مشاهدة النسخة كاملة : عصبيتي الزائدة


فريق منتدى الدي في دي العربي
05-05-2016, 07:05 AM
عصبيتي الزائدة


أ. عائشة الحكمي






السؤال

أنا أعاني من عصبيَّةٍ زائدة، ولا أستطيعُ التحكُّم في أعصابي، وغالبًا ما أتعصَّبُ على والدتي؛ ممَّا يجعلني أُكثِرُ من البكاء، وأشعُر كأني أختنقُ، فأنا مَن يرعى أمي، وهي دائمًا ما تدعو لي، ولكني أشعر أنَّني مقصرةٌ في حقِّها، وأني لا أستحقُّ ما تقولُ، أرجو مُساعدتي لأني تعبتُ كثيرًا، ولا أستطيعُ أنْ أتأقلمَ مع أحدٍ بسبب عصبيَّتي.



وجزاكم الله خيرًا.


الجواب

بِسْمِ اللهِ المُوفِّق للصَّواب

وهو المُستعان



أيَّتُها العزيزة:

ذكَر ابنُ أبي أصيْبعَة عند ترجمتِه للطَّبيب سِنان بن ثَابِت بن قُرَّة في كتابه "عُيُون الأنباء" ما حكايته: "وقال أيضًا ثابتُ بن سِنان: لمَّا ماتَ الرَّاضِي باللهِ استَدْعى الأميرُ أبو الحُسيْن بحكم والِدي سِنان بن ثابِت وسألَهُ أنْ ينْحَدِر إليه إلى واسِط، ولم يكُنْ يطمَعُ في ذلك منه في أيَّامِ الرَّاضي باللهِ لمُلازَمته بخِدْمتِه، فانْحَدرَ إليه والِدي، فأَكْرَمَهُ ووصَلَهُ، وقال له: "أُريدُ أنْ أَعْتَمِد عليكَ في تَدْبير بدَنِي وتَفَقُّده، والنَّظَر في مَصالِحه، وفي أَمْرٍ آخَر هو أهمُّ إليَّ من أمْرِ بَدَني، وهو أمرُ أَخْلاقِي؛ لثِقَتي بعَقْلكَ وفَضْلكَ ودِينكَ ومَحَبَّتكَ، فقد غمَّني غَلَبة الغَضَب والغَيْظ عليَّ، وإفراطهُما بي حتى أَخْرُجَ إلى ما أندمُ عَليْه عندَ سُكونهما من ضَرْبٍ وقَتْلٍ، وأنا أسألُكَ أنْ تتَفَقَّد ما أَعْلمُه، وإذا وَقفْتَ لي على عَيْبٍ لم تَحْتَشمْ أنْ تَصْدُقَنِي عنه، وتذْكُرَه لي، وتُنبِّهني عليه، ثم ترشدني إلى عِلاجه ليزُولَ عنِّي"، فقال له والِدي: السَّمْع والطَّاعَة لما أمرَ به الأمِير، أنا أفعلُ ذلك، ولكِنْ يَسْتَمِع الأميرُ منِّي بالعاجِل جُمْلةَ عِلاج ما أَنْكَره مِن نَفْسِه، إلى أنْ يَجِيئه التَّفْصيل في أوقاتِه.

اعْلَم أيُّها الأمير أنَّكَ قد أَصْبحتَ وليسَ فَوْق يَدِكَ يدٌ لأحَدٍ من المَخْلُوقين، وأنَّكَ مالِكٌ لكلِّ ما تُريدُه، قادِرٌ على أنْ تَفْعله أيَّ وَقْتٍ أرَدتهُ، لا يَتَهيَّأ لأحَدٍ من المَخْلُوقين منْعُكَ منه، ولا لأنْ يحول بينَك وبينَ ما تَهْواهُ أيَّ وَقْتٍ أرَدته، وأنَّك متى أردت شيئًا بلَغْتَه أيَّ وَقْتٍ شِئْتَ، لا يفُوتكَ أمر تُريدُه.

