فريق منتدى الدي في دي العربي
05-07-2016, 01:40 AM
حيدر الغدير وكتابه الأدبي "صلاة في الحمراء"
عبدالرزاق ديار بكرلي
دراسة في المحتوى[1]
تضمَّن الكتاب (27) مقالةً، سبق للأديب القدير أن قدَّم بعضها في الإذاعة السعودية، ونشر بعضها في عددٍ من الصحف والمجلات، في مراحل متعدِّدة من حياته وشبابه، ثم جمعها ونشرها بين دفَّتَي هذا الكتاب، الذي تتراوح موضوعاته بين (أدب الرحلات)، ومقالات حول عدد من (الرجال العظماء)، وجولات في بعض جوانب (التاريخ الإسلامي)، ووقفات مهمة في جوانب (من الأدب العربي المعاصر: أدباء وآراء أدبية جريئة) ومقالات انطباعية متفرقة حول أمور (دعوية وتربوية وشخصية) متعددة.
أولاً: من أدب الرحلات:
لقد قام المؤلِّف بعدَّة زيارات إلى أنحاء متعدِّدة من العالَم حاملاً معه (كاميرا) القلم، يشاهد ويرصد، ويصور ويتأثَّر، ويعبِّر بالكلمات، ويُحسِن اختيارَ اللقطات، منتجًا فيلمًا يسبح معه الخيال في فضاءات تاريخية وحضارية متعددة متنوعة، مشبعة بروح الفنان الأديب والأديب الفنان.
في الأندلس:
لقد تجوَّل الكاتب في إسبانيا عامة، وفي ربوع أندلسها خاصة، متنقلاً بين آثارها الإسلامية العريقة، راسمًا أحلى التأملات والذكريات عن ماضيها الذي خطَّته يدُ العبقرية الإسلامية الفذة، مسجلاً أروعَ الصور الوجدانية لماضٍ ما يزال شاخصًا إلى اليوم، يؤمُّه الزوَّار والسيَّاح من مشارق الأرض ومغاربها، متأمِّلين في كل زاوية من زوايا تلك الحضارة العظيمة، التي لم يَعرِف التاريخُ أرحمَ من فاتحيها، فكانتْ زياراته بين رِحَاب إسبانيا عامة وأندلسها خاصة، وعنها جاءت مقالاته: (صلاة في الحمراء)، و(المسجد المحزون)، و(رعب في مدريد)، و(أندلسيات حسناوات جدًّا)، و(لعينيك يا رندة)، و(صخور وعزائم).
ففي مقالِه الأول: (صلاة في الحمراء)[2] يتحدَّث عن زيارته لقصر الحمراء العظيم عام 1996م، ذاكرًا أنه خلال تَجْوَاله بين آثاره وردهاته، واستئناسه بقصوره الخلابة، وحدائقه البديعة، ولا سيما (جنة العريف) - حضرتْه الصلاة، فيقول: (نظرت في الساعة فوجدتُ آن وقت صلاة الجمعة قد حلَّ، ولما كنتُ مسافرًا، فقد عزمت على أداء صلاة الظهر والعصر قصرًا وجمعًا، فانتحيت مكانًا هادئًا يختبئ تحت ظلال ممتدَّة، شكلتها أشجار السرو، وتحرَّيت القبلة، وأخذتُ أصلي)[3].
وفي أثناء أدائه الصلاة كانتْ رحلةٌ مدرسية تَجُول في ذات المكان، فشعر بأن مجموعة من الأولاد - مع مشرفتهم العجوز - ينظرون إليه، فيقول: (فإذا بي أجدُ نفسي أثناء صلاتي وقد صرتُ منظرًا غريبًا يقترب منه عددٌ فينظر ويستغرب أو يضحك، ويعود إلى مجموعته ليأتي عدد آخر وهكذا، ولا تزال صورةُ بعض الفتيات الصغيرات اللواتي يلبسن زيًّا موحدًا - ولعلهن في المرحلة الابتدائية - ينظرْنَ إليه، ويتغامزن ويتقافزن، ثم يعُدْن إلى الراهبة العجوز التي كانتْ حريصة جدًّا عليهن... وربما سألْنَها عما كنتُ أفعل، وربما أجابت إجابة صحيحة أو خاطئة)[4].
ثم ما لَبِث في مقاله أن عاد إلى خَلوته - وقد أدركه حزن عميق - متسائلاً: (كيف ساد الإسلام في هذه الربوع قرونًا طويلة، ثم باد؟)، ولكنه لا يلبث أن يعزِّي نفسه بأن (البشائر الجميلة الواعدة لعودة الإسلام إلى الأندلس، بل إسبانيا كلها قد بدأتْ، وأنها تعتمد على الكلمة الطيبة، والنية الصادقة، والقدوة الحسنة قبل كل شيء)[5].
أما مقاله: (المسجد المحزون)[6]، فكان عن "مسجد قرطبة"، وأميرها الداهية الشجاع عبدالرحمن الداخل، فقد صَعِد الكاتب إلى مِئْذَنة المسجد، ووقف في أعلاها قُرْبَ ناقوس كبير، فيقول: (فأدركتْنِي حسرةٌ لا حدَّ لها، وتنامى فِيَّ شعورٌ طاغٍ بالأحزان، ثم وقع في خاطري أن هذه المِئْذَنة العزيزة قد اشتاقتْ إلى الأذان الذي لم تسمعْه منذ قرون، فحقَّقت لها رغبتها فأذَّنت وفي عيني دموع حَرَّى)[7]، وأثناء زيارته لهذا المسجد يقول في موطن آخر من الكتاب: (ويومها غلبني الوَجْد، فقلت: سوف أؤذن في منارة المسجد كما أذَّنت في محرابه، فصَعِدت المنارةَ التي صارت ملأى بالنواقيس، فأذَّنت لإبهاج المنارة وإغاظة النواقيس)[8].
وفي مقاله: (صخور وعزائم)[9] تصويرٌ بليغٌ لقرية صغيرة جدًّا تدعى (كوفادنجا) تقع في أقصى شمال إسبانيا قرب (كانجاس دي أونيس) وهي منطقة وعرة جدًّا (ما يكاد المرء يراها بواديها الضيق وجبالها الشاهقة، حتى يقدر أنها أفضل مكان للحروب الفردية، أو حروب العصابات، وبالتالي أفضل مكان للحادثة التاريخية الغريبة)[10]؛ حيث إن عددًا قليلا جدًّا من شجعان النصارى اعتصموا بها، ورفضوا الخضوع للمسلمين، ونظرًا لوعورة المكان، وكونه نائيًا جدًّا، ولقلة عدد هؤلاء المتمردين؛ فقد تركهم المسلمون وشأنَهم، استهانةً بهم وليتهم لم يفعلوا؛ ذلك أن هؤلاء المتمرِّدين القلائل كانوا نواةَ حركةِ الاسترداد الإسبانية التي نَمَت بالتدريج، وتمكَّنت مع تزايد قوَّتها، وضعف المسلمين وفُرقتهم، وبعد ثمانية قرون من الكر والفر - من الإجهاز في النهاية على الدولة الإسلامية في إسبانيا، وهنا يستشهد الغدير بالقول العربي البليغ (ومعظمُ النارِ من مستصغر الشَّرر)[11].
هذا وقد أصبحتْ لمغارة "كوفادنجا" - التي يقال: إن شجعان النصارى الذين رفضوا الخضوع للفاتح المسلم اختبؤوا فيها، والتي تقع في المكان الوعر الذي سبقت الإشارة إليه - أسطورةً دينية ذاتَ قداسة خاصة، ويصف هذه المغارة بقوله: (وصلتُ المغارة بواسطة سُلَّم طويل صاعد يبدأ من الوادي السحيق وينتهي بها، وإلى يساره شلال ماء صغير له صوت جميل، حتى إذا دخلت المغارة وجدتها طويلة عريضة واسعة، ولكن خيِّل إلَيَّ أن يد الإنسان تدخَّلت فيها؛ ذلك أن فيها من الاستواء ما لا يكون في أمثالها من المغارات المتروكة كما خلقها الله - عز وجل)[12].
لقد كانتْ رحلته إلى هذا المكان رحلةً طريفةًعبَّرت عن شوق استبدَّ به حتى وصل إلى مراده، لكنه - بكل تأكيد - استطاع أن يمنحه التصوير الدقيق، فيقول: (أيًّا كان الأمر، فإن "كوفادنجا" تستحق عناء الرحلة؛ فهي منطقة جميلة، وأجمل منها المدن والقرى، والجبال والوديان التي تقطعها في طريقك إليها، وجمالها جمال بديعٌ، فيه تجدُّد وتنوع وغرابة، ثم إنها مسرح موقعة تاريخية مهمة جدًّا، وإذا كانتْ هذه المعركة صغيرةً من حيث عدد المقاتلين، فإن نتائجها البعيدة كانتْ جليلة جدًّا، ثم إن فيها عبرة بالغة جدًّا لخطورة الاستهانة بما ينمو ويستفحل)[13].
ومقاله: (رعب في مدريد)[14] يتحدَّث فيه عن موقف شخصي حدث له، وذلك أنه كان يتمشى رياضة في أحد شوارع مدريد، وعند إحدى إشارات المرور لاحقتْه امرأة يبدو أنها مخمورة - أو من أصحاب المخدِّرات - وأمسكتْ به من عنقه، وأخذت تنادي "البوليس"، فأدركه رعبٌ وحياءٌ، وكان سريع البديهة في حسن التصرف للتخلص من المأزق الذي وجد نفسه فيه، فقد دفعها عنه حتى وقعت على الأرض، وأخذ يعدو راكضًا وكأنه (أرنب مذعور)[15]، ثم ركب سيارة أجرة متخلصًا منها، يقول (وما زلت حتى الآن أتساءل: لماذا فعلتْ بي هذه الحمقاءُ ما فعلت؟)[16].
أما مقاله: (أندلسيات حسناوات جدًّا)[17]، فقد امتزج فيه الشعر بالنثر، والخيال بالواقع، وفيه أورد الكثيرَ من المواقف والأفكار التي طرأتْ عليه في تذكره لإسبانيا، ولأندلسها، ورجالاتها، وعظمائها، ومعاركها، وشعرائها، وكتَّابها، وغير ذلك؛ فهي كلُّها حسناوات (والشَّجَا يبعث الشَّجَا)[18]، وهو في حقيقته عدَّة مقالات في مقال واحد، وهو طويل جدًّا قياسًا بغيره من المقالات التي حفل بها الكتاب، كما أن فيه شيئًا من الخصوصيات المتمثلة في ذكر أولاده، وهم ما بين يافع وصغير، وكانوا يرافقونه في بعض هذه الرحلات والمغامرات الشاقة والشائقة أيضًا، وفي سياق طريف يصف تلك المواقف والموضوعات بأنهن حسناواتُه، فهن - كما يقول -: (حسناواتٌ إسبانيات لا أزال أتذكَّرهن... وهؤلاء (حسناوات هن - مع الأسف - من الذكريات لا من النساء)[19].
