فريق منتدى الدي في دي العربي
05-07-2016, 12:24 PM
محنة ابن تيمية في مصر (5)
4- قيام ابن تيمية وهو في الحبس بالدعوة إلى الله والإفتاء:
لم يكن التضييق على الشيخ في هذه الحبْسَة كالتضييق الحاصل عليه في الحبسة الأولى، وأُتيحَ له الاجتماعُ بالناس، واستفادَ الشيخ من ذلك في الدعوة إلى الله، وجوابِ الناس عما يسألونه عنه من أمور دينهم.
قال البرزالي: (واستمرَّ الشيخُ في الحبس يُستفتى، ويقصِدُه النَّاس، ويزورُونَه، وتأتيه الفتاوى المُشكلة من الأُمراء وأعيانِ النَّاس)([1]).
ويذكر خادم الشيخ إبراهيم الغياني - الذي كان معه في الحبس- محاورة جرت بين الشيخ وبين بعض الرهبان، أوضح لهم فيها العقيدة الإسلامية في التوحيد والأنبياء، فاستحسنوها، يقول: (ولما كان الشيخ في قاعة الترسيم دخل إلى عندَه ثلاثةُ رهبان من الصعيد، فناظرهم، وأقَامَ عليهم الحُجَّة بأنَّهم كُفَّار، وما هم على الدين الذي كان عليه إبراهيم والمسيح. فقالوا له: نحن نعمل مثل ما تعملون، أنتم تقولون بالسيدة نفيسة، ونحن نقول بالسيدة مريم، وقد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذين قبلكم، ونحن كذلك!
فقال لهم: وإن من فعل ذلك ففيه شبه منكم، وهذا ما هو دين إبراهيم الذي كان عليه، فإن الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه: أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا نشرك معه ملكًا، ولا شمسًا، ولا قمرًا، ولا كوكبًا، ولا نشرك معه نبيًّا من الأنبياء، ولا صالحًا: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا)، وأنَّ الأمور التي لا يقدر عليها غير الله لا تُطلَب من غيرِه، مثل إنزال المطر، وإنبات النبات، وتفريج الكربات، والهدى من الضلالات، وغفران الذنوب، فإنَّه لا يقدر أحدٌ من جميع الخلق على ذلك، ولا يقدر عليه إلا الله.
والأنبياء عليهم الصلاة والسلام نؤمنُ بهم، ونُعظِّمُهم، ونُوقِّرُهم، ونتَّبِعُهم، ونُصدِّقُهم في جميع ما جاؤوا به، ونطيعهم، كما قال نوح وصالح وهود وشعيب: (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) فجعلوا العبادة والتقوى لله وحده، والطاعة لهم، فإن طاعتهم من طاعة الله، فلو كفر أحدٌ بنبيٍّ من الأنبياء، وآمن بالجميع، ما ينفعه إيمانه حتى يؤمن بذلك النبي، وكذلك لو آمن بجميع الكتب، وكفر بكتابٍ كان كافرًا حتى يؤمنَ بذلك الكتاب، وكذلك الملائكة واليوم الآخر.
فلما سمعوا ذلك منه قالوا: الدين الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه. ثم انصرفوا من عنده)([2]).
إضافة إلى ذلك اشتغل ابن تيمية بدعوة المساجين إلى الله، وحثهم على الخير، في (العقود الدرية)([3]): (ولما دخل الحبس وجد المحابيس مشتغلين بأنواعٍ من اللَّعِب يلتهون بها عمَّا هم فيه، كالشطرنج، والنرد، ونحو ذلك من تضييع الصلوات، فأنكر الشيخ عليهم ذلك أشدَّ الإنكار، وأمَرَهم بمُلازمة الصلاة والتوجُّه إلى الله بالأعمال الصالحة، والتسبيح، والاستغفار، والدعاء، وعلَّمَهم من السُّنَّة ما يحتاجون إليه، ورغَّبَهم في أعمال الخير، وحضَّهم على ذلك، حتى صار الحبسُ بما فيه من الاشتغال بالعلم والدين خيرًا من الزوايا والربط والخوانق والمدارس، وصار خلقٌ من المحابيس إذا أطلقوا يختاروُن الإقامة عنده! وكثر المُتردِّدُون إليه حتى كان السجن يمتلىء منهم).
5- قدوم الشيخ شمس الدين الدّباهي من دمشق، وسعيه للإصلاح بين الشيخ نصر الدين المنبجي وشيخ الإسلام ابن تيمية:
الشيخ شمس الدين الدباهي أحد مشايخ الصوفية البَغداديين الأجلاء المُقيمين بدمشق، يقول البرزالي في ترجمته: (السيد، العارف، القدوة، العالم، العامل، الزاهد، العابد، بقية السلف، شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن أبي العباس أحمد بن أبي نصر الدباهي، البغدادي.
وكان رجلًا صالحًا، مباركًا، خَيِّرًا، سيِّدًا من السادات، وله كلام حسن في التصوّف، وجاور بمكة مدة سنين، وبالمدينة أيضًا)([4]).
