فريق منتدى الدي في دي العربي
05-11-2016, 04:06 AM
ثورة الشام في ذكرى الإسراء
محمد عادل فارس
ما تزال الرحلة المعجزة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مصدر إلهام ودروس عبر العصور، ينهل المؤمنون منه هدى وشفاء كلما طلبوا النور في دروب الحياة، أو العلاج لأدواء النفس والمجتمع.
وحين نرْجِعُ البصر بين هذه الحادثة وبين سياقها في أحداث السيرة النبوية، ثم بينها وبين الموضوعات التي عالجتها سورة الإسراء نجدْ هدياً غدَقَاً.
وأول ما يطالعنا في ذلك قول الله - تعالى -في وصف المسجد الأقصى: (الذي باركنا حوله). ويذكر ابن عطية في تفسيره "المحرر الوجيز": "روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الله بارك فيما بين العريش والفرات)). ونفهم منه أن بلاد الشام مباركة، وها هي ذي حناجر أبناء الشام تصدح بالإيمان، وها هي ذي دماؤهم تراق في سبيل الله، إعلاءً لكلمة الله، وتحريراً للشعب من الظلم والظلمات. وإن البركة تكلل ثورتهم بآيات الفلاح، وإن النصر يلوح لهم في الأفق القريب.
جاء الإسلام يعلن عن نفسه أنه دين للعالمين، منذ أيامه الأولى، قبل أن يشيع ذكره في الآفاق، ففي سورة القلم التي نزلت قبل مضي السنوات الثلاث الأولى من البعثة تقرأ قوله - تعالى -: (وما هو إلا ذكر للعالمين). فضلاً عما ذكرته سور مكية أخرى كسورة الأنعام: (إن هو إلا ذكرى للعالمين). وسورة الأنبياء: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). وسورة الفرقان: (...ليكون للعالمين نذيراً).وغيرها.
نعم، ولكن "الإسراء" كان إشارة إلى الانطلاق من مرحلة "المحلية" إلى مرحلة "العالمية". فهي المرة الأولى التي يخرج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة خارج الجزيرة العربية، بل يكون خروجه إلى بيت المقدس بإيلياء، ويصلي إماماً بجمع من الأنبياء الكرام، عليهم الصلاة والسلام، وكأنهم يسلّمونه الراية ليقود البشرية بعدهم في درب الهداية، بعد أن أدّى كل منهم الأمانة إلى قومه.
وكان "الإسراء" بعد عام الحزن، وبعد سنوات من الأذى والتكذيب والتعذيب، من قوم قستْ قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وبعد دعوة وبيان وصبر جميل، وثبات على الحق أيَّ ثبات، من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن الثلة الطاهرة الكريمة التي آمنت به.
أليست هذه الحادثة تحمل معنى التكريم للصابرين الثابتين المجاهدين؟
وأليست تقول لأبناء الشام الثائرين على الظلم: إن النصر لقادم؟!.
لقد صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى كانوا مضرب المثل، وأينا لا يذكر بلالاً وخبّاباً وسُميّة وزِنّيرة، ولقد ثبتوا ثباتاً دونه ثباتُ الجبال، وإن ثبات أبناء درعا ودمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب والدير واللاذقية... لهو علامة على اقتدائهم بنبيهم الصابر المجاهد.
وإن الجهاد إيمان وعقيدة وإقدام... قبل أن يكون سيفاً ومدفعاً.
وصحيح إنه ليس كل الذين يثبتون في ساحة الدعوة والصبر على الأذى يثبتون في ساحات القتال، إلا أن النفوس التي تشرّبت الإيمان والهدى، والتزمت هذا الدين في المحراب وفي السوق... وتحملت الأذى في سبيله... لهي جديرة، بدرجة عالية، بالثبات في ساحات المعركة.
وكان الإسراء هو المعجزة الثانية، من حيث الضخامةُ والأهمية، بعد المعجزة الأولى للنبي - صلى الله عليه وسلم -، معجزة القرآن. وليس مصادفة أن السورة التي ابتدأت بذكر الإسراء، هي ذاتها التي أشارت إلى المعجزة الثانية: (قل: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً). بل إن هذه السورة اختصت بأن ذكرت فيها كلمة "القرآن" عشر مرات!. ويكفي أن فيها قول الله - تعالى -: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). ففي القرآن الهداية إلى الأقوم في شؤون الحياة الفردية والجماعية، ومهما ابتغى الناس الهدى في غيره فلن يجدوا الهدى إلا أن يرجعوا إليه ويقتبسوا من نوره.