وفي مقاله: (لعينين يا رندة)[20] تحدَّث عن رحلة له إلى هذه المدينة، وهي مدينة زارها وعايشها، وفي صحبته ذكريات "محمد أسد" الذي سبق له أن زار هذه المدينةَ وأُعجِب بها، وسبق للغدير أن زار "محمد أسد" في بيته في طنجة، فنصحه أن يزورَها، لقد وصل إليها وفي مخيلته شاعرها وأديبها "أبو البقاء الرندي صاحب" القصيدة الشهيرة التي مطلعها:
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ <h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
فَلاَ يُغَرَّ بِطِيبِ الْعَيْشِ إِنْسَانُ <h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
هِيَ الْأُمُورُكَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ <h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ <h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
وفيها من أعاجيب المواقف التي حدثتْ له - تلك الليلة - ما يجعلك تُشفِق عليه وعلى عياله؛ حيث قضوا ليلتهم نيامًا في السيارة إلى جانب مخفر للشرطة، وفي هذا الموضع قام بجولات خطيرة ما كان أغناه وأغنى أهله وعياله عنها! غير أن حبَّه وتطلُّعه إلى معرفة كل جزئية من تاريخ حضارة المسلمين في إسبانيا، وبحثه عن المعرفة والمجهول - هو الذي صبَّرهم جميعًا، وأعانهم على تحمل ذلك العناء الذي لا تقوم عليه إلا مجموعة من العزاب وهم في فورة الشباب والقوة.
في ماليزيا:
كتب عن رحلته إلى ماليزيا هذا المقال، وعنوانه (ليلة لا تنسى)[21]؛ حيث إنه زار منطقة جبَليَّة فيها اسمها (كاميرون هاي لاند)، ويختم حديثه البديع عن هذه الزيارة بقوله: (شكر الله لمن نصحني بهدف الرحلة التي دامتْ يومًا واحدًا لا ينسى، شكر الله للإمام الذي اصطحبني معه وأكرمني، وكان الأخ والدليل والمترجِم، وعسى أن أظفر برحلة أخرى إلى هذا المكان البديع، على أن أكون وحدي، أو مع صحبة تعشق ما أعشقه من السياحة التي تجمع إلى مُتَع الجسم مُتَعَ الرُّوح، والتي تحرص على التأمل فيما نراه من أشياء، وفيما يكمن وراء هذه الأشياء)[22].
ثانيًا: مقالاته عن عدد من الرجال العظماء:
وفي هذا الباب - وبأسلوبه الأدبي الرشيق - تحدَّث عن عددٍ من الرجال الذين استوقفه منهم جانبٌ من الجوانب الإنسانية العظيمة، التي يتفرَّد بها هذا أو ذاك، ومن ذلك حديثه بعنوان (مع الحاج أمين الحسيني: عبرة وذكرى)[23]، وعن رأي "محمد أسد" في اليهود، وذلك في مقاله (الطمع القاتل: مستقبل اليهود في فلسطين كما يراه محمد أسد)[24]، وحديثه عن القاضي النَّزيه (عاقبة بن يزيد) [25]موافقة الحازم من أخذ الرشوة؛ فقد طرد صاحبها وأغلظ له القول[26].
ثالثًا: ومن التاريخ الإسلامي:
ومن التاريخ الإسلامي جاء مقاله: (التسامح الديني اختراع إسلامي)[27]؛ حيث إن التاريخ لم يعرف فاتحًا أرحم من العرب، والقيود هنا هم المسلمون: وينقل فيه عن الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - جملة بليغة يصفها بأنها: (جملة بديعة يحسن إيرادُها في هذا المجال، فيها دقةٌ وإيجاز وإبداع، يقرِّر فيها أن التسامحَ الديني إنما هو اختراع إسلامي؛ ذلك أن الإسلام أول مَن بدأه، وأن المسلمين أول مَن طبقوه)[28].
ومن ذلك أيضًا مقاله: (الصحابة وسَقِيفة بَنِي سَاعِدة) [29]، ودورهم تحت ظلال تلك السقيفة في حسم الموقف، فيقول: (وإدراك الصحابة - بفطرتهم السوية وعقولهم المتوقِّدة - لأهمية اللحظة التاريخية، وأداؤهم الممتاز فيها؛ يذكِّر الدارس المتابع بأن في حياةِ الدول والحضارات والحركات والأحزاب - فضلاً عن الأفراد - حالاتٍ في غاية الدِّقة والخطورة، يتوقَّف فيها النجاح والإخفاق - وربما البقاء والفَناء - على إدراك أهمية "اللحظة التاريخية"، وطريقة التعامل معها[30]، متحدثًا - في هذا المقال - عن دَوْر الشُّورى في مثل هذه المواقف الحرجة العصيبة.
ومن ذلك مقالُه: (إن لله جنودًا من عسل)[31]، فهو يتحدَّث فيه عن واقعة تاريخية، جَرَتْ في أعقاب معركة "نهاوند" أيام الفتوح الإسلامية لبلاد فارس؛ حيث فرَّ القائدُ الفارسي يومذاك، واسمه "الفيرزارن" لكن عددًا كبيرًا من الفلاحين الفرس الهاربين - الذين حَرَصوا على حمل ما يملكون من العسل معهم على دوابهم؛ لكونه أثمنَ ما عندهم - ضيَّقوا بكثرتهم ودوابِّهم الطريق، فأضاع ذلك على (الفيرزان) فرصة الهَرَب؛ إذ لحقت به كتيبةُ المطاردة وقتلتْه، ويومها قال بعض الظرفاء: (إن لله جنودًا من عسل)[32]، وقد أحسن المؤلف توظيف هذه الواقعة، إيمانًا بالقدر، وسعيًا في الحياة، وحسنَ توكلٍ على الله - عز وجل - وأخذًا بالأسباب، ورضًا بالنتائج، ويختم مقاله بقوله: (إن كل شيء في الكون جنديٌّ من جنود الله، والعسل أحلى هذه الجنود مذاقًا)[33]، ومن جميل تعبيره في هذا المقال قولُه: (وما أجمل أن يمضيَ المسلمُ، وهو يضرب في شعاب الحياة ناجحًا أو مخفقًا، فقيرًا أو غنيًّا، مريضًا أو صحيحًا، مستصحبًا باستمرارٍ عظمةَ الله وقدرته، مخلصًا له القول والعمل، حريصًا على الاستمساك بدينه، والدعوة إليه، ثابتًا على عهده معه حتى يلقاه، طالبًا منه العون والسداد، واثقًا أنه سيمده بجند من جنده، من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، راجيًا منه القَبول، مستقصيًا ما استطاع هؤلاء الجند عددًا وعدة، وتنوعًا وقدرة!)[34]؛ حيت نلحظ الترادف، والجُمَل القصيرة، والتنوع والاستقصاء، بل والاستغراق، وصولاً إلى أدق التفاصيل.
رابعًا: في الأدب العربي المعاصر: أدباء وآراء أدبية جريئة:
أما مقالاته الأهم في هذا الكتاب - من وجهة نطري؛ لِما تشتمل عليه من طرح فيه إبداع وتجديد وتميز - فهي أربع مقالات؛ هي: (طه حسين وشجاعة الاعتذار)، و(محمود محمد شاكر شيخ العربية وفارس الفُصْحى)، و(ورسالة إلى نجيب محفوظ)، و(أستاذي وأستاذ الأجيال: شوقي ضيف)، وفيما يأتي تفصيل ذلك.
ا- طه حسين وشجاعة الاعتذار[35]:
يورد فيه كيف أن طه حسين أصدر كتابه الشهير (في الشعر الجاهلي)، ثم عدَّل عنوانه في طبعات أخرى إلى (في الأدب الجاهلي)، وكان حينها في العقد الثالث من عمره؛ حيث ادَّعى فيه أن الشِّعرَ الجاهلي منحولٌ، وقال في حق الله كلامًا منكَرًا، فتح عليه بابَ خصومِهِ، وأعطاهم حُجَّة قوية ضده)[36]، وبعد عشرين عامًا أصدر كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) الذي (أكَّد فيه أن مصر تنتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط أكثر مما تنتمي لعالم العروبة والإسلام، ودعا إلى أن نأخذ الحضارة الغربية بخيرها وشرها، وما يُذَمُّ منها وما يُحمَد)[37]، محققًا بذلك شهرة واسعة هي بين أخذٍ وردٍّ، ويقول حيدر الغدير في ذلك: (وأيًّا كان فقد وجدتُ نفسي أُدِين الدكتور طه وأخالفه، لكنني ظللتُ في أعماقي أرى أنه مسلم محب للإسلام، قال ما قال - وهو غير مقتنع به - طلبًا للشهرة، أو إرضاءً لجهات معادية، أو الاثنين معًا)[38].
لكن الدكتور طه حسين بعد ذلك (ذهب إلى جُدَّة في مهمة ثقافية، وذلك في عام 1955م، وقد كبِر وشاخ ونضج، ونال كثيرًا مما كان يطمع أن يصل إليه، وحسنًا فعل حين ذهب إلى كلٍّ من مكة المكرمة والمدينة المنورة)[39]، وطه حسين يقول عن هذه الزيارة: (ولما زرتُ مكة والمدينة أحسستُ أنني أعيش بفكري وقلبي وجسدي جميعًا)[40]، ويقول: (وحاولتُ جهدي أن أتخلَّص من المطوفين والمزورين، ولكن محاولاتي ذهبتْ هباءً، وجدتني بين أيديهم أردِّد بلا وعيٍ ما يقولونه، ووجدتني في الوقت نفسه وحدي، وإن كنتُ في صحبتهم، كنت شخصين، وشخصية متكلمة بلا وعي... وكانت الشخصية الواعية بلا كلامٍ تناجي ربَّها في صِدق وصمت وخشوع)[41].
إن المؤلِّف يُحِيل هذا الكلام إلى ما نشرتْه مجلة العربي الكويتية - في عددها (519) الصادر في فبراير 3002 م - في مقال للأستاذ "محمد سيد بركة" عنوانه (وفي بيت الله الحرام: طه حسين يحج، والشيخ الشعراوي يستقبله)[42]؛ حيث يحسم الغدير موقفه منه بقوله: (وقد ربط هذا المقالُ على قلبي، وزادني يقينًا بما وَقَر في قلبي عن طه حسين من قديم)[43].
وينقل "حيدر الغدير" عن "محمد سيد بركة" قولَه في ذات المقال عن "أمين الخولي" الذي صاحبه في تلك الزيارة: (حين استلم طه حسين الحجر الأسود ظلَّ يتنهَّد ويبكي ويقبِّل الحجَر الأسود، حتى وقفتْ مواكب الحجيج انتظارًا لأن يغادر هذا الأديب الكبير المكفوف مكانه، ولكنه أطال البكاء والتنهُّدَ والتقبيل، ونسِيَ نفسه فتركوه في مكانه وأجهشوا معه في البكاء والتنهُّد)[44].
ويقول حيدر الغدير: "ومع الزمن ازداد اقتناعي رسوخًا حين سمعتُ من الأستاذ محمود محمد شاكر رحمه الله - في داره في القاهرة وفي الرياض حين كان يزورها، كما سمعت من سواه - أن الدكتور طه حسين كان يُسِرُّ لبعض جلسائِه وخاصَّتِه أنه أخطأ فيما قال)[45].
