مشاهدة النسخة كاملة : أمير دمشق المملوكي جمال الدين الأفرم: من مؤازرة ابن تيمية إلى اللحاق بالتتار (2)


فريق منتدى الدي في دي العربي
02-21-2016, 08:40 PM
أمير الشام المملوكي جمال الدين الأفرم: من مؤازرة ابن تيمية إلى اللحاق بالتتار
(2)

5- مُباحثة القضاة والفقهاء بدمشق لابن تيمية في عقيدَتِه بحضور الأفرم سنة (705هـ):
إضافة إلى المواقف السابقة التي دلَّتْ على تمكُّن ابن تيمية في الشام في سنوات ولاية الأفرم، فقد تجاوز تأثيرُه الشَّامَ إلى مِصرَ وغيرِها، وذلك بانتشار رسائِلِه وفتاويه. نتَج عن ذلك إثارة مخالفي ابن تيمية عليه، واشتدَّت الأمور لمَّا كان من هؤلاء المخالفين من هو صاحب نفوذ لدى الدَّولة. وسرعان ما تحرّكوا لإضعافه.
بدأت الأحداث في دمشق بأن ورد إلى الأمير جمال الدين الأفرم مرسومٌ من السلطان في القاهرة، فيه: (بلغنا أنَّ الشَّيخَ فُلانًا كتبَ عقيدةً يدعُو إليها، وأنَّ بعض الناس أنكرَها، فليُعقَد لهُ مجلسٌ لذلك) ([1]) .
عقَدَ الأفرمُ لابن تيمية ولقُضاةِ المذاهب الأربعة ونوَّابِهم في الشام، وبعض المُفتين والمشايخ، مَجلسًا مُفاجئًا، سأل الأفرمُ ابنَ تيمية فيه عن عقيدته وبحثوا معه في مواضع منها يوم الإثنين (8 / 7 / 705هـ)، ثم أكملوا التباحث يوم الجمعة (12 / 7 / 705هـ)، ثم تَرَك الأفرم دمشق لمُمَارسة هوايته المفضلة (الصيد)، ليرجعَ ويجدَ اختلافات ومشاكل بين المشايخ، سعى لتسكينها بصرامَة، ثم عقدَ لهم مجلسًا أخيرًا يوم الثلاثاء (7 / 8 / 705هـ)، ثم في (26 / 8 / 705هـ) ورد مرسومٌ سلطانيٌّ من القاهرة فيه البيان الرسمي لنتيجة تلك المجالس: (إنَّا كُنَّا رسمنا بعقد مجلسٍ للشيخ تقي الدين، وقد بَلَغَنا ما عُقِد له من المجالِس، وأنَّه على مَذهبِ السَّلَف، وما قصدنا بذلك إلا براءة ساحتِه) ([2]).
فرح أنصارُ ابن تيمية بمآل تلك المجالس، ووصفها شقيقُه شرف الدين عبد الله بأنَّها نصرٌ أكبَر، وفتحٌ مُبين، منَّ الله تعالى به عليهم وعلى المسلمين أجمعين ([3])، ووثَّق ما جرى فيها([4])، ووثَّقَها شيخ الإسلام بنفسِه في أكثر من مذكرة([5])، هي المصدر التاريخي الأوثق لما جرَى في تلك المجالِس.

- المجلس الأول، يوم الإثنين (8 / 7 / 705هـ):
بيّن الأفرم في بداية المجلس السببَ الذي من أجله عُقِد ، فقال لابن تيمية: (هذا المجلس عُقِد لك، فقد ورد مرسومُ السُّلطان بأن أسألَك عن اعتقادك، وعمَّا كتبتَ به إلى الدِّيار المصريَّة من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد، وأن أجمع القضاة والفقهاء، وتتباحثون في ذلك) . (مجموع الفتاوى) (3/161).
فافتتح ابنُ تيمية كلامه بثلاثة أمور:
الأمر الأول: بيَّن فيه المرجع الذي يأخذ منه المسلم عقيدته، فقال: (أمَّا الاعتقاد، فلا يُؤخذ عنِّي ولا عمَّن هو أكبر مني، بل يؤخَذ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف الأمة، فما كان في القُرآن وجبَ اعتقادُه، وكذلك ما ثبتَ في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم). (مجموع الفتاوى) (3/161).
الأمر الثاني: بين أنَّ الكُتُبَ التي يُقال إنَّه كتبها إلى مصر نوعان:
الأول: صحيحةُ النسبة إليه، لكنها جاءت جوابًا عن أسئلة ترد إليه من مصر، فيجيب عنها، ولم يَكتبْ تلك الكتب ابتداءً.
الثاني: مكذوبةٌ عليه. قال: (وكان قد بلغني أنَّه زُوَّر علي كتابٌ إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير، أستاذ دار السلطان، يتضمَّنُ ذكرَ عقيدةٍ مُحرَّفة، ولم أعلم بحقيقته، لكن علمتُ أنَّه مكذوبٌ). (مجموع الفتاوى) (3/161). وأبدَى ابن تيمية غضبه الشديد من الكذب عليه، وقال: (وأنا قد أعفُو عن حقِّي وقد لا أعفو، بل قد أطلب الإنصاف من السُّلطَان، وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون، ليوافقوا على افترائهم) . (مجموع الفتاوى) (3/163).
