فريق منتدى الدي في دي العربي
05-07-2016, 12:24 PM
الاستغراب الديني
أ. د. علي بن إبراهيم النملة
.. ومن هذا المنطلق فإن الاستغراب يدرس كذلك الدين السائد في الغرب، وهو هنا النصرانية أولًا، ثم اليهودية، ويأتي الإسلام ليطغى - من حيث العدد - على اليهودية، ثم النصرانية بعدئذ؛ إذ المتوقع أن يكون الإسلام بحلول عام 1445هـ (2025م) هو الدين الأول في أوروبا، ولعله من الآن أضحى الدين الأول - كما صرح الفاتيكان بذلك - في سنة 1434هـ (2013م).
ولعل مقصود الفاتيكان بهذا أن المسلمين يفوقون اليوم الكاثوليك في الغرب الأوسط، أو أوروبا الغربية من حيث العدد، على اعتبار أن الكاثوليك لا يرون معنى لظهور البروتستانتية على يد القسيس الألماني مارتن لوثر (1483 - 1546م)، محتجة على تعاليم الكاثوليكية الصارمة في عدم الخروج للحياة (العلمانية)، وعلى صكوك الغفران وسلطة الباب، فلا يدخلونها في إحصائياتهم، ولسنا بحاجة إلى الاستغراب في دراسة الإسلام!
ولا تعني دراسة هذه الأديان، أو الدينين بتعبير أدق، أن نترك نظرتنا نحن المسلمين لهما، من خلال ما نراه في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، بل إنهما يكونان منطلقًا (مقياسًا) مهمًّا من منطلقات الدراسة، التي لم يكن الفكر الإسلامي خلوًا منها، وإن لم تنهض التسمية مصطلحًا لهذه الدراسات[1].
على أن هناك أمورًا لها دلالات في الكتاب الكريم والسنة النبوية، يمكن الانطلاق منها في الدراسات، وحيث إنها من حيث تفسيرها تدخل في جانب التحليل بعد اليقين بالكتاب والسنة، وعليه فإن هناك مجالًا رحبًا للدراسة، ويدخل في ذلك الإطلاق لأتباع عيسى ابن مريم - عليهما السلام - من حيث التسمية، فهل هم نصارى أم هم مسيحيون؟ وهل يحبذون اليوم تسميتهم بالنصارى أم بالمسيحين؟ وهل تسميتهم بالنصارى ثقيلة عليهم، إلى درجة الإساءة؟ فالقرآن الكريم يسميهم بالنصارى[2]، ولم يرد في القرآن تسميتهم بالمسيحيين، بل ورد تسمية عيسى ابن مريم - عليهما السلام - بالمسيح؛قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45]، وقال تعالى: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 157 - 159]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 171]، وقال تعالى: ﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [النساء: 172، 173]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 17]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، وقال تعالى: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [المائدة: 75، 76]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30].
وعليه، فإن هذه المناقشة السريعة فيما له علاقة بالاستغراب الديني ستعتمد تسمية أتباع عيسى ابن مريم - عليهما السلام - بالنصارى، دون إغفال التسمية الأخرى من حيث شيوع المصطلح، ومن حيث القاعدة العربية: لا مشاحة في الاصطلاح، ومراجع هذه الدراسة تراوح بين تسميتهم بالنصارى والمسحيين، ولم ترد تسميتهم بالمسيحيين في كتب التراث التي تعرضت للنصرانية من قريب أو بعيد، بل تواترت عندهم التسمية بالنصارى.
ومن باب طرح نماذج يمكن أن تكون مجالًا رحبًا للدراسات الاستغرابية الدينية يمكن التطرق لثلاث قضايا حساسة لدى النصارى، وهي ذات علاقة بالمسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - من حيث طبيعته أولًا، وظروف ولادته ثانيًا، وادعاء وفاته عليه السلام ثالثًا، حيث الافتراق الواضح في هذه القضايا الثلاث بين المعتقد النصراني والمعتقد الإسلامي.
ولا ينبغي أن يكون في دراسة هذه الموضوعات حساسية، ما دامت هذه الموضوعات والقضايا تبحث بمنظور علمي موضوعي هادئ، لا يقصد به سوى الوصول إلى كلمة سواء؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 64، 65].
ويتبع هذه القضايا المفصلية الثلاث عدد من القضايا السائدة في الغرب على أنها من الدين، وقد تكون كذلك، وقد لا تكون كذلك، والمعيار (المقياس) في هذا كله هو المثبت عند الدارسين، وليس بالضرورة عند المدروسين، وهو في حالنا هذه القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية الشريفة، ثم الرجوع إلى المصادر اليهودية والنصرانية المعتبرة، دون إغفال إعمال العقل الصحيح فيما ليس توقيفيًّا في العبادات والمعاملات، ولا بد من المقياس في الحكم على قضايا مفصلية في سلوكيات تنسب إلى الدين السائد.
أولًا: طبيعة المسيح عليه السلام:
نحن ندرس طبيعة المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - من منطلق أنه بشر مخلوق مولود بمعجزة - كما سيأتي - قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [آل عمران: 59، 60]، ولا ندخل في نقاش طبيعته عليه السلام، من حيث لاهوتيته أو ناسوتيته، فهذا الأمر محسوم عندنا، من مقتضيات عقدية لا تؤمن بأن لله تعالى صاحبة ولا ولدًا، وأن المسيح هو في حقيقته إنسان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وعبد من عبيد الله، ورسول من رسله، آتاه الله تعالى الحكمة، وجعله نبيًّا، وجعله مباركًا أينما كان، وأنه عليه السلام من أولي العزم من الرسل؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 30 - 33]، وقال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الأحقاف: 35].
وتأتي الوقفات مع هذا الموضوع الحيوي لدى غالبية المجتمع الغربي، المتدين منه وغير المتدين، فيما له علاقة بمناقشة أولئك الذين يراوحون في طبيعة المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - بين الناسوتية واللاهوتية من قبل النساطرة واليعاقبة، وغيرهم من أتباع الكنائس، ومن لا يزال هذا الموضوع يشغل نقاشهم، ويزيد من اختلافهم وفرقتهم بينهم، فالخلاف في طبيعة المسيح عليه السلام خلاف محتدم، ليس بين المسلمين والنصارى، بل بين النصارى أنفسهم[3].
وعليه وبما أن المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام رسول بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 20]، فتنتفي مسألة أنه ابن الله تعالى أو أنه ثالث ثلاثة، وهذه حقيقة لا يزال النصارى يتحاورون حولها، رغم أنها محسومة عند المسلمين، فبشرية المسيح عيسى ابن مريم تنفي أن يكون شريكًا لله، أو أن يلجأ المصرون على ألوهيته إلى القول: إنه - عليه السلام - ابن الله، أو إنه ثالث ثلاثة[4].
على أن البحوث في الأناجيل والمكتشفات الأثرية تؤكد نفي التثليث، وأنه لا علاقة له بالمسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - ومن أوائل من بدأ بهذا البحث وبرهن على نفي التثليث ريماروس (1694 - 1768م)، وخرجت بعده أبحاث كثيرة استفادت من مواد جديدة، بعضها مكتوب، والآخر يعتمد على نصوص الأناجيل الأربعة وغيرها[5].
وكذلك تحجم هذه الوقفات عن التفصيل؛ لئلا يخرج الموضوع عن مجرد إثارة مجالات الحوار والنقاش من منطلق استغرابي، لا يسعى إلى أي شكل من أشكال الإساءة والاستخفاف بالثقافات الأخرى، بقدر ما يسعى إلى تشخيص بعض القضايا التي يقع فيها الخلاف والاختلاف، من منطلق المقياس الإسلامي الصريح في طبيعة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وفي أن الله تعالى واحد أحد[6].