وهنا يأخذ حيدر الغدير على طه حسين (أنه اعترف بخطئه، لكن لم يصلْ به الأمر إلى أن يُعلِن ذلك في بيان شافٍ، وعلانية جهيرة، وقول فصل، وهو ما كان ينبغي له أن يعمله، فلا يجوز له أن يكون الخطأُ ملء السمع والبصر، والاعتذار عنه في جلسات خاصه ضيقة، وغفر الله للدكتور طه، لقد امتلك الجرأةَ على المجاهرة بالباطل، لكنه لم يمتلكِ الجرأةَ على المجاهرة بالحق، ولو أنه فعل لشكر له الناسُ ذلك، وأحبه حتى مَن عاداه، ونال رضا الخالق - وهو أجل وأبقى)[46].
ويختم حيدر الغدير مقاله عن طه حسين بالدعاء له قائلاً: يغفر الله للدكتور طه حسين أخطاءه، وتقبَّل حسناته، وعامله برحمته لا بعَدْلِه، وألهمنا العبرة من سيرته)[47].
2- محمود محمد شاكر:
أما مقاله عن (محمود محمد شاكر: شيخ العربية وفارس الفصحى)[48]، فقد تحدَّث فيه عن شموخ هذا الأديب، وإبائِه، وشخصيته المؤثِّرة، وعن حبه للعربية والعروبة، واعتزازه بهما، وثقافته الموسوعية، وتاريخه، وخصومته مع أستاذه طه حسين، وعن ابتلائه في العهد الناصري، فيقول: (وفي العهد الناصري دخل السجن مرَّتين، وهو ما ترك في نفسه جراحًا كثيرة، وفي المرة الثانية لازمه إِثْر خروجه نوعٌ من الاكتئاب والسخط، تخلص منه - أو من جزءٍ منه - بصعوبةٍ بالغة)[49].
ويقول الغدير: (ومن العجيب أن هذا الرجلَ منذ خصومته مع أستاذه طه حسين اختار الصمتَ أكثرَ مما اختار الكلام، مع كل الدواعي الشخصية والعامة التي تدعوه إلى الكلام)[50]، لكنه يُنصِفه بقوله: إن (هذا الرجلَ نادرٌ حقًّا)[51].
لقد أخذ حيدر الغدير على محمود محمد شاكر أنه (لم يستطع تجاوز أزمته مع الدكتور طه حسين، فقد ظلَّتْ هاجسًا ملحًّا عليه منذ أن وقعتْ حتى مات - أي سبعين عامًا - حقًّا لقد كانت الأزمة مهمَّة على مستواه الشخصي وعلى مستوى الأمة، لكن التعامل مع أزمة ما ينبغي أن يتحوَّل إلى عقدة دائمة، بحيث تأخذ أكبرَ من الاهتمام المكافئ لها، وبحيث تجور على اهتمام آخر ينبغي أن يوجَّه لأزمة أخرى، قد تكون أخطر وأكبر، ولكنه - مرة أخرى - المزاج الحادُّ وعَقَابِيله) [52].
ويرى حيدر الغدير أنه كان حريًّا بشيخ العربية ألا يقفَ عند مشكلته مع طه حسين وكأنها آخر المطاف، بل كان الأجدرُ به أن يتجاوز ذلك إلى تقديم البدائل، فيقول: (والأخطر أيضًا فهو تقديم البدائل، وماذا عسى أن ينفعك الطبيبُ الحاذق إذا عَرَف داءَك وأعلمك به، ولم يصِفْ لك الدواء) [53]، مؤكدًا أن (الجهر بهذه المعرفة يحتاج إلى شجاعة أدبية؛ لأن الجهرَ قوةٌ نفسية تصدم الآخرين فيما يعتقدون، ولقد امتلك الفقيد الشجاعتين العقلية والنفسية على السواء، ولكن هذا هو نصف المطلوب، أما النصف الآخر والأخطر أيضًا فهو تقديم البدائل)[54].
ويختم مقاله عنه بقوله: (رحمك يا أبا فهر، وأجزل لك المثوبة) [55]، داعيًا له بدعاء الفقيد محمود محمد شاكر نفسه لأخيه الشيخ أحمد - رحمه الله - بقوله: (اللهم تقبَّل عمَله، واغفر زلَّتَه، غير خالٍ من عفوِك، ولا محروم من إكرامك، اللهم أَسْبِغ عليه الواسع من فضلك، والمأمول من إحسانك، اللهم أَتْمِم عليه نعمتَك بالرِّضا، وآنِسْ وحشتَه في قبره بالرحمة، واجعل جُودَك بلالاً له من ظمأ البِلى، ورضوانَك نورًا في ظلام الثَّرى)[56].
3- نجيب محفوظ:
ومقاله الثالث في هذا الصدد جاء بعنوان (رسالة إلى نجيب محفوظ)[57]، وفيه أَنصف الرَّجُل بقوله: (وفي نجيب محفوظ أدبًا وحياةً وفكرًا الكثيرُ مما ينتزع الإعجاب)[58]؛ (فهو في فنه صاحبُ موهبة صقلها بالدَّرْس والصبر والمِران، فارتقى بها حتى بلغ ما بلغ، فكان القصَّاصَ العربي الأول)[59]، وهذا أمرٌ معلوم حقَّق له (شهرته العظمى في المجال القصصي)[60]، وهو أمر يعرفه القاصي والداني على حدٍّ سواء، إلا أن حيدر الغدير وجد كذلك في نجيب محفوظ شهرة أقل في (تلك الأفكار التي ينشرها في الصحف بأسلوب يتسم بالإيجاز شكلاً وبالعمق مضمونًا)[61]، ومنها نصان - (نشرهما في صحيفة الأهرام يناقش فيهما قضية العنف) -: الأول بعنوان (فتح الطريق المسدود)، والآخر (أسرة الإرهاب)، وقد نقلهما الأستاذ فهمي هويدي في صحيفة الأهرام، تحت عنوان (إنصافًا لنجيب محفوظ)؛ حيث يقول الغدير: (والقارئ لهذين النصين لا يسعه إلا أن يتوقَّف عندهما معجَبًا بسبب ما فيهما من تركيز مؤدٍّ، ونظرة شمولية، وصراحة مشكورة، وحسن تعليل)[62].
كما أن الغدير يشير إلى (الكلمة الموجزة الرائعة التي وجَّهها - وهو لا يزال يعالَج في المستشفى بسبب إصابته من محاولة اغتياله - إلى الندوة التي انعقدتْ في القاهرة تحت عنوان "نحو مشروع حضاري عربي"، في نوفمبر 1994م، والتي ألقاها عنه الأستاذ محمد سلماوي)[63]، وفيها يقول نجيب محفوظ: (ورأيي في اختصار هو أن المستقبل الحضاري يجب أن يقوم في أساسه على الإسلام، وفي تطوره على الحوار مع سائر حضارات العالم، والاستفادة من كل نقطة نورٍ لا تتناقض مع مبادئنا الأساسية)[64].
كما أنه في حديث أجري مع نجيب محفوظ عن روايته الشهيرة (أولاد حارتنا) قرَّر الروائي الشهير (بأن الأمور اختلفتْ منذ ثلاثين سنة)[65]، ويعلِّق حيدر على ذلك بقوله: (هو كلام طيب يوحي بالاعتذار، وإن كان لا يكفي، وأهمُّ من هذه الإشارة قولُه لمحاوره: "لعلِّي تبتُ يا أخي"[66].
لقد أورد حيدر الغدير على نجيب محفوظ عددًا من المآخذ؛ حيث إن (فكره خليطٌ من الليبرالية والعَلْمانية)[67]، ومنها أيضًا (أن الأديب الكبير كان أحدَ الذين دافعوا عن سلمان رشدي)[68]، كما يأخذ عليه كذلك (اعتذاره لظروفه الصحية - وهي ظروف صعبة حقًّا[69] - عن (أداء العمرة ممن دعاه إليها، على الرغم من تقديم الداعي له كلَّ التسهيلات لأداء عمرةٍ سهلة ميسَّرة)[70].
ومع ذلك فقد أشاد المؤلِّف حيدر الغدير باعتذاره عن عدم (حضوره حفل جائزة نوبل مع كل مغرياته الكثيرة)[71]، ويشكره (لأن في ذلك دليلاً على عفَّةٍ وزُهد وترفُّع)[72].
وينهي حيدر الغدير كلامَه عنه بقوله: (أيها الأديب الكبير لو كنتُ بالقرب منك يوم "14/10/1994م" أثناء محاولة الاغتيال لحاولتُ مساعدتك، لكني مع ذلك لا أملِكُ إلا أن أقول لك: أخطأتَ هنا وأصبتَ هناك)[73].
4- شوقي ضيف:
أما مقالة (أستاذي وأستاذ الأجيال: شوقي ضيف)[74]، فيشتمل على إشادة بالغة لا تكاد تنتهي، مؤكدًا فيه أن شوقي ضيف - رحمه الله - كان (متدينًا تدينًا عميقًا، محبًّا للإسلام، معتزًّا به، واسعَ الثقافة فيه)[75]، وأخذ ذلك عن حفظه للقرآن الكريم الذي ظلَّ وثيقَ الصلة به طيلة حياته، يضاف إلى ذلك قراءاته المستفيضة عن الإسلام التي كانت ركنًا ركينًا في حياته)[76].
ويُشيد به واصفًا إياه بجملةٍ من الصفات الحميدة، فيقول: (كان رجلاً عفيفًا، عفيف السريرة، عفيف المظهر؛ لذلك كان لسانُه في غاية الأدب مع مَن يُوَافِقه، ومع مَن يخالفه.. وكان فيه نوع التصوف الذي نجا من السلبية والخرافة وذوبان الشخصية، كما نجا من الضلالات والانحرافات.. وفيه قناعة، ونقاء، وصفاء، وزهد، و عفاف، ورضا، وصبر، وتوكُّل، مع عمل دؤوب، وعزم قوي، وضبط للوسيلة، وتفانٍ وإتقان، كل ذلك في إطار من التوازن والشمول والانسجام)[77].
إنه وصف بديع محكَم من طالبٍ وَفِيٍّ لأستاذٍ جليلٍ يُكِنُّ له أسمى آيات الاحترام والتقدير، وقد أشاد بكتاباته ولغته وإبداعه، واحترامه لأساتذته الأعلام، وحبِّه لهم؛ فهو - أي شوقي ضيف - يحترمهم، لكنه (لم يَذُبْ في أحدٍ منهم قط، ولعل أبرزَ مَثَل لهذا هو موقفه من طه حسين الذي اختاره معيدًا، ومنحه درجة الدكتوراه بتفوُّق، لقد حفظ له الجميل، ولكنه خالفه في أدبٍ وصراحة في قضية الانتحال في الشِّعر الجاهلي)[78].
لقد أشار المؤلف إلى نثارٍ من ذكرياته الخاصة مع الدكتور شوقي ضيف، وقُرْبِه منه، وثناءِ ذلك الأديب العملاق على تلميذه حيدر الغدير في عدد من المواقف، وتشجيعِه له، ومنحِه درجة الامتياز في الماجستير، كما أن المؤلِّفَ حيدر الغدير - ومن باب الوفاء لأستاذه وأستاذ الأجيال، على حد قوله - قدَّم عددًا من المقترحات الإيجابية البنَّاءة لتخليد اسم الدكتور شوقي ضيف، وتخليد مكانته الأدبية العلمية، وهو أهلٌ لذلك التخليد، وجديرٌ به بلا شك.
