مشاهدة النسخة كاملة : المَنُّ بالصَّنِيعَة!!


فريق منتدى الدي في دي العربي
05-11-2016, 04:13 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.

الـمَنُّ بالصَّنِيعَة!!

الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إنَّ التَّصدق على الفقراء والمحتاجين من أفضل الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى ربِّ العالمين، يقول الراغب الأصفهاني –رحمه الله-: "الصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزكاة، لكن الصدقة في الأصل تقال للمتطوع به، والزكاة للواجب ، وقد يسمى الواجب صدقة إذا تحرى صاحبها الصدق في فعله ".المفردات في غريب القرآن (ص 278)
لكن هذا العمل الكريم الذي يُحبه العزيز العليم والذي حث عليه نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم قد يٌفسده صاحبه بفعل ذميم وعمل مشين ألا وهو المنّ على من أحسن إليهم من المساكين،يقول الهيتمي – رحمه الله- :"الْمَنُّ:هو أن يُعَدِّدَ نعمته على الآخذ، أَوْ يَذْكُرَهَا لمن لا يحب الآخذُ اطِّلاعه عليه". الزواجر عن اقتراف الكبائر (ص 312 )
ويقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله- :"لا يجوز للإنسان أن يمن بالعطية، فيقول: أنا أعطيتك كذا أنا أعطيتك كذا سواء قاله في مواجهته أو في غير مواجهته، مثل أن يقول بين الناس أعطيت فلانا كذا، وأعطيت فلانا كذا ليمن بذلك عليه". شرح رياض الصالحين (6/276)
ناسيا بذلك أيها الأحبة الكرام أنه قد ارتكب ذنبًا هو من كبار الآثام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- :"ويحرم المن بالصدقة وغيرها، وهو كبيرة ". المستدرك على مجموع الفتاوى (3/166)
وأن هذا الفعل القبيح ليس من سمات الأخيار الذين يريدون بالصدقة وجه العزيز الغفار، بل هو من صفات الأشرار الذين غفلوا أن المتفضل حقيقة على جميع الخلق هو الكريم الجبار،يقول الهيتمي – رحمه الله - :"لا يَمُنُّ إلا من غفل أَنَّ الله تعالى هُوَ المعطي والمتفضِّل". الزواجر عن اقتراف الكبائر (ص 313 )
متغافلا بفعله المذموم عن أمر معلوم أن المانَّ الحقيقي هو العزيز الوهاب وما هو إلا من الأسباب!،يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله-:" فإنه- الباري جلَّ وعلا- هو المنعم في نفس الأمر والعباد وسائط فهو المنعم على عبده في الحقيقة ".طريق الهجرتين (ص 541)
ولذا فإن من الأسماء الثابتة للعزيز الرحمن أيها الأحبة الإخوان اسم المنَّان ، فعن أنسٍ – رضي الله عنه- أَنَّهُ كان مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي ثُمَّ دَعَا: اللهم إني أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لك الْحَمْدُ لَا إِلَهَ إلا أنت الْمَنَّانُ بَدِيعُ السماوات وَالْأَرْضِ يا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يا حَيُّ يا قَيُّومُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لقد دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الذي إذا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وإذا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى". رواه أبو داود ( 1495) ، وصححه الشيخ الألباني – رحمه الله-.
يقول العظيم آبادي – رحمه الله- :"( ثُمَّ دَعَا: اللهم إني أَسْأَلُكَ) لعله حذف المفعول اكتفاء بعلم المسؤول (بِأَنَّ لك) تقديم الجار للاختصاص (الْحَمْدُ لَا إِلَهَ إلا أنت الْمَنَّانُ) أي كثير العطاء من المنة بمعنى النعمة والمنة مذمومة من الخلق لأنه لا يملك شيئا ".عون المعبود (4/ 254)
ويقول الخطابي – رحمه الله- :" وأما (المنان) فهو كثير العطاء ". شأن الدعاء ( ص100)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- :" و ( المنَّان) الذي يجود بالنوال قبل السؤال ". النبوات ( ص 87)
ولابد علينا أن نعلم أيها الأحبة الكرام في هذا المقام الفرق الكبير الذي بين مَنِّ العبد الضعيف على غيره من الأنام وبين مَنِّ العزيز العلام، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :"وحظر الله على عباده المنّ بالصنيعة واختص به صفة لنفسه لأن من العباد تكدير وتعيير ومن الله سبحانه وتعالى إفضال وتذكير".طريق الهجرتين (ص 541)
فعلى المتصدق والمحسن للآخرين أن يجتنب هذا الفعل القبيح! وليعلم جيدا أنه ليس من أخلاق أهل الجود الكرماء وإنما هو من صفات البخلاء،يقول القرطبي – رحمه الله- :" لأنّه لا يكون – أي المن- غالبًا إلا عن البخل، والعجب، والكبر، ونسيان منّة اللَّه تعالى فيما أنعم به عليه، فالبخيل يُعظّم في نفسه العطيّةَ ،وإن كانت حقيرة في نفسها ،والعجبُ يحمله على النظر لنفسه بعين العظمة، وأنّه مُنعم بماله على الْمُعطَى له، ومتفضِّلٌ عليه، وإن كان له عليه حقّ يجب عليه مراعاته، والكبر يحمله على أن يحتقر المعطَى له، وإن كان في نفسه فاضلًا".المفهم لما أشكل من تخليص كتاب مسلم ( 1/304)
وعليه أن يحذر أشد الحذر من التحلي بهذا الخلق الذميم الذي نهانا عنه العزيز العظيم ، حيث قال الحكيم العليم:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) [ البقرة:264] .