وعدم الدخول في هذا النقاش بتفصيل قائم على اعتبار أن المنطلق للأديان السماوية كلها هو منطلق توحيدي لإله لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك؛ ولذلك فإن أي قول يذهب إلى خلاف ذلك فإنه غير مقبول دينًا، لا إسلامًا فقط؛ أي إنه غير مقبول - في الأصل - من جميع الأديان التوحيدية.
وفي القرآن الكريم تركيز قوي على هذا الجانب، فيما ينفي أن يكون عيسى ابن مريم - عليهما السلام - ابن الله تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 26 - 28]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 88 - 95]، وقال تعالى: ﴿ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ﴾ [الكهف: 4، 5]، ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]، ﴿ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 68]، ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [البقرة: 116، 117]، ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 101]، ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴾ [الجن: 3].
والاستشهاد بآيات من القرآن الكريم في موضوع الاستغراب الديني عمومًا، وفي النظر في طبيعة المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام -خصوصًا يأتي من منطلق أن هذا الكتاب لم يعد - ولم يكن - مقصورًا على المسلمين، بل هو اليوم مقروء أكثر من ذي قبل، إما قراءة مباشرة بلغته العربية التي نزل بها، أو بقراءة ترجمة معانيه التي شملت معظم لغات العالم، وتجاوزت خمسًا وخمسين لغة.
وعلى سبيل المثال، عندما قرر القس الأمريكي تيري جونز حرق المصحف - لا القرآن الكريم - سنة 2010م، قابله أحد المحققين في قناة Cable أو News network أو CNN وسأله عما إذا كان قد قرأ الكتاب الذي يريد أن يحرقه، فأفاد القس بأنه يعرف شيئًا عنه، فألح عليه المحقق في مسألة قراءته، فعندما لم يجب القس بالإيجاب سأله المحقق: وكيف تريد أن تحرق كتابًا لم تقرأه؟! عندها قيل: إن الناس قد أقبلوا على شراء النسخ الورقية لترجمات القرآن الكريم الموجودة في المكتبات التجارية في الولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا، حتى نفدت من بعض المكتبات، هذا عدا عن الاستعانة بالشبكة العنكبوتية في التعرف على القرآن الكريم، مما يقود إلى التعرف على رؤية القرآن الكريم لطبيعة المسيح عليه السلام.
ثانيًا: ميلاد المسيح عليه السلام:
ومن مجالات الدراسات الاستغرابية في الشأن الديني المتعينة على العلماء العرب والمسلمين، مثلًا، تحرير مسألة ميلاد المسح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - وطرح سؤال حول توقيت ميلاد المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - ووفاتهعليه السلام، وسؤال آخر حول حقيقة وفاته عليه السلام في ضوء ما ورد في كتاب الله تعالى.
الذي يظهر جليًّا من سرد قصته عليه السلام في القرآن الكريم أنه ولد قريبًا، بل في مكان ينبت فيه النخيل: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]، وأنه عليه السلام قد ولد في موسم جني الرطب وليس التمر، وهذا يعني أنه قد ولد في المدة التي يكون فيها طلع النخيل رطبًا قابلًا للجني أو الخراف في محيط فلسطين وأجواء المنطقة كلها، مما يوحي بأن ولادته عليه السلام كانت في الصيف أو في أواخر الصيف، وليس في الخريف أو الشتاء، كما هو الحال الآن عند الاحتفال بعيد ميلاد المسيح عليه السلام، الذي يصادف عند غالبية الطوائف النصرانية الخامس والعشرين من شهر ديسمبر (25/ 12) من كل سنة ميلادية؛ أي: بعد الدخول المتعارف عليه لفصل الشتاء بثلاثة أيام.
وعند بعض الطوائف الأخرى يكون ميلاده عليه السلام بعد ذلك بحوالي أسبوع[7]، ومع هذا فقد قيل: إن مريم بنت عمران - عليها السلام - قد اختصها الله تعالى بفاكهة الصيف تأتيها بالشتاء، وبفاكهة الشتاء تأتيها في الصيف[8]، ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 36، 37].
وعليه يفترض أن عيسى ابن مريم - عليهما السلام - قد ولدته أمه - وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل، وكانت عليها السلام إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل الدؤوب[9] - ولدته في مكان شرقي، في الصحراء، بينها وبين قومها حجاب؛ أي ستر، وهو الجبل، وقيل في جذع الخلة إنه كان مقطوعًا، "فلما أجهدها الطلق احتضنته فاستقام واخضر وأرطب"[10]، وهذه إن حصلت فهي من المعجزات التي تحصل في حال الأنبياء، فلا تخضع للتحليل العلمي المنطقي؛ إذ إنها من خوارق العادات، وقيل كذلك في قوله تعالى: ﴿ مَكَانًا شَرْقِيًّا ﴾ [مريم: 16]؛ أي: مشرقًا؛ لأنه كان في الشتاء في أقصر يوم في السنة"[11]، على أن هذا المرجع لميشال الحايك مليء بالأخذ عن مؤلفات التصوف الباطني، "المليئة بالأساطير والشطحات"، كما يقول محمد عمارة[12].
ولذلك فإن مكان ميلاد المسيح عليه السلام لم يثبت عند النصارى، ولم يثبت عند المسلمين، والمشهور أنه ولد عليه السلام في بيت لحم، إلا أن مريم عليها السلام قد تركت أهلها إلى مكان قَصِي: ﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ﴾ [مريم: 22]، وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 16، 17]، وربما أنها توجهت إلى أرض مصر، ومصر غرب إيليا، وليست شرقها، وربما أنها حملت فوضعت[13]، دون أن تمر بمرحلة الحمل الزمنية التي تمر بها عادةً النساءُ، وما احتاجت إلى المدة التي تحتاجها المرأة من مدة الحمل، وأقوال المفسرين المسلمين في هذا كثيرة، وبعضها منقول متداول بين النصارى[14].
ومثل هذه الافتراضات تحتاج إلى دراسة علمية معمقة، سبق طرحها علميًّا من العلماء المعنيين بدراسة الأديان، ولكنها لم تلق الرواج المطلوب؛ لأنها ستغير في مفاهيم متداولة حول مولد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام من حيث المكان والزمان والطقوس، لا سيما في القسم الغربي من العالم، الذي جعل لهذه المناسبة السنوية بعدًا اقتصاديًّا أكثر من كونه طقسًا من طقوس العبادة، ناهيك عن أن يكون احتفالًا بمولد نبي عظيم من أولي العزم من الرسل، كانت له معجزات وخوارق، بل هو نفسه كان وما يزال معجزة، ويكاد هذا البعد ينسى في ضوء طغيان العامل الاقتصادي على الاحتفاء بمولده عليه السلام.
علمًا أن البابا يوحنا بولس الثاني قد اعترف في 9/ 7/ 1414ه الموافق 22/ 12/ 1993م، بأن هذا اليوم (25/ 12) يصادف عيدًا وثنيًّا، كان الوثنيون يحتفلون فيه بعيد ميلاد الشمس التي لا تقهر في ذلك اليوم حتى تتوافق مع مدار الشمس الحقيقية، ألا وهي: يسوع المسيح[15]!