خامسًا: مقالات انطباعية دعوية وتربوية وشخصية:
والآن نتوقف - في شيء من الإيجاز - عند بقية موضوعات الكتاب؛ وهي:
عن (الإكرام والطعام)[79]، موجهًا النظر إلى التخلي عن المبالغة في الإكرام من خلال الإطعام حيث يجب وحيث لا يجب؛ لِما في ذلك من إضاعة للأوقات في التزاور والإطعام والإسراف، داعيًا إلى الالتفات إلى ما هو أَوْلى بالإنفاق على الأهم، وصرف الوقت في المفيد، والاعتدال والقصد في هذا الأمر، فيقول: (إن الإكرامَ بالطعام حيث ينبغي هو أمرٌ حميد، لكن الخطأ أن نجعله قاعدةً مطردة في كل الحالات)[80]، وإن الكرمَ (هو قيمة نبيلة ثابتة، لكن التعبير عنه ينبغي أن يكون متحركًا غيرَ ثابت)[81].
(تجربة دعوية)[82] يتحدَّث فيها عن اجتماع المسلمين في بريطانيا في يوم عيد، في حديقة للصلاة والبهجة وقضاء يوم ممتع، مثنيًا على أنهم لم يغادروا مكانهم من الحديقة إلا وهو نظيف تمامًا، الأمر الذي ترك انطباعًا حسنًا عند الجهات المختصة، وهذا أسلوبٌ عملي من أساليب الدعوة الحميدة غير المباشرة[83].
(دموع في محراب الخشوع)[84]، وهو عن العالِم المسلم "عناية الله الهندي المشرفي" وصداقته وصلته بالعالِم الإنجليزي الفلكي الغربي المشهور "السير جيمس جينز" في جامعة كمبردج، وانبهار الأخير بالأجرام السماوية، مشيرًا إلى ما قدَّمه له العالِم الهندي من آيات بيِّنات محكَمات في هذا المجال، واستشهاده على ذلك بقوله - تعالى -: ﴿ ... وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ [فاطر: 27]، ولَمَّا أعرب "السير جيمس" عن إعجابه تلا عليه العالِمُ الهندي قوله - تعالى -: ﴿ ... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]؛ فازداد إعجابُه، واشتدتْ دهشته[85].
أما مقاله: (أربعون صلاة)[86]، فإن المؤلف يتحدَّث فيه عن تَجْرِبة شخصية له؛ حيث حَرَص على أداء أربعين صلاة متوالية في الحرم النبوي الشريف، مؤمِّلاً أن يفوزَ بالجائزة الثمينة لمن يفعل ذلك؛ اعتمادًا على الحديث النبوي الذي رواه الإمام أحمد في مسنده: ((مَن صلَّى في مسجدي هذا أربعين صلاةً لا تفوتُه صلاة، كتبتُ له براءةٌ من النار، ونجاةٌ من العذاب، وبَرِئ من النفاق))، وقد ساق تجربته الشخصية هذه بأسلوب رُوحاني إيماني شيِّق.
وفي مقاله: (عَرَف عُمَر فتوهَّج)[87] ينقل قصةً سَمعها من أستاذه الدكتور شوقي ضيف، ومفادها أن مستعربًا إيطاليًّا جاء إلى القاهرة طالبًا لعلوم العربية فيها، وشاء الله - عز وجل - له أن يقعَ على كتاب عن الخليفة العبقري عمر بن الخطاب، فقرأه فبهرته شخصيةُ الخليفة العظيم، عندها قال للدكتور شوقي ضيف: (إن نبيَّكم صادق، وأنا أجزم بذلك؛ لأن رجلاً بحجم عمر لا يمكن أن يُلْقِي قِيادَه لرجلٍ كاذبٍ)[88].
وفي مقاله: (رَأَى ملابسَ الإحرام فتوهَّج)[89] يتحدَّث المؤلِّف عن وَفْدٍ جاء إلى جُدَّة من بلد عربي، وكان في الوفد رجلٌ شيوعيٌّ يساري الاتجاه، وحين جاء إلى الوفد مَن يدعوهم إلى العمرة فَرِح الجميع بك إلا هذا الشيوعي، لكنه حين رأى زملاءه يرتدون ملابس الإحرام ويلبُّون؛ استيقظ فيه إيمانُه الفطري الكامن في أعماقه، فأحرم مثلهم، وأدى العمرة معهم، وعاد وقد خلع الشيوعية عنه جملة وتفصيلاً.
ويُحسِن المؤلِّف توظيف هذه الواقعة؛ ليذكِّرنا بأن في أغوار نفسية المسلم العاصي تبقى هناك مساحةٌ دفينة من الإيمان، ينبغي لنا أن نكون عونًا له في إحيائها وتوهُّجها، يقول في جمل قصيرة مترادفة حانية معبرة: (وعلى الدعاة أن يكتشفوا هذه المساحة بالصبر والأمل، والوُدِّ الصادق، والبسمة الحانية، وحب الخير، والهدية الطيبة، وبذل المعروف، والكلمة الودود، والتبشير لا التنفير، والقدوة الحسنة، وحُسن الخُلق، وخفض الجَنَاح، ومعرفة مفتاح الشخصية التي يتعاملون معها، فإذا تَمَّ لهم ذلك وسَّعوا هذه المساحة، ونموها، وغذوها بانتظار ساعة التوهُّج، وهي آتية - ذات يوم - في موقف ما يعده الله - عز وجل - برحمته وعنايتِه وحبِّه لخَلْقه)[90].
أما مقاله: (يحدِّثونك عن النجاح، الإرادة أولاً)[91]، فيتحدَّث المؤلِّفُ فيه عن دَوْر الإرادة في مواجهة الصعاب، واستشراف المستقبل، وصناعة البدائل، وهي مقالةٌ ذاتُ نَفَسٍ عملي تربوي، وقد أورد فيها قصصًا عن أربعة من الناجحين، عَرَفهم معرفة شخصية، فقد كانوا نماذج مشرفة للإرادة والفاعلية.
ومقاله الذي يحمل عنوان (هلاَّ كنت الطائر المبصر)[92] هو من حيث المغزى والمؤدَّى مشابهٌ للمقال السابع الآنف الذكر.
أما مقاله: (ساعتي الأثيرة)[93]، فإن مغزاه يدور حول ضرورة العناية بالأشياء؛ استجابةً للتوجيه النبوي الكريم: ((إن الله كتب الإحسانَ على كل شيء))؛ حيث إن حُسْن التعامل مع الأشياء يجعلها صالحة للخدمة مدَّة أطول، وبذلك نوفِّر الكثيرَ من المال والوقت والجهد، وفي ذلك فوائد جَمَّة لنا دينًا ودنيا، وللتدليل على ذلك فإن الغدير يستخدم في هذا الصدد حسنَ التعليل وسلامةَ التبرير؛ إذ يقول بإيجاز شديد: (إن الساعة وسيلة لضبط الوقت، وليستْ غايةً في حد ذاتها، وساعتي الأثيرة تؤدِّي مهمتها بدقَّة تامة، فلِمَ التغيير؟!)[94].
وفي مقاله: (لون من المحاسبة)[95] دعوةٌ تربوية إلى أن يُحَاسِب المرءُ نفسه باستمرارٍ؛ ليحتفظَ بما عنده من حسنات، ويتخلَّص مما فيه من عيوب، ويترقى في آفاق الكمال الإنساني.
وعندما يقوم حيدر الغدير بذلك يعيش حالةً من الزهد والتطهر النفسي، فيقول: (وحين كنتُ أنظر إلى ما مضى من العمر، وأشعر أني قد لا أقوم من نومي؛ تهون عليَّ الدنيا هوانًا كبيرًا، ويزداد تعلقي بالباقي القادم على حساب الفاني المنصرم)[96]، وبعد أن يقوم بهذه المحاسبة يصوِّر أثرها في نفسه بقوله: (في الليالي التي أحاسب نفسي فيها حسابًا شاملاً، وأقرأ الأدعية المأثورة كاملة؛ كنت أشعر أنني خرجتُ من حمام "ساونا" نفسيٍّ نقَّانِي أحسن النقاء، وطهَّرني أحسن التطهير، ورَبَط على قلبي، وجعلني في معية الله - عز وجل)[97].
الخاتمة:
إن مَن يبدأ بقراءة هذا الكتاب يجد نفسه مشدودًا إلى متابعة مقالاته واحدة إثر الأخرى إلى أن ينتهي منه، وقد اتَّسمتْ كتابةُ المؤلف باتساع الخبرة، والتعبير عما يجده في سفره وترحاله، كما اتَّسمتْ كتابتُه باللغة الفصحى، البيِّنة الدقيقة، السهلة اليسيرة، والجمل القصيرة، والتصوير المعبِّر، والحكمة والاعتدال في تناول الأفكار والتدليل عليها، والإنصاف، والرُّوح الدعوية، وحب الخير للجميع، والنقد البنَّاء من غير إفراط ولا تفريط، ونلحظ في عبارات كتابه أثرَ الزيات والطنطاوي والرافعي فيه، ويظهر ذلك في الجمل القصيرة، وفي توازن العبارات، وفي الترادف، والاستقصاء، والوضوح، وحسن الاستدلال والتعليل، والرُّوح الدعوية الخيرة.
[1] هي على التوالي: مَن يطفئ الشمس، غدًا نأتيك يا أقصى، عادت لنا الخنساء.
[2] ص7.
[3] ص10.
[4] ص10.
[5] ص11.
[6] ص12.
[7] ص15.
[8] ص47.
[9] ص24.
[10] ص 25.
[11] ص 26.
[12] ص 27.
[13] ص 39.
[14] ص34.
[15] ص36.
[16] ص36.
[17] ص37.
[18] ص48، جزء من قول لشاعر لعربي.
[19] ص56.
[20] ص17.
[21] ص57.
[22] ص61.
[23] ص94.
[24] ص99.
[25] ص116.
[26] ص118.
[27] ص103.
[28] ص 107.
[29] ص 108.
[30] ص 109.
[31] ص 76 .
[32] ص 77
[33] ص 78.
[34] ص 77.
[35] ص120.
[36] ص120.
[37] ص121.
[38] ص121.
[39] ص122.
[40] ص122.
[41] ص122.
[42] ص122.
[43] ص122
[44] ص124.
[45] ص120.
[46] ص122
[47] ص126.
[48] ص127.
[49] ص132.
[50] ص136.
[51] ص136
[52] ص137.
[53] ص138.
[54] ص138.
[55] ص138.
[56] ص138.
[57] ص139.
[58] ص139.
[59] ص139.
[60] ص140.
[61] ص140.
[62] ص142.
[63] ص143.
[64] ص143.
[65] ص144.
[66] ص144.
[67] ص145.
[68] ص146.
[69] ص148.
[70] ص148
[71] ص148
[72] ص148
[73] ص149.
[74] ص150.
[75] ص151.
[76] ص151.
[77] ص152.
[78] ص153-154.
[79] ص160.
[80] ص162.
[81] ص163.
[82] ص163.
[83] ص163 - 164.
[84] ص166.
[85] ص168.
[86] ص62.
[87] ص68.
[88] ص68.
[89] ص70.
[90] ص72.
[91] ص88.
[92] ص73.
[93] ص79.
