فريق منتدى الدي في دي العربي
05-04-2016, 08:01 PM
*
"وقد تبقى الفكرة في الكتب صامتة خرساء، وتبقى على ذلك دهورًا، حتى تلامس عقلًا حيًّا صادقًا يحمل بين جنبيه الهموم الشريفة، فيستخرج منها أزكى ما يستخرجه وأنبله".
شيخنا أبو موسى
أما قبل:
فأمامي مهامهُ موحشة قفر، يحار فيها القطا، وتحتوشها الهلكة، وتحوطها مهاوٍ من الزلل...
*
مجاهل ما إن بها من أنيس، ولا رسم دار يرى أو طلل
لا أدري ما الذي قذف بي في باديتها؟! وأي طريق سارت فيه قدماي حتى دهتني هذه الغيلة؟!
*
ما معي سقاء ولا جراب، ولا زاد، ولا راحلة أسوقها إذا تعرجت بي مفاوزها، وتناهت بي مجاهلها إلى غاية ترهبها النفوس الأبية!
مهامهُ لم تصحب بها الذئب نفسه ♦♦♦ ولا حملت فيها الغرابَ قوادمُه
*
وما معي من أخي نجدة أصحبه، ولا خل آوي إليه إلا هذه النفس التي بين جانحتي، أخالجها، وأسرها بما يعتمل في خاطري، وأسكنها خوفًا هائلًا يستبد بي، فتسكِّنني وتهدئ من رَوعي، وتستحثني على مواصلة المسير، وتشعل في جناني قوةً عزيزةً تكاد تحملني على راحلة الحزم والشجاعة والإقدام، وتلفتني عن الخنوع والخوف والإحجام!
*
فأي سيرة أعجب من سيرة هذا الراجل على قدميه في هاته القفار؟! وأي بيان أغرب من هذا الذي يروم أن يصف به ما يمور في صدره خلال هذا السير؟!
*
إنها رحلة على هولها تحفها اللذة، وتكتنفها الجرأة، وتمدها بوارق تظهر في الطريق تارةً، وتخبو تارةً أخرى...
*
فدعني أحدثك، فأسرك كلامًا من مكنونات النفوس وودائعها...
*
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله لا شريك له، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وسلم، وصلى الله على أبويه الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل، وعلى المبلِّغين رسالاته من الأنبياء والمرسلين.
*
أما بعد:
فليس حسنًا أن يقرأ المرء ما يستثير نفسه، ويستنطق بيانه، ثم يكتمه صدره، ويكنه في خلجاتها، ولا يفصح عما يعتمل فيها من أمانة البلاغ، وحمل البيان،وليس حسنًا أيضًا أن ينتبه إلى ما يراه عائقًا في طريق أمته ثم يظل رقيدًا في مربع الخمول والكسل، أو يركن إلى الدَّعة، ولا ينهض لإزالته وتنحيته من أمامها، حتى يفوت زمانه، وتقضى أيامه، ويرحل صفر اليدين لا يلوي أحد عليه.
*
وإني سايرت في ليلتي هذه أملوحتين من درر البيان، ونهجين من طرق التجديد في النظر، يستحثان الخاطر، ويلهمان النفس بجيشان المعاني، ويهديان سالكي درب العلوم طريقًا لائحًا، لا تتخلف سننه، ولا تتشعب بسالكه موارده في الفكر والقراءة وإنتاج العلم، رُمْتُ أن أودع زبدتهما هذه المقالة، التي أروض فيها هذا اللون من الكتابة، وأسلكهما في نظم عقدها، وأنبه إلى ما يحويانه من جليل المباحث المأخوذة في طريق من يريد التجديد والتقدم في العلم، والإسهام فيه.
*
أولهما: ذلك الأصل الذي سكب فيه أبو فهر ما أملاه عليه جنانه، وأوحاه إليه خاطره، من استنطاق قصيدة "الشماخ" في قوسه، التي انتقاها من فرع ضالة، وبراها، وهذبها، وتركها عامين تتشرب ماء لحائها، وأنس بها، ثم ما إن لبث حتى شراها، وأطلق زفراته الحرى!
*
وكان ما كان من أبي فهر، وقصيدته التي قاربت الثلاثمائة، أودعها ما تصوره، ورآه في سجف الغيب من مشاهد قد أضمرت في أكنان قصيد الشماخ.
*
أما الفرع: فهو قراءة شيخنا أبي موسى لها؛ فقد رأى فيها طريقًا في القراءة جديدًا، ليس لائحًا في ظواهر المقالات، ولا تمليه أول التفاتة إلى كلامه،وإن كان بيان أبي فهر يستنطق النفس والجنان ويبعث فيه ما تطرب له النفوس مرةً، أو تشجى له تارةً، أو تتألم أخرى، أو تفرح له ساعةً، أو تبكي إثره زمنًا... لكن مضمر كلامه شريف الغاية، عزيز المطلب، لا تلجه إلا خواطر التحمت بالبيان وعالجت صنوفه زمنًا، مثل ما عالجه شيخنا أبو موسى رضي الله عنه!
*
رأى شيخنا أبو موسى فيها سبيلًا لشق طريق في قراءة تراثنا، يبعث على التقدم وإظهار الجديد من مقالات العلم، وتأصيله، واستخراج مكامنه باستنطاق خفي ما تحويه العلوم، وما أنتجته عقول أمتنا من الشعر والآداب، والأصول، والكلام، والفقه، والنحو وغير ذلك، كل ذلك محط نظر الباحث الصادق، الذي يريد أن يقدم لأمته ما تحيا به، مما بنيت عليه، ومن نفسها الحي الذي يجري في لحمها ودمها، يفتشه، ويرقبه زمنًا، ويطيل التأمل فيما وراء نثر مسائل العلوم وبناء مقالات التأسيس، من أصول منهجية وخطوط متشابكة يضم نظيرها مع أخيه، ويجمع الأليف مع الأليف، ويستلين لشاردها؛ حتى يسلمه مقاده، ثم يودع كل ذلك نفسه التي بين جنبيه، ويشربه جنانه، ثم يطلق لسانه مخرجًا من ذلك غادةً بكرًا، من بنات فكره لم تمسها يد التنقيب، ولم ترمها العيون بالنظر من قبل، وهي في ذلك ليست بعيدة الصلة عن رحمه؛ إنما هي منه وهو منها، لكن مثلما ينسل الحي من الحي كما سماه شيخنا!
*
فلنخض في كتابة شيء عن ذلك، إن كان يحسن التقرير على الحاشية التي صنعها شيخنا لقصيدة أبي فهر، كما كان يستطرف في ألوان التصنيف علماؤنا المتأخرون من أرباب الحواشي، الذين رموا بالتخلف والجمود في زماننا الغابر، الذي رأى فيهم كل نقيصة، وعابهم كل معابة حتى نشأ على ذلك جيل منزوع الإدراك، عماده التقليد، والطنطنة بمقولات مكرورة، لا يكلفون أنفسهم النظر في أصولها وما وراءها، ولا أن يهتدوا بفكرهم إلى معاناة ما تكنه هذه المذمومات من علوم، وما تخطه من طريق في العلم،وما علمت تحت سماء العلم مقالة تستحق أن ينظر إليها تذم التصنيف لمجرد شكله، وهذا شيء لا تكاد تقضي العجب منه في هذا الزمان...
*
ليس هذا طريق كلامنا؛ فحديثه ذو شجون، ينجر بنا إلى شيء طويل الذيل، شديد المأخذ في النفس مؤلمه، لا نسهب فيه في مقالة كهذه.
*
فرغت من قراءة التعليقة التي علقها شيخنا على قصيد أبي فهر،وما إن أتممت النظر فيها حتى أحسست أنه ألقمني حجرًا، وحملني عبئًا ثقيلًا ناء به كاهلي، وأثقلني حديثه هذه المرة، رغم أني أسمعه ينوح بما أودعه هنا في مجالسه لـ: "شرح الأسرار"، ويستصرخنا به، ويحث نفوسنا بكل ما حوته كلماته القليلة في هذه التعليقة.
*
إلا أن الكتابة ربما كان لها أثر آخر،وبيان الرجل حال كتابته لا نظير له، والكتابة الجادة عمل غريب عصي، تعالجه النفوس الصادقة، وتعلم ما يعتمل في الجنان والقلب والعقل ساعة بذل ما في الذهن، من معانٍ أبية، فربما كان هذا المأخذ فيها أبعث على الحث واستنطاق القلم بالبيان، وزحفه على بطون الأوراق.
*
كان ما كان، وأعدت النظر فيها، ألتمس الأصول التي ينبه فيها شيخنا على منبت العلوم، وصناعة المعرفة عند علمائنا، سائرًا على سرج وضعها أبو فهر في طريقه، وهو ينظر في خوالج الشماخ، ويستخبره عن حاله حتى أنطقه بهمهمات من البيان، لا تعطيها نظرة عجلى على قصيدته، ولا تهتدي إليها النفوس التي اطمأنت إلى ما يظهر دون كلفة أو مشقة نظر، وتركت الخفي، واستخفت بصنعة القراءة، وملأت جنانها باحتقار هذا الموروث، ورأت فيه أنه وليد عصر تولى، وذهب وراح، وما يصلح منه شيء لزماننا.
*
كانت إشارات الشيخ أبي موسى في طيات كلامه ترمي إلى النهج الذي ينبغي أن نتبعه في قراءة تراثنا، واستنطاق المعرفة منه، والاهتداء بطريق العلماء في بنائها، وكيف أن طريق الإعراض عن ذلك لا يقيم تقدمًا لأمة لا تنظر لموروثها بعين الإجلال، وتزدريه، وتجتلب لنا من إنتاج غيرنا ما لا يصلح لنا، ولا يعين على تقدمنا.