كما أن الفاتيكان قد أقر كتابًا في شعبان من سنة 1423هـ (أكتوبر من سنة 2002م)، كما تذكر زينب عبدالعزيز، عن الأكاذيب الواردة في الكتاب المقدس، ومنها أن "يسوع عليه السلام لم يولد في 25 ديسمبر، وأنه كان عليه السلام قصير القامة"، مع أنه من الممكن جدًّا - رغم أن تسجيل المواليد في ذلك الزمان لم يكن مشهورًا - معرفة تاريخ ميلاد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وتواتر تاريخ ميلاده بين المحيطين به وبأمه مريم العذراء - عليهما السلام - على اعتبار أنه حال خارقة للعادة، كونه يولد دون أب.
وقد أكد عدم ولادته في التاريخ المشهور بين النصارى صحفيان كاثوليكيان في كتاب طبع في إيطاليا، وقدم له الأسقف جيفانرا كورافازي، عضو اللجنة البابوية للممتلكات الثقافية للكنيسة وزير الثقافة في الفاتيكان[16].
ثالثًا: نهاية المسيح عليه السلام:
ومن المعلوم في العقيدة النصرانية أن عيسى ابن مريم - عليهما السلام - قد قتل ثم صلب، وأن الرومان - بتحريض من بني إسرائيل - هم الذين قتلوه وصلبوه، ويداه مبسوطتان أفقيًّا، مما شكل بعد ذلك رمزًا للنصرانية، إلا أن القرآن الكريم الذي يحفل بذكر عيسى ابن مريم وأمه الصديقة - عليهما السلام - ينفي فكرة القتل والصلب، ليضاف إلى معجزاته عليه السلام أن الله تعالى رفعه إليه، فلم يقتل ولم يصلب، وأنه سيعود في آخر الزمان وينشر العدل والقسط[17]، ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 157، 158]، ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [آل عمران: 55].
والوفاة هنا لا تعني الموت، وإنما تعني النوم، كما قال أكثر المفسرين، أو أن الرفع سابق الوفاة، وأن الوفاة لاحقة بعد النزول[18]، وأنه عليه السلام سينشر العدل والقسط بين الناس[19]، والنزول يأتي في نهاية العالم والدنيا النهاية الفعلية، وهو من الممهدات للانتقال إلى الحياة الآخرة الأبدية، فهو من علامات الساعة الكبرى وأشراطها[20]، وقيل: إن الوفاة هنا القبض؛ "أي: قابضك من الأرض حيًّا إلى جواري، وآخذك إلى ما عندي بغير موت، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك"[21]، وينقل القرطبي عن الحسن قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: ((إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم يوم القيامة))[22].
والذي قتل ثم صلب حقيقة هو يهوذا الإسخريوطي[23]، ممن أظهر أنه من حواريي بني إسرائيل، وكان يحاول أن يقنعهم حينها أنه ليس المسيح، ولم يصدقوه، يقول يهوذا للوالي الذي كان يوقر عيسى عليه السلام سرًّا: "صدقني يا سيد، إنك إذا أمرت بقتلي ترتكب ظلمًا كبيرًا؛ لأنك تقتل بريئًا؛ لأني أنا يهوذا الإسخريوطي لا يسوع الساحر الذي حولني بسحره كما ترى"[24]، لكن طوائف من النصارى لا تقر بذلك، بل تعده افتراضًا مرفوضًا، وتتعامل بحذر مع النصوص الإسلامية التي تؤيده وتؤكد عدم صلب المسيح وعدم وفاته[25].
وهذا بدوره يثير إشكالًا كبيرًا حول قبول عدم صلب المسيح عليه السلام لدى نصارى الأمس واليوم، مما يجعل بعض النصارى يتأول ما جاء في القرآن الكريم من آيات واضحات في عدم وفاة المسيح عليه السلام[26]، ولو حصل القبول فلن يحصل بصورة جماعية، إلا أن يصدر قرار من مجمع كنسي يؤمن به جمع وتتجاهله جموع، وكذلك يثير إشكالًا كبيرًا حول اعتماد الصليب شعارًا للنصرانية منذ قرون طويلة تعدت العشرين قرنًا، مما يصعب اقتناع النصارى المعاصرين بهذه الرؤية الإسلامية، فقد اعتمد الصليب شعارًا للكنيسة عمومًا، ويدخل في تصميم شعارات كثيرة؛ كأعلام الدول، وما له علاقة بالطب؛ كالمستشفيات والصيدليات وسيارات الإسعاف، بل وشعارات بعض فرق الأندية الرياضية في الغرب الأوسط والغرب الأقصى.
كما سيثير إشكالًا حول قبول صورة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام مصلوبًا، والدماء تتضرج من يديه الطاهرتين، هذه الصورة المعتمدة لدى كثير من الكنائس حول العالم، وفي كثير من المطبوعات والمنازل وغيرها من المؤسسات ذات العلاقة، لا سيما إذا اقتنع بعض النصارى أنها في الحقيقة لا تعبر عن شخص المسيح الذي لم يصلب ابتداءً، وفي قبول هذه الفكرة صعوبة غير عادية لدى جمع من الكنائس على اختلاف مناهجها.
وقد سعى الفاتيكان لتبرئة اليهود من مقتل عيسى ابن مريم - عليهما السلام - وصلبه[27]؛ ولذلك يستحضر الحديث الشريف الذي أورده القرطبي في تفسيره فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لينزلن ابن مريم حكمًا عادلًا، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى إليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد))؛ رواه مسلم والبخاري بنحوه[28]، وسينفي زعم بعض اليهود من أنهم هم الذين قتلوا المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وصلبوه[29]، وهذا النفي مقصده إحقاق الحق، وليس الدفاع عن طائفة على حساب أخرى؛ إذ المشهور عن اليهود قتلهم الأنبياء؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61]، وقال تعالى: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ [آل عمران: 112، 113]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [آل عمران: 181]، وقال تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 155، 156]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ ﴾ [المائدة: 70].
وهذا سيؤثر بدوره في فكرة العشاء الأخير في العهد الجديد، الذي يقابل عيد الفِصْح عند اليهود؛ إذ لم يكن حدثًا هينًا عند النصارى؛ لأنه شهد تقديم عيسى ابن مريم عليه السلام خلاصة تعاليمه، فإذا وقع الشك في صلبه عليه السلام يقع الشك في هذا الحدث القائم على خلاصة التعاليم، وعلى أنه يمكن أن يكون الصلب قد وقع فعلًا، ولكنه لم يقع.
كما أنه سيؤثر على تلك الطقوس التي تدور في الكنيسة من تلقيم رواد الكنيسة من رمز العشاء الأخير فيأكلون قطعًا من الخبز المقدس، ويسقون من النبيذ، أو ما يسمونه بعصير الكرامة من العنب، وربما في بعض المعتقدات يأكلون من القربان المقدس، الذي ربما يرمز أيضًا إلى تضحية المسيح عليه السلام، وذلك بإيعاد من بولس (شاؤول) الذي يرى فيه النصارى أنه المخلص، ويرى فيه آخرون خلاف ذلك، ويستدعي هذا - كذلك - البحث في حقيقة بولس المخلص، الذي كانت له أياد في تحوير التعاليم النصرانية، ومنها دعوته لشرب الخمر لا للسكر، ولكن للشفاء[30].
ومثل هذا يمكن أن يقال عن المسار السياسي ثم الاجتماعي الذي تبنته الثقافة الغربية بعمومها من الميل إلى المنهج العلماني الذي يفهم على أنه - دون تفصيلات - مصادر للدين في السياسة والمجتمع، وما هو كذلك، مهما ظهرت فيه من نظرات تخلت عن العقيدة في السياسة بوضوح وفي المجتمع بشيء من الغموض، ولكنه مع هذا نظام لم يتمكن من التنصل من البعد الديني ولم يستطع ذلك، مهما حاربته العلمانية في الظاهر، فالشعوب متدينة في طبعها، ويصعب تطبيق مبادئ العلمانية الشاملة بدقة بين شعوب متدينة، إلا بالقهر والاستبداد، وهذا لا يتماشى مع الدساتير الغربية في عمومها، تلك التي تتبنى المنهج العلماني الجزئي في الشأن السياسي بصورة واضحة، وتتبنى كذلك المنهج الديمقراطي داخل مجتمعاتها، لا خارجها بالضرورة.
