فريق منتدى الدي في دي العربي
05-05-2016, 07:05 AM
حماتي أرنبة ولود (قصة)
نادية كيلاني
كنتُ أعرفها من قبل بحكم القرابة.. لكن بعد زواجي عرفتُها عن قرب، لم تكن تلك المرأةَ البدينة كبيرة العائلة التي أراها كلَّما ذهبتُ إلى البلد في الإجازات الصيفية، صاعدة نازلة، رائحة غادية، توزِّع أوامرَها وملاحظاتِها، والبيت خليَّة نحل لتنفيذ المطلوب والتسابق لنيل رضاها، وكنتُ أراها ذاهبة تتوضَّأ عائدة لتصلِّي في صحن الدار؛ فالكلُّ محارمها.
الآن كبرَت سنُّها وقلَّت حركتها، فجلست متربعة فوق الفرن إذا كان باردًا، وأمامه إذا كان ملتهبًا؛ وجلوسها كان جلوسًا مثمرًا، لا عَجزًا، كانت تطبخ وهي متربعة في مكانها، والصغار كثيرون يلبُّون لها طلباتها ويأتون لها بما تريد، تُنزل (حلَّة الأرز) من على النار، تضعها يمينَها، بعد قليل تأتي أرنبة بعينها تزيح (غطاء الحلَّة) برأسها وتأكل من الأرز المطبوخ لتوِّه، وحماتي لا تهشُّها، وإذا دخلت إحدى زوجات ابنها وشاهدت المنظر، لا تستغربه ولا تعترض عليه، أمَّا اندهاشي أنا، فلأنني ضيفة لا أعرف طقوس هذه الأرنبة:
♦ (الحقي يا نينة الأرنبة).
♦ دعيها، (الحلَّة) لن تنقص.
أسأل:
♦ ما قصَّة هذه الأرنبة؟
تطوعَت إحداهنَّ:
♦ هذه الأرنبة غالية جدًّا على حماتك، والحقيقة: إنَّها أرنبة يثمر فيها الخير؛ فهي ولود ودود، في كلِّ شهر تلد عددًا كبيرًا من الأرانب تفرِّقه علينا.
أعجبتُ أنا الأخرى بتلك الأرنبة بسبب الوفاء والود الذي يكنُّه لها كلُّ أهل الدار.
والدار التي تضمُّ حماتي بأولادها، تقع بجوار دار (سلفتها)، بأولادها؛ أي: إنَّ الدار كانت للأب الكبير وآلَت إلى الأخوين بالمناصفة، فاقتسماها بجدار، لكن الجدار لم يمنع الذهاب والإياب من هنا وهناك بين الدارين، وهذان الأخوان ليسا فقط شركاء في الدار، ولكن أيضًا في النَّسب؛ فابن الأول تزوج ابنة الثاني، وانتقل الزوجان إلى محافظة أخرى تبعًا لشغل الزوج.
وحماتي التي هي أم الزوجة كانت تتميَّز بالهدوء الذي يميتُني، خاصة في هذا الموضوع الغريب في رأيي؛ فقد مضى على زواج ابنتها الوحيدة على عدد من الذكور، كثيرٌ من السنين؛ لكن حماتي لا تنسى ولا تتغاضى عن مواسمها وما أكثرَها! عيد صغير، عيد كبير، عاشوراء، نصف شعبان، فضلًا عن موسم جني المحصول الخاص بالقرية، فيكون لها نصيب يصِلها في وقته، فتجهِّز حماتي (سَبتين) كبيرين، تملؤهما (بالفطير) والسمن، والبيض و(الجبنة القريش)، والطيور المذبوحة والحية، وتدفع بسخاء لمن يحمل الزيارة، سواء أكان قريبًا أم غريبًا حتى يوصلها راضيًا.
فإذا تصادف وجودي في تلك الأثناء، أعترض على كثرة الأشياء على اثنين فقط، فطول السنين لم تسفر عن شخص ثالث يشاركهما تلك الوليمة، فتقول بهدوء:
♦ عاداتنا أين نذهب عنها؟!
عرفتُ - وليس سرًّا - أن عدم الإنجاب كان لِعَيب في الزوج، وقد خيَّرها والدها في أن يطلِّقها منه فرفضت وقالت:
♦ ابن عمي ولا أتخلَّى عنه.
عرفت أيضًا أن أهله لم يسمعوا عن طبيب مصري أو أجنبي إلَّا وذهبوا إليه، فيؤكِّد كل طبيب أنه لا أمل؛ فحيوانات الزوج تموت قبل أن تصِل إلى الرحم.
أهله يعرفون هذه الحقيقة جيدًا، ولكنهم لا يسلِّمون لها.
اندهشتُ وكدت أفقد صوابي حينما سمعتُ أمَّه وأخته تتكلمان مع حماتي بشدة عند افتعال مشكلة، وتقولان لها:
♦ سنطلِّق ابنتك ونزوِّجه ست البنات، يخلِّف منها زين الشباب، وحماتي ترد بهدوء:
♦ كفى يا أختي أنت وهي، (بلا وجع رأس).