بل إن السورة أشارت إلى آيات أخرى لله - تعالى -في الأنفس والآفاق لتنظم معجزة الإسراء في سلك المعجزات الكبرى. نقرأ فيها قوله - تعالى -: (وجعلنا الليل والنهار آيتين.. ). وقوله: (وآتينا ثمود الناقة مبصرة). أي: آيةً واضحة بيّنة.
ومعجزة الإسراء إذ تشير إلى انتقال راية الهداية إلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن سورة الإسراء تشير إلى انقضاء دور بني إسرائيل، وإلى أن مآلهم إلى الهلاك، وأنهم، أو المفسدون منهم، سيتحقق لهم العلو في الأرض مرتين، ويكون هلاكهم على أيدي عباد الله أولي البأس الشديد.
أفلا نرى اليوم عُلُوَّ المفسدين من بني إسرائيل، ونرى كذلك عباد الله أولي البأس الشديد قد ملؤوا الآفاق وإنهم لقادمون يحملون راية الهدى والبلسم الشافي، ويحملون القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم!
وليس بعيداً عن السياق أن تذكر سورة الإسراء أن هلاك الأمم يكون بتسلط مترفيها، وأن تدعو إلى أصول الفضائل ومكارم الأخلاق من عبادة الله وحده، وبر الوالدين، والإحسان إلى ذوي القربى والمساكين واليتامى، والاقتصاد في الإنفاق، وصيانة الأنفس والأموال.
هذه هي رحلة الإسراء رحلة الأمل بعد الصبر على العذاب، رحلة النصر بعد جهاد طويل، وهي معجزة وتكريم، ووعيد بهلاك المفسدين، ووعد بنصر المؤمنين، وبيان لطريق الحق ومنهجه، وإعداد للأمة المرشحة لحمل راية الهدى إلى يوم الدين.
محمد عادل فارس
ما تزال الرحلة المعجزة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مصدر إلهام ودروس عبر العصور، ينهل المؤمنون منه هدى وشفاء كلما طلبوا النور في دروب الحياة، أو العلاج لأدواء النفس والمجتمع.
وحين نرْجِعُ البصر بين هذه الحادثة وبين سياقها في أحداث السيرة النبوية، ثم بينها وبين الموضوعات التي عالجتها سورة الإسراء نجدْ هدياً غدَقَاً.
وأول ما يطالعنا في ذلك قول الله - تعالى -في وصف المسجد الأقصى: (الذي باركنا حوله). ويذكر ابن عطية في تفسيره "المحرر الوجيز": "روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الله بارك فيما بين العريش والفرات)). ونفهم منه أن بلاد الشام مباركة، وها هي ذي حناجر أبناء الشام تصدح بالإيمان، وها هي ذي دماؤهم تراق في سبيل الله، إعلاءً لكلمة الله، وتحريراً للشعب من الظلم والظلمات. وإن البركة تكلل ثورتهم بآيات الفلاح، وإن النصر يلوح لهم في الأفق القريب.
جاء الإسلام يعلن عن نفسه أنه دين للعالمين، منذ أيامه الأولى، قبل أن يشيع ذكره في الآفاق، ففي سورة القلم التي نزلت قبل مضي السنوات الثلاث الأولى من البعثة تقرأ قوله - تعالى -: (وما هو إلا ذكر للعالمين). فضلاً عما ذكرته سور مكية أخرى كسورة الأنعام: (إن هو إلا ذكرى للعالمين). وسورة الأنبياء: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). وسورة الفرقان: (...ليكون للعالمين نذيراً).وغيرها.
نعم، ولكن "الإسراء" كان إشارة إلى الانطلاق من مرحلة "المحلية" إلى مرحلة "العالمية". فهي المرة الأولى التي يخرج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة خارج الجزيرة العربية، بل يكون خروجه إلى بيت المقدس بإيلياء، ويصلي إماماً بجمع من الأنبياء الكرام، عليهم الصلاة والسلام، وكأنهم يسلّمونه الراية ليقود البشرية بعدهم في درب الهداية، بعد أن أدّى كل منهم الأمانة إلى قومه.