وقال الذهبي: (كان إمامًا فقيهَ النَّفس، عارفًا بمُعاملات القلوب، صَحِبَ خلقًا من المشايخ، وأخذ عنهم أخلاق القوم وطريقهم، وكان حسن المُجالسة، مُتبعًا للسُّنَّة، مُحذرًا من البدعة، كثيرَ الطلب، ترك أباه ونعمته وتجرَّد، ودخل الروم، والجزيرة، والشام، ومصر، والحجاز، يصحبُ بقايا الصوفية، ويقتفي آثارهم، وحفظ كثيرًا عنهم وعن مشايخ الطريق، وأنفق كثيرًا من الأموال من ميراثه على الفقراء.
وقرأ الفقه في شبيبته على مذهب أحمد، وجاور بالحرمين بضع عشرة سنة، وتأهَّل، ووُلِد له، فلما لمَعَت له أنوار شيخنا - يعني: ابن تيمية - وظفر بأضعاف تَطلُّبِه؛ ارتحلَ إلى دمشق بأهلِه، واستوطنها.
علَّقتُ عنه أشياء، وسمعت من تأليفه خطبةً بليغة، وصحبته بضع عشرة سنة، وسمعتُ منه جزءًا لإجازته من التشتبري)([5]).
وقد حُفِظَت لنا رسالةٌ أرسلها شيخ الإسلام للشيخ شمس الدين الدباهي، وهي (الرسالة المدنيَّة)، أرسلها له في زمن مجاورته بالمدينة النبوية – على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم -، يقول في مطلعها: (إلى الشيخ، الإمام، العارف، الناسك، المُقتدي، الزَّاهد، العابِد: شمس الدين، كتبَ الله في قلبه الإيمان، وأيَّده بروح منه، وآتاه رحمةً من عنده، وعلَّمَه من لدنه علمًا، وجعله من أوليائه المُتَّقين، وحزبه المفلحين، وخاصَّتِه المُصطفين، ورزقه اتِّباع نبيِّه صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، واللَّحاقَ به في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه؛ من أحمد بن تيمية ..)([6]).
ولمّا كانت للشيخ الدباهي صلةٌ بالشيخين: المنبجي وابن تيمية، فإنه سافر من دمشق إلى القاهرة للسعي في الصلح بينهما، إلا أن هذا الصلح لم يتمّ بسبب الشيخ نصر، ورجع الشيخ الدباهي غاضبًا مُخاصمًا له. يقول إبراهيم الغياني: (لمَّا كان الشيخ في قاعة التَّرسيم، وكان الشيخُ العارف القُدوة شمس الدين الدباهي قد طلع من الشام إلى مصر حتى يُصلح بين الشيخ وبين الشيخ نصر المنبجي، فكتب ورقة فيها: (الطفيلي على الله محمد بن الدباهي يسأل من الشيخين الصالحين: شيخ المشايخ أبي الفتح نصر المنبجي، وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية؛ أنهما يتَّفِقان على طاعة الله ورسوله بحسب ما يُمكِنُهما). وذكر أشياء يلتزمانها بحسب الإمكان ويتَّفِقان عليها.
وجاءت الورقة إلى الشيخ فقال: (إني أجيب إلى ذلك).
فراح بها إلى الشيخ نصر، فوجد عنده المشايخ التدامرة: أبا بكر والشيخ إبراهيم أولاد بروان، فقام الشيخ نصر من مجلسه وأقعد الشيخ شمس الدين فيه، وعظَّمَه تعظيمًا كبيرًا، فأوقفه على الورقة، فقال له: يا سيدي، ولم كتبت إلى الشيخ مثل هذه وما سمع بعد منا كلام كثير؟
فقال له: اكتب أنك أجبت إلى ذلك!
فقال: إن كتبَ الشيخُ كتبتُ.
فقال له: الله على ما تقول وكيل؟
فقال: نعم.
فسير الورقة إلى الشيخ، فكتب: (أجبت إلى ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكتبه أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية).
وجاب الرسول الورقة إليه، فقال له الشيخ شمس الدين: اكتب مع الشيخ مثل ما قلت وعاهدت الله عليه.
فقال: مابقيتُ أكتبُ شيئًا.
فقال له شمس الدين: عاديتُك في الله! وكشف رأسه وقال: ثم نبتهل، ثم نبتهل، وقام، ونزل من عنده)([7]).
6- مداهمة بيت ابن تيمية بأمر من الشيخ نصر المنبجي، واعتقال شقيقه الشيخ زين الدين عبد الرحمن، ثم إطلاقه:
قال البرزالي: (وفي ليلة الأربعاء العشرين من شوال (20 / 10 / 708هـ) طُلِب أخو الشيخ تقي الدين، فوجد زين الدين وعنده جماعة، فرسم عليهم، ولم يوجد شرف الدين، ثم أطلق الجميع سوى زين الدين، فإنه حمل إلى المكان الذي فيه الشيخ، وهو قاعة الترسيم بالقاهرة، ثم إنه أُخرج في خامس صفر سنة تسع وسبعماية (5 / 2 / 709هـ) )([8]).