*
ورأيت كلام الشيخ على تفرقه مضموم الأجزاء، ملتحم الجسد، وهو ينثر ذلك على امتداد قراءته، يومض إيماضةً في موضع، ويسهب في موضع آخر، ويقتضب تارةً أخرى، فابتغيت أن أضم هذه الشوارد مجموعةً متآلفةً مرتبةً، بعضها إثر بعض، في نقاط تكون نظرًا مبتدأً للمستبصر، وفتحًا يكشف عنه بعض الزيف الذي تعاظم على بعض العقول، وحجبه عن الإدراك!
*
وها هي التراتيب مجموعةً مدرجةً بعضها إثر بعض:
أول الإفاقة في هذا العصر وأصل الداء:
يقول شيخنا: "وقد مضينا من أول إفاقتنا في هذا العصر على غير هذا الطريق، ولم يكن موقفنا من أعلام العلم في أمتنا موقفًا منصفًا،لم نعكف عليه عكوفًا يجعله يتوهج في ضمائرنا، ولم تتألق في سمواتنا فراقدنا، وإنما خبت وطمسناها بأيدينا.
*
تألق في سمائنا رجال آخرون، لا نحصيهم عدًّا، وحيثما قرأت لمعت كوكبة من الأسماء الأعجمية بين عينيك، وصرنا نمثل هامشًا على كتاب الحضارة الغربية المسيحية".
*
ويقول: "صارت حياتنا الفكرية في غيبة، تعاني عقمًا ظاهرًا، بل وعنوسة بغيضة شوهاء،والغريب أن هذا التراث المنطوي على عناصر، تستهدف إثارة أقدس ما في الإنسان من طاقات خلاقة ومبدعة، يوصف بالجمود، ويوصف المحافظون عليه بالجمود والتخلف، وأنهم يريدون أن يرجعوا بنا إلى الوراء "تخب بنا النجيبة والنجيب"، وأنه ترسخ في نفوسهم أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن عيونهم لا ترى أضواء العصر الباهرة....
*
إلى آخر ما تجده في كتابات تذيل أسماء كاتبيها بأنه رئيس قسم كذا في جامعة كذا،وهذا دليل قاطع على أن القيم الإبداعية في تراث هذه الأمة مطمورة، مغيبة عن عيون علمائها.
*
وليس هذا تقصيرًا فحسب، وإنما هو أمر منكَر، لا نجده إلا عندنا،وكلنا يسمع طلابه، ومحدثيه، ما يدل دلالة قاطعة على أنهم يفهمون أن الحفاوة بالتراث والعكوف عليه، يعني إلغاء الطاقات الخلاقة، والاكتفاء بالحفظ والاستيعاب....إلى آخر ما لا تجد في نفسك أمامه إلا الحيرة، والتلدد، ثم الصمت؛ لأنه جهل بألف باء حقائق التراث، وتاريخ الفكر والعلوم في أمة تمتلك تاريخها وحاضرها.
*
ومن أهم ما غرس هذا الخطأ في النفوس: ارتباط كلمات التطور والتجديد والحداثة والمعاصرة، بالأخذ عن الحضارة الغربية،وكلمة التجديد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بأمرين:
1 - الرمي في وجه القديم، بعد قتله بحثًا.
2 - إغراء العقول بالفكر الغربي، والترويج له ترويجًا ظاهرًا".
*
ويقول: "فقد نفَذَتْ هذه الأفكار، وغَزَتِ العقول والقلوب، وشكَّلت وجهة نظر جيل كامل، أصبح الآن قائمًا على أمر الفكر والأدب، في الجامعات وغيرها،وقد صحبت هذه الأفكار جلجلةٌ جهيرةٌ بأستاذية قائليها وريادتهم، وعلمهم الواسع بالتراث، وجهادهم في سبيل تجديده، ومحاماتهم الشديدة عن القديم، وغيرتهم عليه من عقلية الشيوخ! وهذا الذي يرى كأنه هدم، هو في الحقيقة تجديد لعقل الأمة ووجدانها، وتراث الأمة أيضًا، وهذه النار التي يشعلها هذا الكلام في عقل الأمة، هي النار العظيمة المقدسة، التي تجلو الجوهر، وتزيل الخبث، إلى آخر ما أحاط بنفوس المبتدئين وهيأها لهذا الفساد، فقر فيها وتأثل.
*
وبهذا ومثله - وهو كثير - ارتبط التجديد في نفوسنا، بالأخذ عن الغرب، وارتبط التراث في نفوسنا بمجافاة الجديد، ثم الإغراق في الجمود، والدوران في الدائرة المغلقة (محلك سر)".
*
أصل التقدم لا يكون إلا عن طريق النظر في موروثنا ودركه وتفهمه أولًا:
يقول شيخنا: "من الحقائق المقررة أن نهضات الأمم لا تكون إلا بعقول أبنائها، واجتهاداتهم الخلاقة، وأن تجديد العلوم والمعارف ليس له إلا طريق واحد، هو أن نُعمِلَ عقولنا في هذه العلوم والمعارف، وأن نستخرج من مضمونها المضمرات في كلماتها، أو التي هي مندسة مبهمة في نفوس كاتبها، غمغمت بها آثارهم غمغمة تائهة لا يلتقطها إلا الباحث الدرب.
*
هكذا يجب أن يكون تجديد علومنا ومعارفنا، وهكذا فعل الناس في عصرنا، وهكذا فعل سلفنا في عصورنا الأولى،ولم نعرف أمة بنَتْ حضارتها بعقول غيرها، ولا جددت معارفها بمعارف غيرها.
*
لن يكون هناك نمو إلا إذا كان الامتداد من داخل الحياة الفكرية والأدبية، يتناسل بعضه من بعض، كما يتناسل جيل من جيل،ولن يكون هناك تطور إلا إذا استخرجت هذه المرحلة مما قبلها.
*
ولن يتم هذا إلا إذا دارت عقولنا وقلوبنا في هذا الفكر الذي بين أيدينا، ودارت به وعانت تحليله، والاستنباط منه، وكانت هذه الأفكار هي مادة الدرس في حلقات العلم في كل جامعة، ومادة النظر بين يدي كل كاتب....الكل متجه إليها، متعاون في بابها، وحينئذ ينبلج نور معرفة جديدة، وتتخلق حياة فكرية وأدبية جديدة، تولد مما بين أيدينا، وتنسب إلينا، وننسب إليها، ونقدم خلالها تجربتنا وذاتنا ورسالتنا، ويقرأ الناس كفاح أفئدتنا التي تستمد مددها من نسيجنا الحضاري وتاريخنا المتميز".
*
وهذا كلام لا مزيد عليه!
النهج السديد في الاقتباس من غيرنا، وخطأ ما تنكبناه من ذلك:
يقول شيخنا: "القوس العذراء منهج وطريق في خلق حياة فكرية ثرية وخصبة، تقوم على ما بين أيدينا من تراث، وليس على الاقتباس الذي أبطل عقولنا في كل فرع من فروع المعرفة؛ حيث اتكأنا على ما كافحت في استخراجه عقول الآخرين.
*
وصار محصول ما بين أيدينا، كما وصفه الأستاذ محمود شاكر: (ترديدًا لقضايا غربية، صاغها غرباء صياغة مطابقة لمناهجهم ومنابتهم ونظراتهم في كل قضية، واختلط الحابل بالنابل....
*
قل ذلك في الأدب والفلسفة والتاريخ والفن، أو ما شئت؛ فإنه صادق صدقًا لا يتخلف: الأديب مصور بقلم غيره، والفيلسوف مفكر بعقل غيره، والمؤرخ ناقد للأحداث بنظر غريب عن تاريخه، والفنان نابض قلبه بنبض أجنبي عن تراث فنه)".
*
ويقول: "وفي الوقت الذي نقول فيه: إننا يجب أن ننتفع بتجارِب الآخرين، نغمض عيوننا عن تجربتهم الحقيقية في تأسيس نهضتهم، ونكتفي باصطناع ما أبدعوه؛ لأن ذلك أيسر السبيلين".
*
وفي هذا ينزع الشيخ إلى أصل مقالة التأسيس في العلوم عامة، وينبه بطريق الخفاء إلى أن الاحتفاء والاقتباس من الغرب ليس هو مناط الذم، إنما طريقة الاقتباس ونوعه.
*
سوء مقالة من يرى في التراث أنه غير صالح للتفكير فيه ودرسه في هذا العصر:
يقول شيخنا: "وقد أُبعد كثير من أذكيائنا عن هذا التراث، الذي غيب عنهم إبان تكوينهم، ووقر في نفوسنا أنه قديم، يرتبط مضمونه بأزمنته، وأننا حين نواجه عصرنا به كالذي يدخل ساحة الحرب متقلدًا سيفًا ورمحًا! وقالوا: إن الشعر القديم شعر عالج مشاكل جيله، وأحسن وصف النوق والأطلال، وتلك أمة قد خلت".
*
وأكبر خطأ ارتكبته هذه المقالة أنها لم تلتفت للموروث، كما التفت إليها شاكر، واستنطق من قصيدة الشماخ ما جعلها حية نابضة تخبر عن نفسها،يقول شيخنا:
"وفي هذا السياق تأتي القوس العذراء؛ لتضع منهجًا في القراءة والتمثل، والفهم، والاستخراج، ولتبعث الشماخ بن ضرار القيسي وترفعه فوق القمم العوالي في دوحة الشعر، صداحًا شجي الغناء، ثم تنطقه بالقول الفصل في قضية من أطرف القضايا".
*
خطأ مسلك من يلتمس الأصول التراثية للنظريات الغربية:
يقول شيخنا: "وهناك أسلوب شائع في تناول التراث، يصطنعه كثير من أهل العلم، وهو: أن نطالع ما عند الناس، ثم نعود إلى تراثنا نلتمس منه ما يمكن أن يكون شبيهًا بهذه الأفكار، سواء أكان الشبه مقاربًا، أم مما نتأتى له بشيء من الحيلة.