[94] ص80.
[95] ص83.
[96] ص86.
[97] ص86.
عبدالرزاق ديار بكرلي
دراسة في المحتوى[1]
تضمَّن الكتاب (27) مقالةً، سبق للأديب القدير أن قدَّم بعضها في الإذاعة السعودية، ونشر بعضها في عددٍ من الصحف والمجلات، في مراحل متعدِّدة من حياته وشبابه، ثم جمعها ونشرها بين دفَّتَي هذا الكتاب، الذي تتراوح موضوعاته بين (أدب الرحلات)، ومقالات حول عدد من (الرجال العظماء)، وجولات في بعض جوانب (التاريخ الإسلامي)، ووقفات مهمة في جوانب (من الأدب العربي المعاصر: أدباء وآراء أدبية جريئة) ومقالات انطباعية متفرقة حول أمور (دعوية وتربوية وشخصية) متعددة.
أولاً: من أدب الرحلات:
لقد قام المؤلِّف بعدَّة زيارات إلى أنحاء متعدِّدة من العالَم حاملاً معه (كاميرا) القلم، يشاهد ويرصد، ويصور ويتأثَّر، ويعبِّر بالكلمات، ويُحسِن اختيارَ اللقطات، منتجًا فيلمًا يسبح معه الخيال في فضاءات تاريخية وحضارية متعددة متنوعة، مشبعة بروح الفنان الأديب والأديب الفنان.
في الأندلس:
لقد تجوَّل الكاتب في إسبانيا عامة، وفي ربوع أندلسها خاصة، متنقلاً بين آثارها الإسلامية العريقة، راسمًا أحلى التأملات والذكريات عن ماضيها الذي خطَّته يدُ العبقرية الإسلامية الفذة، مسجلاً أروعَ الصور الوجدانية لماضٍ ما يزال شاخصًا إلى اليوم، يؤمُّه الزوَّار والسيَّاح من مشارق الأرض ومغاربها، متأمِّلين في كل زاوية من زوايا تلك الحضارة العظيمة، التي لم يَعرِف التاريخُ أرحمَ من فاتحيها، فكانتْ زياراته بين رِحَاب إسبانيا عامة وأندلسها خاصة، وعنها جاءت مقالاته: (صلاة في الحمراء)، و(المسجد المحزون)، و(رعب في مدريد)، و(أندلسيات حسناوات جدًّا)، و(لعينيك يا رندة)، و(صخور وعزائم).
ففي مقالِه الأول: (صلاة في الحمراء)[2] يتحدَّث عن زيارته لقصر الحمراء العظيم عام 1996م، ذاكرًا أنه خلال تَجْوَاله بين آثاره وردهاته، واستئناسه بقصوره الخلابة، وحدائقه البديعة، ولا سيما (جنة العريف) - حضرتْه الصلاة، فيقول: (نظرت في الساعة فوجدتُ آن وقت صلاة الجمعة قد حلَّ، ولما كنتُ مسافرًا، فقد عزمت على أداء صلاة الظهر والعصر قصرًا وجمعًا، فانتحيت مكانًا هادئًا يختبئ تحت ظلال ممتدَّة، شكلتها أشجار السرو، وتحرَّيت القبلة، وأخذتُ أصلي)[3].
وفي أثناء أدائه الصلاة كانتْ رحلةٌ مدرسية تَجُول في ذات المكان، فشعر بأن مجموعة من الأولاد - مع مشرفتهم العجوز - ينظرون إليه، فيقول: (فإذا بي أجدُ نفسي أثناء صلاتي وقد صرتُ منظرًا غريبًا يقترب منه عددٌ فينظر ويستغرب أو يضحك، ويعود إلى مجموعته ليأتي عدد آخر وهكذا، ولا تزال صورةُ بعض الفتيات الصغيرات اللواتي يلبسن زيًّا موحدًا - ولعلهن في المرحلة الابتدائية - ينظرْنَ إليه، ويتغامزن ويتقافزن، ثم يعُدْن إلى الراهبة العجوز التي كانتْ حريصة جدًّا عليهن... وربما سألْنَها عما كنتُ أفعل، وربما أجابت إجابة صحيحة أو خاطئة)[4].
ثم ما لَبِث في مقاله أن عاد إلى خَلوته - وقد أدركه حزن عميق - متسائلاً: (كيف ساد الإسلام في هذه الربوع قرونًا طويلة، ثم باد؟)، ولكنه لا يلبث أن يعزِّي نفسه بأن (البشائر الجميلة الواعدة لعودة الإسلام إلى الأندلس، بل إسبانيا كلها قد بدأتْ، وأنها تعتمد على الكلمة الطيبة، والنية الصادقة، والقدوة الحسنة قبل كل شيء)[5].
أما مقاله: (المسجد المحزون)[6]، فكان عن "مسجد قرطبة"، وأميرها الداهية الشجاع عبدالرحمن الداخل، فقد صَعِد الكاتب إلى مِئْذَنة المسجد، ووقف في أعلاها قُرْبَ ناقوس كبير، فيقول: (فأدركتْنِي حسرةٌ لا حدَّ لها، وتنامى فِيَّ شعورٌ طاغٍ بالأحزان، ثم وقع في خاطري أن هذه المِئْذَنة العزيزة قد اشتاقتْ إلى الأذان الذي لم تسمعْه منذ قرون، فحقَّقت لها رغبتها فأذَّنت وفي عيني دموع حَرَّى)[7]، وأثناء زيارته لهذا المسجد يقول في موطن آخر من الكتاب: (ويومها غلبني الوَجْد، فقلت: سوف أؤذن في منارة المسجد كما أذَّنت في محرابه، فصَعِدت المنارةَ التي صارت ملأى بالنواقيس، فأذَّنت لإبهاج المنارة وإغاظة النواقيس)[8].
وفي مقاله: (صخور وعزائم)[9] تصويرٌ بليغٌ لقرية صغيرة جدًّا تدعى (كوفادنجا) تقع في أقصى شمال إسبانيا قرب (كانجاس دي أونيس) وهي منطقة وعرة جدًّا (ما يكاد المرء يراها بواديها الضيق وجبالها الشاهقة، حتى يقدر أنها أفضل مكان للحروب الفردية، أو حروب العصابات، وبالتالي أفضل مكان للحادثة التاريخية الغريبة)[10]؛ حيث إن عددًا قليلا جدًّا من شجعان النصارى اعتصموا بها، ورفضوا الخضوع للمسلمين، ونظرًا لوعورة المكان، وكونه نائيًا جدًّا، ولقلة عدد هؤلاء المتمردين؛ فقد تركهم المسلمون وشأنَهم، استهانةً بهم وليتهم لم يفعلوا؛ ذلك أن هؤلاء المتمرِّدين القلائل كانوا نواةَ حركةِ الاسترداد الإسبانية التي نَمَت بالتدريج، وتمكَّنت مع تزايد قوَّتها، وضعف المسلمين وفُرقتهم، وبعد ثمانية قرون من الكر والفر - من الإجهاز في النهاية على الدولة الإسلامية في إسبانيا، وهنا يستشهد الغدير بالقول العربي البليغ (ومعظمُ النارِ من مستصغر الشَّرر)[11].
هذا وقد أصبحتْ لمغارة "كوفادنجا" - التي يقال: إن شجعان النصارى الذين رفضوا الخضوع للفاتح المسلم اختبؤوا فيها، والتي تقع في المكان الوعر الذي سبقت الإشارة إليه - أسطورةً دينية ذاتَ قداسة خاصة، ويصف هذه المغارة بقوله: (وصلتُ المغارة بواسطة سُلَّم طويل صاعد يبدأ من الوادي السحيق وينتهي بها، وإلى يساره شلال ماء صغير له صوت جميل، حتى إذا دخلت المغارة وجدتها طويلة عريضة واسعة، ولكن خيِّل إلَيَّ أن يد الإنسان تدخَّلت فيها؛ ذلك أن فيها من الاستواء ما لا يكون في أمثالها من المغارات المتروكة كما خلقها الله - عز وجل)[12].
لقد كانتْ رحلته إلى هذا المكان رحلةً طريفةًعبَّرت عن شوق استبدَّ به حتى وصل إلى مراده، لكنه - بكل تأكيد - استطاع أن يمنحه التصوير الدقيق، فيقول: (أيًّا كان الأمر، فإن "كوفادنجا" تستحق عناء الرحلة؛ فهي منطقة جميلة، وأجمل منها المدن والقرى، والجبال والوديان التي تقطعها في طريقك إليها، وجمالها جمال بديعٌ، فيه تجدُّد وتنوع وغرابة، ثم إنها مسرح موقعة تاريخية مهمة جدًّا، وإذا كانتْ هذه المعركة صغيرةً من حيث عدد المقاتلين، فإن نتائجها البعيدة كانتْ جليلة جدًّا، ثم إن فيها عبرة بالغة جدًّا لخطورة الاستهانة بما ينمو ويستفحل)[13].
ومقاله: (رعب في مدريد)[14] يتحدَّث فيه عن موقف شخصي حدث له، وذلك أنه كان يتمشى رياضة في أحد شوارع مدريد، وعند إحدى إشارات المرور لاحقتْه امرأة يبدو أنها مخمورة - أو من أصحاب المخدِّرات - وأمسكتْ به من عنقه، وأخذت تنادي "البوليس"، فأدركه رعبٌ وحياءٌ، وكان سريع البديهة في حسن التصرف للتخلص من المأزق الذي وجد نفسه فيه، فقد دفعها عنه حتى وقعت على الأرض، وأخذ يعدو راكضًا وكأنه (أرنب مذعور)[15]، ثم ركب سيارة أجرة متخلصًا منها، يقول (وما زلت حتى الآن أتساءل: لماذا فعلتْ بي هذه الحمقاءُ ما فعلت؟)[16].
أما مقاله: (أندلسيات حسناوات جدًّا)[17]، فقد امتزج فيه الشعر بالنثر، والخيال بالواقع، وفيه أورد الكثيرَ من المواقف والأفكار التي طرأتْ عليه في تذكره لإسبانيا، ولأندلسها، ورجالاتها، وعظمائها، ومعاركها، وشعرائها، وكتَّابها، وغير ذلك؛ فهي كلُّها حسناوات (والشَّجَا يبعث الشَّجَا)[18]، وهو في حقيقته عدَّة مقالات في مقال واحد، وهو طويل جدًّا قياسًا بغيره من المقالات التي حفل بها الكتاب، كما أن فيه شيئًا من الخصوصيات المتمثلة في ذكر أولاده، وهم ما بين يافع وصغير، وكانوا يرافقونه في بعض هذه الرحلات والمغامرات الشاقة والشائقة أيضًا، وفي سياق طريف يصف تلك المواقف والموضوعات بأنهن حسناواتُه، فهن - كما يقول -: (حسناواتٌ إسبانيات لا أزال أتذكَّرهن... وهؤلاء (حسناوات هن - مع الأسف - من الذكريات لا من النساء)[19].