وقد وثَّق خادمُ الشيخ إبراهيم الغياني هذه القصّة بتفصيلات أكثر، فقال بعد كلامه آنف الذكر: (فسيَّر الشيخ نصر إلى والي المدينة أن يكبسَ بيت ابن تيمية، ويمسِكَ أصحابَه، ويحُطَّهُم في الحبس، فسيَّر الوالي نائبه، فكبس البيت، وكان قصدُهم أن يمسكوا شرف الدين أخا الشيخ، فهرَّبُوه من فوق السطح، وأمسَك أصحاب الشيخ وجاء بهم إلى الوالي، فحطَّهم في قاعةٍ عند بيته، ومَنعوا الناس من الدخول إلى عند الشيخ.
ثم بعد أيام عُزِل الوالي، فسيَّب الجماعة، فتأخر عنده زين الدين أخو الشيخ، فسير إلى القاضي ابن مخلوف برسالةِ الشيخ نصر، فأمسك زين الدين وحبسه عند الشيخ في قاعة الترسيم.
وفي تلك الأيام سرق مملوك زين الدين له قماش نفتة، ومروزي، وغيره، وسافر به([9]).
ومرض زين الدين، فطلب الحمام، فراح السجَّان وخادمُ الشيخ([10]) يقصد إلى القاضي، فقال له خادمُ الشيخ: هذا إن كان في حبسك؛ فاكتبْ له ورقَة اعتقال، وإن كان ما هو في حبسك فلم ترسم عليه؟
[فقال]: ما هو في حبسي أنا، بلغني أنه يطلبُ يخدم أخاه، ما استحللت منعه.
فقال له: أخوه رجلٌ تاجر يريد وحده عشرة تخدمه! والشيخ أنا أخدمه، وقد قال نائب السلطان وغيره: إنهم ما رسموا بحبس زين الدين، والشيخ يفتي بأن القماش الذي سُرِق لزين الدين يلزمك.
ويقول السَّجَّان: ماهو في حبسي، ولا نخليه يطلع.
فقال له: إذا نزلت في بيتي غدًا تعال إلى عندي مع السجان.
قال إبراهيم: ثم حدَّثْنَا الشيخَ بذلك فقال لزين الدين: قُمْ اطلع، هذا القاضي قد تبرأ من قضيتك.
فقال السجان: حتى يروح إلى القاضي مثلما رأيتم!
فقال الشيخ: إن الظلمة وأعوان الظلمة يحطون يوم القيامة في توابيت من نار، ثم يقذفون في الجحيم قال الله: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون، من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم).
فقال: أنا ما أجسر أقول له هذا.
ثم إنه رسم بأن يخرج، فقال الشيخ: مابقي يخرج!
فأرسل القاضي ابنه محب الدين يسألُه مرارًا متعددة، حتى خرج)([11]).
7- سلطنة الأمير بيبرس الجاشنكير، والضغط على ابن تيمية مرة أخرى ليرجع عن عقيدته، وقَسَم ابن تيمية بأن الله تعالى سيقلب دولة بيبرس:
في فترة وجود الشيخ في الحبس حصل تغيُّر سياسيٌّ مُهمٌّ في الدولة، كان له ولما بعده أثرٌ مباشر في قضية الشيخ، وهو أنه في 23 / 10 / 708هـ بويع للأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير بالسلطنة، بعد أن كان السلطان الناصر قد ترك مصر وذهب إلى الكرك قبل شهر تقريبًا.
في تلك الأيام تطورّت قضية ابن تيمية أيضًا عندما تكرر الضغط عليه لمطالبته بما طولب به في القضيّة الأولى، وهو رجوعه عن عقيدته، لكن ابن تيمية غضب غضبًا شديدًا، ورفض ذلك رفضًا قاطعًا. وأقسم أن الله تعالى سيقلب دولة بيبرس أسفلها أعلاها.
قال الشيخ إبراهيم الغياني: (وفي تلك الأيام جاء المشايخ التدامرة - إبراهيم وأبو بكر([12])- إلى الشيخ وقالوا له: قد اجتمعنا بهؤلاء القائمين عليك، وقالوا قد بلشنا به، والناس تلعنُنَا بسببه، وقد قلنا: إنا قد أخذناه بحكم الشرع في الظاهر، فليبصر شيئًا لا يكون علينا ولا عليه فيه ردٌّ فيكتبه لنا، ونتفق نحن وهو عليه.
فلما قالوا له ذلك قال لهم: أنا منشرح الصدر، وما عندي قلق، وهم بَرّا الحبس فلم يقلقون؟!
وكتب: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدُوه لاتشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقُوا، وأن تُنَاصحوا من ولاه الله أمركم). رواه مسلم.
فخرجوا من عنده على ذلك.