الأمر الثالث: تحدّث عما قام به من نصرة الإسلام وجهاد أعدائه، وهذا أمرٌ ينبغي أن يشكُرَه السلطان والأمراء لابن تيمية، ويدفَعَهم لإنصافه - وهو غالبًا يعني دوره الذي قام به في جهاد التتار ونحوهم في السنوات الماضية - قال: (وتكلَّمتُ بكلامٍ احتجتُ إليه، مثل أن قلت: من قام بالإسلام أوقات الحاجة غيري؟ ومَن الذي أوضح دلائله وبيَّنه وجاهد أعداءه وأقامَه لما مال، حين تخلى عنه كل أحد، ولا أحد ينطق بحجته، ولا أحد يجاهد عنه، وقمتُ مُظهرًا لحُجَّتِه مجاهدًا عنه مُرغبًا فيه؟). (مجموع الفتاوى) (3/163).
ثم طلبَ الأفرمُ من ابن تيمية أن يذكر عقيدَتَه، كما طُلِب منه في المرسوم السُّلطَاني، فكتبَ جُملا من الاعتقاد في الصفات والقدر ومسائل الإيمان والوعد والوعيد والإمامة والتفضيل، ثم رأى أن يُحضِر (العقيدة الواسطية) التي كتبها قبل سنوات، حتى لا يقال إنه كتم عقيدته، أو داهن، أو دارى. فأُحضرت، ثم أشار الأفرم أن لا يقرأها هو، وطلب من الشيخِ كمال الدين ابن الزَّمْلَكاني ذلك، فقرأها على الحاضرين حرفًا حرفًا، والجماعة الحاضرون يسمعُونَها، ويُورد المُورِدُ منهم ما شاء، ويُعارض فيما شاء. (مجموع الفتاوى) (3/164). وسَجَّل ابنُ تيمية في المذكرة التي كتبها بشأن هذا المجلس بعضَ تلك الاعتراضات والأسئلة وجوابَه عنها، كالسؤال عن مراده بالتحريف والتعطيل في ما ذكره من أنَّ أهل السنة يثبتون صفات الله بلا تحريف ولا تعطيل، ومنازعة بعضهم في وصف القرآن بأنه : (من الله بدأ وإليه يعود)، وطلبهم تفسير ذلك، وكان للأفرم أسئلة أيضًا، فسأل ابن تيمية عن حديث فضل قراءة آية الكرسي: (لا يَقرَبُه شيطانٌ حتى يصبح)، وسأل عن صحة حديث: (فيُنَادِي بصوتٍ).
وطَلب الأفرم من ابنِ تيمية أن يذكُرَ عقيدَتَه في الحرف والصوت، لأن ذلك طُلِبَ منه. وذكر ابنُ تيمية أن طائفةً ممَّن وصفهم بـ(المُعاندين المُتجهِّمَة) ممن كان حاضرًا المجلس أرسل في إنكار مذهبه في هذه المسألة إلى الأمراء في القاهرة، ولذلك جاء الطلب أن يُبيِّنَ قولَه فيها. وهذا يُبيَّن أنَّ بعض الحضور للمجلس كان من مُحرّكي هذه القضية على ابن تيمية في القاهرة. (مجموع الفتاوى) (3/172).
ثم اعترضوا أربعة اعتراضات بعد قراءة (العقيدة الواسطية) كاملة، أجاب عن الأول منها، ثم أخرت بقية الأجوبة للمجلس القادم، وكانت مدة هذا المجلس من الضحى إلى قريب من العصر([6]).
وصف ابن تيمية نتيجة هذا المجلِس بأنَّه (قد أظهر الله فيه من قيام الحُجَّة وبيان المَحجَّة: ما أعزَّ الله به السنة والجماعة، وأرغم به أهل البِدْعة والضَّلالة). (مجموع الفتاوى) (3/180)

- ما بين المجلس الأول والثاني (8-12/ 7 / 705هـ):
ذكر ابن تيمية أمرين حصلا في تلك الأيام:
الأول: أنَّ الخصوم أخذوا يتأمَّلُون (العقيدة الواسطية)، ويتأمَّلُون ما أجابَ به في مسائل تتعلَّقُ بالاعتقاد، مثل (الفتوى الحموية)، ليتمكَّنُوا من الطعن والاعتراض في المجلس القادم. (مجموع الفتاوى) (3/180).
الثاني: قال ابن تيمية: (قبل المجلس الثاني: اجتمعَ بي من أكابر عُلماء الشافعية، والمُنتسبين إلى الأشعرية، والحنفية، وغيرهم، ممن عَظُم خوفُهم من هذا المجلس، وخافُوا انتصارَ الخصوم فيه، وخافوا على نفوسهم أيضًا من تفرُّق الكلمة، فلو أظهرتُ الحُجَّة التي ينتصرُ بها ما ذكرتُه ولم يكُن من أئمة أصحابهم من يُوافقها؛ لصارَت فُرقة، ولصعب عليهم أن يُظهِروا في المجالس العامة الخُرُوج عن أقوال طوائفهم، لما في ذلك من تمكُّن أعدائهم من أغراضهم، فإذا كان من أئمة مذاهبهم من يقول ذلك، وقامت عليه الحُجَّة، وبان أنه مذهب السلف؛ أمكنَهُم إظهارُ القول به، مع ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق.
وقلتُ لمن خاطبني من أكابر الشافعية: لأُبيننَّ أنَّ ما ذكرتُه هو قولُ السَّلف، وقول أئمة أصحاب الشافعي، وأذكر قولَ الأشعري وأئمة أصحابِه التي تَردُّ على هؤلاء الخصوم، ولينتصرنَّ كلُّ شافعيٍّ، وكلُّ من قال بقول الأشعريِّ الموافق لمذهب السلف، وأُبيِّنُ أنَّ القولَ المحكيَّ عنهُ في تأويل الصفات الخبرية قولٌ لا أصل له في كلامه، وإنَّمَا هو قولُ طائفةٍ من أصحابِه، فللأشعريَّة قولان، ليس للأشعريِّ قولان). (مجموع الفتاوى) (3/188-189).