ومثل هذه الموضوعات هي التي يمكن أن ينظر إليها على أنها موضوعات الدراسات الاستغرابية من الزاوية الدينية، وقد تخرج عن الزاوية الدينية إذا ما التفت إلى الزاويتين الاقتصادية والاجتماعية الأنثروبولوجية، مع توكيد قوي على الدراسة الموضوعية العلمية، ذات الإمكانية في القبول في الوقت الراهن، وهذا النوع من النقد الموضوعي لا يعود بالنفع على المسلمين فقط، بل يعود بالنفع على الأمم الأخرى كذلك، فهو مجال الإقناع والاقتناع.
[1] انظر: علي بن عبدالرحمن الدعيج. (الاستغراب) وإمكانية تدريسه في الجامعات السعودية. الجزيرة الثقافية. ع117 (12/ 6/ 1426هـ - 1/ 8/ 2005م). ص14.
[2] انظر: محمد صالح بن عثمان. النصرانية والتنصير أم المسيحية والتبشير: دراسة مقارنة حول المصطلحات والدلالات. المدينة المنورة: مكتبة ابن القيم، 1410هـ (1989م). ص69.
[3] انظر: أحمد ديدات. المسيح في الإسلام: الخلاف المحتدم حول الاعتقاد بألوهية المسيح/ ترجمة مجدي محمد عبدالرحمن. القاهرة: دار الاعتصام. 1991م. ص128.
[4] انظر: محمد وصفي. المسيح والتثليث/ تقديم محمد عبدالله السمان، مراجعة علي الجوهري. القاهرة: دار الفضيلة، 1423هـ (2003م). ص203.
[5] انظر: جيمس د. طابور. سلالة يسوع: أسرة يسوع الحاكمة/ ترجمة سهيل زكار. دمشق: دار قتيبة، 1429هـ (2008م). ص6.
[6] انظر: عبدالمنعم جبري. المسيح عند اليهود والنصارى وحقيقة التثليث. دمشق: الأوائل، 2005م. ص287. وانظر كذلك: فؤاد، عبدالمنعم. المسيحية بين التوحيد والتثليث وموقف الإسلام منها. الرياض: مكتبة العبيكان. 1442هـ. ص37.
[7] انظر: زينب عبدالعزيز. حرب صليبية بكل المقاييس. دمشق: دار الكتاب العربي، 2003م. ص110. (سلسلة صليبية الغرب وحضارته، 1).
[8] انظر: ابن كثير، إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (توفي سنة 774هـ). تفسير القرآن العظيم. 4 مج. بيروت: دار المعرفة. 1388هـ (1969م). 3: 114 - 121.
[9] انظر: ابن كثير. تفسير القرآن العظيم. المرجع السابق. 3: 114 - 121.
[10] انظر: ميشال الحايك. المسيح في الإسلام. ط4. بيروت: دار النهار، 2004م. ص67 - 57.
[11] انظر: ميشال الحايك. المسيح في الإسلام. المرجع السابق. ص67 - 75.
[12] انظر: محمد عمارة. ناقد ومعلق. ملاحظات علمية على كتاب المسيح في الإسلام للدكتور ميشال الحايك. القاهرة: الأزهر الشريف: 1427هـ. ص4. (ملحق مجلة الأزهر).
[13] انظر: ابن كثير. تفسير القرآن العظيم. مرجع سابق. 3: 114 - 121.
[14] انظر: الإمام الطبري، محمد بن جرير (توفي سنة 310هـ). تفسير الطبري. المسمى جامع البيان في تأويل القرآن. 12 مج. بيروت: دار الكتب العلمية، 1412هـ (1992م). 8: 324 - 325.
[15] انظر: زينب عبدالعزيز. حرب صليبية بكل المقاييس. مرجع سابق. ص110.
[16] انظر: زينب عبدالعزيز. حرب صليبية بكل المقاييس. المرجع السابق. ص112.
[17] انظر: ابن كثير، إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (توفي سنة 774هـ). البداية والنهاية/ تحقيق عبدالله بن عبدالمحسن التركي. 21 مج. القاهرة: دار هجر، 1417هـ (1997م). 19: 211 - 223.
[18] انظر: ابن كثير. تفسير القرآن العظيم. مرجع سابق. 1: 366 - 367.
[19] انظر: الهندي. محد أنور شاه الكشميري. التصريح بما تواتر في نزول المسيح/ رتبه محمد شفيع، حققه وراجع نصوصه وعلق عليه عبدالفتاح أبو غدة. ط5. حلب: مكتب المطبوعات الإسلامية، 1412هـ. (1992م). ص373.
[20] انظر: عبدالله بن محمد بن الصديق الحسيني. عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام. ط2. بيروت: عالم الكتب، 1406هـ (1986م). ص167.
[21] انظر: الطبري. تفسير الطبري. المسمى جامع البيان في تأويل القرآن. مرجع سابق. 3: 287 - 290.
[22] انظر: الطبري. تفسير الطبري، المسمى جامع البيان في تأويل القرآن، المرجع السابق. 3: 288.
[23] انظر: محمد أمير يكن. يهوذا الإسخريوطي على الصليب. مالطا: دار اقرأ، 1410هـ (1990م). ص 265 - 277.
[24] انظر: عيسى. ص639 - 665. - في: سميح عاطف الزين. قصص الأنبياء في القرآن الكريم. ط7. القاهرة: دار الكتاب المصري، 1426هـ (2005م). ص695.
[25] انظر: أبو الخير، عبدالمسيح بسيط، القس. هل صلب المسيح حقيقة أم شبه لهم؟. القاهرة: بيت مدارس الأحد، 2004م. ص176. (سلسلة اللاهوت الدفاعي ، 2).
[26] انظر: أبو الخير: عبدالمسيح بسيط، القس. هل صلب المسيح حقيقة أم شبه لهم؟. المرجع السابق. ص176.
[27] انظر: محمد حسني يوسف. اكتشاف أكبر معجزة لبراءة المسيح، لأول مرة على مر العصور تتم معرفة شخصية المسيح عليه السلام. دمشق: دار الكتاب العربي، 2005م. ص296م. وانظر أيضًا: علال الفاسي. تبرئة اليهود من دم المسيح من قبل المجمع المسكوني. المنهل. ع9 (رمضان 1384هـ/ يناير 1965م). ص640 - 641.
[28] انظر: محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي. (توفي سنة 671هـ). الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان/ تحقيق عبدالله بن عبدالمحسن. 24 مج. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1427هـ (2006م). 5: 152 - 156.
[29] انظر: محمد خليل هراس. فصل المقال في رفع عيسى حيًّا ونزوله وقتله الدجال/ علق عليه وخرج أحاديثه أبو الفداء السيد بن عبدالمقصود الأثري. القاهرة: مكتبة السنة، 1410هـ (1990م). ص13.
[30] في سبيل التعرف المفصل على تأثير شاؤول أو بولس على الديانة النصرانية انظر: هيم ماكبي. بولس وتحريف المسيحية/ ترجمة سميرة عزمي الزين. د.م.: المعهد الدولي للدراسات الإنسانية. 1411هـ (1991م). ص103. (سلسلة من أجل الحقيقة، 3).