ثم إنهم بعد أيام جاؤوا إلى عنده وقالوا له: قد وقفوا على الورقة وقالوا: هذا رجلٌ مِحجاجٌ خَصِم، وماله قلبٌ يفزعُ من الملوك، وقد اجتمع بغازان ملك التتر وكبار دولته وما خافهم، ومتى اجتمع بالسلطان والدولة قرأ عليهم كتاب (الفصوص) الذي كانت الفتنة بسببه قَتَلُونا أو قطعُونَا من المناصب، ويقال عَنَّا: إنه ما خرج من الحبس حتى دخلتُم تحت ما شَرط عليكم، ابعثوا أنتم اشرطوا عليه ما أردتم، فإن لم يدخل تحته تكونوا قد عذرتم فيه.
فلما أخبره بذلك المشايخ التدامرة قالوا: يا سيدي قد حمَّلُونا كلامًا نقوله لك، وحلَّفُونا أنه ما يطَّلعُ عليه غيرنا؛ أن تنزل لهم عن مسألة العرش، ومسألة القرآن، ونأخذ خطَّك بذلك، نوقف عليه السلطان، ونقول له: هذا الذي حَبسنا ابن تيمية عليه قد رجع عنه ونقطعُ نحن الورقة.
فقال لهم: تدعُونَني أن أكتُب بخطي أنه ليس فوق العرش إله يعبد، ولا في المصاحف قرآن، ولا لله في الأرض كلام؟! ودقّ بعمامته الأرض، وقام واقفًا، ورفع برأسه إلى السماء، وقال: اللهم إني أُشهِدُك على أنَّهم يدعونني أن أكفُر بك وبكتبك ورسلك، وأن هذا الشيء ما أعملُه، اللهم أنزل بهم بأسَك الذي لا تردُّه عن القوم المجرمين، نفذت فيهم سهامُ الله، والله لتقلبن دولةُ بيبرس أسفلها أعلاها، ويكون أعزُّ من فيها أذلَّ من فيها، ولينتقمنَّ الله من الكبير والصغير، وكم أجد عليهم وما أدعو عليهم!([13])
فقلتُ أنا وشرف الدين بن سعد الدين([14]): شيخُ الإسلام الأنصاري عُرِض على السيف أربع عشرة مرة لا يُقال له: وافقنا إلا اسكت، ويقول: أقتل ولا يسعني أن أسكت عمَّن خالفني، وكان الشيخ سكت عنهم في دمشق، وما كان جرى شيء من هذا، وهم انفلتوا فينا بالسَّبِّ القبيح والشتم، وما عليه أضر من أصحابه.
ثم خرَجُوا من عنده)([15]).
وقال ابن القيِّم في تعداده لوقائع فراسة شيخِه: (ولما تولَّى عدوُّه المُلقب بالجاشنكير المُلكَ أخبروه بذلك، وقالوا: الآن بلغ مراده منك! فسجد لله شُكرًا وأطال، فقيل له: ما سببُ هذه السجدة؟ فقال: هذا بداية ذُلِّه ومُفارقة عِزِّه من الآن، وقُرب زوال أمره، فقيل له: متى هذا؟ فقال: لا تربط خيول الجند على القرط حتى تقلب دولته، فوقع الأمر مثل ما أخبر به، سمعتُ ذلِك منه وعنه)([16]).
________________
([1]) (المقتفي على الروضتين) (3/379).
([2]) رسالة إبراهيم الغياني ضمن (الجامع لسيرة ابن تيمية) (ص143-144)، ونشر هذه المحاورة بنصّها ابن قاسم في (مجموع الفتاوى) (1/170-171) دون عزوها لرسالة الغياني.
([3]) (ص330-331).
([4]) (المقتفي على الروضتين) (4/18-19).
([5]) نقله ابن رجب في (ذيل طبقات الحنابلة) (4/386).
([6]) (الرسالة المدنية) ضمن (مجموع الفتاوى) (6/351).
([7]) رسالة إبراهيم الغياني ضمن (الجامع لسيرة ابن تيمية) (ص144-145).
([8]) (المقتفي على الروضتين) (3/403).
([9]) كان الشيخ زين الدين عبد الرحمن يعمل بالتجارة. والمعنى أنه في غياب زين الدين بسبب اعتقاله بأمر ابن مخلوف، سرق مملوكه القماش الذي كان يعرضه للبيع، فأفتى ابن تيمية بضمان ابن مخلوف ذلك القماش.
([10]) يقصد إبراهيم الغياني نفسَه.
([11]) رسالة إبراهيم الغياني ضمن (الجامع لسيرة ابن تيمية) (ص145-146).
([12]) لم أعرفهما.
([13]) قال ابن القيم في (مدارج السالكين) (2/245): (وكان بعض أصحابِه الأكابر يقول: وددتُ أنِّي لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه. وما رأيتُه يدعو على أحدٍ منهم قط، وكان يدعو لهم).
([14]) هو شرف الدين محمد بن سعد الله بن بُخَيح الحرَّاني.
([15]) رسالة إبراهيم الغياني ضمن (الجامع لسيرة ابن تيمية) (ص146-147).