*
والمحصلة أن نقول: "إن عبدالقاهر مثلًا سبق المحدثين في القول بكذا"، و"إن سيبويه فطن إلى النظرية الفلانية"،وهذا الطريق وإن كان يرضي زهونا التاريخي، وخاصةً بعدما ألح على عقولنا القول بفساد تراثنا، حتى استيئسنا، وظننا أننا قد كذبنا حين اعتقدنا أننا أبناء أمة عريقة.
*
أقول: هذا المنهج، وإن كان يرضي غرورنا، فليس لنتائجه قيمة علمية؛ لأن العلم لا يتقدم بهذا قِيد أنملة، وإنما علينا فقط أن ننتظر حتى يقول الذين يتكئون على عقولهم كلامًا جديدًا في شأن من شؤون الفكر والأدب، ثم نخرج من الذي عندنا ما يشبهه، وكأننا نقول بلسان الحال: إذا كنا عاجزين عن أن نقول مثل ما تقولون، فقد قال آباؤنا مثله، وإن فكركم هذا الذي استبد بالعصر، مهما جدَّ فلن يقع إلا بعيدًا عن أعقاب آبائنا.
*
ثم إن ثمة شيئًا آخر يحدث في هذا الباب: هو أن الأفكار التي نقول: "عندنا مثلها"، سرعان ما ينبِذُها أصحابها، ويتجاوزونها ويأتون بشيء جديد،وهم في هذا ماضون على طريقهم من الجد والاتكاء على عقولهم، وعلينا إذًا أن نخرج الثاني من تراثنا.
*
وقد استهلكت هذه الطريقة جهودًا كثيرةً من كتاباتنا.
*
انظر إلى محاولات استخراج "التجربة الشعرية"، و"الوحدة العضوية"، وأخيرًا "البنيوية" و"الأسلوبية"،وقل أن تجد كتابًا في الأدب ونقده، لم يحاول أن يلتمس أشباهًا لهذا الفكر في تراثنا.
*
والصواب أن نستخرج من تراثنا ما تهدينا إليه عقولنا، وافَق الذي عند غيرنا أم لم يوافق،المهم أن يوافق صريح عقولنا، وأن نرضاه ونستحسنه نحن بعيوننا وعقولنا، وأن نجد فيه كفاءً لحاجتنا الفكرية والأدبية،وهذا مطلب عزيز، وإنما ينال بالصبر والمجاهدة".
*
خطر الانتزاع من مقالات الأئمة دون استتمام النظر فيها:
يقول شيخنا: "وجرثومة ذلك كله، ترجع إلى من نسميهم الكبار، ثم أخذه عنهم من غير نظر، وراج ذلك وشاع وألف رغم نكره، حتى صار أبناء هذا الجيل (يلتمسون المعابة لأسلافهم وآبائهم في خبر مطروح أو كلمة شاردة، أو ظاهرة محدودة، فيبنون عليها تعميمًا في الحكم، يتيح لأحدهم أن يسقي ما في نفسه من حب القدح والتردي في طلب المذمة، أو أن يتقلد شعار التجديد، أو الإغراب طلبًا للذكر، وحبًّا للصيت)".
*
وها هنا يضع شيخنا يده على موطن الداء الأول في ولوج هذا الطريق بالالتفات عن نهج العدل مع الأئمة، والتماس العيب لهم بالتقاط كلمة شاردة، يبني عليها حكمًا عامًّا، ينعَى به على جمعهم ولا يتحرج مع قلة نظره أن ينسبه إلى جميعهم، ويرميهم بالغفلة عنه، وطرق هؤلاء غالبها تكون مكشوفة، لائحة لكل من أنعم النظر في استقراء هذا التراث الضخم، واستبان له بلوغهم غاية الأمانة في مناقشة أقوالهم واستنباطاتهم، وعرضها على ميزان النقد.
*
والآن قد لاح لك وصف الداء، ووقفت على أول طريق لتصوره، ورميت ببصرك إلى مواقع الخلل، الذي اعترى طريق النظر في عصرنا بما لا مزيد عليه من البيان، وأدركت أنين الصرخات التي جاشت بها العبارات، تستحثك على الالتفات إلى درك هذه الحقيقة المرة، والنظر إليها بعين المتبصر، الذي يروم إماطة هذا كله من طريق أمته،ثم إن الشيخ لم يقف عند تصوير الداء فقط، بل جرت في عباراته أنوار الهدي الذي يترسمه في طريق التجديد والنهضة، ويومئ إليك بإيماءاته الجليلة التي تيسر بها عباراته، وتفخم معانيه، فأتركه يحدثك فتطرب!
♦ ♦ ♦
منزع العلوم فطري في الأساس، ودرك المعقولات واحتواؤها على وجهها إنما يكون بمقدار النزوع إلى الفطرة:
يقول أبو فهر - رحمه الله - في جمل عزيزة المقال، شريفة المأخذ:
"ولو دان الإنسان بالطاعة لفطرته المكنونة فيه منذ ولد، لأفضى إلى خبئها التليد، إذا ما استوى نبتُه واستحصد، ولصار كل عمل يتعمله تدريبًا لما استعصي منه، حتى يلين وينقاد، وتهذيبًا لما تراكم فيه حتى يرف ويتوهج،فإذا درب عليه وصبر، أزال الثرى عن نبع منبثق،فإذا ألح ولم يمل، انشقت فطرته عن فيض متدفق،ويومئذ يسفر لعينيه مدب النهج الأول، بعد دروسه وعفائه، ويستشري في بصيرته وميض الهدي المتقادم، بعد ركدته وخفائه".
*
ولقد علق شيخنا تعليقًا شريفًا، ناشئًا عن استنباطه واستنطاقه لكلام هذا الشيخ، وما زال فيه من الودائع ما يملأ أجلادًا عظيمة! لكني أوثر تعليقه فأرسله لك:
"وهذه المعاني كما ترى غريبة مستورة، لا أعرف أحدًا شق حجبها بهذا البيان، وأبرز مكنونها بهذه الدقة قبل هذه الرسالة،ومثل هذه المعاني لا تنتقص الخواطر الذكية شواردها، لا تتلبس غالبًا باللفظ المحكم والرصف المتقن؛ لأنها لما تزل نافرة عن الألفاظ،والأمر هنا على خلاف ذلك.
*
والذين يعالجون صنعة البيان يقولون: إنهم إذا أرادوا العبارة عن معانٍ مألوفة، انسالت على أسنة أقلامهم،أما إذا وقعت أفئدتهم شوارد المعاني وأوابد الخواطر والتمعت في آفاقهم سوانحها، فإنهم أحيانًا يجدون ألسنتهم فارغة من الألفاظ، وكأن اللغة طيرت منها، فإذا قاربهم قاربتهم وهي أبية أرنة".
*
وما زلت أتعجب من السيلان الذي أودعاه في عبارتيهما من البيان عن مكنون النفوس،وليس للمرء هنا غير التسبيح بالعظمة! فسبحان من أنطق هذه الألسنة!
*
إسكان الفكرة في النفس وسقيها من خلجاتها ثم إخراجها مغموسة بفكر صاحبها:
يقول الشيخ: "القوس العذراء فكر، وأدب حي جديد، وضع الشماخ نبتته، ورواها شاكر بفيض من حسه، وفكره، فأزهرت وأورقت وغَنِيت، وصارت في رياض المعرفة شجرة طيبة، أصلها ثابت، وفرعها في السماء، تؤتي أكلها...
*
وهذا ما يجب أن يكون في فروع المعرفة كلها، وليس في الأدب فحسب،يجب أن تقرأ كل أبواب العلم، الذي كتبه علماؤنا، قراءة كقراءة الأستاذ شاكر قوس الشماخ، ويجب أن نستخرج من كل باب ما استخرجه الأستاذ شاكر من قوس الشماخ، وعندئذ سوف يكون بين أيدينا علم حافل، هو علمنا وخلق عقولنا وقلوبنا".
*
أصول المعرفة ومنابتها مضمورة وساكنة في طيات كلام العلماء:
يقول الشيخ: "والعقول الكبيرة التي عانت البحث عن الحقيقة، حين تأسست العلوم تجد دائمًا في كلامها غمغمة بحقيقة بعيدة وراء الحقيقة الظاهرة، المدلول عليها في كلامهم، دلالة مباشرة،والخطأ هو الاكتفاء بهذه الحقائق الجهيرة، وإغفال تلك الحقائق المتوارية، والتي وجدوا لها في عقولهم وميضًا، فأومضت عباراتهم إيماضًا على حد ما وجدوا في نفوسهم.
*
وهذا شيء لا تخطئه العين التي طالت ممارستها لمثل كلام سيبويه، والفارسي، وابن جني، وعبدالقاهر، وغيرهم من الذين تجد ألفاظهم مكتنزة، تنبض بكثير من الحقائق،ويشير الأستاذ شاكر إلى هذه الحقيقة، فيذكر أن سعة الألفاظ واختزالها ليس في الشعر فحسب؛ وإنما يجري ذلك في كل ما تتناوله اللغة".
*
"وترى حيثما قرأت للأستاذ شاكر بين يديك غرائب من الفكر، ودقائق من النظر، ثم ما يلبث أن يُنطِقَ لك بها شاعرًا من شعرائنا، أو عالمًا من علمائنا،وحينئذ تجد لهؤلاء العلماء والشعراء، الذين يذكرون في كتبه شيئًا آخر، غير الذي تجده لهم حين يساق كلامهم وهو مقهور ذليل، يرسف في أغلال الجهل والسطحية...".
*
طريق استخراج المعرفة ومباشرة أصول العلوم:
يقول الشيخ: "وهذا لا يتأتى إلا حين تلامس قلوبنا وعقولنا أصول هذه العلوم وفروعها، ونفتش في مسائل العلم مسألة مسألة، ونقف عند كل فكرة وكل كلمة، وندير ذلك في أفئدتنا مرات ومرات؛ حتى تعود قلوبُنا منابتَ صالحةً لهذه العلوم، وكأنها تنبت فيها مرة أخرى نحس كل فكرة فيها، وكل حقيقة، ونصبر على ذلك حتى تولد الولائد في نفوسنا، فنستخرج من الفكرة فكرة، ومن الحقيقة القديمة حقيقة جديدة، هي أوسع منها وأبعد وأعمق، ولكنها منها، كما أن القوس العذراء من قوس الشماخ".