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله- :" فإنَّ المنَّة والأذى مُبطلان لأعمالكم، فتصير أعمالكم بمنزلة الذي يعمل لمراءاة الناس ولا يريد به الله والدار الآخرة، فهذا لا شك أن عمله من أصله مردود، لأن شرط العمل أن يكون لله وحده وهذا في الحقيقة عمل للناس لا لله، فأعماله باطلة وسعيه غير مشكور، فمثله المطابق لحاله { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } وهو الحجر الأملس الشديد { عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } أي: مطر غزير { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } أي: ليس عليه شيء من التراب، فكذلك حال هذا المرائي، قلبه غليظ قاس بمنزلة الصفوان، وصدقته ونحوها من أعماله بمنزلة التراب الذي على الصفوان، إذا رآه الجاهل بحاله ظن أنه أرض زكية قابلة للنبات، فإذا انكشفت حقيقة حاله زال ذلك التراب وتبين أن عمله بمنزلة السراب، وأن قلبه غير صالح لنبات الزرع وزكائه عليه، بل الرياء الذي فيه والإرادات الخبيثة تمنع من انتفاعه بشيء من عمله، فلهذا { لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ } من أعمالهم التي اكتسبوها، لأنهم وضعوها في غير موضعها وجعلوها لمخلوق مثلهم، لا يملك لهم ضررا ولا نفعا وانصرفوا عن عبادة من تنفعهم عبادته، فصرف الله قلوبهم عن الهداية، فلهذا قال: { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }" . تفسير السعدي (ص 113)
و الذي جاء في حق المتصف به الوعيد الشديد كما أخبارنا بذلك رسول العزيز المجيد، فعن أبي ذر – رضي الله عنه- أن رسول الله عليه وسلم قال: " ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ ". رواه مسلم (106)
يقول الإمام القرطبي – رحمه الله- :" والمنَّان: فعال من المن ، وقد فسره في الحديث فقال: (الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ ) أي إلا امتنَّ به على المعطى له...". المفهم لما أشكل من تخليص كتاب مسلم ( 1/304)
يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله- : "المنَّان: الذي يمن بما أعطى، إذا أحسن إلى أحد بشيء جعل يمن عليه: فعلت بك كذا وفعلت بك كذا، والمنّ من كبائر الذنوب لأن عليه هذا الوعيد". شرح رياض الصالحين (4/288)
وعلى المتصدق أيضا أن يعلم أن المنَّ المنهي عنه كما يقع بالقول!فإنه يكون كذلك بالقلب!،يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :"فالمنُّ نوعان : أحدهما : منٌّ بقلبه من غير أن يصرح به بلسانه، وهذا إن لم يبطل الصدقة فهو من نقصان شهود مِنَّة الله عليه في إعطائه المال وحرمان غيره، وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه، فلله المنة عليه من كل وجه، فكيف يشهد قلبه منة لغيره.
والنوع الثاني: أن يمن عليه بلسانه، فيعتدي على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه، وأنه أوجب عليه حقا وطوقه منة في عنقه، فيقول أما أعطيتك كذا وكذا؟ ويعدد أياديه عنده".طريق الهجرتين (ص 541)
فليحرص المسلم المنفق لماله أيها الأحباب أن يكون عمله دائما خالصا لوجه العزيز الوهاب،وليبتعد أيضا عن كل ما يقدح في صدقته إذا أراد أن ينال بسببها الأجر والثواب، ومن ذلك أن يجتنب المنَّ على الفقراء و المساكين لأنه فعل مشين وليس من أخلاق الصالحين المتقين، وليحمد دوما رب العالمين أن جعله من المقتدرين المنفقين لا من المحتاجين السائلين، يقول الإمام القرطبي - رحمه الله- :" ومُوجِب ذلك – أي الوقوع في المنِّ- كلّه الجهل، ونسيان منّة اللَّه تعالى فيما أنعم به عليه، إذ قد أنعم عليه مما يُعطي، ولم يَحْرِمه ذلك، وجعله ممن يُعطي، ولم يجعله ممن يسأل". المفهم لما أشكل من تخليص كتاب مسلم ( 1/304)
ولا يستحقر ما يقدمه من معروف مهما قل حجمه ونقص قدره عملا بما أوصاه به نبيه، فعن عدي بن حاتم – رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ، فَمَنْ لم يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ". رواه البخاري (1347) ومسلم (1016) واللفظ له.
يقول الشيخ السعدي –رحمه الله- :"وفي هذا الحديث : أن من أعظم المنجيات من النار ، الإحسان إلى الخلق بالمال والأقوال، وأن العبد لا ينبغي له أن يحتقر من المعروف ولو شيئا قليلا ، والكلمة الطيبة تشمل النصيحة للخلق بتعليمهم ما يجهلون ، وإرشادهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية .
وتشمل الكلام المسر للقلوب ، الشارح للصدور ، المقارن للبشاشة والبشر ، وتشمل الذكر لله والثناء عليه ، وذكر أحكامه وشرائعه، فكل كلام يقرب إلى الله ويحصل به النفع لعباد الله ، فهو داخل في الكلمة الطيبة ". بهجة قلوب الأبرار (ص 257)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعلنا وإيَّاكم هداة مهتدين، وفي سبيله من المنفقين، وعلى الفقراء والمساكين من المتصدقين ،وأن يجنبنا جميعا كل خُلق ذميم وفعل مشين، ومن ذلك المنّ على المحتاجين، فهو سبحانه ولي ذلك وأرحم الراحمين.

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أبو عبد الله حمزة النايلي

Adsense Management by Losha