-المجلس الثاني، يومَ الجمعة (12 / 7 / 705هـ):
حضر ابن تيمية المجلس ومعه أجوبة الأسئلة التي سئل عنها في آخر المجلس الأول، ومعه بعض الكتب لبعض علماء الأشعرية التي يريد أن يحتجّ على الخصوم بها.
أما خصومه فقد وصف ابن تيمية حضورهم بأنهم: (حضروا بقوة واستعداد غير ما كانوا عليه) . (مجموع الفتاوى) (28/181). وأحضروا معهم: الشيخ المُتكلِّم صفي الدين الأرموي الهندي.
وأول ما افتتح به ابن تيمية المجلس بعد حمد الله وخطبة الحاجة، هو تقرير ما وعد به العلماء من أكابر الشافعية قبل هذا المجلس، وهو بيان أن ما قرره مُتَّفق عليه، وأنه قول الأشعري وأئمة الشافعية. وزاد على ذلك التهديد بأمرين: إبطال المذاهب الفاسدة على جهة التفصيل، وذهابه شخصيًا إلى السلطان.
قال ابن تيمية: (إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف، ونهانا عن الفُرقة والاختلاف، وقال لنا في القرآن: (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا)، وقال: (إن الذين فرَّقُوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء)، وقال: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات).
وربُّنَا واحد، وكتابُنَا واحد، ونبيُّنَا واحد، وأصول الدين لا تحتمِلُ التفرُّق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين، وهو متفق عليه بين السلف، فإن وافق الجماعة فالحمد لله، وإلا فمن خالفني بعد ذلك: كشفتُ له الأسرار، وهتكتُ الأستار، وبيَّنتُ المذاهبَ الفاسدة التي أفسدت الملل والدول، وأنا أذهبُ إلى سُلطان الوقت على البريد، وأُعرِّفُه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس، فإنَّ للسِّلم كلامًا، وللحرب كلامًا.
وقلتُ: لا شكَّ أنَّ الناس يتنازعون، يقول هذا: أنا حنبلي! ويقول هذا: أنا أشعري! ويجري بينهم تفرُّقٌ، وفتنٌ، واختلافٌ على أمور لا يعرفون حقيقتها. وأنا قد أحضرت ما يُبيِّنُ اتفاق المذاهب فيما ذكرته وأحضرتُ كتاب (تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري - رحمه الله -) تأليف الحافظ أبي القاسم بن عساكر - رحمه الله -، وقلت: لم يصنف في أخبار الأشعري المحمودة كتاب مثل هذا، وقد ذكر فيه لفظه الذي ذكَرَه في كتابه (الإبانة) ) . (مجموع الفتاوى) (3/181-182).
ثم حصل بين ابن تيمية وبين الصفي الهندي مباحثة، لما سألَ الأميرُ الأفرم ابنَ تيمية عن معنى (المعتزلة)، فأجابَه عن ذلك، وذكر ما هو أول اختلاف وقع بين المسلمين في العقائد، وأنه الاختلاف في الفاسق الملّي، فقاطعه الشيخ صفي الدين الهندي وزعم أنه الاختلاف صفة الكلام، فغضب ابن تيمية، وحصل بينهما نقاش.
ثم طلب ابن تيمية أن تُقرَأ (العقيدة الواسطية) على الهندي لكونه لم يحضر المجلس الأول، فرأى بعض الحضور أن هذا تطويل، وإنما يُقرأ عليه المواضع التي لهم فيه اعتراض وسؤال، وأهمُّها أن الله تعالى فوق العرش حقيقة. وجرى البحث فيه. (مجموع الفتاوى) (3/188-191). ثم جرى البحث في صحة حديث الأوعال. (مجموع الفتاوى) (3/192).
قال ابن تيمية: (وأخذ بعضُ الجماعة يذكر من المدح ما لا يليق أن أحكيه). (مجموع الفتاوى) (3/192).
ثم بحثُوا في مواضع خارج (العقيدة الواسطية)، كتأويل الشافعي ومجاهد لقوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله). (مجموع الفتاوى) (3/193)، وتأويل مالك للنزول. (جامع المسائل) (8/193).
قال الشيخ شرف الدين عبد الله – وقد حضر هذا المجلس - :( وأوردُوا عليه جميع ما في أنفسهم من الأجوبة، وقالُوا: هذا سؤالنا وما بقي في أنفسنا شيء). (مجموع الفتاوى) (3/206).
قال ابن تيمية: (وقلتُ للسادة الحاضرين: هل في شيء من هذه الأقوال والكلام كفرٌ أو فسقٌ؟ فصرَّح أكثرهم بأنه ليس فيه كفرٌ ولا فسقٌ، حتى من كان يُكثِر النزاعَ قبلَ ذلك المجلس ويدَّعي الكفر اعترفَ بأنه ليس فيه كفرٌ ولا فسقٌ.
وقال بعضهم: هذا بدعة. فأنكر جمهور الحاضرين عليه هذا القول. فقلت: الكتاب والسنة لا يكون بدعة، إنما البدعة مثل اعتقاد ابن التومرت ونحوه، والسلف إنما كرهوا الكلام المخالف للكتاب والسنة، كما قال الشافعي رضي الله عنه: حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد ويُطافَ بهم في القبائل والعشائر، ويقالَ هذا جزاءُ من تركَ الكتابَ والسنةَ وأقبلَ على الكلام، فإنما عابوا على من ترك الكتاب والسنة). (جامع المسائل) (8/195-196).