وفي مقاله: (لعينين يا رندة)[20] تحدَّث عن رحلة له إلى هذه المدينة، وهي مدينة زارها وعايشها، وفي صحبته ذكريات "محمد أسد" الذي سبق له أن زار هذه المدينةَ وأُعجِب بها، وسبق للغدير أن زار "محمد أسد" في بيته في طنجة، فنصحه أن يزورَها، لقد وصل إليها وفي مخيلته شاعرها وأديبها "أبو البقاء الرندي صاحب" القصيدة الشهيرة التي مطلعها:
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ <h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
فَلاَ يُغَرَّ بِطِيبِ الْعَيْشِ إِنْسَانُ <h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
هِيَ الْأُمُورُكَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ <h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ <h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
وفيها من أعاجيب المواقف التي حدثتْ له - تلك الليلة - ما يجعلك تُشفِق عليه وعلى عياله؛ حيث قضوا ليلتهم نيامًا في السيارة إلى جانب مخفر للشرطة، وفي هذا الموضع قام بجولات خطيرة ما كان أغناه وأغنى أهله وعياله عنها! غير أن حبَّه وتطلُّعه إلى معرفة كل جزئية من تاريخ حضارة المسلمين في إسبانيا، وبحثه عن المعرفة والمجهول - هو الذي صبَّرهم جميعًا، وأعانهم على تحمل ذلك العناء الذي لا تقوم عليه إلا مجموعة من العزاب وهم في فورة الشباب والقوة.
في ماليزيا:
كتب عن رحلته إلى ماليزيا هذا المقال، وعنوانه (ليلة لا تنسى)[21]؛ حيث إنه زار منطقة جبَليَّة فيها اسمها (كاميرون هاي لاند)، ويختم حديثه البديع عن هذه الزيارة بقوله: (شكر الله لمن نصحني بهدف الرحلة التي دامتْ يومًا واحدًا لا ينسى، شكر الله للإمام الذي اصطحبني معه وأكرمني، وكان الأخ والدليل والمترجِم، وعسى أن أظفر برحلة أخرى إلى هذا المكان البديع، على أن أكون وحدي، أو مع صحبة تعشق ما أعشقه من السياحة التي تجمع إلى مُتَع الجسم مُتَعَ الرُّوح، والتي تحرص على التأمل فيما نراه من أشياء، وفيما يكمن وراء هذه الأشياء)[22].
ثانيًا: مقالاته عن عدد من الرجال العظماء:
وفي هذا الباب - وبأسلوبه الأدبي الرشيق - تحدَّث عن عددٍ من الرجال الذين استوقفه منهم جانبٌ من الجوانب الإنسانية العظيمة، التي يتفرَّد بها هذا أو ذاك، ومن ذلك حديثه بعنوان (مع الحاج أمين الحسيني: عبرة وذكرى)[23]، وعن رأي "محمد أسد" في اليهود، وذلك في مقاله (الطمع القاتل: مستقبل اليهود في فلسطين كما يراه محمد أسد)[24]، وحديثه عن القاضي النَّزيه (عاقبة بن يزيد) [25]موافقة الحازم من أخذ الرشوة؛ فقد طرد صاحبها وأغلظ له القول[26].
ثالثًا: ومن التاريخ الإسلامي:
ومن التاريخ الإسلامي جاء مقاله: (التسامح الديني اختراع إسلامي)[27]؛ حيث إن التاريخ لم يعرف فاتحًا أرحم من العرب، والقيود هنا هم المسلمون: وينقل فيه عن الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - جملة بليغة يصفها بأنها: (جملة بديعة يحسن إيرادُها في هذا المجال، فيها دقةٌ وإيجاز وإبداع، يقرِّر فيها أن التسامحَ الديني إنما هو اختراع إسلامي؛ ذلك أن الإسلام أول مَن بدأه، وأن المسلمين أول مَن طبقوه)[28].
ومن ذلك أيضًا مقاله: (الصحابة وسَقِيفة بَنِي سَاعِدة) [29]، ودورهم تحت ظلال تلك السقيفة في حسم الموقف، فيقول: (وإدراك الصحابة - بفطرتهم السوية وعقولهم المتوقِّدة - لأهمية اللحظة التاريخية، وأداؤهم الممتاز فيها؛ يذكِّر الدارس المتابع بأن في حياةِ الدول والحضارات والحركات والأحزاب - فضلاً عن الأفراد - حالاتٍ في غاية الدِّقة والخطورة، يتوقَّف فيها النجاح والإخفاق - وربما البقاء والفَناء - على إدراك أهمية "اللحظة التاريخية"، وطريقة التعامل معها[30]، متحدثًا - في هذا المقال - عن دَوْر الشُّورى في مثل هذه المواقف الحرجة العصيبة.
ومن ذلك مقالُه: (إن لله جنودًا من عسل)[31]، فهو يتحدَّث فيه عن واقعة تاريخية، جَرَتْ في أعقاب معركة "نهاوند" أيام الفتوح الإسلامية لبلاد فارس؛ حيث فرَّ القائدُ الفارسي يومذاك، واسمه "الفيرزارن" لكن عددًا كبيرًا من الفلاحين الفرس الهاربين - الذين حَرَصوا على حمل ما يملكون من العسل معهم على دوابهم؛ لكونه أثمنَ ما عندهم - ضيَّقوا بكثرتهم ودوابِّهم الطريق، فأضاع ذلك على (الفيرزان) فرصة الهَرَب؛ إذ لحقت به كتيبةُ المطاردة وقتلتْه، ويومها قال بعض الظرفاء: (إن لله جنودًا من عسل)[32]، وقد أحسن المؤلف توظيف هذه الواقعة، إيمانًا بالقدر، وسعيًا في الحياة، وحسنَ توكلٍ على الله - عز وجل - وأخذًا بالأسباب، ورضًا بالنتائج، ويختم مقاله بقوله: (إن كل شيء في الكون جنديٌّ من جنود الله، والعسل أحلى هذه الجنود مذاقًا)[33]، ومن جميل تعبيره في هذا المقال قولُه: (وما أجمل أن يمضيَ المسلمُ، وهو يضرب في شعاب الحياة ناجحًا أو مخفقًا، فقيرًا أو غنيًّا، مريضًا أو صحيحًا، مستصحبًا باستمرارٍ عظمةَ الله وقدرته، مخلصًا له القول والعمل، حريصًا على الاستمساك بدينه، والدعوة إليه، ثابتًا على عهده معه حتى يلقاه، طالبًا منه العون والسداد، واثقًا أنه سيمده بجند من جنده، من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، راجيًا منه القَبول، مستقصيًا ما استطاع هؤلاء الجند عددًا وعدة، وتنوعًا وقدرة!)[34]؛ حيت نلحظ الترادف، والجُمَل القصيرة، والتنوع والاستقصاء، بل والاستغراق، وصولاً إلى أدق التفاصيل.
رابعًا: في الأدب العربي المعاصر: أدباء وآراء أدبية جريئة:
أما مقالاته الأهم في هذا الكتاب - من وجهة نطري؛ لِما تشتمل عليه من طرح فيه إبداع وتجديد وتميز - فهي أربع مقالات؛ هي: (طه حسين وشجاعة الاعتذار)، و(محمود محمد شاكر شيخ العربية وفارس الفُصْحى)، و(ورسالة إلى نجيب محفوظ)، و(أستاذي وأستاذ الأجيال: شوقي ضيف)، وفيما يأتي تفصيل ذلك.
ا- طه حسين وشجاعة الاعتذار[35]:
يورد فيه كيف أن طه حسين أصدر كتابه الشهير (في الشعر الجاهلي)، ثم عدَّل عنوانه في طبعات أخرى إلى (في الأدب الجاهلي)، وكان حينها في العقد الثالث من عمره؛ حيث ادَّعى فيه أن الشِّعرَ الجاهلي منحولٌ، وقال في حق الله كلامًا منكَرًا، فتح عليه بابَ خصومِهِ، وأعطاهم حُجَّة قوية ضده)[36]، وبعد عشرين عامًا أصدر كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) الذي (أكَّد فيه أن مصر تنتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط أكثر مما تنتمي لعالم العروبة والإسلام، ودعا إلى أن نأخذ الحضارة الغربية بخيرها وشرها، وما يُذَمُّ منها وما يُحمَد)[37]، محققًا بذلك شهرة واسعة هي بين أخذٍ وردٍّ، ويقول حيدر الغدير في ذلك: (وأيًّا كان فقد وجدتُ نفسي أُدِين الدكتور طه وأخالفه، لكنني ظللتُ في أعماقي أرى أنه مسلم محب للإسلام، قال ما قال - وهو غير مقتنع به - طلبًا للشهرة، أو إرضاءً لجهات معادية، أو الاثنين معًا)[38].
لكن الدكتور طه حسين بعد ذلك (ذهب إلى جُدَّة في مهمة ثقافية، وذلك في عام 1955م، وقد كبِر وشاخ ونضج، ونال كثيرًا مما كان يطمع أن يصل إليه، وحسنًا فعل حين ذهب إلى كلٍّ من مكة المكرمة والمدينة المنورة)[39]، وطه حسين يقول عن هذه الزيارة: (ولما زرتُ مكة والمدينة أحسستُ أنني أعيش بفكري وقلبي وجسدي جميعًا)[40]، ويقول: (وحاولتُ جهدي أن أتخلَّص من المطوفين والمزورين، ولكن محاولاتي ذهبتْ هباءً، وجدتني بين أيديهم أردِّد بلا وعيٍ ما يقولونه، ووجدتني في الوقت نفسه وحدي، وإن كنتُ في صحبتهم، كنت شخصين، وشخصية متكلمة بلا وعي... وكانت الشخصية الواعية بلا كلامٍ تناجي ربَّها في صِدق وصمت وخشوع)[41].
إن المؤلِّف يُحِيل هذا الكلام إلى ما نشرتْه مجلة العربي الكويتية - في عددها (519) الصادر في فبراير 3002 م - في مقال للأستاذ "محمد سيد بركة" عنوانه (وفي بيت الله الحرام: طه حسين يحج، والشيخ الشعراوي يستقبله)[42]؛ حيث يحسم الغدير موقفه منه بقوله: (وقد ربط هذا المقالُ على قلبي، وزادني يقينًا بما وَقَر في قلبي عن طه حسين من قديم)[43].
وينقل "حيدر الغدير" عن "محمد سيد بركة" قولَه في ذات المقال عن "أمين الخولي" الذي صاحبه في تلك الزيارة: (حين استلم طه حسين الحجر الأسود ظلَّ يتنهَّد ويبكي ويقبِّل الحجَر الأسود، حتى وقفتْ مواكب الحجيج انتظارًا لأن يغادر هذا الأديب الكبير المكفوف مكانه، ولكنه أطال البكاء والتنهُّدَ والتقبيل، ونسِيَ نفسه فتركوه في مكانه وأجهشوا معه في البكاء والتنهُّد)[44].
ويقول حيدر الغدير: "ومع الزمن ازداد اقتناعي رسوخًا حين سمعتُ من الأستاذ محمود محمد شاكر رحمه الله - في داره في القاهرة وفي الرياض حين كان يزورها، كما سمعت من سواه - أن الدكتور طه حسين كان يُسِرُّ لبعض جلسائِه وخاصَّتِه أنه أخطأ فيما قال)[45].
