ﻳﺮﺯﻗﻨﺎ ﻭﺇﻳﺎﻛﻢ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻭﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﻨﺎﻓﻊ ﻭﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﻟﺼﺎﻟﺢ، والله أعلم.
الالوكة
....................
شرح مئة حديث (47)
٤٧ - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفِقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا))؛ متفق عليه.
ﺍﻟﻤﺎﻝ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻨﻲ ﺁﺩﻡ، ﺃﻋﻄﺎﻫﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺇﻳﺎﻩ ﻓﺘﻨﺔ؛ ﻟﻴﺒﻠﻮﻫﻢ ﻫﻞ ﻳﺤﺴﻨﻮﻥ ﺍﻟﺘﺼﺮﻑ ﻓﻴﻪ ﺃﻡ لا! ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التغابن: 15].
ﻓﻤﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻣﻦ ﻳﻨﻔﻘﻪ ﻓﻲ ﺷﻬﻮﺍﺗﻪ ﺍﻟﻤﺤﺮﻣﺔ، ﻭﻓﻲ ﻟﺬﺍﺋﺬﻩ ﺍﻟﺘﻲ لا ﺗﺰﻳﺪﻩ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺇلا بُعدًا، ﻓﻬﺬﺍ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺎﻟﻪ وبالاً ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺍﻟﻌﻴﺎﺫ ﺑﺎﻟﻠﻪ.
ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻣﻦ ﻳﻨﻔﻘﻪ ﺍﺑﺘﻐﺎﺀ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻴﻤﺎ يُقرِّب ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺐ ﺷﺮﻳﻌﺔ ﺍﻟﻠﻪ، ﻓﻬﺬﺍ يكون ﻣﺎﻟﻪ خيرًا ﻟﻪ.
ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻣﻦ ﻳﺒﺬﻝ ﻣﺎﻟﻪ ﻓﻲ ﻏﻴﺮ ﻓﺎﺋﺪﺓ، ﻟﻴﺲ ﻓﻲ ﺷﻲﺀ ﻣﺤﺮﻡ ولا ﻓﻲ ﺷﻲﺀ ﻣﺸﺮﻭﻉ، ﻓﻬﺬﺍ ﻣﺎﻟﻪ ﺿﺎﺋﻊ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ ﺇﺫﺍ ﺑﺬﻝ ﻣﺎﻟﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺮﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ واثقًا ﺑﻮﻋﺪ ﺍﻟﻠﻪ - ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ - ﺣﻴﺚ ﻗﺎﻝ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ:﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين ﴾ [سبأ: 39].
﴿ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾؛ ﺃﻱ: ﻳﻌﻄﻴﻜﻢ خلفًا ﻋﻨﻪ.
ﻭﻟﻴﺲ ﻣﻌﻨﺎﻩ ﻓﻬﻮ يخلفه، ﺇﺫ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻬﻮ يخلفه، ﻟﻜﺎﻥ ﻣﻌﻨﻰ الآﻳﺔ: ﺃﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﺧﻠﻴﻔﺔ، ﻭﻟﻴﺲ الأﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ، ﺑﻞ ﻓﻬﻮ يُخلف؛ ﺃﻱ: ﻳﻌﻄﻴﻜﻢ خلفًا ﻋﻨﻪ.
ﻭﻣﻨﻪ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ: ((ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺃﺟﺮﻧﻲ ﻓﻲ ﻣﺼﻴﺒﺘﻲ ﻭﺃﺧﻠﻒ ﻟﻲ خيرًا ﻣﻨﻬﺎ))، ولا ﺗﻘﻞ ﻭﺍﺧﻠﻒ لي خيرًا ﻣﻨﻬﺎ، ﺑﻞ ﻭﺃﺧﻠﻒ بـ كسر اللام؛ ﺃﻱ: اﺭﺯﻗﻨﻲ خلفًا ﻋﻨﻬﺎ خيرًا ﻣﻨﻬﺎ، ﻓﺎﻟﻠﻪ - ﻋﺰ ﻭﺟﻞ - ﻭﻋﺪ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺃﻥ ﻣﺎ ﺃﻧﻔﻘﻪ الإﻧﺴﺎﻥ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻠﻪ يخلفه ﻋﻠﻴﻪ، ﻳﻌﻄﻴﻪ خلفًا ﻋﻨﻪ، ﻭﻫﺬﺍ ﻳﻔﺴﺮﻩ ﻗﻮﻝ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ - ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺼﻼﺓ ﻭﺍﻟﺴﻼم -: ((ﻣﺎ ﻣﻦ ﻳﻮﻡ ﻳﺼﺒﺢ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩ ﻓﻴﻪ ﺇلا ملكان ﻳﻨﺰلاﻥ ﻓﻴﻘﻮﻝ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ﻭﻳﻘﻮﻝ الآﺧﺮ: ((اللهم ﺃﻋﻂ ممسكًا تلفًا))؛ يعني ﺃﺗﻠﻒ ﻣﺎﻟﻪ.
ﻭﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﺑﺬﻟﻚ من ﻳﻤﺴﻚ ﻋﻤﺎ ﺃﻭﺟﺐ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺑﺬﻝ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﻓﻴﻪ، ﻭﻟﻴﺲ ﻛﻞ ﻣﻤﺴﻚ ﻳﺪﻋﻰ ﻋﻠﻴﻪ، ﺑﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﺴﻚ ﻣﺎﻟﻪ ﻋﻦ ﺇﻧﻔﺎﻗﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺃﻭﺟﺐ ﺍﻟﻠﻪ، ﻓﻬﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺪﻋﻮ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻳﺘﻠﻔﻪ ﻭﻳﺘﻠﻒ ﻣﺎﻟﻪ.
ﻭﺍﻟﺘﻠﻒ ﻧﻮﻋﺎﻥ: ﺗﻠﻒ ﺣﺴﻲ، ﻭﺗﻠﻒ ﻣﻌﻨﻮﻱ:
ﺍﻟﺘﻠﻒ ﺍﻟﺤﺴﻲ: ﺃﻥ ﻳﺘﻠﻒ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﻧﻔﺴﻪ، ﺑﺄﻥ ﻳﺄﺗﻴﻪ ﺁﻓﺔ ﺗﺤﺮﻗﻪ ﺃﻭ ﻳﺴﺮﻕ ﺃﻭ ﻣﺎ ﺃﺷﺒﻪ ﺫﻟﻚ.
ﻭﺍﻟﺘﻠﻒ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ: ﺃﻥ ﺗﻨﺰﻉ ﺑﺮﻛﺘﻪ، ﺑﺤﻴﺚ لا ﻳﺴﺘﻔﻴﺪ الإﻧﺴﺎﻥ ﻣﻨﻪ ﻓﻲ ﺣﺴﻨﺎﺗﻪ، ﻭﻣﻨﻪ ﻣﺎ ﺫﻛﺮﻩ ﺍﻟﻨﺒﻲ - صلى الله عليه وسلم - ﺣﻴﺚ ﻗﺎﻝ لأﺻﺤﺎﺑﻪ: ((ﺃﻳﻜﻢ ﻣﺎﻝ ﻭﺍﺭﺛﻪ ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﻣﺎﻟﻪ؟))، ﻗﺎﻟﻮﺍ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ، ﻣﺎ ﻣﻨﺎ ﺃﺣﺪ ﺇلا ﻭﻣﺎﻟﻪ ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻴﻪ، ﻓﻤﺎﻟﻚ ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻴﻚ ﻣﻦ ﻣﺎﻝ ﺯﻳﺪ ﻭﻋﻤﺮﻭ ﻭﺧﺎﻟﺪ، ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﻭﺭﺛﺘﻚ، ﻗﺎﻝ: ((ﻓﺈﻥ ﻣﺎﻟﻪ ﻣﺎ ﻗﺪﻡ ومال ﻭﺍﺭﺛﻪ ﻣﺎ ﺃﺧﺮ)).
ﻭﻫﺬﻩ ﺣﻜﻤﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻣﻤﻦ ﺃﻭﺗﻲ ﺟﻮﺍﻣﻊ الكَلِم - صلى الله عليه وسلم - ﻓﻤﺎﻟﻚ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻘﺪﻣﻪ ﻟﻠﻪ - ﻋﺰ ﻭﺟﻞ - ﺗﺠﺪﻩ ﺃﻣﺎﻣﻚ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ، ﻭﻣﺎﻝ ﺍﻟﻮﺍﺭﺙ ﻣﺎ ﻳﺒﻘﻰ ﺑﻌﺪﻙ ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻨﺘﻔﻊ ﺑﻪ ﻭﻳﺄﻛﻠﻪ ﻫﻮ ﺍﻟﻮﺍﺭﺙ، ﻓﻬﻮ ﻣﺎﻝ ﻭﺍﺭﺛﻚ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ.