واعْلَم أنَّ الغَضَبَ والغَيْظَ والحَرَدَ تُحدِثُ في الإنسان سُكْرًا أشدَّ مِن سُكْر النَّبيذ بكَثير، فكَما أنَّ الإنْسان يعملُ في وقت السُّكْر من النَّبيذ ما لا يَعْقِل به، ولا يذكُره إذا صحَا، ويندَم عليه إذا حُدِّثَ به ويَسْتحيي منهُ، كذلكَ يَحْدثُ له وَقْتَ السُّكْر من الحَرَد والغَيْظ، بل أشد، فلمَّا يبتدئُ بكَ الغَضَب وتُحِسُّ بأنَّه قد ابتدأ يُسْكركَ، قبلَ أنْ يشتدَّ ويَقْوى ويَتفاقم ويَخْرُج الأمرُ عن يدِكَ، فضَعْ في نَفْسِكَ أنْ تُؤخِّر العُقُوبة عليه إلى غَدٍ، واثقًا بأنَّ ما تُريد أنْ تَعْمله في الوَقْتِ لا يفوتُكَ عمَلهُ في غَدٍ، وقدْ قِيل: "مَن لم يخَف فَوْتًا حَلُمَ"، فإنَّكَ إذا فَعْلتَ ذلك وبِتَّ ليلتكَ وسَكنَتْ فَوْرَةُ غضبِكَ، فإنَّه لا بُدَّ لفَوْرَةِ الغَضَب مِن أنْ تَبُوخَ وتَسْكن، وأنْ تَصْحُو من السُّكْر الذي أَحْدَثه لكَ الغَضَبُ، وقد قِيل: "إنَّ أصحَّ ما يكونُ الإنسانُ رأيًا إذا اسْتَدبرَ لَيْله واسْتَقَبل نَهاره"، فإذا صَحَوْتَ مِن سُكْركَ، فتَأمَّل الأَمْرَ الذي أغضَبكَ، وقدِّم أمْرَ اللهِ - عزَّ وجلَّ - أوَّلاً والخَوْف منه، وتَرْك التَّعرُّض لسَخَطه، ولا تَشْفِ غَيْظكَ بما يُؤثِمُكَ؛ فقدْ قِيل: "ما شفَى غَيْظَه مَن أثمَ بِربِّه"، واذكُرْ قُدْرةَ اللهِ عَليْكَ، وأنَّكَ مُحْتاجٌ إلى رَحْمتِه، وإلى أَخْذِه بيدِكَ في أَوْقاتِ شَدائدك، وهو وَقْت لا تَمْلكُ لنفسِكَ فيه شَرًّا ولا نَفْعًا ولا يقْدِر لكَ عليه أحدٌ من المَخْلُوقين، ولا يكْشِف ما قد أظلَّكَ غيرُه - عزَّ وجلَّ.