*
طريق إنتاج المعرفة والنظر فيها ليس غرضه الاستيعاب فقط:
يقول الشيخ: "علينا أن نعود إلى كلام الكبار من العلماء الأوائل، وأن نطيل النظر فيه، غير مستهدفين استيعابه فقط؛ لأن الاستيعاب وحده لا يقدم ولا يؤخر فيما نحن فيه، وإنما نستخرج خبأه، ونبعث الفكرة من وراء الفكرة، ونستل الخيوط المضمرة من غيبها، ونمدها لننسج كلامًا آخر هو منها، ولكنه غيرها!
*
وهكذا فعل الكبار...
تأمل كلام عبدالقاهر في أي باب تشاء، لا لتحصل مادته؛ فذلك شيء يجب أن نكون قد فرغنا منه، وإنما لنرقب حركة عقله وهو يكابد الإبداع وخلق الأفكار، ويعتصر ما بين يديه من حقائق سلفه ليستخرج منها رحيقًا جديدًا".
*
صفة اجتهاد الكَمَلَة من أهل العلم:
يقول الشيخ: "ونلفت هنا إلى شيء مهم، وهو أن اجتهاد أهل الاجتهاد من أئمتنا الكَمَلة - رضوان الله عليهم - لم يكن اجتهادًا في استخراج مسألة من مسألة، أو في استخراج باب من باب، وإن كان ذلك نفيسًا، وهو علينا عزيز، وإنما كان يكون اجتهادًا في استخراج علم من علم، وتلك هي الغايات التي لا يدركها إلا الأفراد".
*
مناهج العلماء ليست هي التهاون الذي نجده في الكتب التي صنفت عنهم:
يقول الشيخ: "وأقول: إن استخراج مناهج هؤلاء الأعلام ليس هو هذا التهاون الذي نجده في الكتب التي صنفت عنهم، والتي نكتب فيها فصلًا عن المنهج، ثم نكتب فيه عادة حقائق، مثل: أن هذا العالم كان ينسب الرأي إلى صاحبه، أو أنه كان لا ينسبه، أو أنه يكون بصريًّا في مسألة، أو كوفيًّا في مسألة، أو أنه من مدرسة المتأدبين، أو من مدرسة المتكلمين، وأنه كان يخرج الشعر والأحاديث، أو أنه لا يفعل ذلك...
*
إلى آخر هذه المعارف السطحية، والتي يقع عليها القارئ المبتدئ.
*
ولا بد أن يكون دارس منهج العالم من هؤلاء الأعيان قد فطن لكل كلمة قالها، ووعاها وعيًا، يستطيع به أن يقفو أثرها؛ حتى يصل بها إلى منابتها في كلام من سبقه، أو يصل بها إلى انبثاقها من نفسه، ثم يصف بدقة قصة الفكرة في عقل هذا العالم، وكيف نماها، ومن أي جهاتها جذبها حتى امتدت، وكيف مخضها حتى أخرج محضها، وغير ذلك مما تجده حيًّا واضحًا بين عينيك حين تديم النظر في كلامهم، وتعطيه حقه من العناية والصبر".
*
صفة من يقع عليه عبء القيام باستنباط هذه المناهج من علمائنا:
يقول الشيخ: "وهذا الباب الذي هو علم مناهج البحث في علوم العربية، لا يجوز أن ينتهض به المبتدئ مهما كان إخلاصه، ومهما كان جده وذكاؤه، وإنما ينهض به الشيوخ من علمائنا، الذين عكفوا الفِكَر على هذه العلوم، وانجذبت رويتهم إليها؛ لأنها ليست دراسة في كلام العلماء، وإنما هي في منابع أفكارهم بحركة عقولهم، وارتياض قلوبهم الذي ارتاضته من عصيِّه، ومعاناة أفئدتهم في اقتناص نافره، وتأليف شارده، ولا أقل من أن نحفظ لهؤلاء حرمتهم، ونبعد بهم عن اللغو اللاغب الذي ضرب على عقولنا، ولا ننتدب لدراسة هذا الجانب في تراثهم إلا مَن كان أشبه بهم هديًا وسمتًا!".
*
نماذج مشرقة من اجتهاد علمائنا في بناء المعرفة:
يقول الشيخ: "تأمل باب التقديم الذي ما برح عبدالقاهر فيه يلح على استنطاق كلمة سيبويه: (إنهم يقدمون الذي بيانه أهم، وهم بشأنه أعنى) حتى غمغمت تلك المقولة بكل ما في بحث التقديم، مما يرى في دلائل الإعجاز وكأنه على غير مثال.
*
تأمل بحث القصر الذي أسسه على محاورة ذكية مع نص نقله من الشيرازيات، وما زال يستل من هذا النص خيوطًا، ويستخرج من الخيوط خيوطًا؛ حتى قدم شيئًا جديدًا، ليس هو كلام أبي علي، وليس مقطوعًا عنه، وإنما هو متناسل منه كما يتناسل الحي من الحي.
*
وهكذا إذا تأملت كلام الشيخ مسألة مسألة، وجدتَ جذورها في كلام سلفه، وفروعها منبثقة من فؤاده.
*
ودَعْكَ من هذه الهرطقة التي تقول: إنه تلميذ لأرسطو؛ فليس لها دليل واحد لا يحتمل، وقد كان الرجل ينبه إلى مصادر معارفه، وهي على هذا الحد الذي وصفناه،وليس فيه مسألة واحدة غائمة المصادر إلا عند من لا خبرة له بالتراث الذي كان بين يدي الشيخ رحمه الله!
*
وقد عرضنا كثيرًا من مسائله، التي هي أوضح ما قالوا: إنه استلال من كهف اليونان الزاخر، وبيَّنا مصادرها بيانًا لا يلتبس.
*
ودَعْ عنك عبدالقاهر، وانظر إلى تجربة أبي الفتح، في كتاب "الخصائص"، وكيف استخرج من كلام سيبويه وأبي علي وغيرهما علمًا، ليس هو علم سيبويه ولا علم الفارسي،وإنما هو علم أبي الفتح.
*
وكما استخرج عبدالقاهر من مضابئ النحو علمًا آخر هو علم المعاني، استخرج أبو الفتح من هذه المضابئ نفسها علمًا آخر، هو علم أصول النحو، وقياس العربية،وهو عند ابن جني: (أشرف ما صنف في علم الإعراب، وأذهبه في طريق القياس والنظر... وأجمعه للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة من خصائص الحكمة، ونيطت بها من علائق الإتقان)".
*
ضرورة إشاعة هذه الروح الاجتهادية والدعوة إلى المناهج المعرفية عند علمائنا بدلًا عما يدرس في معاهدنا:
يقول شيخنا: "وتجلية روح الاجتهاد المنطوية في التراث أمر ضروري، وإشاعة هذه الروح، باعتبارها أصلًا من أصول المعرفة، أمرٌ ضروري،وليس بين المتخصصين في العلوم العربية والإسلامية فحسب، وإنما بين المشتغلين بالعلم في كل فروعه؛ لأن هذه الروح قيمة إبداعية وحضارية، لا يجوز إغفالها".
*
ويقول: "ومن العجيب أننا سكتنا سكوت من لا يعلم عن مناهج هؤلاء في الاجتهاد والاستخراج،وهي مناهج جديرة بأن تدرس ويستخرج منها، وتكون بدائل داهية لما ندرسه من منهج البحث في معاهدنا؛ لأنها تجارِب كل خطواتها بين أيدينا، ثم هي أقرب إلى عقولنا؛ لأنها مستخلصة من علومنا.
*
ومناهج البحث الحديثة لم تخصب عقولنا كما نود، ولم تحفز هممنا نحو الإبداع، والوصول إلى حقائق علمية، والذي هو المقصود أساسًا من إحكام مناهج البحث،وليس هذا قدحًا فيها، وإنما الواقع الذي نلمسه بأيدينا، ولم أعرف عقلًا ألف مضغ الحداثة والمنهج ثم انبثق عن حقيقة مفيدة".
*
وفَى امرؤٌ بما وعد!
أمَا وقد فرغ القلم من رقم هذه المهمات من كلام الشيخ منبهة على المقصود، مرتبة على الغرض الذي دبجت هذه المقالة لأجله، فبقي أن أقول: إن هذه الإنارات في طريق العلم والنظر، حقيقة بأن يتأمل في منبتها، وتستخرج منها مهماتها، ويطول النظر فيما ترومه وتبتغيه من مشمولاتها، وتقصد قبلة في أساس البحث والاستنباط، وتكون كالمقاصد العليا الشريفة، التي يرجع إليها عند التحقيق.
*
والنفوس العالية الشريفة لا تحتاج أكثر من إيماضة تفتح لها طريق النظر، ولا تلتفت إلى البسط والإسهاب، إنما تكفيها الكلمة العالية، تهديها طريقًا تؤثر الدخول فيه بعدتها، ولا تستجيز النيابة!
*
وإن يكن القلم لم ينل الكلام بالتثقيف، والبسط، والشرح، فالعذر لضيق المقالة، إلا مما لم يكن منه بد، من التنبيه، والتعجب والتصرف في الترتيب والتنظيم، والتعليق الذي لم يستطع القلم الإحجام عنده عن نفوره وجيشانه إذا لامسه البيان الحي.
*
فاللهم إن كنتُ أحسنتُ، فتقبل مني هذا خالصًا لوجهك الكريم، نافعًا لمن قرأه، وخلص نيتي من شوائب الأغراض الخسيسة، والمطامع الزائلة، ومهالك النفوس!
*
وإن كنتُ أسأتُ من حيث قصدت الإحسان، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت...سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك!