أما الأفرم فكان كُلَّما ذكر ابنُ تيمية حديثًا وعزاهُ إلى الصحيحين يقول لهم: (هكذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم؟) يقولون: نعم. فيقول: (فمَن قال بقول النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ شيء يقال له؟). (مجموع الفتاوى) (3/209). وهنا يستعمل الأفرم نفس القاعدة الشرعية التي استعملها مع الأحمدية عندما اشتكوا من ابن تيمية. ويظهر من هذا أيضًا نصرة الأفرم لابن تيمية.
وقال الأفرم لابن تيمية: (كلُّ شيء قلتَه؛ من عندك قُلتَه؟) فقال: (بل أنقله جميعًا عن نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، وأبين أن طوائف الإسلام تنقله عن السلف كما نقلته، وأن أئمة الإسلام عليه، وأنا أناظر عليه، وأعلم كل من يخالفني بمذهبه). (مجموع الفتاوى) (3/209)، (جامع المسائل) (8/192).

- ما بين المجلس الثاني والمجلس الثالث (12 / 7 – 7 / 8 / 705هـ):
حصل بين المجلسين ثلاثة أمور:
الأول: حصُول كذبٍ وتحريف في نقل ما جرى في المجلس الثاني:
يبدو أن نتيجة المجلس لم تُعجِب بعض الحضور، فلجؤوا إلى الكذب والتحريف، كما اتُّهم بذلك الشيخ صدر الدين ابن الوكيل، أحد مخالفي ابن تيمية من حضور ذلك المجلس.
قال الشيخ شرف الدين عبد الله في الرسالة التي أرسلها لأخيه الشيخ زين الدين عبد الرحمن بشأن المجلسين الأول والثاني: (وبعدَ المجلس حَصَل من ابن الوكيل وغيرِه: من الكذب، والاختلاق، والتناقض بما عليه الحال ما لا يوصف، فجميعُ ما يَرِد إليك مما يناقض ما ذكرتُ؛ من الأكاذيب والاختلاقات، فتعلَمُ ذلك). (مجموع الفتاوى) (3/ 210).
وقال ابنُ عبد الهادي: (واختلفت نُقُول المُخالِفين للمجلس، وحَرَّفُوه، ووضعُوا مقالَةَ الشَّيخ على غير موضعها، وشنَّع ابنُ الوكيل وأصحابُه بأنَّ الشيخ قد رَجَع عن عقيدتِه، فالله المستعان). (العُقُود الدُّريَّة) (ص259).
الأمر الثاني: حصول اضطراب في البلد، وأذىً لبعض أتباع ابن تيمية في فترة غياب الأمير الأفرم للصيد([7]):
قال البِرْزالي في (تاريخه) (3/302): (وبعدَ ذلك عزَّر بعضُ القُضاة([8]) بدمشق شخصًا ممن يلوذُ بالشيخ تقي الدين، وطُلب جماعةً، وأطلقوا، ووقع هَرْجٌ في البلد، وكان الأمير نائب السلطنة (الأفرم) قد خرج للصيد، وغاب نحو جمعة، ثم حضر).
الأمر الثالث: اعتقال قاضي قضاة الشافعية للإمام جمال الدين المِزّي، ثم معالجة الأفرم للمشاكل التي جَرَت بصرامة:
يبدو أن نفوس المُخالِفين كانت في تلك الأيام مَشحُونةً للغاية، وأنَّ مجرد ذمِّ الجهميَّة إذا وقع في المجالس العامّة سيُثيرُهم، ويستعملُون القضاءَ في منعه!
قال البِرْزالي في (تاريخه) (3/302) :(وفي يوم الاثنين الثاني والعشرين من رجب (22 / 7 / 705هـ) قرأ المُحدِّث جمالُ الدِّين المِزِّي فصلا في الرد على الجهمية من كتاب (أفعال العباد) تصنيف البخاري، وكانت قراءتُه لذلك في المجلس المعقود لقراءة الصحيح تحتَ النِّسر([9])، فغضبَ لذلك بعضُ الفقهاء الحاضرين وقالوا: نحن المَقصُودُون بهذا!
ورفعُوا الأمر إلى قاضي القُضاة الشافعي - نجم الدين ابن صَصْرى – فطلبَه، ورَسَم بحبسه، فبلغ ذلِك الشيخَ تقيَّ الدين، فتألَّمَ له، وأخرَجَه من الحبسِ بنفسِه.
[وخرج إلى القصر؛ فاجتمع هو وقاضي القضاة هناك، وردّ الشيخ تقي الدين عن المِزِّي، وأثنى عليه، وغضبَ قاضي القضاة، وأعاد المِزِّي إلى حبسه بالقوصية فبقي أيامًا] ([10]).
وذكرَ الشيخُ تقيُّ الدين ما وقَع في غيبة الأمير في حق بعض أصحابه من الأذى، [فرسم الأمير، فنودي في البلَد] ([11]): أنَّه من تكلَّم في العقائد؛ حَلَّ مالُه ودمُه، ونُهِبَت دارُه وحانوتُه. وقصدَ الأميرُ تسكينَ الناسِ بذلك).