أ. د. علي بن إبراهيم النملة
.. ومن هذا المنطلق فإن الاستغراب يدرس كذلك الدين السائد في الغرب، وهو هنا النصرانية أولًا، ثم اليهودية، ويأتي الإسلام ليطغى - من حيث العدد - على اليهودية، ثم النصرانية بعدئذ؛ إذ المتوقع أن يكون الإسلام بحلول عام 1445هـ (2025م) هو الدين الأول في أوروبا، ولعله من الآن أضحى الدين الأول - كما صرح الفاتيكان بذلك - في سنة 1434هـ (2013م).
ولعل مقصود الفاتيكان بهذا أن المسلمين يفوقون اليوم الكاثوليك في الغرب الأوسط، أو أوروبا الغربية من حيث العدد، على اعتبار أن الكاثوليك لا يرون معنى لظهور البروتستانتية على يد القسيس الألماني مارتن لوثر (1483 - 1546م)، محتجة على تعاليم الكاثوليكية الصارمة في عدم الخروج للحياة (العلمانية)، وعلى صكوك الغفران وسلطة الباب، فلا يدخلونها في إحصائياتهم، ولسنا بحاجة إلى الاستغراب في دراسة الإسلام!
ولا تعني دراسة هذه الأديان، أو الدينين بتعبير أدق، أن نترك نظرتنا نحن المسلمين لهما، من خلال ما نراه في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، بل إنهما يكونان منطلقًا (مقياسًا) مهمًّا من منطلقات الدراسة، التي لم يكن الفكر الإسلامي خلوًا منها، وإن لم تنهض التسمية مصطلحًا لهذه الدراسات[1].
على أن هناك أمورًا لها دلالات في الكتاب الكريم والسنة النبوية، يمكن الانطلاق منها في الدراسات، وحيث إنها من حيث تفسيرها تدخل في جانب التحليل بعد اليقين بالكتاب والسنة، وعليه فإن هناك مجالًا رحبًا للدراسة، ويدخل في ذلك الإطلاق لأتباع عيسى ابن مريم - عليهما السلام - من حيث التسمية، فهل هم نصارى أم هم مسيحيون؟ وهل يحبذون اليوم تسميتهم بالنصارى أم بالمسيحين؟ وهل تسميتهم بالنصارى ثقيلة عليهم، إلى درجة الإساءة؟ فالقرآن الكريم يسميهم بالنصارى[2]، ولم يرد في القرآن تسميتهم بالمسيحيين، بل ورد تسمية عيسى ابن مريم - عليهما السلام - بالمسيح؛قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45]، وقال تعالى: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 157 - 159]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 171]، وقال تعالى: ﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [النساء: 172، 173]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 17]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، وقال تعالى: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [المائدة: 75، 76]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30].
وعليه، فإن هذه المناقشة السريعة فيما له علاقة بالاستغراب الديني ستعتمد تسمية أتباع عيسى ابن مريم - عليهما السلام - بالنصارى، دون إغفال التسمية الأخرى من حيث شيوع المصطلح، ومن حيث القاعدة العربية: لا مشاحة في الاصطلاح، ومراجع هذه الدراسة تراوح بين تسميتهم بالنصارى والمسحيين، ولم ترد تسميتهم بالمسيحيين في كتب التراث التي تعرضت للنصرانية من قريب أو بعيد، بل تواترت عندهم التسمية بالنصارى.
ومن باب طرح نماذج يمكن أن تكون مجالًا رحبًا للدراسات الاستغرابية الدينية يمكن التطرق لثلاث قضايا حساسة لدى النصارى، وهي ذات علاقة بالمسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - من حيث طبيعته أولًا، وظروف ولادته ثانيًا، وادعاء وفاته عليه السلام ثالثًا، حيث الافتراق الواضح في هذه القضايا الثلاث بين المعتقد النصراني والمعتقد الإسلامي.
ولا ينبغي أن يكون في دراسة هذه الموضوعات حساسية، ما دامت هذه الموضوعات والقضايا تبحث بمنظور علمي موضوعي هادئ، لا يقصد به سوى الوصول إلى كلمة سواء؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 64، 65].
ويتبع هذه القضايا المفصلية الثلاث عدد من القضايا السائدة في الغرب على أنها من الدين، وقد تكون كذلك، وقد لا تكون كذلك، والمعيار (المقياس) في هذا كله هو المثبت عند الدارسين، وليس بالضرورة عند المدروسين، وهو في حالنا هذه القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية الشريفة، ثم الرجوع إلى المصادر اليهودية والنصرانية المعتبرة، دون إغفال إعمال العقل الصحيح فيما ليس توقيفيًّا في العبادات والمعاملات، ولا بد من المقياس في الحكم على قضايا مفصلية في سلوكيات تنسب إلى الدين السائد.
أولًا: طبيعة المسيح عليه السلام:
نحن ندرس طبيعة المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - من منطلق أنه بشر مخلوق مولود بمعجزة - كما سيأتي - قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [آل عمران: 59، 60]، ولا ندخل في نقاش طبيعته عليه السلام، من حيث لاهوتيته أو ناسوتيته، فهذا الأمر محسوم عندنا، من مقتضيات عقدية لا تؤمن بأن لله تعالى صاحبة ولا ولدًا، وأن المسيح هو في حقيقته إنسان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وعبد من عبيد الله، ورسول من رسله، آتاه الله تعالى الحكمة، وجعله نبيًّا، وجعله مباركًا أينما كان، وأنه عليه السلام من أولي العزم من الرسل؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 30 - 33]، وقال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الأحقاف: 35].
وتأتي الوقفات مع هذا الموضوع الحيوي لدى غالبية المجتمع الغربي، المتدين منه وغير المتدين، فيما له علاقة بمناقشة أولئك الذين يراوحون في طبيعة المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - بين الناسوتية واللاهوتية من قبل النساطرة واليعاقبة، وغيرهم من أتباع الكنائس، ومن لا يزال هذا الموضوع يشغل نقاشهم، ويزيد من اختلافهم وفرقتهم بينهم، فالخلاف في طبيعة المسيح عليه السلام خلاف محتدم، ليس بين المسلمين والنصارى، بل بين النصارى أنفسهم[3].
وعليه وبما أن المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام رسول بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 20]، فتنتفي مسألة أنه ابن الله تعالى أو أنه ثالث ثلاثة، وهذه حقيقة لا يزال النصارى يتحاورون حولها، رغم أنها محسومة عند المسلمين، فبشرية المسيح عيسى ابن مريم تنفي أن يكون شريكًا لله، أو أن يلجأ المصرون على ألوهيته إلى القول: إنه - عليه السلام - ابن الله، أو إنه ثالث ثلاثة[4].
على أن البحوث في الأناجيل والمكتشفات الأثرية تؤكد نفي التثليث، وأنه لا علاقة له بالمسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - ومن أوائل من بدأ بهذا البحث وبرهن على نفي التثليث ريماروس (1694 - 1768م)، وخرجت بعده أبحاث كثيرة استفادت من مواد جديدة، بعضها مكتوب، والآخر يعتمد على نصوص الأناجيل الأربعة وغيرها[5].
وكذلك تحجم هذه الوقفات عن التفصيل؛ لئلا يخرج الموضوع عن مجرد إثارة مجالات الحوار والنقاش من منطلق استغرابي، لا يسعى إلى أي شكل من أشكال الإساءة والاستخفاف بالثقافات الأخرى، بقدر ما يسعى إلى تشخيص بعض القضايا التي يقع فيها الخلاف والاختلاف، من منطلق المقياس الإسلامي الصريح في طبيعة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وفي أن الله تعالى واحد أحد[6].