فترد أخته:
♦ وجع الرأس لما (تشوفي بنتك) قاعدة جنبك يدها على خدِّها.
♦ وما له؟! نصيبها.
أعلم جيدًا أنَّ أهله يعلمون علَّته؛ لكنني تشكَّكتُ من كلامهم وسكوت حماتي، فملتُ عليها:
♦ ألا يعلمون بأن عدم الإنجاب من ابنهم؟
♦ لا تردِّي عليهم، (بلا وجع رأس).
كثيرًا ما كنتُ أتساءل: هل هذه سلبية أو طيبة أو حكمة؟ لا أعلم!
ثم ماتت.. نعم ماتت حماتي وهي جالسة تطبخ، مالت جهة اليمين وأسلمَت روحها، انطفأتِ النار من تلقاء نفسها، وجاءت الأرنبة ووقفَت عند رأسها ورأيتُ دموعَها، وأسرعت نساء الدارين، وبينهن أم زوج ابنتها وأخته اللتان كانتا بالأمس تناهدانِها وتَرميانِها بكلام تُريدان به إيجاعها، رأيتهما تبكيان وتقبِّلان يديها وقدميها وتقولان:
♦ سامحينا يا أم الذوق والأدب.
وتمَّت مراسم دفنها التي حضرتها الملائكة، وأتَت بكلِّ بعيد في التوِّ، وحان سفري للقاهرة، فوجدتُ من تضع بين يدي تلك الأرنبة:
♦ ما هذا؟! أرنبة حماتي! لماذا أنا؟!
♦ سنتقاتل عليها، أنتِ بعيدة، فلن نراها وقد ننساها.
مددتُ يدي وحملت الأرنبة وقرَّبتها من أنفاسي فشممتُ رائحة حماتي، رائحة الطيبة والخير والصبر الجميل.. داعبتها:
♦ ماذا أفعل بك؟! أأذبحك؟!
فأسرعت إحداهنَّ:
♦ لا تذبحيها، أوجدي لها مكانًا ولو بمشاركة أحد الجيران؛ فهي كثيرة الإنجاب والونس.
هززتُ رأسي بالموافقة والاستسلام معًا.. وركبت السيارة وهي في حِضني.. ظللتُ طوال الطريق أربت على ظهرها، وأُدفئها بمشاعري، وأسألها:
♦ ماذا تعلمين عن حماتي من صِفات لا أعلمها؟! كيف تمَّت الألفة بينكما بهذا الشكل الجميل؟!
كانت تمرِّغ رأسها في صدري حينًا وتسكن حينًا، وقبيل الوصول إلى البيت لم أجدها، فقد سكنَت طويلا ولحقت بصاحبتها.
نادية كيلاني
كنتُ أعرفها من قبل بحكم القرابة.. لكن بعد زواجي عرفتُها عن قرب، لم تكن تلك المرأةَ البدينة كبيرة العائلة التي أراها كلَّما ذهبتُ إلى البلد في الإجازات الصيفية، صاعدة نازلة، رائحة غادية، توزِّع أوامرَها وملاحظاتِها، والبيت خليَّة نحل لتنفيذ المطلوب والتسابق لنيل رضاها، وكنتُ أراها ذاهبة تتوضَّأ عائدة لتصلِّي في صحن الدار؛ فالكلُّ محارمها.
الآن كبرَت سنُّها وقلَّت حركتها، فجلست متربعة فوق الفرن إذا كان باردًا، وأمامه إذا كان ملتهبًا؛ وجلوسها كان جلوسًا مثمرًا، لا عَجزًا، كانت تطبخ وهي متربعة في مكانها، والصغار كثيرون يلبُّون لها طلباتها ويأتون لها بما تريد، تُنزل (حلَّة الأرز) من على النار، تضعها يمينَها، بعد قليل تأتي أرنبة بعينها تزيح (غطاء الحلَّة) برأسها وتأكل من الأرز المطبوخ لتوِّه، وحماتي لا تهشُّها، وإذا دخلت إحدى زوجات ابنها وشاهدت المنظر، لا تستغربه ولا تعترض عليه، أمَّا اندهاشي أنا، فلأنني ضيفة لا أعرف طقوس هذه الأرنبة:
♦ (الحقي يا نينة الأرنبة).
♦ دعيها، (الحلَّة) لن تنقص.
أسأل:
♦ ما قصَّة هذه الأرنبة؟
تطوعَت إحداهنَّ:
♦ هذه الأرنبة غالية جدًّا على حماتك، والحقيقة: إنَّها أرنبة يثمر فيها الخير؛ فهي ولود ودود، في كلِّ شهر تلد عددًا كبيرًا من الأرانب تفرِّقه علينا.
أعجبتُ أنا الأخرى بتلك الأرنبة بسبب الوفاء والود الذي يكنُّه لها كلُّ أهل الدار.
والدار التي تضمُّ حماتي بأولادها، تقع بجوار دار (سلفتها)، بأولادها؛ أي: إنَّ الدار كانت للأب الكبير وآلَت إلى الأخوين بالمناصفة، فاقتسماها بجدار، لكن الجدار لم يمنع الذهاب والإياب من هنا وهناك بين الدارين، وهذان الأخوان ليسا فقط شركاء في الدار، ولكن أيضًا في النَّسب؛ فابن الأول تزوج ابنة الثاني، وانتقل الزوجان إلى محافظة أخرى تبعًا لشغل الزوج.