-المجلس الثالث، يوم الثلاثاء ( 7 / 8 / 705هـ):
لم يذكرِ ابنُ تيمية في المذكرة التي كتبها بشأن المجالس الثلاث تفصيلاتٍ عن المجلس الثالث، سوى الخلاف الذي وقع بين الشيخ كمال الدين ابن الزَّمْلَكاني وقاضي القضاة نجم الدين بن صَصْرى الشافعيين، وكان سببَه كلامٌ للشيخ صدر الدين ابن الوكيل في تكفيرِ من قال بخلق حُروف القرآن.
قال ابن تيمية: (وقلتُ في ضمنِ الكلام لصدر الدين بن الوكيل - لبيانِ كثرة تناقُضِه وأنَّه لا يستقرُّ على مقالةٍ واحدة، وإنَّما يسعى في الفتن والتفريق بين المسلمين - : عندي عقيدةٌ للشيخ أبي البيان، فيها أن من قال: (إن حرفًا من القرآن مخلوقٌ فقد كفر)، وقد كتبتَ عليها بخطِّك أنَّ هذا مذهبُ الشافعيِّ وأئمَّة أصحابه، وأنَّك تدينُ الله بها، فاعترف بذلك.
فأنكر عليه الشيخ كمال الدين ابن الزَّمْلَكاني ذلك.
فقال ابن الوكيل: هذا نصُّ الشافعي! وراجعَهُ في ذلك مرارًا.
فلما اجتمعنا في المجلس الثاني؛ ذكر لابن الوكيل أنَّ ابن درباس نقل في كتاب (الانتصار) عن الشافعي مثل ما نقلت.
فلما كان في المجلس الثالث، أعاد ابن الوكيل الكلام في ذلك.
فقال الشيخ كمال الدين لصدر الدين ابن الوكيل: قد قلتَ في ذلك المجلس للشيخ تقيِّ الدين: (إنه من قال إن حرفًا من القرآن مخلوقٌ فهو كافر)! فأعادَه مرارًا.
فغضب هنا الشيخُ كمال الدين غضبًا شديدًا، ورفع صوته، وقال: هذا يُكفِّر أصحابَنَا المُتكَلِّمِين الأشعريَّة الذين يقولون: إن حروف القرآن مخلوقة، مثل إمام الحرمين وغيره، وما نصبِرُ على تكفير أصحابنا!
فأنكر ابنُ الوكيل أنَّه قال ذلك، وقال: ما قلتُ ذلك، وإنَّمَا قلتُ: إن من أنكر حرفًا من القرآن فقد كفر.
فردَّ ذلك عليه الحاضِرُون، وقالُوا: ما قُلتَ إلا كَذَا وكذا! وقالُوا: ما ينبغي لك أن تقُولَ قولًا وترجعَ عنه.
وقال بعضُهم: ما قال هذا!
فلمَّا حَرَّفُوا؛ قال: ما سمعناه قال هذا، حتى قال نائبُ السُّلطانِ (الأفرم): واحد يكذب، وآخر يشهد!
والشيخُ كمال الدين مُغضب، فالتفت إلى قاضي القضاة نجم الدين (ابن صَصْرى) الشافعي يستصرِخُه للانتصار على ابن الوكيل حيث كفَّر أصحابه!
فقال القاضي نجم الدين: ما سمعتُ هذا!
فغضب الشيخ كمال الدين، وقال كلامًا لم أضبط لفظه، إلا أن معناه: أن هذا غضاضة على الشافعيَّةِ وعارٌ عليهم أنَّ أئمَّتَهم يُكفَّرُون ولا يُنتَصر لهم.
ولم أسمع من الشيخ كمال الدين ما قال في حَقِّ القاضي نجم الدين، واستثبتُّ غيري ممن حضر هل سمع منه في حقه شيئًا؟ فقالوا: لا، لكن القاضي اعتقد أنَّ التعيير لأجلِه، ولكونه قاضي المذهب، ولم ينتصر لأصحابِه، وأنَّ الشيخ كمالَ الدين قَصَدُه ذلك.
فغضبَ قاضي القضاة نجم الدين، وقال: اشهدُوا عليَّ أنِّي عزلتُ نفسي.
وأخذ يذكُرُ ما يستحقُّ به التَّقديمَ والاستحقاقَ، وعِفَّتَه عن التكلُّم في أعراض الجماعة، ويستشهدُ بنائب السلطان في ذلك.
وقلتُ له كلامًا مضمونُه تعظيمُه واستحقاقُه، لدوام المباشرة في هذه الحال) ([12]). (مجموع الفتاوى) (3/ 172-174).
وقال البِرزالي في (تاريخه) (3/303) لمَّا ذكرَ هذا المجلِس: (ورضي الجماعةُ بالعقيدة).

-البيانُ الرَّسميُّ لنتيجَة المجالس، (26 / 8 / 705هـ):
قال البرزالي في (تاريخه) (3/304): (وفي السادس والعشرين من شعبان وردَ كتابُ السُّلطان إلى قاضي القضاة (نجم الدين ابن صَصْرى) بإعادَتِه إلى الحُكم، وفيه: إنَّا كُنَّا رسمنا بعقدِ مجلسٍ للشَّيخ تقيِّ الدِّين، وقد بلَغَنا ما عُقِد له من المَجالِس، وأنَّه على مذهبِ السَّلف، وما قَصدنَا بذلك إلا براءةَ ساحتِه).
وهكذا؛ صُدَّت هذه الهجمة عن ابن تيمية بسلامٍ، إلا أنَّ الإصرار على النيل من ابن تيمية لدى خصومه سيّر الأمور بطريق آخر.