([16]) (مدارج السالكين) (2 /490).
4- قيام ابن تيمية وهو في الحبس بالدعوة إلى الله والإفتاء:
لم يكن التضييق على الشيخ في هذه الحبْسَة كالتضييق الحاصل عليه في الحبسة الأولى، وأُتيحَ له الاجتماعُ بالناس، واستفادَ الشيخ من ذلك في الدعوة إلى الله، وجوابِ الناس عما يسألونه عنه من أمور دينهم.
قال البرزالي: (واستمرَّ الشيخُ في الحبس يُستفتى، ويقصِدُه النَّاس، ويزورُونَه، وتأتيه الفتاوى المُشكلة من الأُمراء وأعيانِ النَّاس)([1]).
ويذكر خادم الشيخ إبراهيم الغياني - الذي كان معه في الحبس- محاورة جرت بين الشيخ وبين بعض الرهبان، أوضح لهم فيها العقيدة الإسلامية في التوحيد والأنبياء، فاستحسنوها، يقول: (ولما كان الشيخ في قاعة الترسيم دخل إلى عندَه ثلاثةُ رهبان من الصعيد، فناظرهم، وأقَامَ عليهم الحُجَّة بأنَّهم كُفَّار، وما هم على الدين الذي كان عليه إبراهيم والمسيح. فقالوا له: نحن نعمل مثل ما تعملون، أنتم تقولون بالسيدة نفيسة، ونحن نقول بالسيدة مريم، وقد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذين قبلكم، ونحن كذلك!
فقال لهم: وإن من فعل ذلك ففيه شبه منكم، وهذا ما هو دين إبراهيم الذي كان عليه، فإن الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه: أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا نشرك معه ملكًا، ولا شمسًا، ولا قمرًا، ولا كوكبًا، ولا نشرك معه نبيًّا من الأنبياء، ولا صالحًا: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا)، وأنَّ الأمور التي لا يقدر عليها غير الله لا تُطلَب من غيرِه، مثل إنزال المطر، وإنبات النبات، وتفريج الكربات، والهدى من الضلالات، وغفران الذنوب، فإنَّه لا يقدر أحدٌ من جميع الخلق على ذلك، ولا يقدر عليه إلا الله.
والأنبياء عليهم الصلاة والسلام نؤمنُ بهم، ونُعظِّمُهم، ونُوقِّرُهم، ونتَّبِعُهم، ونُصدِّقُهم في جميع ما جاؤوا به، ونطيعهم، كما قال نوح وصالح وهود وشعيب: (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) فجعلوا العبادة والتقوى لله وحده، والطاعة لهم، فإن طاعتهم من طاعة الله، فلو كفر أحدٌ بنبيٍّ من الأنبياء، وآمن بالجميع، ما ينفعه إيمانه حتى يؤمن بذلك النبي، وكذلك لو آمن بجميع الكتب، وكفر بكتابٍ كان كافرًا حتى يؤمنَ بذلك الكتاب، وكذلك الملائكة واليوم الآخر.
فلما سمعوا ذلك منه قالوا: الدين الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه. ثم انصرفوا من عنده)([2]).
إضافة إلى ذلك اشتغل ابن تيمية بدعوة المساجين إلى الله، وحثهم على الخير، في (العقود الدرية)([3]): (ولما دخل الحبس وجد المحابيس مشتغلين بأنواعٍ من اللَّعِب يلتهون بها عمَّا هم فيه، كالشطرنج، والنرد، ونحو ذلك من تضييع الصلوات، فأنكر الشيخ عليهم ذلك أشدَّ الإنكار، وأمَرَهم بمُلازمة الصلاة والتوجُّه إلى الله بالأعمال الصالحة، والتسبيح، والاستغفار، والدعاء، وعلَّمَهم من السُّنَّة ما يحتاجون إليه، ورغَّبَهم في أعمال الخير، وحضَّهم على ذلك، حتى صار الحبسُ بما فيه من الاشتغال بالعلم والدين خيرًا من الزوايا والربط والخوانق والمدارس، وصار خلقٌ من المحابيس إذا أطلقوا يختاروُن الإقامة عنده! وكثر المُتردِّدُون إليه حتى كان السجن يمتلىء منهم).
5- قدوم الشيخ شمس الدين الدّباهي من دمشق، وسعيه للإصلاح بين الشيخ نصر الدين المنبجي وشيخ الإسلام ابن تيمية:
الشيخ شمس الدين الدباهي أحد مشايخ الصوفية البَغداديين الأجلاء المُقيمين بدمشق، يقول البرزالي في ترجمته: (السيد، العارف، القدوة، العالم، العامل، الزاهد، العابد، بقية السلف، شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن أبي العباس أحمد بن أبي نصر الدباهي، البغدادي.
وكان رجلًا صالحًا، مباركًا، خَيِّرًا، سيِّدًا من السادات، وله كلام حسن في التصوّف، وجاور بمكة مدة سنين، وبالمدينة أيضًا)([4]).