"وقد تبقى الفكرة في الكتب صامتة خرساء، وتبقى على ذلك دهورًا، حتى تلامس عقلًا حيًّا صادقًا يحمل بين جنبيه الهموم الشريفة، فيستخرج منها أزكى ما يستخرجه وأنبله".
شيخنا أبو موسى
أما قبل:
فأمامي مهامهُ موحشة قفر، يحار فيها القطا، وتحتوشها الهلكة، وتحوطها مهاوٍ من الزلل...
*
مجاهل ما إن بها من أنيس، ولا رسم دار يرى أو طلل
لا أدري ما الذي قذف بي في باديتها؟! وأي طريق سارت فيه قدماي حتى دهتني هذه الغيلة؟!
*
ما معي سقاء ولا جراب، ولا زاد، ولا راحلة أسوقها إذا تعرجت بي مفاوزها، وتناهت بي مجاهلها إلى غاية ترهبها النفوس الأبية!
مهامهُ لم تصحب بها الذئب نفسه ♦♦♦ ولا حملت فيها الغرابَ قوادمُه
*
وما معي من أخي نجدة أصحبه، ولا خل آوي إليه إلا هذه النفس التي بين جانحتي، أخالجها، وأسرها بما يعتمل في خاطري، وأسكنها خوفًا هائلًا يستبد بي، فتسكِّنني وتهدئ من رَوعي، وتستحثني على مواصلة المسير، وتشعل في جناني قوةً عزيزةً تكاد تحملني على راحلة الحزم والشجاعة والإقدام، وتلفتني عن الخنوع والخوف والإحجام!
*
فأي سيرة أعجب من سيرة هذا الراجل على قدميه في هاته القفار؟! وأي بيان أغرب من هذا الذي يروم أن يصف به ما يمور في صدره خلال هذا السير؟!
*
إنها رحلة على هولها تحفها اللذة، وتكتنفها الجرأة، وتمدها بوارق تظهر في الطريق تارةً، وتخبو تارةً أخرى...
*
فدعني أحدثك، فأسرك كلامًا من مكنونات النفوس وودائعها...
*
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله لا شريك له، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وسلم، وصلى الله على أبويه الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل، وعلى المبلِّغين رسالاته من الأنبياء والمرسلين.
*
أما بعد:
فليس حسنًا أن يقرأ المرء ما يستثير نفسه، ويستنطق بيانه، ثم يكتمه صدره، ويكنه في خلجاتها، ولا يفصح عما يعتمل فيها من أمانة البلاغ، وحمل البيان،وليس حسنًا أيضًا أن ينتبه إلى ما يراه عائقًا في طريق أمته ثم يظل رقيدًا في مربع الخمول والكسل، أو يركن إلى الدَّعة، ولا ينهض لإزالته وتنحيته من أمامها، حتى يفوت زمانه، وتقضى أيامه، ويرحل صفر اليدين لا يلوي أحد عليه.
*
وإني سايرت في ليلتي هذه أملوحتين من درر البيان، ونهجين من طرق التجديد في النظر، يستحثان الخاطر، ويلهمان النفس بجيشان المعاني، ويهديان سالكي درب العلوم طريقًا لائحًا، لا تتخلف سننه، ولا تتشعب بسالكه موارده في الفكر والقراءة وإنتاج العلم، رُمْتُ أن أودع زبدتهما هذه المقالة، التي أروض فيها هذا اللون من الكتابة، وأسلكهما في نظم عقدها، وأنبه إلى ما يحويانه من جليل المباحث المأخوذة في طريق من يريد التجديد والتقدم في العلم، والإسهام فيه.
*
أولهما: ذلك الأصل الذي سكب فيه أبو فهر ما أملاه عليه جنانه، وأوحاه إليه خاطره، من استنطاق قصيدة "الشماخ" في قوسه، التي انتقاها من فرع ضالة، وبراها، وهذبها، وتركها عامين تتشرب ماء لحائها، وأنس بها، ثم ما إن لبث حتى شراها، وأطلق زفراته الحرى!
*
وكان ما كان من أبي فهر، وقصيدته التي قاربت الثلاثمائة، أودعها ما تصوره، ورآه في سجف الغيب من مشاهد قد أضمرت في أكنان قصيد الشماخ.
*
أما الفرع: فهو قراءة شيخنا أبي موسى لها؛ فقد رأى فيها طريقًا في القراءة جديدًا، ليس لائحًا في ظواهر المقالات، ولا تمليه أول التفاتة إلى كلامه،وإن كان بيان أبي فهر يستنطق النفس والجنان ويبعث فيه ما تطرب له النفوس مرةً، أو تشجى له تارةً، أو تتألم أخرى، أو تفرح له ساعةً، أو تبكي إثره زمنًا... لكن مضمر كلامه شريف الغاية، عزيز المطلب، لا تلجه إلا خواطر التحمت بالبيان وعالجت صنوفه زمنًا، مثل ما عالجه شيخنا أبو موسى رضي الله عنه!
*
رأى شيخنا أبو موسى فيها سبيلًا لشق طريق في قراءة تراثنا، يبعث على التقدم وإظهار الجديد من مقالات العلم، وتأصيله، واستخراج مكامنه باستنطاق خفي ما تحويه العلوم، وما أنتجته عقول أمتنا من الشعر والآداب، والأصول، والكلام، والفقه، والنحو وغير ذلك، كل ذلك محط نظر الباحث الصادق، الذي يريد أن يقدم لأمته ما تحيا به، مما بنيت عليه، ومن نفسها الحي الذي يجري في لحمها ودمها، يفتشه، ويرقبه زمنًا، ويطيل التأمل فيما وراء نثر مسائل العلوم وبناء مقالات التأسيس، من أصول منهجية وخطوط متشابكة يضم نظيرها مع أخيه، ويجمع الأليف مع الأليف، ويستلين لشاردها؛ حتى يسلمه مقاده، ثم يودع كل ذلك نفسه التي بين جنبيه، ويشربه جنانه، ثم يطلق لسانه مخرجًا من ذلك غادةً بكرًا، من بنات فكره لم تمسها يد التنقيب، ولم ترمها العيون بالنظر من قبل، وهي في ذلك ليست بعيدة الصلة عن رحمه؛ إنما هي منه وهو منها، لكن مثلما ينسل الحي من الحي كما سماه شيخنا!
*
فلنخض في كتابة شيء عن ذلك، إن كان يحسن التقرير على الحاشية التي صنعها شيخنا لقصيدة أبي فهر، كما كان يستطرف في ألوان التصنيف علماؤنا المتأخرون من أرباب الحواشي، الذين رموا بالتخلف والجمود في زماننا الغابر، الذي رأى فيهم كل نقيصة، وعابهم كل معابة حتى نشأ على ذلك جيل منزوع الإدراك، عماده التقليد، والطنطنة بمقولات مكرورة، لا يكلفون أنفسهم النظر في أصولها وما وراءها، ولا أن يهتدوا بفكرهم إلى معاناة ما تكنه هذه المذمومات من علوم، وما تخطه من طريق في العلم،وما علمت تحت سماء العلم مقالة تستحق أن ينظر إليها تذم التصنيف لمجرد شكله، وهذا شيء لا تكاد تقضي العجب منه في هذا الزمان...
*
ليس هذا طريق كلامنا؛ فحديثه ذو شجون، ينجر بنا إلى شيء طويل الذيل، شديد المأخذ في النفس مؤلمه، لا نسهب فيه في مقالة كهذه.
*
فرغت من قراءة التعليقة التي علقها شيخنا على قصيد أبي فهر،وما إن أتممت النظر فيها حتى أحسست أنه ألقمني حجرًا، وحملني عبئًا ثقيلًا ناء به كاهلي، وأثقلني حديثه هذه المرة، رغم أني أسمعه ينوح بما أودعه هنا في مجالسه لـ: "شرح الأسرار"، ويستصرخنا به، ويحث نفوسنا بكل ما حوته كلماته القليلة في هذه التعليقة.
*
إلا أن الكتابة ربما كان لها أثر آخر،وبيان الرجل حال كتابته لا نظير له، والكتابة الجادة عمل غريب عصي، تعالجه النفوس الصادقة، وتعلم ما يعتمل في الجنان والقلب والعقل ساعة بذل ما في الذهن، من معانٍ أبية، فربما كان هذا المأخذ فيها أبعث على الحث واستنطاق القلم بالبيان، وزحفه على بطون الأوراق.
*
كان ما كان، وأعدت النظر فيها، ألتمس الأصول التي ينبه فيها شيخنا على منبت العلوم، وصناعة المعرفة عند علمائنا، سائرًا على سرج وضعها أبو فهر في طريقه، وهو ينظر في خوالج الشماخ، ويستخبره عن حاله حتى أنطقه بهمهمات من البيان، لا تعطيها نظرة عجلى على قصيدته، ولا تهتدي إليها النفوس التي اطمأنت إلى ما يظهر دون كلفة أو مشقة نظر، وتركت الخفي، واستخفت بصنعة القراءة، وملأت جنانها باحتقار هذا الموروث، ورأت فيه أنه وليد عصر تولى، وذهب وراح، وما يصلح منه شيء لزماننا.
*
كانت إشارات الشيخ أبي موسى في طيات كلامه ترمي إلى النهج الذي ينبغي أن نتبعه في قراءة تراثنا، واستنطاق المعرفة منه، والاهتداء بطريق العلماء في بنائها، وكيف أن طريق الإعراض عن ذلك لا يقيم تقدمًا لأمة لا تنظر لموروثها بعين الإجلال، وتزدريه، وتجتلب لنا من إنتاج غيرنا ما لا يصلح لنا، ولا يعين على تقدمنا.