6- المَرسُوم السُّلطاني بطلب ابن تيمية إلى مصر، ومحاولة الأفرم الامتناع عن ذلك:
ثمَّةَ قصَّةٌ طريفة جرت بين الأمير الأفرم وبين صديقه ونديمِه – وهو أحد مخالفي ابن تيمية- الشيخ صدر الدين ابن الوكيل، متعلقةٌ بهذا المرسوم، وبعلاقة ابن تيمية بالأفرم، ويبدو أنها جرت في الفترة التي بين تمام المجالس السابقة، وبين صدور هذا المرسوم، رواها المُؤرِّخ ابنُ فضل الله العمري في (مسالك الأبصار) (8/278-279) فقال: (حكى لي القاضي عبد الله البستاني الفقيه سمعتُ الشيخَ صدرَ الدين ابنَ الوكيل يحكي قال: طلبَنِي الأفرم مرة، طلبًا مُزعجًا، فجئتُه، وأنا خائفٌ منه- على صحبتي له-، فلما دخلتُ عليه رأيته مبتهجًا لي، فطلع إلي وقد كاد يسطُو عليَّ لأجل ابن تيمية، وقال لي: يا صدر! أنت تريدُ تعاندُ القدرة في ابن تيمية؟ وكلَّما رفعَه الله تريدُ أنت أن تضعَه بيدِك، والله ما تريدُ إلا من يخرجُك من الشَّام، ويحبسُك في الاسكندرية، ليكُفَّ شرَّك!
قال: فخرجتُ وأنا في غاية الخوف والوحشة، وتوجّهت على الفور إلى الشيخ عثمان المنيني المعروف بالقريري - شيخ صوفي -، فما لحَّقتُ أكملُ السلام عليه حتى قال لي: بئس الصاحبُ صاحبُك، يعني الأفرم، والله يا صدر الدين! ما هو يا صدر كما قال لك، ما يريُ يُعاندُ القدرةَ إلا هو! والله ما يخرجُ من الشَّام ويحبَسُ في الاسكندرية إلا ابنُ تيمية.
قال: فسرِّي عنِّي ما كنتُ فيه، وبتُّ عندَه تلك الليلة، ثم عدتُّ، فلم أصل إلى بيتي إلا ورسولُ الأفرم قد أتاني، فجئتُه، فقال: يا صدر الدين! أنت رجل صالح، عمل نفسك في ابن تيمية، وقد جاء مرسومُ السُّلطان بطلبه، وعزمي أن أدفعَ عنه، وأشتهي أن لا تُحرِّكوا أنتُم ساكنًا ليُدفع عنه الشُّر، لعلّ تصطلِحُوا، فيزولُ ما بينَكم، ثم لم يمض- والله- الأيام حتى لم يكن بدٌّ من تجهيزه، وحُبِس بمصر والاسكندرية، وجاء الأمر كما قال الشيخ).
يروي قصة هذا المرسُوم بناء على شهادةٍ شخصيَّة؛ المؤرخ المصري شهاب الدين النويري في (نهاية الأرب) (32/71-79) فيقول: (أمَّا السببُ المُحرِّك لهذه الواقعة، الموجبُ لطلب الشيخ تقيِّ الدين المذكور إلى الديار المصرية فقد اطَّلعتُ عليه من ابتدائه، وهو أنَّ بعضَ الطلبة واسمُه: عبد الرحمن العينوسي سكن بالمدرسة الناصرية بالقاهرة، وكنتُ بها، وبها قاضي القضاة زين الدين ابن مخلوف المالكي، وغيرُه، فاتَّفق اجتماعي أنا والقاضي شمس الدين محمد بن عدلان الكناني القرشي الشافعي بمنزلي بالمدرسة المذكورة في بعض الليالي، وهو أيضًا ساكنٌ بالمدرسة ومعيدٌ بها، فحضَر عبدُ الرحمن المذكور إلينا، ومعه فُتيا، وقد أجاب الشيخ تقي الدين عنها، فأخرَجَها من يدِه، وشَرَع يذكُر الشَّيخ تقيَّ الدِّين، وبسطَ عبارته وعلمه، وقال: هذه من جملة فتاويه، ولم يُرِد - فيما ظهَر - أذاهُ، وإنما قصَد - والله أعلم - نشرَ فضيلته، فتناولها القاضي شمسُ الدين ابن عدلان منه، وقرأها، فإذا مضمونها .. ([13])
فلما وقف القاضي شمسُ الدِّين ابنُ عدلان على هذه الفتيا أنكر منها مواضع، وعرَضها على القاضي زين الدين المالكي، فقال قاضي القضاة: أحتاجُ أن يثبت عندي أن هذا خطُّ تقيِّ الدين المذكور، فإذا ثبتَ ذلك رتَّبتُ عليه مُقتضاه. وانفصل المجلس في تلك الليلة على هذا.
ثم شهد جماعةٌ عند قاضي القضاة أنَّ الجواب المذكور بخط تقي الدين المذكور، فثبت ذلك عنده، وأشهد على نفسه به في شعبان من السنة (8/705هـ)، واجتمع قاضي القضاة زين الدين بالأمراء وعرفهم ما أنكره من فتياه.
فتوقف نائب السلطنة بالشام الأمير جمال الدين (الأفرم) في إرساله.
واتَّفقَ وصولُ الأمير سيف الدين الطنقش الجمالي أستاذ دار نائب السلطنة بالشام إلى الأبواب السلطانية في الشهر المذكور في بعض المُهمَّات، ومَلَّك السُّلطان مخدُومه من أملاكه بالشام أماكن احتاج إلى إثباتها على قاضي القضاة زين الدين المالكي، فاجتمع بي بسبب ذلك، فدخلتُ على قاضي القضاة، وعرَّفتُه مكانةَ سيف الدين المذكور، ومنزِلَتَه من أربابِ الدولة، ومحلَّ مخدومه، والتمست منه الإذن له في الدخول وإكرامَه إذا دخل عليه، فأذِن له في الدُّخول، فلما دخلَ عليه اطَّرَحه، ولم يكتَرِث لدخُوله، وكَلَّمه بكلامٍ غليظ، فكان مِمَّا قال له عند دخوله عليه: أنتَ أُستاذ دار جمال الدين (الأفرم)؟
قال: نعم!