ﻓﺄﻧﻔﻖ ﻣﺎﻟﻚ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺮﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﺇﺫﺍ ﺃﻧﻔﻘﺖ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻳﺨﻠﻔﻪ ﻭﻳﻨﻔﻖ ﻋﻠﻴﻚ، ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ - صلى الله عليه وسلم -: ((ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﻳﺎ ﺍﺑﻦ ﺁﺩﻡ، ﺃﻧﻔﻖ ﻳﻨﻔﻖ ﻋﻠﻴﻚ((، وﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ ﺃﻥ ﻳﺒﺬﻝ ﻣﺎﻟﻪ ﺣﺴﺐ ﻣﺎ ﺷﺮﻉ ﺍﻟﻠﻪ - ﻋﺰ ﻭﺟﻞ.
ﻛﻤﺎ ﺟﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺃﻥ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ - صلى الله عليه وسلم - ﻗﺎﻝ: ((لا ﺣﺴﺪ ﺇلا ﻓﻲ ﺍﺛﻨﺘﻴﻦ))؛ ﻳﻌﻨﻲ لا ﻏﺒﻄﺔ، ولا ﺃﺣﺪ ﻳﻐﺒﻂ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ - ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ - ﻣﻦ ﻣﺎﻝ ﻭﻏﻴﺮﻩ ﺇلا ﻓﻲ ﺍﺛﻨﺘﻴﻦ ﻓﻘﻂ:
الأﻭﻟﻰ: ﺭﺟﻞ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﺎلاً، فسلطه ﻋﻠﻰ ﻫﻠﻜﺘﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻖ، ﺻﺎﺭ لا ﻳﺒﺬﻟﻪ ﺇلا ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺮﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ، ﻫﺬﺍ ﻳﺤﺴﺪ؛ لأﻧﻚ الآﻥ ﺗﺠﺪ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭ ﻳﺨﺘﻠﻔﻮﻥ، ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﻨﻔﻖ ﺃﻣﻮﺍﻟﻪ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻠﻪ، ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻴﺮﺍﺕ، ﻓﻲ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺒﺮ، ﺇﻋﺎﻧﺔ ﻓﻘﻴﺮ، ﺑﻨﺎﺀ ﻣﺴﺎﺟﺪ، ﺑﻨﺎﺀ ﻣﺪﺍﺭﺱ، ﻃﺒﻊ ﻛﺘﺐ، ﺇﻋﺎﻧﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺠﻬﺎﺩ، ﻭﻣﺎ ﺃﺷﺒﻪ ﺫﻟﻚ، ﻓﻬﺬﺍ سلَّطه ﻋﻠﻰ ﻫﻠﻜﺘﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻖ.
ﻭﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﺴﻠﻄﻪ ﻋﻠﻰ ﻫﻠﻜﺘﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﺬﺍﺋﺬ ﺍﻟﻤﺤﺮﻣﺔ ﻭﺍﻟﻌﻴﺎﺫ ﺑﺎﻟﻠﻪ، ﻳﺴﺎﻓﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﻓﻴﺰﻧﻲ، ﻭﻳﺸﺮﺏ ﺍﻟﺨﻤﺮ، ويلعب ﺍﻟﻘﻤﺎﺭ، ويُتلِف ﻣﺎﻟﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻐﻀﺐ ﺍﻟﺮﺏ - ﻋﺰ ﻭﺟﻞ.
ﻓﺎﻟﺬﻱ ﺳﻠﻄﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻫﻠﻜﺔ ﻣﺎﻟﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻖ ﻫﺬﺍ يغبط؛ لأﻥ ﺍﻟﻐﺎﻟﺐ ﺃﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺴﺘﻐﻨﻲ ﻳﺒﻄﺮ ﻭﻳﻤﺮﺡ ﻭﻳﻔﺴﻖ، ﻓﺈﺫﺍ ﺭﺅﻱ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﻳﻨﻔﻘﻪ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻠﻪ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻐﺒﻂ.
ﻭﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ: ﺭﺟﻞ ﺁﺗﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ: ﻳﻌﻨﻲ ﺍﻟﻌﻠﻢ، ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻫﻨﺎ ﺍﻟﻌﻠﻢ؛ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾ [النساء: 113]، ﻓﻬﻮ ﻳﻘﻀﻲ ﺑﻬﺎ ﻭﻳﻌﻠﻤﻬﺎ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﻳﻘﻀﻲ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﻓﻲ ﺃﻫﻠﻪ، ﻭﻓﻲ ﻣﻦ تحاكم ﻋﻨﺪﻩ، ﻭﻳﻌﻠﻤﻬﺎ ﺍﻟﻨﺎﺱ أيضًا، ﻟﻴﺲ ﻳﻘﺘﺼﺮ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻳﺄﺗﻴﻪ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻓﻴﻘﻮﻝ: ﺇﺫﺍ ﺟﺎؤﻭﻧﻲ ﺣﻜﻤﺖ ﻭﻗﻀﻴﺖ، ﺑﻞ ﻳﻘﻀﻲ ﻭﻳﻌﻠﻢ، ﻭﻳﺒﺪﺃ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺬﻟﻚ، ﻓﻬﺬﺍ لا ﺷﻚ ﺃﻧﻪ ﻣﻐﺒﻮﻁ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺁﺗﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ - ﻋﺰ ﻭﺟﻞ - ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ.
ﻭﺍﻟﻨﺎﺱ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻳﻨﻘﺴﻤﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﺃﻗﺴﺎﻡ:
ﻗﺴﻢ ﺁﺗﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻓﺒﺨﻞ ﺑﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻪ، لم ﻳﻨﺘﻔﻊ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﻟﻢ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻄﺎﻋﺔ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﻟﻢ ﻳﻨﺘﻪ ﻋﻦ ﻣﻌﺼﻴﺔ ﺍﻟﻠﻪ، ﻓﻬﺬﺍ ﺧﺎﺳﺮ ﻭﺍﻟﻌﻴﺎﺫ ﺑﺎﻟﻠﻪ، ﻭﻫﺬﺍ يشبه ﺍﻟﻴﻬﻮﺩ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻋﻠﻤﻮﺍ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﺍﺳﺘﻜﺒﺮﻭﺍ ﻋﻨﻪ.
ﻭﻗﺴﻢ آﺧﺮ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻓﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ، ﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﻨﻔﻊ ﺑﻬﺎ ﻋﺒﺎﺩ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﻫﺬﺍ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻗﺒﻠﻪ، ﻟﻜﻨﻪ ﻧﺎﻗﺺ.
ﻭﻗﺴﻢ ﺁﺧﺮ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ فقضى ﺑﻬﺎ ﻭﻋﻤﻞ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﻋﻠﻤﻬﺎ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﻓﻬﺬﺍ ﺧﻴﺮ الأﻗﺴﺎﻡ.
ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻗﺴﻢ ﺭﺍﺑﻊ ﻟﻢ ﻳﺆﺕ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ إطلاقًا ﻓﻬﻮ ﺟﺎﻫﻞ، ﻭﻫﺬﺍ حرم خيرًا كثيرًا، ﻟﻜﻨﻪ أقل ضررًا ﻣﻤﻦ ﺃﻭﺗﻲ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻭﻟﻢ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ؛ لأﻥ ﻫﺬﺍ ﻳﺮﺟﻰ ﺇﺫﺍ ﻋﻠﻢ ﺃﻥ ﻳﺘﻌﻠﻢ ﻭﻳﻌﻤﻞ، ﺑﺨﻼﻑ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻌﻠﻢ، ﻭﻛﺎﻥ ﻋﻤﻠﻪ وبالاً ﻋﻠﻴﻪ - ﻭﺍﻟﻌﻴﺎﺫ ﺑﺎﻟﻠﻪ - ﻧﺴﺄﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺃﻥ ﻳﺮﺯﻗﻨﺎ ﻭﺇﻳﺎﻛﻢ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻭﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﻨﺎﻓﻊ ﻭﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﻟﺼﺎﻟﺢ، والله أعلم.
الالوكة
....................