*
ورأيت كلام الشيخ على تفرقه مضموم الأجزاء، ملتحم الجسد، وهو ينثر ذلك على امتداد قراءته، يومض إيماضةً في موضع، ويسهب في موضع آخر، ويقتضب تارةً أخرى، فابتغيت أن أضم هذه الشوارد مجموعةً متآلفةً مرتبةً، بعضها إثر بعض، في نقاط تكون نظرًا مبتدأً للمستبصر، وفتحًا يكشف عنه بعض الزيف الذي تعاظم على بعض العقول، وحجبه عن الإدراك!
*
وها هي التراتيب مجموعةً مدرجةً بعضها إثر بعض:
أول الإفاقة في هذا العصر وأصل الداء:
يقول شيخنا: "وقد مضينا من أول إفاقتنا في هذا العصر على غير هذا الطريق، ولم يكن موقفنا من أعلام العلم في أمتنا موقفًا منصفًا،لم نعكف عليه عكوفًا يجعله يتوهج في ضمائرنا، ولم تتألق في سمواتنا فراقدنا، وإنما خبت وطمسناها بأيدينا.
*
تألق في سمائنا رجال آخرون، لا نحصيهم عدًّا، وحيثما قرأت لمعت كوكبة من الأسماء الأعجمية بين عينيك، وصرنا نمثل هامشًا على كتاب الحضارة الغربية المسيحية".
*
ويقول: "صارت حياتنا الفكرية في غيبة، تعاني عقمًا ظاهرًا، بل وعنوسة بغيضة شوهاء،والغريب أن هذا التراث المنطوي على عناصر، تستهدف إثارة أقدس ما في الإنسان من طاقات خلاقة ومبدعة، يوصف بالجمود، ويوصف المحافظون عليه بالجمود والتخلف، وأنهم يريدون أن يرجعوا بنا إلى الوراء "تخب بنا النجيبة والنجيب"، وأنه ترسخ في نفوسهم أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن عيونهم لا ترى أضواء العصر الباهرة....
*
إلى آخر ما تجده في كتابات تذيل أسماء كاتبيها بأنه رئيس قسم كذا في جامعة كذا،وهذا دليل قاطع على أن القيم الإبداعية في تراث هذه الأمة مطمورة، مغيبة عن عيون علمائها.
*
وليس هذا تقصيرًا فحسب، وإنما هو أمر منكَر، لا نجده إلا عندنا،وكلنا يسمع طلابه، ومحدثيه، ما يدل دلالة قاطعة على أنهم يفهمون أن الحفاوة بالتراث والعكوف عليه، يعني إلغاء الطاقات الخلاقة، والاكتفاء بالحفظ والاستيعاب....إلى آخر ما لا تجد في نفسك أمامه إلا الحيرة، والتلدد، ثم الصمت؛ لأنه جهل بألف باء حقائق التراث، وتاريخ الفكر والعلوم في أمة تمتلك تاريخها وحاضرها.
*
ومن أهم ما غرس هذا الخطأ في النفوس: ارتباط كلمات التطور والتجديد والحداثة والمعاصرة، بالأخذ عن الحضارة الغربية،وكلمة التجديد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بأمرين:
1 - الرمي في وجه القديم، بعد قتله بحثًا.
2 - إغراء العقول بالفكر الغربي، والترويج له ترويجًا ظاهرًا".
*
ويقول: "فقد نفَذَتْ هذه الأفكار، وغَزَتِ العقول والقلوب، وشكَّلت وجهة نظر جيل كامل، أصبح الآن قائمًا على أمر الفكر والأدب، في الجامعات وغيرها،وقد صحبت هذه الأفكار جلجلةٌ جهيرةٌ بأستاذية قائليها وريادتهم، وعلمهم الواسع بالتراث، وجهادهم في سبيل تجديده، ومحاماتهم الشديدة عن القديم، وغيرتهم عليه من عقلية الشيوخ! وهذا الذي يرى كأنه هدم، هو في الحقيقة تجديد لعقل الأمة ووجدانها، وتراث الأمة أيضًا، وهذه النار التي يشعلها هذا الكلام في عقل الأمة، هي النار العظيمة المقدسة، التي تجلو الجوهر، وتزيل الخبث، إلى آخر ما أحاط بنفوس المبتدئين وهيأها لهذا الفساد، فقر فيها وتأثل.
*
وبهذا ومثله - وهو كثير - ارتبط التجديد في نفوسنا، بالأخذ عن الغرب، وارتبط التراث في نفوسنا بمجافاة الجديد، ثم الإغراق في الجمود، والدوران في الدائرة المغلقة (محلك سر)".
*
أصل التقدم لا يكون إلا عن طريق النظر في موروثنا ودركه وتفهمه أولًا:
يقول شيخنا: "من الحقائق المقررة أن نهضات الأمم لا تكون إلا بعقول أبنائها، واجتهاداتهم الخلاقة، وأن تجديد العلوم والمعارف ليس له إلا طريق واحد، هو أن نُعمِلَ عقولنا في هذه العلوم والمعارف، وأن نستخرج من مضمونها المضمرات في كلماتها، أو التي هي مندسة مبهمة في نفوس كاتبها، غمغمت بها آثارهم غمغمة تائهة لا يلتقطها إلا الباحث الدرب.
*
هكذا يجب أن يكون تجديد علومنا ومعارفنا، وهكذا فعل الناس في عصرنا، وهكذا فعل سلفنا في عصورنا الأولى،ولم نعرف أمة بنَتْ حضارتها بعقول غيرها، ولا جددت معارفها بمعارف غيرها.
*
لن يكون هناك نمو إلا إذا كان الامتداد من داخل الحياة الفكرية والأدبية، يتناسل بعضه من بعض، كما يتناسل جيل من جيل،ولن يكون هناك تطور إلا إذا استخرجت هذه المرحلة مما قبلها.
*
ولن يتم هذا إلا إذا دارت عقولنا وقلوبنا في هذا الفكر الذي بين أيدينا، ودارت به وعانت تحليله، والاستنباط منه، وكانت هذه الأفكار هي مادة الدرس في حلقات العلم في كل جامعة، ومادة النظر بين يدي كل كاتب....الكل متجه إليها، متعاون في بابها، وحينئذ ينبلج نور معرفة جديدة، وتتخلق حياة فكرية وأدبية جديدة، تولد مما بين أيدينا، وتنسب إلينا، وننسب إليها، ونقدم خلالها تجربتنا وذاتنا ورسالتنا، ويقرأ الناس كفاح أفئدتنا التي تستمد مددها من نسيجنا الحضاري وتاريخنا المتميز".
*
وهذا كلام لا مزيد عليه!
النهج السديد في الاقتباس من غيرنا، وخطأ ما تنكبناه من ذلك:
يقول شيخنا: "القوس العذراء منهج وطريق في خلق حياة فكرية ثرية وخصبة، تقوم على ما بين أيدينا من تراث، وليس على الاقتباس الذي أبطل عقولنا في كل فرع من فروع المعرفة؛ حيث اتكأنا على ما كافحت في استخراجه عقول الآخرين.
*
وصار محصول ما بين أيدينا، كما وصفه الأستاذ محمود شاكر: (ترديدًا لقضايا غربية، صاغها غرباء صياغة مطابقة لمناهجهم ومنابتهم ونظراتهم في كل قضية، واختلط الحابل بالنابل....
*
قل ذلك في الأدب والفلسفة والتاريخ والفن، أو ما شئت؛ فإنه صادق صدقًا لا يتخلف: الأديب مصور بقلم غيره، والفيلسوف مفكر بعقل غيره، والمؤرخ ناقد للأحداث بنظر غريب عن تاريخه، والفنان نابض قلبه بنبض أجنبي عن تراث فنه)".
*
ويقول: "وفي الوقت الذي نقول فيه: إننا يجب أن ننتفع بتجارِب الآخرين، نغمض عيوننا عن تجربتهم الحقيقية في تأسيس نهضتهم، ونكتفي باصطناع ما أبدعوه؛ لأن ذلك أيسر السبيلين".
*
وفي هذا ينزع الشيخ إلى أصل مقالة التأسيس في العلوم عامة، وينبه بطريق الخفاء إلى أن الاحتفاء والاقتباس من الغرب ليس هو مناط الذم، إنما طريقة الاقتباس ونوعه.
*
سوء مقالة من يرى في التراث أنه غير صالح للتفكير فيه ودرسه في هذا العصر:
يقول شيخنا: "وقد أُبعد كثير من أذكيائنا عن هذا التراث، الذي غيب عنهم إبان تكوينهم، ووقر في نفوسنا أنه قديم، يرتبط مضمونه بأزمنته، وأننا حين نواجه عصرنا به كالذي يدخل ساحة الحرب متقلدًا سيفًا ورمحًا! وقالوا: إن الشعر القديم شعر عالج مشاكل جيله، وأحسن وصف النوق والأطلال، وتلك أمة قد خلت".
*
وأكبر خطأ ارتكبته هذه المقالة أنها لم تلتفت للموروث، كما التفت إليها شاكر، واستنطق من قصيدة الشماخ ما جعلها حية نابضة تخبر عن نفسها،يقول شيخنا:
"وفي هذا السياق تأتي القوس العذراء؛ لتضع منهجًا في القراءة والتمثل، والفهم، والاستخراج، ولتبعث الشماخ بن ضرار القيسي وترفعه فوق القمم العوالي في دوحة الشعر، صداحًا شجي الغناء، ثم تنطقه بالقول الفصل في قضية من أطرف القضايا".
*
خطأ مسلك من يلتمس الأصول التراثية للنظريات الغربية:
يقول شيخنا: "وهناك أسلوب شائع في تناول التراث، يصطنعه كثير من أهل العلم، وهو: أن نطالع ما عند الناس، ثم نعود إلى تراثنا نلتمس منه ما يمكن أن يكون شبيهًا بهذه الأفكار، سواء أكان الشبه مقاربًا، أم مما نتأتى له بشيء من الحيلة.