قال: لا بَيَّض الله وجهه!
وحمله رسالة لمخدومه فقال: قُل له عني: (أنتَ تعرف كيفَ كُنت، وأنني اشتريتُك للسلطان الملك المنصور، وكُنتَ على حالٍ من الضَّرورة في جُنديَّتِك وإمرتِك، ثم خَولَّك الله تعالى من نعمِه، وأفاضَ عليك منها ما أنت عليه الآن، وألحقَك بأكابرِ المُلوك، ونُعتَّ بملِك الأمراء، ثم أنت تُدَافع عن رجُلٍ طلبتُه لقيام حقٍّ من حقوق الله عليه، والله لئن لم ترسله ليعجلن الله تعالى هلاكك)، إلى غير ذلك مما قاله في وقت خروجه، فالتزم الأمير سيف الدين الطنقش أنه عند وصوله إلى دمشق لا يبيتُ ابنُ تيمية بها، ويرسِلُه إليه.
ثم لم يقنَع قاضِي القضاة بذلك إلى أن اجتمع بالأمراء، وجدَّد معهم الحديث في أمر تقيِّ الدين، فاقتضى ذلك إرسالَ الأمير حسام الدين لاجين العمري أحدَ الحُجَّاب بالأبواب السلطانية إلى دمشق بمثال شريف سلطاني بطلبِه، فتوجَّه ووصل إليها في خامس شهر رمضان).
ويروي قطبُ الدين اليُونِيني ما جرى بعد وصول هذا الرسول إلى الشام بشيء من التفصيل فيقول: (فلمَّا كان يومُ الاثنين خامس رمضان ( 5 / 9 / 705هـ) وصل من السلطان بريديٌّ يُعرف بالعمري إلى دمشق بطلب قاضي القضاة نجم الدين ابن صَصْرى، وتقي الدين ابن تيمية، ويقولون: تُعرِّفوننا مما وقع في زمن جاغان سنة ثمان وتسعين وست ومئة بسبب عقيدة ابن تيمية([14])، وفيه إنكار عليه، وأن تكتُبُوا لهم صورة العقيدتين الأولى والأخيرة، فطلبُوا القاضي جلال الدين الحنفي وسألوه عما جرى في أيامه فقال: نقل عنه كلام قاله فطلبناه فأجاب عنه، وكذلك القاضي جلال الدين القزويني، فإنه أحضر العقيدة التي كانت قد أحضرت في زمان أخيه، وجرى ما تقدم ذكره، وتحدثوا مع ملك الأمراء (الأفرم) في أن يُكاتِب في أمرهم فأجاب.
فلما كان يوم السبت عاشر رمضان (10 / 9 / 705هـ)، وصل غلام ملك الأمراء (غلام الأفرم) ([15]) على البريد من مصر، وأخبرَ أن الطلب على ابن تيمية كثيرٌ، وأنَّ القاضي (زينَ الدين ابن مخلوف المالكي) قد قام في قضيَّتِه قيامًا عظيمًا، وأنَّ الأمير ركن الدين الجاشنكير معه في هذا الأمر، ونقل أشياء كثيرة عن الحنابلة قد وقعت بالديار المصرية، وأن بعضَهم قد عُزِّروا، وأنَّ القاضي الحنبليَّ والمالكيَّ جرى بينهما كلام، فلما سمع ملك الأمراء (الأفرم) كلامَه انحلَّت عزائِمُه عن المُكاتَبَة بسببِهم، وحضر البريدي العمري، وقال لَه: إما أن تُسيِّرُهما معي، وإمَّا أن تكتب جوابَ المُطالعة.
فلما كان بُكرة يوم الأحد حادي عشر شهر رمضان ( 11 / 9 /705 هـ) حضرَ شمس الدين محمد المهمندار إلى تقي الدين ابن تيمية وقال له: (قد رسم ملك الأمراء (الأفرم) أن تُسافر غدًا أنت والقاضي)، فأجاب بالسمع والطاعة.
وراح إلى القاضي وعَرَّفَه.
وشرعوا في تجهيز أشغالهما، وسافروا في يوم الاثنين ثاني عشر شهر رمضان، فسافر القاضي خامسة النهار، وتقي الدين الثامنة، وفي صحبته أخواه: الشيخ شرف الدين عبد الله، وزين الدين عبد الرحمن، ومن أصحابه: شرف الدين ابن منجا، وتقي الدين أبو حفص بن شقير([16])، وفخر الدين وعلاء الدين أولاد الصائغ، وشمس الدين التدمري وغيرهم).
هكذا، سعى الأفرم إلى عدم إرسال ابن تيمية إلى مصر، حتى لا يناله أذى، إلا أنّ الطلب عليه من رجلٍ متمكن في الدولة وهو ابن مخلوف كان أقوَى.