وعدم الدخول في هذا النقاش بتفصيل قائم على اعتبار أن المنطلق للأديان السماوية كلها هو منطلق توحيدي لإله لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك؛ ولذلك فإن أي قول يذهب إلى خلاف ذلك فإنه غير مقبول دينًا، لا إسلامًا فقط؛ أي إنه غير مقبول - في الأصل - من جميع الأديان التوحيدية.
وفي القرآن الكريم تركيز قوي على هذا الجانب، فيما ينفي أن يكون عيسى ابن مريم - عليهما السلام - ابن الله تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 26 - 28]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 88 - 95]، وقال تعالى: ﴿ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ﴾ [الكهف: 4، 5]، ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]، ﴿ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 68]، ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [البقرة: 116، 117]، ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 101]، ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴾ [الجن: 3].
والاستشهاد بآيات من القرآن الكريم في موضوع الاستغراب الديني عمومًا، وفي النظر في طبيعة المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام -خصوصًا يأتي من منطلق أن هذا الكتاب لم يعد - ولم يكن - مقصورًا على المسلمين، بل هو اليوم مقروء أكثر من ذي قبل، إما قراءة مباشرة بلغته العربية التي نزل بها، أو بقراءة ترجمة معانيه التي شملت معظم لغات العالم، وتجاوزت خمسًا وخمسين لغة.
وعلى سبيل المثال، عندما قرر القس الأمريكي تيري جونز حرق المصحف - لا القرآن الكريم - سنة 2010م، قابله أحد المحققين في قناة Cable أو News network أو CNN وسأله عما إذا كان قد قرأ الكتاب الذي يريد أن يحرقه، فأفاد القس بأنه يعرف شيئًا عنه، فألح عليه المحقق في مسألة قراءته، فعندما لم يجب القس بالإيجاب سأله المحقق: وكيف تريد أن تحرق كتابًا لم تقرأه؟! عندها قيل: إن الناس قد أقبلوا على شراء النسخ الورقية لترجمات القرآن الكريم الموجودة في المكتبات التجارية في الولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا، حتى نفدت من بعض المكتبات، هذا عدا عن الاستعانة بالشبكة العنكبوتية في التعرف على القرآن الكريم، مما يقود إلى التعرف على رؤية القرآن الكريم لطبيعة المسيح عليه السلام.
ثانيًا: ميلاد المسيح عليه السلام:
ومن مجالات الدراسات الاستغرابية في الشأن الديني المتعينة على العلماء العرب والمسلمين، مثلًا، تحرير مسألة ميلاد المسح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - وطرح سؤال حول توقيت ميلاد المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - ووفاتهعليه السلام، وسؤال آخر حول حقيقة وفاته عليه السلام في ضوء ما ورد في كتاب الله تعالى.
الذي يظهر جليًّا من سرد قصته عليه السلام في القرآن الكريم أنه ولد قريبًا، بل في مكان ينبت فيه النخيل: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]، وأنه عليه السلام قد ولد في موسم جني الرطب وليس التمر، وهذا يعني أنه قد ولد في المدة التي يكون فيها طلع النخيل رطبًا قابلًا للجني أو الخراف في محيط فلسطين وأجواء المنطقة كلها، مما يوحي بأن ولادته عليه السلام كانت في الصيف أو في أواخر الصيف، وليس في الخريف أو الشتاء، كما هو الحال الآن عند الاحتفال بعيد ميلاد المسيح عليه السلام، الذي يصادف عند غالبية الطوائف النصرانية الخامس والعشرين من شهر ديسمبر (25/ 12) من كل سنة ميلادية؛ أي: بعد الدخول المتعارف عليه لفصل الشتاء بثلاثة أيام.
وعند بعض الطوائف الأخرى يكون ميلاده عليه السلام بعد ذلك بحوالي أسبوع[7]، ومع هذا فقد قيل: إن مريم بنت عمران - عليها السلام - قد اختصها الله تعالى بفاكهة الصيف تأتيها بالشتاء، وبفاكهة الشتاء تأتيها في الصيف[8]، ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 36، 37].
وعليه يفترض أن عيسى ابن مريم - عليهما السلام - قد ولدته أمه - وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل، وكانت عليها السلام إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل الدؤوب[9] - ولدته في مكان شرقي، في الصحراء، بينها وبين قومها حجاب؛ أي ستر، وهو الجبل، وقيل في جذع الخلة إنه كان مقطوعًا، "فلما أجهدها الطلق احتضنته فاستقام واخضر وأرطب"[10]، وهذه إن حصلت فهي من المعجزات التي تحصل في حال الأنبياء، فلا تخضع للتحليل العلمي المنطقي؛ إذ إنها من خوارق العادات، وقيل كذلك في قوله تعالى: ﴿ مَكَانًا شَرْقِيًّا ﴾ [مريم: 16]؛ أي: مشرقًا؛ لأنه كان في الشتاء في أقصر يوم في السنة"[11]، على أن هذا المرجع لميشال الحايك مليء بالأخذ عن مؤلفات التصوف الباطني، "المليئة بالأساطير والشطحات"، كما يقول محمد عمارة[12].
ولذلك فإن مكان ميلاد المسيح عليه السلام لم يثبت عند النصارى، ولم يثبت عند المسلمين، والمشهور أنه ولد عليه السلام في بيت لحم، إلا أن مريم عليها السلام قد تركت أهلها إلى مكان قَصِي: ﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ﴾ [مريم: 22]، وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 16، 17]، وربما أنها توجهت إلى أرض مصر، ومصر غرب إيليا، وليست شرقها، وربما أنها حملت فوضعت[13]، دون أن تمر بمرحلة الحمل الزمنية التي تمر بها عادةً النساءُ، وما احتاجت إلى المدة التي تحتاجها المرأة من مدة الحمل، وأقوال المفسرين المسلمين في هذا كثيرة، وبعضها منقول متداول بين النصارى[14].
ومثل هذه الافتراضات تحتاج إلى دراسة علمية معمقة، سبق طرحها علميًّا من العلماء المعنيين بدراسة الأديان، ولكنها لم تلق الرواج المطلوب؛ لأنها ستغير في مفاهيم متداولة حول مولد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام من حيث المكان والزمان والطقوس، لا سيما في القسم الغربي من العالم، الذي جعل لهذه المناسبة السنوية بعدًا اقتصاديًّا أكثر من كونه طقسًا من طقوس العبادة، ناهيك عن أن يكون احتفالًا بمولد نبي عظيم من أولي العزم من الرسل، كانت له معجزات وخوارق، بل هو نفسه كان وما يزال معجزة، ويكاد هذا البعد ينسى في ضوء طغيان العامل الاقتصادي على الاحتفاء بمولده عليه السلام.
علمًا أن البابا يوحنا بولس الثاني قد اعترف في 9/ 7/ 1414ه الموافق 22/ 12/ 1993م، بأن هذا اليوم (25/ 12) يصادف عيدًا وثنيًّا، كان الوثنيون يحتفلون فيه بعيد ميلاد الشمس التي لا تقهر في ذلك اليوم حتى تتوافق مع مدار الشمس الحقيقية، ألا وهي: يسوع المسيح[15]!