وهنا يأخذ حيدر الغدير على طه حسين (أنه اعترف بخطئه، لكن لم يصلْ به الأمر إلى أن يُعلِن ذلك في بيان شافٍ، وعلانية جهيرة، وقول فصل، وهو ما كان ينبغي له أن يعمله، فلا يجوز له أن يكون الخطأُ ملء السمع والبصر، والاعتذار عنه في جلسات خاصه ضيقة، وغفر الله للدكتور طه، لقد امتلك الجرأةَ على المجاهرة بالباطل، لكنه لم يمتلكِ الجرأةَ على المجاهرة بالحق، ولو أنه فعل لشكر له الناسُ ذلك، وأحبه حتى مَن عاداه، ونال رضا الخالق - وهو أجل وأبقى)[46].
ويختم حيدر الغدير مقاله عن طه حسين بالدعاء له قائلاً: يغفر الله للدكتور طه حسين أخطاءه، وتقبَّل حسناته، وعامله برحمته لا بعَدْلِه، وألهمنا العبرة من سيرته)[47].
2- محمود محمد شاكر:
أما مقاله عن (محمود محمد شاكر: شيخ العربية وفارس الفصحى)[48]، فقد تحدَّث فيه عن شموخ هذا الأديب، وإبائِه، وشخصيته المؤثِّرة، وعن حبه للعربية والعروبة، واعتزازه بهما، وثقافته الموسوعية، وتاريخه، وخصومته مع أستاذه طه حسين، وعن ابتلائه في العهد الناصري، فيقول: (وفي العهد الناصري دخل السجن مرَّتين، وهو ما ترك في نفسه جراحًا كثيرة، وفي المرة الثانية لازمه إِثْر خروجه نوعٌ من الاكتئاب والسخط، تخلص منه - أو من جزءٍ منه - بصعوبةٍ بالغة)[49].
ويقول الغدير: (ومن العجيب أن هذا الرجلَ منذ خصومته مع أستاذه طه حسين اختار الصمتَ أكثرَ مما اختار الكلام، مع كل الدواعي الشخصية والعامة التي تدعوه إلى الكلام)[50]، لكنه يُنصِفه بقوله: إن (هذا الرجلَ نادرٌ حقًّا)[51].
لقد أخذ حيدر الغدير على محمود محمد شاكر أنه (لم يستطع تجاوز أزمته مع الدكتور طه حسين، فقد ظلَّتْ هاجسًا ملحًّا عليه منذ أن وقعتْ حتى مات - أي سبعين عامًا - حقًّا لقد كانت الأزمة مهمَّة على مستواه الشخصي وعلى مستوى الأمة، لكن التعامل مع أزمة ما ينبغي أن يتحوَّل إلى عقدة دائمة، بحيث تأخذ أكبرَ من الاهتمام المكافئ لها، وبحيث تجور على اهتمام آخر ينبغي أن يوجَّه لأزمة أخرى، قد تكون أخطر وأكبر، ولكنه - مرة أخرى - المزاج الحادُّ وعَقَابِيله) [52].
ويرى حيدر الغدير أنه كان حريًّا بشيخ العربية ألا يقفَ عند مشكلته مع طه حسين وكأنها آخر المطاف، بل كان الأجدرُ به أن يتجاوز ذلك إلى تقديم البدائل، فيقول: (والأخطر أيضًا فهو تقديم البدائل، وماذا عسى أن ينفعك الطبيبُ الحاذق إذا عَرَف داءَك وأعلمك به، ولم يصِفْ لك الدواء) [53]، مؤكدًا أن (الجهر بهذه المعرفة يحتاج إلى شجاعة أدبية؛ لأن الجهرَ قوةٌ نفسية تصدم الآخرين فيما يعتقدون، ولقد امتلك الفقيد الشجاعتين العقلية والنفسية على السواء، ولكن هذا هو نصف المطلوب، أما النصف الآخر والأخطر أيضًا فهو تقديم البدائل)[54].
ويختم مقاله عنه بقوله: (رحمك يا أبا فهر، وأجزل لك المثوبة) [55]، داعيًا له بدعاء الفقيد محمود محمد شاكر نفسه لأخيه الشيخ أحمد - رحمه الله - بقوله: (اللهم تقبَّل عمَله، واغفر زلَّتَه، غير خالٍ من عفوِك، ولا محروم من إكرامك، اللهم أَسْبِغ عليه الواسع من فضلك، والمأمول من إحسانك، اللهم أَتْمِم عليه نعمتَك بالرِّضا، وآنِسْ وحشتَه في قبره بالرحمة، واجعل جُودَك بلالاً له من ظمأ البِلى، ورضوانَك نورًا في ظلام الثَّرى)[56].
3- نجيب محفوظ:
ومقاله الثالث في هذا الصدد جاء بعنوان (رسالة إلى نجيب محفوظ)[57]، وفيه أَنصف الرَّجُل بقوله: (وفي نجيب محفوظ أدبًا وحياةً وفكرًا الكثيرُ مما ينتزع الإعجاب)[58]؛ (فهو في فنه صاحبُ موهبة صقلها بالدَّرْس والصبر والمِران، فارتقى بها حتى بلغ ما بلغ، فكان القصَّاصَ العربي الأول)[59]، وهذا أمرٌ معلوم حقَّق له (شهرته العظمى في المجال القصصي)[60]، وهو أمر يعرفه القاصي والداني على حدٍّ سواء، إلا أن حيدر الغدير وجد كذلك في نجيب محفوظ شهرة أقل في (تلك الأفكار التي ينشرها في الصحف بأسلوب يتسم بالإيجاز شكلاً وبالعمق مضمونًا)[61]، ومنها نصان - (نشرهما في صحيفة الأهرام يناقش فيهما قضية العنف) -: الأول بعنوان (فتح الطريق المسدود)، والآخر (أسرة الإرهاب)، وقد نقلهما الأستاذ فهمي هويدي في صحيفة الأهرام، تحت عنوان (إنصافًا لنجيب محفوظ)؛ حيث يقول الغدير: (والقارئ لهذين النصين لا يسعه إلا أن يتوقَّف عندهما معجَبًا بسبب ما فيهما من تركيز مؤدٍّ، ونظرة شمولية، وصراحة مشكورة، وحسن تعليل)[62].
كما أن الغدير يشير إلى (الكلمة الموجزة الرائعة التي وجَّهها - وهو لا يزال يعالَج في المستشفى بسبب إصابته من محاولة اغتياله - إلى الندوة التي انعقدتْ في القاهرة تحت عنوان "نحو مشروع حضاري عربي"، في نوفمبر 1994م، والتي ألقاها عنه الأستاذ محمد سلماوي)[63]، وفيها يقول نجيب محفوظ: (ورأيي في اختصار هو أن المستقبل الحضاري يجب أن يقوم في أساسه على الإسلام، وفي تطوره على الحوار مع سائر حضارات العالم، والاستفادة من كل نقطة نورٍ لا تتناقض مع مبادئنا الأساسية)[64].
كما أنه في حديث أجري مع نجيب محفوظ عن روايته الشهيرة (أولاد حارتنا) قرَّر الروائي الشهير (بأن الأمور اختلفتْ منذ ثلاثين سنة)[65]، ويعلِّق حيدر على ذلك بقوله: (هو كلام طيب يوحي بالاعتذار، وإن كان لا يكفي، وأهمُّ من هذه الإشارة قولُه لمحاوره: "لعلِّي تبتُ يا أخي"[66].
لقد أورد حيدر الغدير على نجيب محفوظ عددًا من المآخذ؛ حيث إن (فكره خليطٌ من الليبرالية والعَلْمانية)[67]، ومنها أيضًا (أن الأديب الكبير كان أحدَ الذين دافعوا عن سلمان رشدي)[68]، كما يأخذ عليه كذلك (اعتذاره لظروفه الصحية - وهي ظروف صعبة حقًّا[69] - عن (أداء العمرة ممن دعاه إليها، على الرغم من تقديم الداعي له كلَّ التسهيلات لأداء عمرةٍ سهلة ميسَّرة)[70].
ومع ذلك فقد أشاد المؤلِّف حيدر الغدير باعتذاره عن عدم (حضوره حفل جائزة نوبل مع كل مغرياته الكثيرة)[71]، ويشكره (لأن في ذلك دليلاً على عفَّةٍ وزُهد وترفُّع)[72].
وينهي حيدر الغدير كلامَه عنه بقوله: (أيها الأديب الكبير لو كنتُ بالقرب منك يوم "14/10/1994م" أثناء محاولة الاغتيال لحاولتُ مساعدتك، لكني مع ذلك لا أملِكُ إلا أن أقول لك: أخطأتَ هنا وأصبتَ هناك)[73].
4- شوقي ضيف:
أما مقالة (أستاذي وأستاذ الأجيال: شوقي ضيف)[74]، فيشتمل على إشادة بالغة لا تكاد تنتهي، مؤكدًا فيه أن شوقي ضيف - رحمه الله - كان (متدينًا تدينًا عميقًا، محبًّا للإسلام، معتزًّا به، واسعَ الثقافة فيه)[75]، وأخذ ذلك عن حفظه للقرآن الكريم الذي ظلَّ وثيقَ الصلة به طيلة حياته، يضاف إلى ذلك قراءاته المستفيضة عن الإسلام التي كانت ركنًا ركينًا في حياته)[76].
ويُشيد به واصفًا إياه بجملةٍ من الصفات الحميدة، فيقول: (كان رجلاً عفيفًا، عفيف السريرة، عفيف المظهر؛ لذلك كان لسانُه في غاية الأدب مع مَن يُوَافِقه، ومع مَن يخالفه.. وكان فيه نوع التصوف الذي نجا من السلبية والخرافة وذوبان الشخصية، كما نجا من الضلالات والانحرافات.. وفيه قناعة، ونقاء، وصفاء، وزهد، و عفاف، ورضا، وصبر، وتوكُّل، مع عمل دؤوب، وعزم قوي، وضبط للوسيلة، وتفانٍ وإتقان، كل ذلك في إطار من التوازن والشمول والانسجام)[77].
إنه وصف بديع محكَم من طالبٍ وَفِيٍّ لأستاذٍ جليلٍ يُكِنُّ له أسمى آيات الاحترام والتقدير، وقد أشاد بكتاباته ولغته وإبداعه، واحترامه لأساتذته الأعلام، وحبِّه لهم؛ فهو - أي شوقي ضيف - يحترمهم، لكنه (لم يَذُبْ في أحدٍ منهم قط، ولعل أبرزَ مَثَل لهذا هو موقفه من طه حسين الذي اختاره معيدًا، ومنحه درجة الدكتوراه بتفوُّق، لقد حفظ له الجميل، ولكنه خالفه في أدبٍ وصراحة في قضية الانتحال في الشِّعر الجاهلي)[78].
لقد أشار المؤلف إلى نثارٍ من ذكرياته الخاصة مع الدكتور شوقي ضيف، وقُرْبِه منه، وثناءِ ذلك الأديب العملاق على تلميذه حيدر الغدير في عدد من المواقف، وتشجيعِه له، ومنحِه درجة الامتياز في الماجستير، كما أن المؤلِّفَ حيدر الغدير - ومن باب الوفاء لأستاذه وأستاذ الأجيال، على حد قوله - قدَّم عددًا من المقترحات الإيجابية البنَّاءة لتخليد اسم الدكتور شوقي ضيف، وتخليد مكانته الأدبية العلمية، وهو أهلٌ لذلك التخليد، وجديرٌ به بلا شك.