ما كاد ابن تيمية أن يصل إلى مصر، إلا واعتُقِل فيها، بعد مجلس قضاءٍ ظالمٍ عقدَه ابن مخلوف. بعد مُدَّة بعثَ ابن تيمية من محبسه بالقاهرة برسالةً إلى الأفرم، وصلت في (28 / 12 / 706هـ)، قال البرزالي في (تاريخه) (3/346): (وفي هذا اليوم أخبر نائبُ السَّلطنة (الأفرم) بوصُول كتابٍ إليه من الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الجب، وأعلم بذلك جماعةً ممن حضر مجلِسَه، وأثنى عليه، وقال: (مارأيتُ مثلَه، ولا أشجع منه).
وذكر ما هو عليه في السِّجنِ من التوجُّه إلى الله تعالى، وأنَّهُ لا يقبَلُ شيئًا من الكسوة السلطانية، ولا من الإدرار السلطاني، ولا تدنَّس بشيء من ذلك).
وكان هذا آخرَ ما جرى بين ابن تيمية والأفرم في فترة نيابته عن السلطنة بدمشق.

_________________________
([1]) كما نقله الشيخ شرف الدين عبد الله. (مجموع الفتاوى) (3/210).
([2]) كما نقله البرزالي في (تاريخه) (3/304).
([3]) من رسالته لأخيه زين الدين بشأن تلك المجالس. (مجموع الفتاوى) (3/202).
([4]) في رسالة كتبها لأخيه الشيخ زين الدين عبد الرحمن، ونشرها ابن قاسم في (مجموع الفتاوى) (3/202 - 210).
([5]) نُشر منها مذكرتان: الأولى مطوّلة، أثبتها ابن عبد الهادي في (العقود الدرية) (262-306)، ونشرها وابن قاسم في (مجموع الفتاوى) (3/ 160 - 193)، والثانية مختصرة، نشرها محمد عزير شمس في (جامع المسائل) (8/181-199) عن مخطوطة بخطِّ ابن تيمية، ومع اختصارها ففيها ما ليس في الأولى. وهناك مُذكّرة نشرها الفيومي في (مجموعة الرسائل الكبرى) (1/ 413 - 421)، وابن قاسم في (مجموع الفتاوى) (3/194-201) في أولها أنّها بنقل البِرزالي.
([6]) ذكر هذه المدة الشيخ شرف الدين عبد الله؛ (مجموع الفتاوى) (3/204).
([7]) وُصِف الأفرم بأنه كانَ (مُحبًّا للصيد، لا يكاد يصبر عنه)، وبأن أيام نيابته في دمشق كانت (مُمزَّقة في الصيود، ورمي النشاب، والخلوة بنفسه، ومع هذا لا يُخلُّ بالجلوس للأحكام، والتصدِّي لمصالح الإسلام، وقضاء حوائج الناس، وتحصين الحصون، وتحصيل الحواصل، وسدِّ الثغور وملئها بالذخائر والحواصل، وعمارتها بالزردخانات والآلات، لا يزال يتقاضى هذا بنفسه ويتوكل به). (الوافي بالوفيات) للصفدي (9/190- 192).
([8]) ذكر اليونيني في (ذيل مِرآة الزَّمَان) (2/846-848) أن الذي فعل ذلك هو القاضي جلال الدين القزويني، صاحب كتاب (تلخيص المفتاح) الشهير في علم البلاغة، وهو نائبُ قاضي قضاة الشافعية نجم الدين ابن صَصْرى، وأن ابن تيمية لما اجتمع بابن صَصْرى في قصر الأمير، بعد اعتقاله للمزّي، شكى للأمير ما فعله القزويني نائب ابن صصرى في غياب الأمير. وكذا ذكره الشمس ابن الجزري في (تاريخه) كما نقله عنه النويري في (نهاية الأرب) (32/80)، لكن في المطبوعة (كمال الدين القزويني) وهو غلط.
([9]) يعني: قبّة النسر، في الجامع الأموي.
([10]) اعتمد ابن عبد الهادي في (العقود الدُّريَّة) (ص260-261) على ما ذكره البِرزالي في التأريخ لهذه الحادثة، وما بين معقوفين وقع عنده هكذا: (وخرَج إلى القصر إلى ملك الأمراء (الأفرم) وتخاصَم هو والقاضي هناك، وأثنى على الشيخ جمال الدين، وغضب القاضي، وانزعج، وقال: لئن لم يُردّ إلى حبسي؛ عزلت نفسي! فأرضاه ملك الأمراء بأن أعادَ الشيخ جمال الدين إلى حبسه، فاعتقله بالقوصية أيامًا).
([11]) في (العقود الدُّريَّة) (ص260-261): (فرَسم بحبسِ جماعةٍ من أصحاب ابن الوكيل، وأمرَ فنُودِي في البلد..).
([12]) في (العقود الدُّريَّة) (ص260-261) لم يذكر ابن عبد الهادي هذا الجزء من المذكرة التي أثبتها. وذكر (ص264) أنه لا يحبُّ حكاية ما جرى بين ابن الزَّمْلَكاني وابن صَصْرى.
([13]) أورد النويري هنا (جواب الفتيا المصرية في القرآن)، وقد أثبتها ابن تيمية في (التسعينية) (2/ 530 - 546)، ونشرها ابن قاسم في (مجموع الفتاوى) (12/ 235 - 245) .
([14]) المقصود ما جرى بسبب (الفتوى الحموية الكبرى) سنة (698هـ) وخبرها في (العقود الدُّريَّة) نقلًا عن البِرزالي (ص253-258)
([15]) ذكر النويري في (نهاية الأرب) (32/81) أنَّه سيف الدين الطنقش الذي تقدم خبر لقائه بابن مخلوف في القاهرة.
([16]) في مطبوعة (نهاية الأرب) (32/81): (ابن سُنقر) وهو تصحيف.

Adsense Management by Losha