واعلَمْ أنَّ البشَرَ يَغْلطون ويُخْطِئون، وأنَّكَ مِثْلهم تَغْلَطُ وتُخْطئ، وإنْ كانَ لا يَجْسُرُ أحدٌ على ألاَّ يُوافِقكَ على ذلِك، فكمَا تُحِبُّ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لكَ، كذلكَ غيرُكَ يَأْمُلُ عَطْفكَ وعَفْوكَ، وفَكِّرْ بأيِّ لَيْلةٍ باتَ المُذْنبُ قَلِقًا لخَوْفه منكَ، وما يتَوقَّعُه مِن عُقُوبتكَ، ويَخافُه مِن سَطْوتكَ، واعْرِفْ مِقْدارَ ما يَصِلُ إليه السُّرُور وزَوال الرعْب عنه بعَفْوكَ، ومِقْدار الثَّوابِ الذي يحْصُل لكَ من ذلك، واذكُر قولَ اللهِ - تعالى -: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]، فإنْ كانَ ما أَغْضبكَ ممَّا يجُوزُ فيه العَفْو، ويَكْفِي فيه العِتاب والتَّوْبيخ، والعَذْل والتَّهْديد متى وقَعَت مُعاوَدة، فلا تَتجاوز ذلك، واعْفُ واصْفَح، فإنَّه أَحْسَن بكَ، وأقْرَب إلى اللهِ تعالى، واللهُ - سُبحانه - يقُول: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة: 237]، وليس يظنُّ بكَ المُذْنبُ ولا غَيْرُه أنَّكَ عجزتَ عن التَّقْويم والعُقُوبة، ولا قَصرتْ بكَ القُدْرة، وإنْ كانَ ممَّا لا يَحْتَمل العَفْوَ، عاقبتَ حِينَئذٍ على قَدْر الذَّنْب، ولم تَتَجاوزه إلى ما يُوقع الدَّيْن؛ ويفسد به أمركَ، ويقْبح عندَ النَّاس ذِكْركَ، فإنَّما يشتدُّ عليكَ تكلُّف ذلك أوَّلَ دَفْعة وثانِية وثالِثة، ثم يصيرُ عادةً لكَ وخُلُقًا وسَجِيَّة، ويسهُل عليكَ".

فاسْتَحْسن بحكم ذلكَ ووعدَ أنْ يفعلَه، وما زالتْ أَخْلاقُه تَصْلح، ووالِدي يُنبِّهه على شَيْءٍ ممَّا يُنْكره منه مِن أَخْلاقِه وأَفْعاله، ويُرشِده إلى طَرِيق إزالتِه، إلى أنْ لانتْ أَخْلاقُه، وكفَّ عن كثيرٍ ممَّا كانَ يُسْرع إليه من القَتْل، والعُقُوبات الغَلِيظة، واسْتَحلى واسْتَطاب ما كانَ يُشير عَليه من استعمالِ العَدْل والإنْصاف ورَفْع الظُّلْم والجور ويسْتَصْوبه ويعمَل به"؛ انتهى.

وكنتُ قد أجبتُ عن استِشارتين تحملان المُشْكلة نفسها؛ إِحْداهما بعُنْوان: "كيف أتخلص من سرعة الغضب؟"، والأُخْرى بعُنْوان: "كيف أعالج قوة الانفعال؟"، كما أجابت الأُستاذة الكَريمة زَيْنب مُصْطفى عن استْشارتين مَدارهُما العَصبيَّة وسُرْعة الغَضَب؛ إِحْداهما بِعُنْوان: "أخاف على ولدي من عصبيتي"، والأُخْرى بِعُنْوان: "عصبية المزاج وفقدان الثقة"، فامنحي نفسَكِ الوَقْت الكافي لتَجْربة ما ذكرناهُ في هذه الاسْتِشارات؛ إذ لا بُدَّ - أيَّتها العزيزة - من الانْتقال من حيِّز المعرِفة إلى حيِّز التَّطْبيق، أمَّا الاكتفاء بالقِراءة وتكْرار نَفْس الأسئِلة، فلن يُغيِّر من أحوالِكُن شيئًا.

لا تتصوَّري دائمًا أنَّ الحُلولَ ستخْتَلفُ، هي قد تختلفُ بحسَب الأَحْوال النَّفسيَّة، ولكن ثمَّة مُشكلات مُشْتركة وحُلولها واحدة كالعصبيَّة وسُرْعة الغَضَب.


أُضِيفُ إلى كلِّ ما ذُكِر كِتابًا بعُنْوان "الشُّعور اخْتيار ينبعُ من الذَّات"؛ من تَأْليف: د. جاري ماكاي ود. دون دينكماير، فانظُري فيه.



واللهُ - سبحانه وتعالى - أَعْلم بالصَّواب، والحمْدُ لله المَلِك الوهَّاب.

Adsense Management by Losha