خامسًا: مقالات انطباعية دعوية وتربوية وشخصية:
والآن نتوقف - في شيء من الإيجاز - عند بقية موضوعات الكتاب؛ وهي:
عن (الإكرام والطعام)[79]، موجهًا النظر إلى التخلي عن المبالغة في الإكرام من خلال الإطعام حيث يجب وحيث لا يجب؛ لِما في ذلك من إضاعة للأوقات في التزاور والإطعام والإسراف، داعيًا إلى الالتفات إلى ما هو أَوْلى بالإنفاق على الأهم، وصرف الوقت في المفيد، والاعتدال والقصد في هذا الأمر، فيقول: (إن الإكرامَ بالطعام حيث ينبغي هو أمرٌ حميد، لكن الخطأ أن نجعله قاعدةً مطردة في كل الحالات)[80]، وإن الكرمَ (هو قيمة نبيلة ثابتة، لكن التعبير عنه ينبغي أن يكون متحركًا غيرَ ثابت)[81].
(تجربة دعوية)[82] يتحدَّث فيها عن اجتماع المسلمين في بريطانيا في يوم عيد، في حديقة للصلاة والبهجة وقضاء يوم ممتع، مثنيًا على أنهم لم يغادروا مكانهم من الحديقة إلا وهو نظيف تمامًا، الأمر الذي ترك انطباعًا حسنًا عند الجهات المختصة، وهذا أسلوبٌ عملي من أساليب الدعوة الحميدة غير المباشرة[83].
(دموع في محراب الخشوع)[84]، وهو عن العالِم المسلم "عناية الله الهندي المشرفي" وصداقته وصلته بالعالِم الإنجليزي الفلكي الغربي المشهور "السير جيمس جينز" في جامعة كمبردج، وانبهار الأخير بالأجرام السماوية، مشيرًا إلى ما قدَّمه له العالِم الهندي من آيات بيِّنات محكَمات في هذا المجال، واستشهاده على ذلك بقوله - تعالى -: ﴿ ... وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ [فاطر: 27]، ولَمَّا أعرب "السير جيمس" عن إعجابه تلا عليه العالِمُ الهندي قوله - تعالى -: ﴿ ... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]؛ فازداد إعجابُه، واشتدتْ دهشته[85].
أما مقاله: (أربعون صلاة)[86]، فإن المؤلف يتحدَّث فيه عن تَجْرِبة شخصية له؛ حيث حَرَص على أداء أربعين صلاة متوالية في الحرم النبوي الشريف، مؤمِّلاً أن يفوزَ بالجائزة الثمينة لمن يفعل ذلك؛ اعتمادًا على الحديث النبوي الذي رواه الإمام أحمد في مسنده: ((مَن صلَّى في مسجدي هذا أربعين صلاةً لا تفوتُه صلاة، كتبتُ له براءةٌ من النار، ونجاةٌ من العذاب، وبَرِئ من النفاق))، وقد ساق تجربته الشخصية هذه بأسلوب رُوحاني إيماني شيِّق.
وفي مقاله: (عَرَف عُمَر فتوهَّج)[87] ينقل قصةً سَمعها من أستاذه الدكتور شوقي ضيف، ومفادها أن مستعربًا إيطاليًّا جاء إلى القاهرة طالبًا لعلوم العربية فيها، وشاء الله - عز وجل - له أن يقعَ على كتاب عن الخليفة العبقري عمر بن الخطاب، فقرأه فبهرته شخصيةُ الخليفة العظيم، عندها قال للدكتور شوقي ضيف: (إن نبيَّكم صادق، وأنا أجزم بذلك؛ لأن رجلاً بحجم عمر لا يمكن أن يُلْقِي قِيادَه لرجلٍ كاذبٍ)[88].
وفي مقاله: (رَأَى ملابسَ الإحرام فتوهَّج)[89] يتحدَّث المؤلِّف عن وَفْدٍ جاء إلى جُدَّة من بلد عربي، وكان في الوفد رجلٌ شيوعيٌّ يساري الاتجاه، وحين جاء إلى الوفد مَن يدعوهم إلى العمرة فَرِح الجميع بك إلا هذا الشيوعي، لكنه حين رأى زملاءه يرتدون ملابس الإحرام ويلبُّون؛ استيقظ فيه إيمانُه الفطري الكامن في أعماقه، فأحرم مثلهم، وأدى العمرة معهم، وعاد وقد خلع الشيوعية عنه جملة وتفصيلاً.
ويُحسِن المؤلِّف توظيف هذه الواقعة؛ ليذكِّرنا بأن في أغوار نفسية المسلم العاصي تبقى هناك مساحةٌ دفينة من الإيمان، ينبغي لنا أن نكون عونًا له في إحيائها وتوهُّجها، يقول في جمل قصيرة مترادفة حانية معبرة: (وعلى الدعاة أن يكتشفوا هذه المساحة بالصبر والأمل، والوُدِّ الصادق، والبسمة الحانية، وحب الخير، والهدية الطيبة، وبذل المعروف، والكلمة الودود، والتبشير لا التنفير، والقدوة الحسنة، وحُسن الخُلق، وخفض الجَنَاح، ومعرفة مفتاح الشخصية التي يتعاملون معها، فإذا تَمَّ لهم ذلك وسَّعوا هذه المساحة، ونموها، وغذوها بانتظار ساعة التوهُّج، وهي آتية - ذات يوم - في موقف ما يعده الله - عز وجل - برحمته وعنايتِه وحبِّه لخَلْقه)[90].
أما مقاله: (يحدِّثونك عن النجاح، الإرادة أولاً)[91]، فيتحدَّث المؤلِّفُ فيه عن دَوْر الإرادة في مواجهة الصعاب، واستشراف المستقبل، وصناعة البدائل، وهي مقالةٌ ذاتُ نَفَسٍ عملي تربوي، وقد أورد فيها قصصًا عن أربعة من الناجحين، عَرَفهم معرفة شخصية، فقد كانوا نماذج مشرفة للإرادة والفاعلية.
ومقاله الذي يحمل عنوان (هلاَّ كنت الطائر المبصر)[92] هو من حيث المغزى والمؤدَّى مشابهٌ للمقال السابع الآنف الذكر.
أما مقاله: (ساعتي الأثيرة)[93]، فإن مغزاه يدور حول ضرورة العناية بالأشياء؛ استجابةً للتوجيه النبوي الكريم: ((إن الله كتب الإحسانَ على كل شيء))؛ حيث إن حُسْن التعامل مع الأشياء يجعلها صالحة للخدمة مدَّة أطول، وبذلك نوفِّر الكثيرَ من المال والوقت والجهد، وفي ذلك فوائد جَمَّة لنا دينًا ودنيا، وللتدليل على ذلك فإن الغدير يستخدم في هذا الصدد حسنَ التعليل وسلامةَ التبرير؛ إذ يقول بإيجاز شديد: (إن الساعة وسيلة لضبط الوقت، وليستْ غايةً في حد ذاتها، وساعتي الأثيرة تؤدِّي مهمتها بدقَّة تامة، فلِمَ التغيير؟!)[94].
وفي مقاله: (لون من المحاسبة)[95] دعوةٌ تربوية إلى أن يُحَاسِب المرءُ نفسه باستمرارٍ؛ ليحتفظَ بما عنده من حسنات، ويتخلَّص مما فيه من عيوب، ويترقى في آفاق الكمال الإنساني.
وعندما يقوم حيدر الغدير بذلك يعيش حالةً من الزهد والتطهر النفسي، فيقول: (وحين كنتُ أنظر إلى ما مضى من العمر، وأشعر أني قد لا أقوم من نومي؛ تهون عليَّ الدنيا هوانًا كبيرًا، ويزداد تعلقي بالباقي القادم على حساب الفاني المنصرم)[96]، وبعد أن يقوم بهذه المحاسبة يصوِّر أثرها في نفسه بقوله: (في الليالي التي أحاسب نفسي فيها حسابًا شاملاً، وأقرأ الأدعية المأثورة كاملة؛ كنت أشعر أنني خرجتُ من حمام "ساونا" نفسيٍّ نقَّانِي أحسن النقاء، وطهَّرني أحسن التطهير، ورَبَط على قلبي، وجعلني في معية الله - عز وجل)[97].
الخاتمة:
إن مَن يبدأ بقراءة هذا الكتاب يجد نفسه مشدودًا إلى متابعة مقالاته واحدة إثر الأخرى إلى أن ينتهي منه، وقد اتَّسمتْ كتابةُ المؤلف باتساع الخبرة، والتعبير عما يجده في سفره وترحاله، كما اتَّسمتْ كتابتُه باللغة الفصحى، البيِّنة الدقيقة، السهلة اليسيرة، والجمل القصيرة، والتصوير المعبِّر، والحكمة والاعتدال في تناول الأفكار والتدليل عليها، والإنصاف، والرُّوح الدعوية، وحب الخير للجميع، والنقد البنَّاء من غير إفراط ولا تفريط، ونلحظ في عبارات كتابه أثرَ الزيات والطنطاوي والرافعي فيه، ويظهر ذلك في الجمل القصيرة، وفي توازن العبارات، وفي الترادف، والاستقصاء، والوضوح، وحسن الاستدلال والتعليل، والرُّوح الدعوية الخيرة.
[1] هي على التوالي: مَن يطفئ الشمس، غدًا نأتيك يا أقصى، عادت لنا الخنساء.
[2] ص7.
[3] ص10.
[4] ص10.
[5] ص11.
[6] ص12.
[7] ص15.
[8] ص47.
[9] ص24.
[10] ص 25.
[11] ص 26.
[12] ص 27.
[13] ص 39.
[14] ص34.
[15] ص36.
[16] ص36.
[17] ص37.
[18] ص48، جزء من قول لشاعر لعربي.
[19] ص56.
[20] ص17.
[21] ص57.
[22] ص61.
[23] ص94.
[24] ص99.
[25] ص116.
[26] ص118.
[27] ص103.
[28] ص 107.
[29] ص 108.
[30] ص 109.
[31] ص 76 .
[32] ص 77
[33] ص 78.
[34] ص 77.
[35] ص120.
[36] ص120.
[37] ص121.
[38] ص121.
[39] ص122.
[40] ص122.
[41] ص122.
[42] ص122.
[43] ص122
[44] ص124.
[45] ص120.
[46] ص122
[47] ص126.
[48] ص127.
[49] ص132.
[50] ص136.
[51] ص136
[52] ص137.
[53] ص138.
[54] ص138.
[55] ص138.
[56] ص138.
[57] ص139.
[58] ص139.
[59] ص139.
[60] ص140.
[61] ص140.
[62] ص142.
[63] ص143.
[64] ص143.
[65] ص144.
[66] ص144.
[67] ص145.
[68] ص146.
[69] ص148.
[70] ص148
[71] ص148
[72] ص148
[73] ص149.
[74] ص150.
[75] ص151.
[76] ص151.
[77] ص152.
[78] ص153-154.
[79] ص160.
[80] ص162.
[81] ص163.
[82] ص163.
[83] ص163 - 164.
[84] ص166.
[85] ص168.
[86] ص62.
[87] ص68.
[88] ص68.
[89] ص70.
[90] ص72.
[91] ص88.
[92] ص73.
[93] ص79.
[94] ص80.
[95] ص83.
[96] ص86.
[97] ص86.