وقال الذهبي: (كان إمامًا فقيهَ النَّفس، عارفًا بمُعاملات القلوب، صَحِبَ خلقًا من المشايخ، وأخذ عنهم أخلاق القوم وطريقهم، وكان حسن المُجالسة، مُتبعًا للسُّنَّة، مُحذرًا من البدعة، كثيرَ الطلب، ترك أباه ونعمته وتجرَّد، ودخل الروم، والجزيرة، والشام، ومصر، والحجاز، يصحبُ بقايا الصوفية، ويقتفي آثارهم، وحفظ كثيرًا عنهم وعن مشايخ الطريق، وأنفق كثيرًا من الأموال من ميراثه على الفقراء.
وقرأ الفقه في شبيبته على مذهب أحمد، وجاور بالحرمين بضع عشرة سنة، وتأهَّل، ووُلِد له، فلما لمَعَت له أنوار شيخنا - يعني: ابن تيمية - وظفر بأضعاف تَطلُّبِه؛ ارتحلَ إلى دمشق بأهلِه، واستوطنها.
علَّقتُ عنه أشياء، وسمعت من تأليفه خطبةً بليغة، وصحبته بضع عشرة سنة، وسمعتُ منه جزءًا لإجازته من التشتبري)([5]).
وقد حُفِظَت لنا رسالةٌ أرسلها شيخ الإسلام للشيخ شمس الدين الدباهي، وهي (الرسالة المدنيَّة)، أرسلها له في زمن مجاورته بالمدينة النبوية – على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم -، يقول في مطلعها: (إلى الشيخ، الإمام، العارف، الناسك، المُقتدي، الزَّاهد، العابِد: شمس الدين، كتبَ الله في قلبه الإيمان، وأيَّده بروح منه، وآتاه رحمةً من عنده، وعلَّمَه من لدنه علمًا، وجعله من أوليائه المُتَّقين، وحزبه المفلحين، وخاصَّتِه المُصطفين، ورزقه اتِّباع نبيِّه صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، واللَّحاقَ به في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه؛ من أحمد بن تيمية ..)([6]).
ولمّا كانت للشيخ الدباهي صلةٌ بالشيخين: المنبجي وابن تيمية، فإنه سافر من دمشق إلى القاهرة للسعي في الصلح بينهما، إلا أن هذا الصلح لم يتمّ بسبب الشيخ نصر، ورجع الشيخ الدباهي غاضبًا مُخاصمًا له. يقول إبراهيم الغياني: (لمَّا كان الشيخ في قاعة التَّرسيم، وكان الشيخُ العارف القُدوة شمس الدين الدباهي قد طلع من الشام إلى مصر حتى يُصلح بين الشيخ وبين الشيخ نصر المنبجي، فكتب ورقة فيها: (الطفيلي على الله محمد بن الدباهي يسأل من الشيخين الصالحين: شيخ المشايخ أبي الفتح نصر المنبجي، وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية؛ أنهما يتَّفِقان على طاعة الله ورسوله بحسب ما يُمكِنُهما). وذكر أشياء يلتزمانها بحسب الإمكان ويتَّفِقان عليها.
وجاءت الورقة إلى الشيخ فقال: (إني أجيب إلى ذلك).
فراح بها إلى الشيخ نصر، فوجد عنده المشايخ التدامرة: أبا بكر والشيخ إبراهيم أولاد بروان، فقام الشيخ نصر من مجلسه وأقعد الشيخ شمس الدين فيه، وعظَّمَه تعظيمًا كبيرًا، فأوقفه على الورقة، فقال له: يا سيدي، ولم كتبت إلى الشيخ مثل هذه وما سمع بعد منا كلام كثير؟
فقال له: اكتب أنك أجبت إلى ذلك!
فقال: إن كتبَ الشيخُ كتبتُ.
فقال له: الله على ما تقول وكيل؟
فقال: نعم.
فسير الورقة إلى الشيخ، فكتب: (أجبت إلى ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكتبه أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية).
وجاب الرسول الورقة إليه، فقال له الشيخ شمس الدين: اكتب مع الشيخ مثل ما قلت وعاهدت الله عليه.
فقال: مابقيتُ أكتبُ شيئًا.
فقال له شمس الدين: عاديتُك في الله! وكشف رأسه وقال: ثم نبتهل، ثم نبتهل، وقام، ونزل من عنده)([7]).
6- مداهمة بيت ابن تيمية بأمر من الشيخ نصر المنبجي، واعتقال شقيقه الشيخ زين الدين عبد الرحمن، ثم إطلاقه:
قال البرزالي: (وفي ليلة الأربعاء العشرين من شوال (20 / 10 / 708هـ) طُلِب أخو الشيخ تقي الدين، فوجد زين الدين وعنده جماعة، فرسم عليهم، ولم يوجد شرف الدين، ثم أطلق الجميع سوى زين الدين، فإنه حمل إلى المكان الذي فيه الشيخ، وهو قاعة الترسيم بالقاهرة، ثم إنه أُخرج في خامس صفر سنة تسع وسبعماية (5 / 2 / 709هـ) )([8]).