*
والمحصلة أن نقول: "إن عبدالقاهر مثلًا سبق المحدثين في القول بكذا"، و"إن سيبويه فطن إلى النظرية الفلانية"،وهذا الطريق وإن كان يرضي زهونا التاريخي، وخاصةً بعدما ألح على عقولنا القول بفساد تراثنا، حتى استيئسنا، وظننا أننا قد كذبنا حين اعتقدنا أننا أبناء أمة عريقة.
*
أقول: هذا المنهج، وإن كان يرضي غرورنا، فليس لنتائجه قيمة علمية؛ لأن العلم لا يتقدم بهذا قِيد أنملة، وإنما علينا فقط أن ننتظر حتى يقول الذين يتكئون على عقولهم كلامًا جديدًا في شأن من شؤون الفكر والأدب، ثم نخرج من الذي عندنا ما يشبهه، وكأننا نقول بلسان الحال: إذا كنا عاجزين عن أن نقول مثل ما تقولون، فقد قال آباؤنا مثله، وإن فكركم هذا الذي استبد بالعصر، مهما جدَّ فلن يقع إلا بعيدًا عن أعقاب آبائنا.
*
ثم إن ثمة شيئًا آخر يحدث في هذا الباب: هو أن الأفكار التي نقول: "عندنا مثلها"، سرعان ما ينبِذُها أصحابها، ويتجاوزونها ويأتون بشيء جديد،وهم في هذا ماضون على طريقهم من الجد والاتكاء على عقولهم، وعلينا إذًا أن نخرج الثاني من تراثنا.
*
وقد استهلكت هذه الطريقة جهودًا كثيرةً من كتاباتنا.
*
انظر إلى محاولات استخراج "التجربة الشعرية"، و"الوحدة العضوية"، وأخيرًا "البنيوية" و"الأسلوبية"،وقل أن تجد كتابًا في الأدب ونقده، لم يحاول أن يلتمس أشباهًا لهذا الفكر في تراثنا.
*
والصواب أن نستخرج من تراثنا ما تهدينا إليه عقولنا، وافَق الذي عند غيرنا أم لم يوافق،المهم أن يوافق صريح عقولنا، وأن نرضاه ونستحسنه نحن بعيوننا وعقولنا، وأن نجد فيه كفاءً لحاجتنا الفكرية والأدبية،وهذا مطلب عزيز، وإنما ينال بالصبر والمجاهدة".
*
خطر الانتزاع من مقالات الأئمة دون استتمام النظر فيها:
يقول شيخنا: "وجرثومة ذلك كله، ترجع إلى من نسميهم الكبار، ثم أخذه عنهم من غير نظر، وراج ذلك وشاع وألف رغم نكره، حتى صار أبناء هذا الجيل (يلتمسون المعابة لأسلافهم وآبائهم في خبر مطروح أو كلمة شاردة، أو ظاهرة محدودة، فيبنون عليها تعميمًا في الحكم، يتيح لأحدهم أن يسقي ما في نفسه من حب القدح والتردي في طلب المذمة، أو أن يتقلد شعار التجديد، أو الإغراب طلبًا للذكر، وحبًّا للصيت)".
*
وها هنا يضع شيخنا يده على موطن الداء الأول في ولوج هذا الطريق بالالتفات عن نهج العدل مع الأئمة، والتماس العيب لهم بالتقاط كلمة شاردة، يبني عليها حكمًا عامًّا، ينعَى به على جمعهم ولا يتحرج مع قلة نظره أن ينسبه إلى جميعهم، ويرميهم بالغفلة عنه، وطرق هؤلاء غالبها تكون مكشوفة، لائحة لكل من أنعم النظر في استقراء هذا التراث الضخم، واستبان له بلوغهم غاية الأمانة في مناقشة أقوالهم واستنباطاتهم، وعرضها على ميزان النقد.
*
والآن قد لاح لك وصف الداء، ووقفت على أول طريق لتصوره، ورميت ببصرك إلى مواقع الخلل، الذي اعترى طريق النظر في عصرنا بما لا مزيد عليه من البيان، وأدركت أنين الصرخات التي جاشت بها العبارات، تستحثك على الالتفات إلى درك هذه الحقيقة المرة، والنظر إليها بعين المتبصر، الذي يروم إماطة هذا كله من طريق أمته،ثم إن الشيخ لم يقف عند تصوير الداء فقط، بل جرت في عباراته أنوار الهدي الذي يترسمه في طريق التجديد والنهضة، ويومئ إليك بإيماءاته الجليلة التي تيسر بها عباراته، وتفخم معانيه، فأتركه يحدثك فتطرب!
♦ ♦ ♦
منزع العلوم فطري في الأساس، ودرك المعقولات واحتواؤها على وجهها إنما يكون بمقدار النزوع إلى الفطرة:
يقول أبو فهر - رحمه الله - في جمل عزيزة المقال، شريفة المأخذ:
"ولو دان الإنسان بالطاعة لفطرته المكنونة فيه منذ ولد، لأفضى إلى خبئها التليد، إذا ما استوى نبتُه واستحصد، ولصار كل عمل يتعمله تدريبًا لما استعصي منه، حتى يلين وينقاد، وتهذيبًا لما تراكم فيه حتى يرف ويتوهج،فإذا درب عليه وصبر، أزال الثرى عن نبع منبثق،فإذا ألح ولم يمل، انشقت فطرته عن فيض متدفق،ويومئذ يسفر لعينيه مدب النهج الأول، بعد دروسه وعفائه، ويستشري في بصيرته وميض الهدي المتقادم، بعد ركدته وخفائه".
*
ولقد علق شيخنا تعليقًا شريفًا، ناشئًا عن استنباطه واستنطاقه لكلام هذا الشيخ، وما زال فيه من الودائع ما يملأ أجلادًا عظيمة! لكني أوثر تعليقه فأرسله لك:
"وهذه المعاني كما ترى غريبة مستورة، لا أعرف أحدًا شق حجبها بهذا البيان، وأبرز مكنونها بهذه الدقة قبل هذه الرسالة،ومثل هذه المعاني لا تنتقص الخواطر الذكية شواردها، لا تتلبس غالبًا باللفظ المحكم والرصف المتقن؛ لأنها لما تزل نافرة عن الألفاظ،والأمر هنا على خلاف ذلك.
*
والذين يعالجون صنعة البيان يقولون: إنهم إذا أرادوا العبارة عن معانٍ مألوفة، انسالت على أسنة أقلامهم،أما إذا وقعت أفئدتهم شوارد المعاني وأوابد الخواطر والتمعت في آفاقهم سوانحها، فإنهم أحيانًا يجدون ألسنتهم فارغة من الألفاظ، وكأن اللغة طيرت منها، فإذا قاربهم قاربتهم وهي أبية أرنة".
*
وما زلت أتعجب من السيلان الذي أودعاه في عبارتيهما من البيان عن مكنون النفوس،وليس للمرء هنا غير التسبيح بالعظمة! فسبحان من أنطق هذه الألسنة!
*
إسكان الفكرة في النفس وسقيها من خلجاتها ثم إخراجها مغموسة بفكر صاحبها:
يقول الشيخ: "القوس العذراء فكر، وأدب حي جديد، وضع الشماخ نبتته، ورواها شاكر بفيض من حسه، وفكره، فأزهرت وأورقت وغَنِيت، وصارت في رياض المعرفة شجرة طيبة، أصلها ثابت، وفرعها في السماء، تؤتي أكلها...
*
وهذا ما يجب أن يكون في فروع المعرفة كلها، وليس في الأدب فحسب،يجب أن تقرأ كل أبواب العلم، الذي كتبه علماؤنا، قراءة كقراءة الأستاذ شاكر قوس الشماخ، ويجب أن نستخرج من كل باب ما استخرجه الأستاذ شاكر من قوس الشماخ، وعندئذ سوف يكون بين أيدينا علم حافل، هو علمنا وخلق عقولنا وقلوبنا".
*
أصول المعرفة ومنابتها مضمورة وساكنة في طيات كلام العلماء:
يقول الشيخ: "والعقول الكبيرة التي عانت البحث عن الحقيقة، حين تأسست العلوم تجد دائمًا في كلامها غمغمة بحقيقة بعيدة وراء الحقيقة الظاهرة، المدلول عليها في كلامهم، دلالة مباشرة،والخطأ هو الاكتفاء بهذه الحقائق الجهيرة، وإغفال تلك الحقائق المتوارية، والتي وجدوا لها في عقولهم وميضًا، فأومضت عباراتهم إيماضًا على حد ما وجدوا في نفوسهم.
*
وهذا شيء لا تخطئه العين التي طالت ممارستها لمثل كلام سيبويه، والفارسي، وابن جني، وعبدالقاهر، وغيرهم من الذين تجد ألفاظهم مكتنزة، تنبض بكثير من الحقائق،ويشير الأستاذ شاكر إلى هذه الحقيقة، فيذكر أن سعة الألفاظ واختزالها ليس في الشعر فحسب؛ وإنما يجري ذلك في كل ما تتناوله اللغة".
*
"وترى حيثما قرأت للأستاذ شاكر بين يديك غرائب من الفكر، ودقائق من النظر، ثم ما يلبث أن يُنطِقَ لك بها شاعرًا من شعرائنا، أو عالمًا من علمائنا،وحينئذ تجد لهؤلاء العلماء والشعراء، الذين يذكرون في كتبه شيئًا آخر، غير الذي تجده لهم حين يساق كلامهم وهو مقهور ذليل، يرسف في أغلال الجهل والسطحية...".
*
طريق استخراج المعرفة ومباشرة أصول العلوم:
يقول الشيخ: "وهذا لا يتأتى إلا حين تلامس قلوبنا وعقولنا أصول هذه العلوم وفروعها، ونفتش في مسائل العلم مسألة مسألة، ونقف عند كل فكرة وكل كلمة، وندير ذلك في أفئدتنا مرات ومرات؛ حتى تعود قلوبُنا منابتَ صالحةً لهذه العلوم، وكأنها تنبت فيها مرة أخرى نحس كل فكرة فيها، وكل حقيقة، ونصبر على ذلك حتى تولد الولائد في نفوسنا، فنستخرج من الفكرة فكرة، ومن الحقيقة القديمة حقيقة جديدة، هي أوسع منها وأبعد وأعمق، ولكنها منها، كما أن القوس العذراء من قوس الشماخ".