وحماتي التي هي أم الزوجة كانت تتميَّز بالهدوء الذي يميتُني، خاصة في هذا الموضوع الغريب في رأيي؛ فقد مضى على زواج ابنتها الوحيدة على عدد من الذكور، كثيرٌ من السنين؛ لكن حماتي لا تنسى ولا تتغاضى عن مواسمها وما أكثرَها! عيد صغير، عيد كبير، عاشوراء، نصف شعبان، فضلًا عن موسم جني المحصول الخاص بالقرية، فيكون لها نصيب يصِلها في وقته، فتجهِّز حماتي (سَبتين) كبيرين، تملؤهما (بالفطير) والسمن، والبيض و(الجبنة القريش)، والطيور المذبوحة والحية، وتدفع بسخاء لمن يحمل الزيارة، سواء أكان قريبًا أم غريبًا حتى يوصلها راضيًا.
فإذا تصادف وجودي في تلك الأثناء، أعترض على كثرة الأشياء على اثنين فقط، فطول السنين لم تسفر عن شخص ثالث يشاركهما تلك الوليمة، فتقول بهدوء:
♦ عاداتنا أين نذهب عنها؟!
عرفتُ - وليس سرًّا - أن عدم الإنجاب كان لِعَيب في الزوج، وقد خيَّرها والدها في أن يطلِّقها منه فرفضت وقالت:
♦ ابن عمي ولا أتخلَّى عنه.
عرفت أيضًا أن أهله لم يسمعوا عن طبيب مصري أو أجنبي إلَّا وذهبوا إليه، فيؤكِّد كل طبيب أنه لا أمل؛ فحيوانات الزوج تموت قبل أن تصِل إلى الرحم.
أهله يعرفون هذه الحقيقة جيدًا، ولكنهم لا يسلِّمون لها.
اندهشتُ وكدت أفقد صوابي حينما سمعتُ أمَّه وأخته تتكلمان مع حماتي بشدة عند افتعال مشكلة، وتقولان لها:
♦ سنطلِّق ابنتك ونزوِّجه ست البنات، يخلِّف منها زين الشباب، وحماتي ترد بهدوء:
♦ كفى يا أختي أنت وهي، (بلا وجع رأس).
فترد أخته:
♦ وجع الرأس لما (تشوفي بنتك) قاعدة جنبك يدها على خدِّها.
♦ وما له؟! نصيبها.
أعلم جيدًا أنَّ أهله يعلمون علَّته؛ لكنني تشكَّكتُ من كلامهم وسكوت حماتي، فملتُ عليها:
♦ ألا يعلمون بأن عدم الإنجاب من ابنهم؟
♦ لا تردِّي عليهم، (بلا وجع رأس).
كثيرًا ما كنتُ أتساءل: هل هذه سلبية أو طيبة أو حكمة؟ لا أعلم!
ثم ماتت.. نعم ماتت حماتي وهي جالسة تطبخ، مالت جهة اليمين وأسلمَت روحها، انطفأتِ النار من تلقاء نفسها، وجاءت الأرنبة ووقفَت عند رأسها ورأيتُ دموعَها، وأسرعت نساء الدارين، وبينهن أم زوج ابنتها وأخته اللتان كانتا بالأمس تناهدانِها وتَرميانِها بكلام تُريدان به إيجاعها، رأيتهما تبكيان وتقبِّلان يديها وقدميها وتقولان:
♦ سامحينا يا أم الذوق والأدب.
وتمَّت مراسم دفنها التي حضرتها الملائكة، وأتَت بكلِّ بعيد في التوِّ، وحان سفري للقاهرة، فوجدتُ من تضع بين يدي تلك الأرنبة:
♦ ما هذا؟! أرنبة حماتي! لماذا أنا؟!
♦ سنتقاتل عليها، أنتِ بعيدة، فلن نراها وقد ننساها.
مددتُ يدي وحملت الأرنبة وقرَّبتها من أنفاسي فشممتُ رائحة حماتي، رائحة الطيبة والخير والصبر الجميل.. داعبتها:
♦ ماذا أفعل بك؟! أأذبحك؟!
فأسرعت إحداهنَّ:
♦ لا تذبحيها، أوجدي لها مكانًا ولو بمشاركة أحد الجيران؛ فهي كثيرة الإنجاب والونس.
هززتُ رأسي بالموافقة والاستسلام معًا.. وركبت السيارة وهي في حِضني.. ظللتُ طوال الطريق أربت على ظهرها، وأُدفئها بمشاعري، وأسألها:
♦ ماذا تعلمين عن حماتي من صِفات لا أعلمها؟! كيف تمَّت الألفة بينكما بهذا الشكل الجميل؟!
كانت تمرِّغ رأسها في صدري حينًا وتسكن حينًا، وقبيل الوصول إلى البيت لم أجدها، فقد سكنَت طويلا ولحقت بصاحبتها.