وقد وثَّق خادمُ الشيخ إبراهيم الغياني هذه القصّة بتفصيلات أكثر، فقال بعد كلامه آنف الذكر: (فسيَّر الشيخ نصر إلى والي المدينة أن يكبسَ بيت ابن تيمية، ويمسِكَ أصحابَه، ويحُطَّهُم في الحبس، فسيَّر الوالي نائبه، فكبس البيت، وكان قصدُهم أن يمسكوا شرف الدين أخا الشيخ، فهرَّبُوه من فوق السطح، وأمسَك أصحاب الشيخ وجاء بهم إلى الوالي، فحطَّهم في قاعةٍ عند بيته، ومَنعوا الناس من الدخول إلى عند الشيخ.
ثم بعد أيام عُزِل الوالي، فسيَّب الجماعة، فتأخر عنده زين الدين أخو الشيخ، فسير إلى القاضي ابن مخلوف برسالةِ الشيخ نصر، فأمسك زين الدين وحبسه عند الشيخ في قاعة الترسيم.
وفي تلك الأيام سرق مملوك زين الدين له قماش نفتة، ومروزي، وغيره، وسافر به([9]).
ومرض زين الدين، فطلب الحمام، فراح السجَّان وخادمُ الشيخ([10]) يقصد إلى القاضي، فقال له خادمُ الشيخ: هذا إن كان في حبسك؛ فاكتبْ له ورقَة اعتقال، وإن كان ما هو في حبسك فلم ترسم عليه؟
[فقال]: ما هو في حبسي أنا، بلغني أنه يطلبُ يخدم أخاه، ما استحللت منعه.
فقال له: أخوه رجلٌ تاجر يريد وحده عشرة تخدمه! والشيخ أنا أخدمه، وقد قال نائب السلطان وغيره: إنهم ما رسموا بحبس زين الدين، والشيخ يفتي بأن القماش الذي سُرِق لزين الدين يلزمك.
ويقول السَّجَّان: ماهو في حبسي، ولا نخليه يطلع.
فقال له: إذا نزلت في بيتي غدًا تعال إلى عندي مع السجان.
قال إبراهيم: ثم حدَّثْنَا الشيخَ بذلك فقال لزين الدين: قُمْ اطلع، هذا القاضي قد تبرأ من قضيتك.
فقال السجان: حتى يروح إلى القاضي مثلما رأيتم!
فقال الشيخ: إن الظلمة وأعوان الظلمة يحطون يوم القيامة في توابيت من نار، ثم يقذفون في الجحيم قال الله: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون، من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم).
فقال: أنا ما أجسر أقول له هذا.
ثم إنه رسم بأن يخرج، فقال الشيخ: مابقي يخرج!
فأرسل القاضي ابنه محب الدين يسألُه مرارًا متعددة، حتى خرج)([11]).
7- سلطنة الأمير بيبرس الجاشنكير، والضغط على ابن تيمية مرة أخرى ليرجع عن عقيدته، وقَسَم ابن تيمية بأن الله تعالى سيقلب دولة بيبرس:
في فترة وجود الشيخ في الحبس حصل تغيُّر سياسيٌّ مُهمٌّ في الدولة، كان له ولما بعده أثرٌ مباشر في قضية الشيخ، وهو أنه في 23 / 10 / 708هـ بويع للأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير بالسلطنة، بعد أن كان السلطان الناصر قد ترك مصر وذهب إلى الكرك قبل شهر تقريبًا.
في تلك الأيام تطورّت قضية ابن تيمية أيضًا عندما تكرر الضغط عليه لمطالبته بما طولب به في القضيّة الأولى، وهو رجوعه عن عقيدته، لكن ابن تيمية غضب غضبًا شديدًا، ورفض ذلك رفضًا قاطعًا. وأقسم أن الله تعالى سيقلب دولة بيبرس أسفلها أعلاها.
قال الشيخ إبراهيم الغياني: (وفي تلك الأيام جاء المشايخ التدامرة - إبراهيم وأبو بكر([12])- إلى الشيخ وقالوا له: قد اجتمعنا بهؤلاء القائمين عليك، وقالوا قد بلشنا به، والناس تلعنُنَا بسببه، وقد قلنا: إنا قد أخذناه بحكم الشرع في الظاهر، فليبصر شيئًا لا يكون علينا ولا عليه فيه ردٌّ فيكتبه لنا، ونتفق نحن وهو عليه.
فلما قالوا له ذلك قال لهم: أنا منشرح الصدر، وما عندي قلق، وهم بَرّا الحبس فلم يقلقون؟!
وكتب: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدُوه لاتشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقُوا، وأن تُنَاصحوا من ولاه الله أمركم). رواه مسلم.
فخرجوا من عنده على ذلك.