وكان "الإسراء" بعد عام الحزن، وبعد سنوات من الأذى والتكذيب والتعذيب، من قوم قستْ قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وبعد دعوة وبيان وصبر جميل، وثبات على الحق أيَّ ثبات، من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن الثلة الطاهرة الكريمة التي آمنت به.
أليست هذه الحادثة تحمل معنى التكريم للصابرين الثابتين المجاهدين؟
وأليست تقول لأبناء الشام الثائرين على الظلم: إن النصر لقادم؟!.
لقد صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى كانوا مضرب المثل، وأينا لا يذكر بلالاً وخبّاباً وسُميّة وزِنّيرة، ولقد ثبتوا ثباتاً دونه ثباتُ الجبال، وإن ثبات أبناء درعا ودمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب والدير واللاذقية... لهو علامة على اقتدائهم بنبيهم الصابر المجاهد.
وإن الجهاد إيمان وعقيدة وإقدام... قبل أن يكون سيفاً ومدفعاً.
وصحيح إنه ليس كل الذين يثبتون في ساحة الدعوة والصبر على الأذى يثبتون في ساحات القتال، إلا أن النفوس التي تشرّبت الإيمان والهدى، والتزمت هذا الدين في المحراب وفي السوق... وتحملت الأذى في سبيله... لهي جديرة، بدرجة عالية، بالثبات في ساحات المعركة.
وكان الإسراء هو المعجزة الثانية، من حيث الضخامةُ والأهمية، بعد المعجزة الأولى للنبي - صلى الله عليه وسلم -، معجزة القرآن. وليس مصادفة أن السورة التي ابتدأت بذكر الإسراء، هي ذاتها التي أشارت إلى المعجزة الثانية: (قل: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً). بل إن هذه السورة اختصت بأن ذكرت فيها كلمة "القرآن" عشر مرات!. ويكفي أن فيها قول الله - تعالى -: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). ففي القرآن الهداية إلى الأقوم في شؤون الحياة الفردية والجماعية، ومهما ابتغى الناس الهدى في غيره فلن يجدوا الهدى إلا أن يرجعوا إليه ويقتبسوا من نوره.
بل إن السورة أشارت إلى آيات أخرى لله - تعالى -في الأنفس والآفاق لتنظم معجزة الإسراء في سلك المعجزات الكبرى. نقرأ فيها قوله - تعالى -: (وجعلنا الليل والنهار آيتين.. ). وقوله: (وآتينا ثمود الناقة مبصرة). أي: آيةً واضحة بيّنة.
ومعجزة الإسراء إذ تشير إلى انتقال راية الهداية إلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن سورة الإسراء تشير إلى انقضاء دور بني إسرائيل، وإلى أن مآلهم إلى الهلاك، وأنهم، أو المفسدون منهم، سيتحقق لهم العلو في الأرض مرتين، ويكون هلاكهم على أيدي عباد الله أولي البأس الشديد.
أفلا نرى اليوم عُلُوَّ المفسدين من بني إسرائيل، ونرى كذلك عباد الله أولي البأس الشديد قد ملؤوا الآفاق وإنهم لقادمون يحملون راية الهدى والبلسم الشافي، ويحملون القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم!
وليس بعيداً عن السياق أن تذكر سورة الإسراء أن هلاك الأمم يكون بتسلط مترفيها، وأن تدعو إلى أصول الفضائل ومكارم الأخلاق من عبادة الله وحده، وبر الوالدين، والإحسان إلى ذوي القربى والمساكين واليتامى، والاقتصاد في الإنفاق، وصيانة الأنفس والأموال.
هذه هي رحلة الإسراء رحلة الأمل بعد الصبر على العذاب، رحلة النصر بعد جهاد طويل، وهي معجزة وتكريم، ووعيد بهلاك المفسدين، ووعد بنصر المؤمنين، وبيان لطريق الحق ومنهجه، وإعداد للأمة المرشحة لحمل راية الهدى إلى يوم الدين.