كما أن الفاتيكان قد أقر كتابًا في شعبان من سنة 1423هـ (أكتوبر من سنة 2002م)، كما تذكر زينب عبدالعزيز، عن الأكاذيب الواردة في الكتاب المقدس، ومنها أن "يسوع عليه السلام لم يولد في 25 ديسمبر، وأنه كان عليه السلام قصير القامة"، مع أنه من الممكن جدًّا - رغم أن تسجيل المواليد في ذلك الزمان لم يكن مشهورًا - معرفة تاريخ ميلاد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وتواتر تاريخ ميلاده بين المحيطين به وبأمه مريم العذراء - عليهما السلام - على اعتبار أنه حال خارقة للعادة، كونه يولد دون أب.
وقد أكد عدم ولادته في التاريخ المشهور بين النصارى صحفيان كاثوليكيان في كتاب طبع في إيطاليا، وقدم له الأسقف جيفانرا كورافازي، عضو اللجنة البابوية للممتلكات الثقافية للكنيسة وزير الثقافة في الفاتيكان[16].
ثالثًا: نهاية المسيح عليه السلام:
ومن المعلوم في العقيدة النصرانية أن عيسى ابن مريم - عليهما السلام - قد قتل ثم صلب، وأن الرومان - بتحريض من بني إسرائيل - هم الذين قتلوه وصلبوه، ويداه مبسوطتان أفقيًّا، مما شكل بعد ذلك رمزًا للنصرانية، إلا أن القرآن الكريم الذي يحفل بذكر عيسى ابن مريم وأمه الصديقة - عليهما السلام - ينفي فكرة القتل والصلب، ليضاف إلى معجزاته عليه السلام أن الله تعالى رفعه إليه، فلم يقتل ولم يصلب، وأنه سيعود في آخر الزمان وينشر العدل والقسط[17]، ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 157، 158]، ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [آل عمران: 55].
والوفاة هنا لا تعني الموت، وإنما تعني النوم، كما قال أكثر المفسرين، أو أن الرفع سابق الوفاة، وأن الوفاة لاحقة بعد النزول[18]، وأنه عليه السلام سينشر العدل والقسط بين الناس[19]، والنزول يأتي في نهاية العالم والدنيا النهاية الفعلية، وهو من الممهدات للانتقال إلى الحياة الآخرة الأبدية، فهو من علامات الساعة الكبرى وأشراطها[20]، وقيل: إن الوفاة هنا القبض؛ "أي: قابضك من الأرض حيًّا إلى جواري، وآخذك إلى ما عندي بغير موت، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك"[21]، وينقل القرطبي عن الحسن قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: ((إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم يوم القيامة))[22].
والذي قتل ثم صلب حقيقة هو يهوذا الإسخريوطي[23]، ممن أظهر أنه من حواريي بني إسرائيل، وكان يحاول أن يقنعهم حينها أنه ليس المسيح، ولم يصدقوه، يقول يهوذا للوالي الذي كان يوقر عيسى عليه السلام سرًّا: "صدقني يا سيد، إنك إذا أمرت بقتلي ترتكب ظلمًا كبيرًا؛ لأنك تقتل بريئًا؛ لأني أنا يهوذا الإسخريوطي لا يسوع الساحر الذي حولني بسحره كما ترى"[24]، لكن طوائف من النصارى لا تقر بذلك، بل تعده افتراضًا مرفوضًا، وتتعامل بحذر مع النصوص الإسلامية التي تؤيده وتؤكد عدم صلب المسيح وعدم وفاته[25].
وهذا بدوره يثير إشكالًا كبيرًا حول قبول عدم صلب المسيح عليه السلام لدى نصارى الأمس واليوم، مما يجعل بعض النصارى يتأول ما جاء في القرآن الكريم من آيات واضحات في عدم وفاة المسيح عليه السلام[26]، ولو حصل القبول فلن يحصل بصورة جماعية، إلا أن يصدر قرار من مجمع كنسي يؤمن به جمع وتتجاهله جموع، وكذلك يثير إشكالًا كبيرًا حول اعتماد الصليب شعارًا للنصرانية منذ قرون طويلة تعدت العشرين قرنًا، مما يصعب اقتناع النصارى المعاصرين بهذه الرؤية الإسلامية، فقد اعتمد الصليب شعارًا للكنيسة عمومًا، ويدخل في تصميم شعارات كثيرة؛ كأعلام الدول، وما له علاقة بالطب؛ كالمستشفيات والصيدليات وسيارات الإسعاف، بل وشعارات بعض فرق الأندية الرياضية في الغرب الأوسط والغرب الأقصى.
كما سيثير إشكالًا حول قبول صورة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام مصلوبًا، والدماء تتضرج من يديه الطاهرتين، هذه الصورة المعتمدة لدى كثير من الكنائس حول العالم، وفي كثير من المطبوعات والمنازل وغيرها من المؤسسات ذات العلاقة، لا سيما إذا اقتنع بعض النصارى أنها في الحقيقة لا تعبر عن شخص المسيح الذي لم يصلب ابتداءً، وفي قبول هذه الفكرة صعوبة غير عادية لدى جمع من الكنائس على اختلاف مناهجها.
وقد سعى الفاتيكان لتبرئة اليهود من مقتل عيسى ابن مريم - عليهما السلام - وصلبه[27]؛ ولذلك يستحضر الحديث الشريف الذي أورده القرطبي في تفسيره فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لينزلن ابن مريم حكمًا عادلًا، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى إليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد))؛ رواه مسلم والبخاري بنحوه[28]، وسينفي زعم بعض اليهود من أنهم هم الذين قتلوا المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وصلبوه[29]، وهذا النفي مقصده إحقاق الحق، وليس الدفاع عن طائفة على حساب أخرى؛ إذ المشهور عن اليهود قتلهم الأنبياء؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61]، وقال تعالى: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ [آل عمران: 112، 113]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [آل عمران: 181]، وقال تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 155، 156]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ ﴾ [المائدة: 70].
وهذا سيؤثر بدوره في فكرة العشاء الأخير في العهد الجديد، الذي يقابل عيد الفِصْح عند اليهود؛ إذ لم يكن حدثًا هينًا عند النصارى؛ لأنه شهد تقديم عيسى ابن مريم عليه السلام خلاصة تعاليمه، فإذا وقع الشك في صلبه عليه السلام يقع الشك في هذا الحدث القائم على خلاصة التعاليم، وعلى أنه يمكن أن يكون الصلب قد وقع فعلًا، ولكنه لم يقع.
كما أنه سيؤثر على تلك الطقوس التي تدور في الكنيسة من تلقيم رواد الكنيسة من رمز العشاء الأخير فيأكلون قطعًا من الخبز المقدس، ويسقون من النبيذ، أو ما يسمونه بعصير الكرامة من العنب، وربما في بعض المعتقدات يأكلون من القربان المقدس، الذي ربما يرمز أيضًا إلى تضحية المسيح عليه السلام، وذلك بإيعاد من بولس (شاؤول) الذي يرى فيه النصارى أنه المخلص، ويرى فيه آخرون خلاف ذلك، ويستدعي هذا - كذلك - البحث في حقيقة بولس المخلص، الذي كانت له أياد في تحوير التعاليم النصرانية، ومنها دعوته لشرب الخمر لا للسكر، ولكن للشفاء[30].
ومثل هذا يمكن أن يقال عن المسار السياسي ثم الاجتماعي الذي تبنته الثقافة الغربية بعمومها من الميل إلى المنهج العلماني الذي يفهم على أنه - دون تفصيلات - مصادر للدين في السياسة والمجتمع، وما هو كذلك، مهما ظهرت فيه من نظرات تخلت عن العقيدة في السياسة بوضوح وفي المجتمع بشيء من الغموض، ولكنه مع هذا نظام لم يتمكن من التنصل من البعد الديني ولم يستطع ذلك، مهما حاربته العلمانية في الظاهر، فالشعوب متدينة في طبعها، ويصعب تطبيق مبادئ العلمانية الشاملة بدقة بين شعوب متدينة، إلا بالقهر والاستبداد، وهذا لا يتماشى مع الدساتير الغربية في عمومها، تلك التي تتبنى المنهج العلماني الجزئي في الشأن السياسي بصورة واضحة، وتتبنى كذلك المنهج الديمقراطي داخل مجتمعاتها، لا خارجها بالضرورة.
ومثل هذه الموضوعات هي التي يمكن أن ينظر إليها على أنها موضوعات الدراسات الاستغرابية من الزاوية الدينية، وقد تخرج عن الزاوية الدينية إذا ما التفت إلى الزاويتين الاقتصادية والاجتماعية الأنثروبولوجية، مع توكيد قوي على الدراسة الموضوعية العلمية، ذات الإمكانية في القبول في الوقت الراهن، وهذا النوع من النقد الموضوعي لا يعود بالنفع على المسلمين فقط، بل يعود بالنفع على الأمم الأخرى كذلك، فهو مجال الإقناع والاقتناع.
[1] انظر: علي بن عبدالرحمن الدعيج. (الاستغراب) وإمكانية تدريسه في الجامعات السعودية. الجزيرة الثقافية. ع117 (12/ 6/ 1426هـ - 1/ 8/ 2005م). ص14.
[2] انظر: محمد صالح بن عثمان. النصرانية والتنصير أم المسيحية والتبشير: دراسة مقارنة حول المصطلحات والدلالات. المدينة المنورة: مكتبة ابن القيم، 1410هـ (1989م). ص69.
[3] انظر: أحمد ديدات. المسيح في الإسلام: الخلاف المحتدم حول الاعتقاد بألوهية المسيح/ ترجمة مجدي محمد عبدالرحمن. القاهرة: دار الاعتصام. 1991م. ص128.
[4] انظر: محمد وصفي. المسيح والتثليث/ تقديم محمد عبدالله السمان، مراجعة علي الجوهري. القاهرة: دار الفضيلة، 1423هـ (2003م). ص203.
[5] انظر: جيمس د. طابور. سلالة يسوع: أسرة يسوع الحاكمة/ ترجمة سهيل زكار. دمشق: دار قتيبة، 1429هـ (2008م). ص6.
[6] انظر: عبدالمنعم جبري. المسيح عند اليهود والنصارى وحقيقة التثليث. دمشق: الأوائل، 2005م. ص287. وانظر كذلك: فؤاد، عبدالمنعم. المسيحية بين التوحيد والتثليث وموقف الإسلام منها. الرياض: مكتبة العبيكان. 1442هـ. ص37.
[7] انظر: زينب عبدالعزيز. حرب صليبية بكل المقاييس. دمشق: دار الكتاب العربي، 2003م. ص110. (سلسلة صليبية الغرب وحضارته، 1).
[8] انظر: ابن كثير، إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (توفي سنة 774هـ). تفسير القرآن العظيم. 4 مج. بيروت: دار المعرفة. 1388هـ (1969م). 3: 114 - 121.
[9] انظر: ابن كثير. تفسير القرآن العظيم. المرجع السابق. 3: 114 - 121.
[10] انظر: ميشال الحايك. المسيح في الإسلام. ط4. بيروت: دار النهار، 2004م. ص67 - 57.
[11] انظر: ميشال الحايك. المسيح في الإسلام. المرجع السابق. ص67 - 75.
[12] انظر: محمد عمارة. ناقد ومعلق. ملاحظات علمية على كتاب المسيح في الإسلام للدكتور ميشال الحايك. القاهرة: الأزهر الشريف: 1427هـ. ص4. (ملحق مجلة الأزهر).
[13] انظر: ابن كثير. تفسير القرآن العظيم. مرجع سابق. 3: 114 - 121.
[14] انظر: الإمام الطبري، محمد بن جرير (توفي سنة 310هـ). تفسير الطبري. المسمى جامع البيان في تأويل القرآن. 12 مج. بيروت: دار الكتب العلمية، 1412هـ (1992م). 8: 324 - 325.
[15] انظر: زينب عبدالعزيز. حرب صليبية بكل المقاييس. مرجع سابق. ص110.
[16] انظر: زينب عبدالعزيز. حرب صليبية بكل المقاييس. المرجع السابق. ص112.
[17] انظر: ابن كثير، إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (توفي سنة 774هـ). البداية والنهاية/ تحقيق عبدالله بن عبدالمحسن التركي. 21 مج. القاهرة: دار هجر، 1417هـ (1997م). 19: 211 - 223.
[18] انظر: ابن كثير. تفسير القرآن العظيم. مرجع سابق. 1: 366 - 367.
[19] انظر: الهندي. محد أنور شاه الكشميري. التصريح بما تواتر في نزول المسيح/ رتبه محمد شفيع، حققه وراجع نصوصه وعلق عليه عبدالفتاح أبو غدة. ط5. حلب: مكتب المطبوعات الإسلامية، 1412هـ. (1992م). ص373.
[20] انظر: عبدالله بن محمد بن الصديق الحسيني. عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام. ط2. بيروت: عالم الكتب، 1406هـ (1986م). ص167.
[21] انظر: الطبري. تفسير الطبري. المسمى جامع البيان في تأويل القرآن. مرجع سابق. 3: 287 - 290.
[22] انظر: الطبري. تفسير الطبري، المسمى جامع البيان في تأويل القرآن، المرجع السابق. 3: 288.
[23] انظر: محمد أمير يكن. يهوذا الإسخريوطي على الصليب. مالطا: دار اقرأ، 1410هـ (1990م). ص 265 - 277.
[24] انظر: عيسى. ص639 - 665. - في: سميح عاطف الزين. قصص الأنبياء في القرآن الكريم. ط7. القاهرة: دار الكتاب المصري، 1426هـ (2005م). ص695.
[25] انظر: أبو الخير، عبدالمسيح بسيط، القس. هل صلب المسيح حقيقة أم شبه لهم؟. القاهرة: بيت مدارس الأحد، 2004م. ص176. (سلسلة اللاهوت الدفاعي ، 2).
[26] انظر: أبو الخير: عبدالمسيح بسيط، القس. هل صلب المسيح حقيقة أم شبه لهم؟. المرجع السابق. ص176.
[27] انظر: محمد حسني يوسف. اكتشاف أكبر معجزة لبراءة المسيح، لأول مرة على مر العصور تتم معرفة شخصية المسيح عليه السلام. دمشق: دار الكتاب العربي، 2005م. ص296م. وانظر أيضًا: علال الفاسي. تبرئة اليهود من دم المسيح من قبل المجمع المسكوني. المنهل. ع9 (رمضان 1384هـ/ يناير 1965م). ص640 - 641.
[28] انظر: محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي. (توفي سنة 671هـ). الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان/ تحقيق عبدالله بن عبدالمحسن. 24 مج. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1427هـ (2006م). 5: 152 - 156.
[29] انظر: محمد خليل هراس. فصل المقال في رفع عيسى حيًّا ونزوله وقتله الدجال/ علق عليه وخرج أحاديثه أبو الفداء السيد بن عبدالمقصود الأثري. القاهرة: مكتبة السنة، 1410هـ (1990م). ص13.
[30] في سبيل التعرف المفصل على تأثير شاؤول أو بولس على الديانة النصرانية انظر: هيم ماكبي. بولس وتحريف المسيحية/ ترجمة سميرة عزمي الزين. د.م.: المعهد الدولي للدراسات الإنسانية. 1411هـ (1991م). ص103. (سلسلة من أجل الحقيقة، 3).