ثم إنهم بعد أيام جاؤوا إلى عنده وقالوا له: قد وقفوا على الورقة وقالوا: هذا رجلٌ مِحجاجٌ خَصِم، وماله قلبٌ يفزعُ من الملوك، وقد اجتمع بغازان ملك التتر وكبار دولته وما خافهم، ومتى اجتمع بالسلطان والدولة قرأ عليهم كتاب (الفصوص) الذي كانت الفتنة بسببه قَتَلُونا أو قطعُونَا من المناصب، ويقال عَنَّا: إنه ما خرج من الحبس حتى دخلتُم تحت ما شَرط عليكم، ابعثوا أنتم اشرطوا عليه ما أردتم، فإن لم يدخل تحته تكونوا قد عذرتم فيه.
فلما أخبره بذلك المشايخ التدامرة قالوا: يا سيدي قد حمَّلُونا كلامًا نقوله لك، وحلَّفُونا أنه ما يطَّلعُ عليه غيرنا؛ أن تنزل لهم عن مسألة العرش، ومسألة القرآن، ونأخذ خطَّك بذلك، نوقف عليه السلطان، ونقول له: هذا الذي حَبسنا ابن تيمية عليه قد رجع عنه ونقطعُ نحن الورقة.
فقال لهم: تدعُونَني أن أكتُب بخطي أنه ليس فوق العرش إله يعبد، ولا في المصاحف قرآن، ولا لله في الأرض كلام؟! ودقّ بعمامته الأرض، وقام واقفًا، ورفع برأسه إلى السماء، وقال: اللهم إني أُشهِدُك على أنَّهم يدعونني أن أكفُر بك وبكتبك ورسلك، وأن هذا الشيء ما أعملُه، اللهم أنزل بهم بأسَك الذي لا تردُّه عن القوم المجرمين، نفذت فيهم سهامُ الله، والله لتقلبن دولةُ بيبرس أسفلها أعلاها، ويكون أعزُّ من فيها أذلَّ من فيها، ولينتقمنَّ الله من الكبير والصغير، وكم أجد عليهم وما أدعو عليهم!([13])
فقلتُ أنا وشرف الدين بن سعد الدين([14]): شيخُ الإسلام الأنصاري عُرِض على السيف أربع عشرة مرة لا يُقال له: وافقنا إلا اسكت، ويقول: أقتل ولا يسعني أن أسكت عمَّن خالفني، وكان الشيخ سكت عنهم في دمشق، وما كان جرى شيء من هذا، وهم انفلتوا فينا بالسَّبِّ القبيح والشتم، وما عليه أضر من أصحابه.
ثم خرَجُوا من عنده)([15]).
وقال ابن القيِّم في تعداده لوقائع فراسة شيخِه: (ولما تولَّى عدوُّه المُلقب بالجاشنكير المُلكَ أخبروه بذلك، وقالوا: الآن بلغ مراده منك! فسجد لله شُكرًا وأطال، فقيل له: ما سببُ هذه السجدة؟ فقال: هذا بداية ذُلِّه ومُفارقة عِزِّه من الآن، وقُرب زوال أمره، فقيل له: متى هذا؟ فقال: لا تربط خيول الجند على القرط حتى تقلب دولته، فوقع الأمر مثل ما أخبر به، سمعتُ ذلِك منه وعنه)([16]).
________________
([1]) (المقتفي على الروضتين) (3/379).
([2]) رسالة إبراهيم الغياني ضمن (الجامع لسيرة ابن تيمية) (ص143-144)، ونشر هذه المحاورة بنصّها ابن قاسم في (مجموع الفتاوى) (1/170-171) دون عزوها لرسالة الغياني.
([3]) (ص330-331).
([4]) (المقتفي على الروضتين) (4/18-19).
([5]) نقله ابن رجب في (ذيل طبقات الحنابلة) (4/386).
([6]) (الرسالة المدنية) ضمن (مجموع الفتاوى) (6/351).
([7]) رسالة إبراهيم الغياني ضمن (الجامع لسيرة ابن تيمية) (ص144-145).
([8]) (المقتفي على الروضتين) (3/403).
([9]) كان الشيخ زين الدين عبد الرحمن يعمل بالتجارة. والمعنى أنه في غياب زين الدين بسبب اعتقاله بأمر ابن مخلوف، سرق مملوكه القماش الذي كان يعرضه للبيع، فأفتى ابن تيمية بضمان ابن مخلوف ذلك القماش.
([10]) يقصد إبراهيم الغياني نفسَه.
([11]) رسالة إبراهيم الغياني ضمن (الجامع لسيرة ابن تيمية) (ص145-146).
([12]) لم أعرفهما.
([13]) قال ابن القيم في (مدارج السالكين) (2/245): (وكان بعض أصحابِه الأكابر يقول: وددتُ أنِّي لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه. وما رأيتُه يدعو على أحدٍ منهم قط، وكان يدعو لهم).
([14]) هو شرف الدين محمد بن سعد الله بن بُخَيح الحرَّاني.
([15]) رسالة إبراهيم الغياني ضمن (الجامع لسيرة ابن تيمية) (ص146-147).
([16]) (مدارج السالكين) (2 /490).