*
طريق إنتاج المعرفة والنظر فيها ليس غرضه الاستيعاب فقط:
يقول الشيخ: "علينا أن نعود إلى كلام الكبار من العلماء الأوائل، وأن نطيل النظر فيه، غير مستهدفين استيعابه فقط؛ لأن الاستيعاب وحده لا يقدم ولا يؤخر فيما نحن فيه، وإنما نستخرج خبأه، ونبعث الفكرة من وراء الفكرة، ونستل الخيوط المضمرة من غيبها، ونمدها لننسج كلامًا آخر هو منها، ولكنه غيرها!
*
وهكذا فعل الكبار...
تأمل كلام عبدالقاهر في أي باب تشاء، لا لتحصل مادته؛ فذلك شيء يجب أن نكون قد فرغنا منه، وإنما لنرقب حركة عقله وهو يكابد الإبداع وخلق الأفكار، ويعتصر ما بين يديه من حقائق سلفه ليستخرج منها رحيقًا جديدًا".
*
صفة اجتهاد الكَمَلَة من أهل العلم:
يقول الشيخ: "ونلفت هنا إلى شيء مهم، وهو أن اجتهاد أهل الاجتهاد من أئمتنا الكَمَلة - رضوان الله عليهم - لم يكن اجتهادًا في استخراج مسألة من مسألة، أو في استخراج باب من باب، وإن كان ذلك نفيسًا، وهو علينا عزيز، وإنما كان يكون اجتهادًا في استخراج علم من علم، وتلك هي الغايات التي لا يدركها إلا الأفراد".
*
مناهج العلماء ليست هي التهاون الذي نجده في الكتب التي صنفت عنهم:
يقول الشيخ: "وأقول: إن استخراج مناهج هؤلاء الأعلام ليس هو هذا التهاون الذي نجده في الكتب التي صنفت عنهم، والتي نكتب فيها فصلًا عن المنهج، ثم نكتب فيه عادة حقائق، مثل: أن هذا العالم كان ينسب الرأي إلى صاحبه، أو أنه كان لا ينسبه، أو أنه يكون بصريًّا في مسألة، أو كوفيًّا في مسألة، أو أنه من مدرسة المتأدبين، أو من مدرسة المتكلمين، وأنه كان يخرج الشعر والأحاديث، أو أنه لا يفعل ذلك...
*
إلى آخر هذه المعارف السطحية، والتي يقع عليها القارئ المبتدئ.
*
ولا بد أن يكون دارس منهج العالم من هؤلاء الأعيان قد فطن لكل كلمة قالها، ووعاها وعيًا، يستطيع به أن يقفو أثرها؛ حتى يصل بها إلى منابتها في كلام من سبقه، أو يصل بها إلى انبثاقها من نفسه، ثم يصف بدقة قصة الفكرة في عقل هذا العالم، وكيف نماها، ومن أي جهاتها جذبها حتى امتدت، وكيف مخضها حتى أخرج محضها، وغير ذلك مما تجده حيًّا واضحًا بين عينيك حين تديم النظر في كلامهم، وتعطيه حقه من العناية والصبر".
*
صفة من يقع عليه عبء القيام باستنباط هذه المناهج من علمائنا:
يقول الشيخ: "وهذا الباب الذي هو علم مناهج البحث في علوم العربية، لا يجوز أن ينتهض به المبتدئ مهما كان إخلاصه، ومهما كان جده وذكاؤه، وإنما ينهض به الشيوخ من علمائنا، الذين عكفوا الفِكَر على هذه العلوم، وانجذبت رويتهم إليها؛ لأنها ليست دراسة في كلام العلماء، وإنما هي في منابع أفكارهم بحركة عقولهم، وارتياض قلوبهم الذي ارتاضته من عصيِّه، ومعاناة أفئدتهم في اقتناص نافره، وتأليف شارده، ولا أقل من أن نحفظ لهؤلاء حرمتهم، ونبعد بهم عن اللغو اللاغب الذي ضرب على عقولنا، ولا ننتدب لدراسة هذا الجانب في تراثهم إلا مَن كان أشبه بهم هديًا وسمتًا!".
*
نماذج مشرقة من اجتهاد علمائنا في بناء المعرفة:
يقول الشيخ: "تأمل باب التقديم الذي ما برح عبدالقاهر فيه يلح على استنطاق كلمة سيبويه: (إنهم يقدمون الذي بيانه أهم، وهم بشأنه أعنى) حتى غمغمت تلك المقولة بكل ما في بحث التقديم، مما يرى في دلائل الإعجاز وكأنه على غير مثال.
*
تأمل بحث القصر الذي أسسه على محاورة ذكية مع نص نقله من الشيرازيات، وما زال يستل من هذا النص خيوطًا، ويستخرج من الخيوط خيوطًا؛ حتى قدم شيئًا جديدًا، ليس هو كلام أبي علي، وليس مقطوعًا عنه، وإنما هو متناسل منه كما يتناسل الحي من الحي.
*
وهكذا إذا تأملت كلام الشيخ مسألة مسألة، وجدتَ جذورها في كلام سلفه، وفروعها منبثقة من فؤاده.
*
ودَعْكَ من هذه الهرطقة التي تقول: إنه تلميذ لأرسطو؛ فليس لها دليل واحد لا يحتمل، وقد كان الرجل ينبه إلى مصادر معارفه، وهي على هذا الحد الذي وصفناه،وليس فيه مسألة واحدة غائمة المصادر إلا عند من لا خبرة له بالتراث الذي كان بين يدي الشيخ رحمه الله!
*
وقد عرضنا كثيرًا من مسائله، التي هي أوضح ما قالوا: إنه استلال من كهف اليونان الزاخر، وبيَّنا مصادرها بيانًا لا يلتبس.
*
ودَعْ عنك عبدالقاهر، وانظر إلى تجربة أبي الفتح، في كتاب "الخصائص"، وكيف استخرج من كلام سيبويه وأبي علي وغيرهما علمًا، ليس هو علم سيبويه ولا علم الفارسي،وإنما هو علم أبي الفتح.
*
وكما استخرج عبدالقاهر من مضابئ النحو علمًا آخر هو علم المعاني، استخرج أبو الفتح من هذه المضابئ نفسها علمًا آخر، هو علم أصول النحو، وقياس العربية،وهو عند ابن جني: (أشرف ما صنف في علم الإعراب، وأذهبه في طريق القياس والنظر... وأجمعه للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة من خصائص الحكمة، ونيطت بها من علائق الإتقان)".
*
ضرورة إشاعة هذه الروح الاجتهادية والدعوة إلى المناهج المعرفية عند علمائنا بدلًا عما يدرس في معاهدنا:
يقول شيخنا: "وتجلية روح الاجتهاد المنطوية في التراث أمر ضروري، وإشاعة هذه الروح، باعتبارها أصلًا من أصول المعرفة، أمرٌ ضروري،وليس بين المتخصصين في العلوم العربية والإسلامية فحسب، وإنما بين المشتغلين بالعلم في كل فروعه؛ لأن هذه الروح قيمة إبداعية وحضارية، لا يجوز إغفالها".
*
ويقول: "ومن العجيب أننا سكتنا سكوت من لا يعلم عن مناهج هؤلاء في الاجتهاد والاستخراج،وهي مناهج جديرة بأن تدرس ويستخرج منها، وتكون بدائل داهية لما ندرسه من منهج البحث في معاهدنا؛ لأنها تجارِب كل خطواتها بين أيدينا، ثم هي أقرب إلى عقولنا؛ لأنها مستخلصة من علومنا.
*
ومناهج البحث الحديثة لم تخصب عقولنا كما نود، ولم تحفز هممنا نحو الإبداع، والوصول إلى حقائق علمية، والذي هو المقصود أساسًا من إحكام مناهج البحث،وليس هذا قدحًا فيها، وإنما الواقع الذي نلمسه بأيدينا، ولم أعرف عقلًا ألف مضغ الحداثة والمنهج ثم انبثق عن حقيقة مفيدة".
*
وفَى امرؤٌ بما وعد!
أمَا وقد فرغ القلم من رقم هذه المهمات من كلام الشيخ منبهة على المقصود، مرتبة على الغرض الذي دبجت هذه المقالة لأجله، فبقي أن أقول: إن هذه الإنارات في طريق العلم والنظر، حقيقة بأن يتأمل في منبتها، وتستخرج منها مهماتها، ويطول النظر فيما ترومه وتبتغيه من مشمولاتها، وتقصد قبلة في أساس البحث والاستنباط، وتكون كالمقاصد العليا الشريفة، التي يرجع إليها عند التحقيق.
*
والنفوس العالية الشريفة لا تحتاج أكثر من إيماضة تفتح لها طريق النظر، ولا تلتفت إلى البسط والإسهاب، إنما تكفيها الكلمة العالية، تهديها طريقًا تؤثر الدخول فيه بعدتها، ولا تستجيز النيابة!
*
وإن يكن القلم لم ينل الكلام بالتثقيف، والبسط، والشرح، فالعذر لضيق المقالة، إلا مما لم يكن منه بد، من التنبيه، والتعجب والتصرف في الترتيب والتنظيم، والتعليق الذي لم يستطع القلم الإحجام عنده عن نفوره وجيشانه إذا لامسه البيان الحي.
*
فاللهم إن كنتُ أحسنتُ، فتقبل مني هذا خالصًا لوجهك الكريم، نافعًا لمن قرأه، وخلص نيتي من شوائب الأغراض الخسيسة، والمطامع الزائلة، ومهالك النفوس!
*
وإن كنتُ أسأتُ من حيث قصدت الإحسان، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت...سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك!