فريق منتدى الدي في دي العربي
06-12-2016, 08:29 AM
النظر الشامل إلى القضايا الإسلامية
د. مصطفى عطية جمعة
شمولية الرؤية للفقيه وعلاقتها بالنهضة الحضارية للأمة:
إن المنطلق في دراستنا في هذا الفصل: النظر الشامل إلى القضايا الإسلامية، متجاوزين الرؤى الجزئية التي تبدأ بالقضايا الفرعية، والهموم اليومية وتنتهي بها، وفي أحسن الأحوال تستعرض أزمات الأمة العلمية والاجتماعية، أو ما يسمى التباكي على حال الأمة. فكثير من الفقهاء يقفون عند مظاهر الانحراف والخروج عن الأحكام الشرعية والأخلاق والقيم، وهذا أمر طيب، ولكن لابد من وجود رؤية شاملة، يتبناها الفقيه، تصلح الجزئي في إطار كليّ.
وهو ما يسمى "فقه الجزئيات في ضوء الكليات" ويعني: أن معرفة الشريعة لا تتم بمجرد معرفة نصوصها الجزئية المتفرقة، بل لا بد من رد فروعها إلى أصولها، وجزئياتها إلى كلياتها، ومتشابهاتها إلى محكماتها، وظنياتها إلى قطعياتها، حتى يتألف منها جميعا نسيج واحد مترابط بعضه ببعض [1].
فأحكام الشريعة شاملة لجميع المصالح الدنيوية والأخروية، والفردية والجماعية، والشريعة تسلك مسلك الموازنة بين هذه المصالح، تحقيقا للعدل والاعتدال والوسطية وهو من أهم مقاصدها الضرورية ومن أجله اعتبر علماء الشريعة الولاية العامة من الضروريات لأن المقصود منها إقامة العدل وإحقاق الحق ورفع الظلم [2].
هذه الرؤية هي منطلق علم الأصول قديماً بتنبيهه على المقاصد العامة للشريعة، وأنها بغية العالِم ومرتكزاته في تناوله لقضايا العلم. وإذا كان العلماء يحصرون هذه المقاصد في الحفاظ على الكليات الخمس: حفظ الدين والعقل والنسل والنفس والمال. فهي تحديد إيجابي وواقعي لمقاصد الشريعة، التي يضعها العالم الفقيه في أعماقه في دراساته الفقهية والشرعية، وفي رؤيته لواقع الحياة، ونظرته لحال الأمة وأبنائها.
وإلى ذلك أشار "مالك بن نبي" في تعريفه للحضارة، حيث رأى وجوب تناولها من وجهة نظر علم الإنسان، فالحضارة تتحدد من بعد وظيفي فتكون "مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدّم لكل فرد من أفراده، وفي كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية في هذا الطور أو ذاك من مراحل وجوده، فالمدرسة والمعمل والمستشفى وشبكة المواصلات والأمن في جميع صورة عبر سائر تراب القطر، واحترام شخصية الفرد، تمثّل جميعها أشكالا مختلفة للمساعدة التي يقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه"[3]، وعندما نتأمل هذا التعريف الوظيفي للحضارة الذي طرحه " ابن نبي" نجد أنه يتجه مباشرة إلى الذات الإنسانية، للفرد المواطن المقيم على أرض وطنه، فوظيفة الحضارة تقديم كل ما يحتاج إليه في مختلف مراحل عمره، من الطفولة، ومرورا بالشباب والكهولة ثم الشيخوخة، وهذه الخدمات لا تقف عند درجة معينة من عطاء الفرد، وإنما تشمل رعاية الفرد في كل أحواله، وطيلة عمره، والسهر على راحته أينما كان.
إن مفهوم الحضارة المتقدم، يتلاقى مع جوهر الكليات الخمس، وإن كانت الأخيرة ترتفع عليه وتتجاوزه لما هو أشمل وأعمق وأرقى، فوجوه اتفاقها مع تعريف " ابن نبي " بادٍ في التركيز على حفظ مصالح الفرد وضمان أمنه وقوته وحياته ودينه وذريته، وأن هذا واجب الدولة والقائمين عليها، وواجب أي حضارة، فلا معنى لتقدم مجتمع ما والإنسان فيه مقهور لا يجد قوته ولا يأمن على نفسه وعرضه وأولاده وماله، ولا قيمة لدولة تأخذ من قوت شعبها وترهبه وتمتصه، وتذهب خيراتها ومواردها للمبالغة في التسلّح، وفرض الهيمنة[4].
فالكليات الخمس تركّز على الحفاظ على أهم ما يفيد المرء في حياته الدنيوية: (حفظ النفس، النسل، المال، العقل) وهذه الأمور هي ما تشغل الإنسان، وتجعله مهموما أو سعيدا، وهي نصاب سعيه في الحياة، فالإنسان طامح إلى أن يعيش مطمئنا على بدنه / نفسه من القتل أو الجرح أو الضرب دون حق، ويشمل أيضا العيش في أمان دون خوف أو تهديد، كذلك الحفاظ على ثمرة كدّه وعمله وهو ماله وممتلكاته، دون تهديد بسرقة أو اغتصاب أو نهب أو مصادرة؛ والحفاظ على ذريته التي أنعم الله به عليها، وتعب في تربيتها، وهي ستعينه في شيخوخته (النسل)؛ والحفاظ على (عقله) وهو مناط التكليف في الشريعة، وبه يسيّر الإنسان شؤون حياته كلها.
كذلك ما يفيده في حياته الأخروية وهو الأهم (حفظ الدين)، فالدين في نظر الإسلام مفتاح السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، وحفظُ المسلم دينه يتأتى من الأمان على عقيدته وأدائه عباداته، دون فتنة له أو ارتداد أو إكراه، ومن حفظ دينه ساعده على حماية الكليات الأربع السابقة، فالدين يدفع صاحبه لحماية بدنه من الخمر والأمراض، وحماية ماله وزيادته ليعيش في عزة وسعة رزق، وحماية عقله من المخدرات، وحماية أولاده بمباشرته المسؤولية عنهم ورعايتهم.
كما أن حفظ النفس والعقل والمال والنسل سبيل لحفظ الدين، فالبدن السليم يعين المسلم على العبادة، وفي المال زكوات وصدقات ونماء للمجتمع، والعقل مناط التكليف في الشريعة، فلا تكليف لمن به جنون أو فقدان للعقل. وهكذا تتحدد مهام تطبيق الشريعة في تحقيق كلياتها وإنفاذ مقاصدها، التي تلزم صاحب الولاية العامة أن يحققها للفرد.
وقد أكّد " ابن نبي " في طيات مفهومه للحضارة على أهمية ضرورة وجود آليات وشبكات لخدمة الفرد في مناحي حياته، وهذا أمر لا خلاف عليه، إلا أن منظومة الشريعة الإسلامية تضيف لهذه القاعدة؛ لأنها تمتاز برقابة عليا يلقيها الله تعالى في قلوب عباده المؤمنين، تُوجب عليهم تقوى الله في أعمالهم، لأنهم يعلمون أن مراقبة الله لهم في كل لحظة وحين، مما يلزمهم مراعاة حدود الله[5].
وإذا كانت هذه الكليات تتجه مباشرة إلى الفرد، فهذا ليس معناه إغفال الجماعة، فـ " ابن نبي " يتخذ من حصول الفرد على حقوقه مقياسا للحضارة في الوطن، ونفس الأمر مع كليات الشريعة، ذلك لأن الفرد أساس الجماعة، والفرد الصالح السعيد الحائز على حقوقه؛ سبيلٌ للجماعة السعيدة، وهذا يدفعه للقيام بواجباته العينية، وأيضا الكفائية، تحت رعاية الجماعة الوطنية.
إن الرؤية الشاملة لا تكتفي بمجرد المقاصد العامة، بل تُتَرجَم إلى قواعد كلية، مستنبطة من المقاصد والكليات الشرعية، وتعريفها: " أن تجري أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف " [6].
ويضع الفقيه في اعتباره القواعد الكلية عند نظره في الجزئيات، ولا يمكن لجزئية أن تلغي القاعدة الكلية، لأنها سبيل لإقامة الكلي وتدعيمه وتكون متسقة معه، لا تتجاوزه، حتى لا تذهب المصلحة المرادة.
فمن النكبات التي نراها في عالمنا إغراق بعض العلماء في المسائل الشرعية الجزئية، وعدم الاهتمام بقضايا الفرد الأساسية التي تحفظ حقوقه وكرامته، أي عدم النظر الكليّ إلى سائر أحوال الجماعة وأفرادها، فمن العبث أن يُحيي الفقيه قضايا قديمة لا مجال لها في عصرنا، أو يجيب عن قضايا معاصرة برؤى قديمة ويتمسّك بها، ويرى أنها منتهى العلم، وفي نفس الوقت لا يقبل أي اجتهاد جديد فيها؛ فالسابقون قد قالوا كل شيء وما علينا إلا اجترار ما قالوا، ناهيك عن ظاهرة العالم المنعزل الذي لا يتابع جديد الفتوى، ولا اجتهادات العلماء المعاصرين، وكل هذا يتم في مجتمعات مسلمة تعاني التقهقر الحضاري.
وقد توقف الإمام الشاطبي عند تلك القضية مؤكدا على المحافظة على القواعد الكلية الثابتة، يقول: " إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات فلا ترفعها آحاد الجزئيات. كذلك نقول إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها، فلابد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي، وذلك الجزئيات، فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع " [7].
وفي حالة تخلف الآحاد الجزئية عن مقتضى القاعدة الكلية، إن كان لغير عارض، فلا يصح شرعا، وإن كان لعارض ما، فهذا يعود إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى، أو على قاعدة كلية أخرى، فالأول (لغير عارض) يكون قادحا لأنه خالف الكلي، والثاني لا يكون تخلفه قادحا لأنه اتفق في أحد وجوهه مع كليٍّ [8].
تتحدد القضية إذن، بربط غايات العالم الشرعي في إعلام المسلم الفرد بعقيدته وعباداته وشريعته السمحة، وبالقواعد الكلية المتفق عليها، وأيضا يعالج مشكلاته الاجتماعية والنفسية، ثم يرتفع ليبحث حال الأمة بشكل عام وقضاياها النهضوية، فلا معنى لسعادة الفرد المسلم وسط مجتمع مضطرب، فقير، خائف، جائع، جاهل، فهو لن يكون آمنا على نفسه، ولن يستطيع أن يتعبّد ربه وهو فاقد حاجات شتى، لأنه تحت ضغط الحاجة قد يفعل ما يغضب ربه.
إن الدين ينظّم المجتمع، ويربط مرجعياته بغايات عظيمة، منزّلة من الله سبحانه وتعالى، فلا يتحججن امرؤ أن العقل مقدم على النقل، وهو أصل، ويعدد في سبيل ذلك ما حضّ عليه الإسلام من إعمال العقل والتفكر، وهو أمر لا شك فيه، ولكن القضية أن العقل يحتاج إلى ثوابت تقيده كي لا يشطح، وإلى أطر تحدده كي لا يضل، فإذا تسلح بها، فله أن ينطلق متأملا في الكون، باحثا في جوانب الإبداع الرباني. يقال هذا، لأن البعض يعلي من شأن العلوم العقلية وهي علوم الفلسفة والمنطق، ويقدمها على الدين، ويرى أنها أحق بالفضيلة، وعلى هذا درج العلمانيون في عصرنا، حيث يضع عقله المجرد حكما على الشريعة ونصوصها، ويضفي القداسة على ما يأتي به عقله، متشبثا بحرية الرأي، في حين ينزع القداسة عن الدين، تحت مبدأ حرية الرأي. والقول الفصل في هذه المسألة: "إن العقل يمنع من أن يكون الناس هملا أو سدى، يعتمدون على آرائهم المختلفة، وينقادون لأهوائهم المتشعبة، لما تئول إليه أمورهم من الاختلاف والتنازع..، فلم يستغنوا عن دين يتألفون به، ويتفقون عليه، ثم العقل موجب له، أو تابع له " [9].
فـ "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا "[10]، وأيضا "ما علم من التجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض، لما يلزم ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك الذي هو مضاد لتلك المصالح" [11].
فالمبدأ العقلاني: من العبث ترك الناس ضحية اختلافاتهم الفكرية ورؤاهم الفردية، ولابد من وجود قواعد يرجعون إليها، فيما يسمى بالعرف والقانون والدستور، ولكنهم قد يتفقون على ما يشقيهم جميعا (مثلما تتفق غالبية الدول الأوروبية على زواج المثليين، وقبول الأطفال غير الشرعيين اجتماعيا، وحرية تحويل الجنس/ النوع)، أما الدين فهو عاصم للعقل من الزلل، والمجتمع من الشقاء، والنفوس من التنازع. والدين يحتاج إلى علماء ينافحون عنه، ويبصرون الناس بأحكامه، ويقرؤون حاجات المجتمع، ومن ثم يسعون لتلبيتها، وندب أهل العزم والمهارة للقيام بها.
إحياء الفروض الكفائية: المرجعية والقضايا:
يمثل إحياء الفروض الكفائية الوجه الآخر في هذا الباب، فبعد استعراض مجمل العوامل الدينية والسياسية والاجتماعية التي ساهمت في إقصاء الفهم الصحيح للدين، عن الدولة والمجتمع والحياة، فإنه من المنطقي تناول سبل إحياء الفروض الكفائية، وقبل أن نتحدث عن سبل الإحياء، علينا أن نبحث جملة من القضايا التي تشكّل أساساً شرعياً وفكرياً، يتم بناءُ العملَ عليها.
وهذا يحتاج أولا إلى مناقشة نظرتنا إلى تراثنا الشرعي عامة والفقهي والأصولي خاصة، وكيفية تناوله والاستفادة منه في عصرنا، وأيضا مناقشة واجب العالم الشرعي، والعالم الدنيوي، والنفرة في سبيل التخصص العلمي، وتأصيل ذلك من المنظور الشرعي والأصولي، كذلك دور الفرد والجماعات والفئات الاجتماعية في القيام بأعباء النهضة، ومن ثم التعرض إلى تكوين العالم الشرعي الذي يقع عليه العبء الأكبر في البحث والتوعية، وأيضا بعض المسائل المثارة في هذا الشأن.
[1] الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، د. يوسف القرضاوي، سلسلة كتاب الأمة، العدد ( 2 )، الطبعة الثالثة، 1402هـ، ص151، 152.
[2] انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن، ط1، 1415هـ، 1994م، ص46.
[3] القضايا الكبرى، مالك بن نبي، م س، ص43.
[4] المثال الأبرز على ذلك: الدول التي كانت مندرجة تحت ما يسمى المنظومة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفيتي سابقا ومعه رومانيا وألمانيا الشرقية وبولندا وغيرها. فقد رصد كثيرون كيف بالغ الاتحاد السوفيتي في التسلح بأسلحة نووية وبيولوجية كافية لتدمير أمريكا وأوروبا عدة مرات في الوقت الذي كان الشعب يعاني فيه من شظف العيش، وكانوا يجبرون العجائز على كسح الجليد بحجة أن الكل يجب عليه العمل مقابل طعامه وكسوته، وقد أقيل الزعيم السوفيتي السابق "خروشوف" لأنه رأى تخفيض النفقات العسكرية، وتوجيهها لخدمة الإنسان، وقال لهم: إن مرة واحدة للتدمير كافية، بدلا من مرات عدة. راجع تفصيلا: قضايا دولية معاصرة، السياسة الدولية من الحرب الباردة إلى الوفاق. د. إسماعيل صبري مقلد، مؤسسة الصباح للنشر، الكويت، 1980م، ص132-136. وكان هذا سببا في السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي ثم انفراط المنظومة الاشتراكية كلها، عندما وجد المواطن نفسه ضائعا وسط شعارات لم تحقق له طعاما ولا مالا ولا أمانا، فقط ترسانات نووية.
[5] المقاصد العامة للشريعة، م س، ص47.
[6] الموافقات، م س، ج2، ص51.
[7] السابق، ج2، ص50.
[8] السابق، ج2، ص53.
[9] أدب الدنيا والدين، ص73.
[10] الموافقات..، ج2، ص144.
[11] السابق، ج2، ص145.
د. مصطفى عطية جمعة
شمولية الرؤية للفقيه وعلاقتها بالنهضة الحضارية للأمة:
إن المنطلق في دراستنا في هذا الفصل: النظر الشامل إلى القضايا الإسلامية، متجاوزين الرؤى الجزئية التي تبدأ بالقضايا الفرعية، والهموم اليومية وتنتهي بها، وفي أحسن الأحوال تستعرض أزمات الأمة العلمية والاجتماعية، أو ما يسمى التباكي على حال الأمة. فكثير من الفقهاء يقفون عند مظاهر الانحراف والخروج عن الأحكام الشرعية والأخلاق والقيم، وهذا أمر طيب، ولكن لابد من وجود رؤية شاملة، يتبناها الفقيه، تصلح الجزئي في إطار كليّ.
وهو ما يسمى "فقه الجزئيات في ضوء الكليات" ويعني: أن معرفة الشريعة لا تتم بمجرد معرفة نصوصها الجزئية المتفرقة، بل لا بد من رد فروعها إلى أصولها، وجزئياتها إلى كلياتها، ومتشابهاتها إلى محكماتها، وظنياتها إلى قطعياتها، حتى يتألف منها جميعا نسيج واحد مترابط بعضه ببعض [1].
فأحكام الشريعة شاملة لجميع المصالح الدنيوية والأخروية، والفردية والجماعية، والشريعة تسلك مسلك الموازنة بين هذه المصالح، تحقيقا للعدل والاعتدال والوسطية وهو من أهم مقاصدها الضرورية ومن أجله اعتبر علماء الشريعة الولاية العامة من الضروريات لأن المقصود منها إقامة العدل وإحقاق الحق ورفع الظلم [2].
هذه الرؤية هي منطلق علم الأصول قديماً بتنبيهه على المقاصد العامة للشريعة، وأنها بغية العالِم ومرتكزاته في تناوله لقضايا العلم. وإذا كان العلماء يحصرون هذه المقاصد في الحفاظ على الكليات الخمس: حفظ الدين والعقل والنسل والنفس والمال. فهي تحديد إيجابي وواقعي لمقاصد الشريعة، التي يضعها العالم الفقيه في أعماقه في دراساته الفقهية والشرعية، وفي رؤيته لواقع الحياة، ونظرته لحال الأمة وأبنائها.
وإلى ذلك أشار "مالك بن نبي" في تعريفه للحضارة، حيث رأى وجوب تناولها من وجهة نظر علم الإنسان، فالحضارة تتحدد من بعد وظيفي فتكون "مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدّم لكل فرد من أفراده، وفي كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية في هذا الطور أو ذاك من مراحل وجوده، فالمدرسة والمعمل والمستشفى وشبكة المواصلات والأمن في جميع صورة عبر سائر تراب القطر، واحترام شخصية الفرد، تمثّل جميعها أشكالا مختلفة للمساعدة التي يقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه"[3]، وعندما نتأمل هذا التعريف الوظيفي للحضارة الذي طرحه " ابن نبي" نجد أنه يتجه مباشرة إلى الذات الإنسانية، للفرد المواطن المقيم على أرض وطنه، فوظيفة الحضارة تقديم كل ما يحتاج إليه في مختلف مراحل عمره، من الطفولة، ومرورا بالشباب والكهولة ثم الشيخوخة، وهذه الخدمات لا تقف عند درجة معينة من عطاء الفرد، وإنما تشمل رعاية الفرد في كل أحواله، وطيلة عمره، والسهر على راحته أينما كان.
إن مفهوم الحضارة المتقدم، يتلاقى مع جوهر الكليات الخمس، وإن كانت الأخيرة ترتفع عليه وتتجاوزه لما هو أشمل وأعمق وأرقى، فوجوه اتفاقها مع تعريف " ابن نبي " بادٍ في التركيز على حفظ مصالح الفرد وضمان أمنه وقوته وحياته ودينه وذريته، وأن هذا واجب الدولة والقائمين عليها، وواجب أي حضارة، فلا معنى لتقدم مجتمع ما والإنسان فيه مقهور لا يجد قوته ولا يأمن على نفسه وعرضه وأولاده وماله، ولا قيمة لدولة تأخذ من قوت شعبها وترهبه وتمتصه، وتذهب خيراتها ومواردها للمبالغة في التسلّح، وفرض الهيمنة[4].
فالكليات الخمس تركّز على الحفاظ على أهم ما يفيد المرء في حياته الدنيوية: (حفظ النفس، النسل، المال، العقل) وهذه الأمور هي ما تشغل الإنسان، وتجعله مهموما أو سعيدا، وهي نصاب سعيه في الحياة، فالإنسان طامح إلى أن يعيش مطمئنا على بدنه / نفسه من القتل أو الجرح أو الضرب دون حق، ويشمل أيضا العيش في أمان دون خوف أو تهديد، كذلك الحفاظ على ثمرة كدّه وعمله وهو ماله وممتلكاته، دون تهديد بسرقة أو اغتصاب أو نهب أو مصادرة؛ والحفاظ على ذريته التي أنعم الله به عليها، وتعب في تربيتها، وهي ستعينه في شيخوخته (النسل)؛ والحفاظ على (عقله) وهو مناط التكليف في الشريعة، وبه يسيّر الإنسان شؤون حياته كلها.
كذلك ما يفيده في حياته الأخروية وهو الأهم (حفظ الدين)، فالدين في نظر الإسلام مفتاح السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، وحفظُ المسلم دينه يتأتى من الأمان على عقيدته وأدائه عباداته، دون فتنة له أو ارتداد أو إكراه، ومن حفظ دينه ساعده على حماية الكليات الأربع السابقة، فالدين يدفع صاحبه لحماية بدنه من الخمر والأمراض، وحماية ماله وزيادته ليعيش في عزة وسعة رزق، وحماية عقله من المخدرات، وحماية أولاده بمباشرته المسؤولية عنهم ورعايتهم.
كما أن حفظ النفس والعقل والمال والنسل سبيل لحفظ الدين، فالبدن السليم يعين المسلم على العبادة، وفي المال زكوات وصدقات ونماء للمجتمع، والعقل مناط التكليف في الشريعة، فلا تكليف لمن به جنون أو فقدان للعقل. وهكذا تتحدد مهام تطبيق الشريعة في تحقيق كلياتها وإنفاذ مقاصدها، التي تلزم صاحب الولاية العامة أن يحققها للفرد.
وقد أكّد " ابن نبي " في طيات مفهومه للحضارة على أهمية ضرورة وجود آليات وشبكات لخدمة الفرد في مناحي حياته، وهذا أمر لا خلاف عليه، إلا أن منظومة الشريعة الإسلامية تضيف لهذه القاعدة؛ لأنها تمتاز برقابة عليا يلقيها الله تعالى في قلوب عباده المؤمنين، تُوجب عليهم تقوى الله في أعمالهم، لأنهم يعلمون أن مراقبة الله لهم في كل لحظة وحين، مما يلزمهم مراعاة حدود الله[5].
وإذا كانت هذه الكليات تتجه مباشرة إلى الفرد، فهذا ليس معناه إغفال الجماعة، فـ " ابن نبي " يتخذ من حصول الفرد على حقوقه مقياسا للحضارة في الوطن، ونفس الأمر مع كليات الشريعة، ذلك لأن الفرد أساس الجماعة، والفرد الصالح السعيد الحائز على حقوقه؛ سبيلٌ للجماعة السعيدة، وهذا يدفعه للقيام بواجباته العينية، وأيضا الكفائية، تحت رعاية الجماعة الوطنية.
إن الرؤية الشاملة لا تكتفي بمجرد المقاصد العامة، بل تُتَرجَم إلى قواعد كلية، مستنبطة من المقاصد والكليات الشرعية، وتعريفها: " أن تجري أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف " [6].
ويضع الفقيه في اعتباره القواعد الكلية عند نظره في الجزئيات، ولا يمكن لجزئية أن تلغي القاعدة الكلية، لأنها سبيل لإقامة الكلي وتدعيمه وتكون متسقة معه، لا تتجاوزه، حتى لا تذهب المصلحة المرادة.
فمن النكبات التي نراها في عالمنا إغراق بعض العلماء في المسائل الشرعية الجزئية، وعدم الاهتمام بقضايا الفرد الأساسية التي تحفظ حقوقه وكرامته، أي عدم النظر الكليّ إلى سائر أحوال الجماعة وأفرادها، فمن العبث أن يُحيي الفقيه قضايا قديمة لا مجال لها في عصرنا، أو يجيب عن قضايا معاصرة برؤى قديمة ويتمسّك بها، ويرى أنها منتهى العلم، وفي نفس الوقت لا يقبل أي اجتهاد جديد فيها؛ فالسابقون قد قالوا كل شيء وما علينا إلا اجترار ما قالوا، ناهيك عن ظاهرة العالم المنعزل الذي لا يتابع جديد الفتوى، ولا اجتهادات العلماء المعاصرين، وكل هذا يتم في مجتمعات مسلمة تعاني التقهقر الحضاري.
وقد توقف الإمام الشاطبي عند تلك القضية مؤكدا على المحافظة على القواعد الكلية الثابتة، يقول: " إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات فلا ترفعها آحاد الجزئيات. كذلك نقول إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها، فلابد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي، وذلك الجزئيات، فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع " [7].
وفي حالة تخلف الآحاد الجزئية عن مقتضى القاعدة الكلية، إن كان لغير عارض، فلا يصح شرعا، وإن كان لعارض ما، فهذا يعود إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى، أو على قاعدة كلية أخرى، فالأول (لغير عارض) يكون قادحا لأنه خالف الكلي، والثاني لا يكون تخلفه قادحا لأنه اتفق في أحد وجوهه مع كليٍّ [8].
تتحدد القضية إذن، بربط غايات العالم الشرعي في إعلام المسلم الفرد بعقيدته وعباداته وشريعته السمحة، وبالقواعد الكلية المتفق عليها، وأيضا يعالج مشكلاته الاجتماعية والنفسية، ثم يرتفع ليبحث حال الأمة بشكل عام وقضاياها النهضوية، فلا معنى لسعادة الفرد المسلم وسط مجتمع مضطرب، فقير، خائف، جائع، جاهل، فهو لن يكون آمنا على نفسه، ولن يستطيع أن يتعبّد ربه وهو فاقد حاجات شتى، لأنه تحت ضغط الحاجة قد يفعل ما يغضب ربه.
إن الدين ينظّم المجتمع، ويربط مرجعياته بغايات عظيمة، منزّلة من الله سبحانه وتعالى، فلا يتحججن امرؤ أن العقل مقدم على النقل، وهو أصل، ويعدد في سبيل ذلك ما حضّ عليه الإسلام من إعمال العقل والتفكر، وهو أمر لا شك فيه، ولكن القضية أن العقل يحتاج إلى ثوابت تقيده كي لا يشطح، وإلى أطر تحدده كي لا يضل، فإذا تسلح بها، فله أن ينطلق متأملا في الكون، باحثا في جوانب الإبداع الرباني. يقال هذا، لأن البعض يعلي من شأن العلوم العقلية وهي علوم الفلسفة والمنطق، ويقدمها على الدين، ويرى أنها أحق بالفضيلة، وعلى هذا درج العلمانيون في عصرنا، حيث يضع عقله المجرد حكما على الشريعة ونصوصها، ويضفي القداسة على ما يأتي به عقله، متشبثا بحرية الرأي، في حين ينزع القداسة عن الدين، تحت مبدأ حرية الرأي. والقول الفصل في هذه المسألة: "إن العقل يمنع من أن يكون الناس هملا أو سدى، يعتمدون على آرائهم المختلفة، وينقادون لأهوائهم المتشعبة، لما تئول إليه أمورهم من الاختلاف والتنازع..، فلم يستغنوا عن دين يتألفون به، ويتفقون عليه، ثم العقل موجب له، أو تابع له " [9].
فـ "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا "[10]، وأيضا "ما علم من التجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض، لما يلزم ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك الذي هو مضاد لتلك المصالح" [11].
فالمبدأ العقلاني: من العبث ترك الناس ضحية اختلافاتهم الفكرية ورؤاهم الفردية، ولابد من وجود قواعد يرجعون إليها، فيما يسمى بالعرف والقانون والدستور، ولكنهم قد يتفقون على ما يشقيهم جميعا (مثلما تتفق غالبية الدول الأوروبية على زواج المثليين، وقبول الأطفال غير الشرعيين اجتماعيا، وحرية تحويل الجنس/ النوع)، أما الدين فهو عاصم للعقل من الزلل، والمجتمع من الشقاء، والنفوس من التنازع. والدين يحتاج إلى علماء ينافحون عنه، ويبصرون الناس بأحكامه، ويقرؤون حاجات المجتمع، ومن ثم يسعون لتلبيتها، وندب أهل العزم والمهارة للقيام بها.
إحياء الفروض الكفائية: المرجعية والقضايا:
يمثل إحياء الفروض الكفائية الوجه الآخر في هذا الباب، فبعد استعراض مجمل العوامل الدينية والسياسية والاجتماعية التي ساهمت في إقصاء الفهم الصحيح للدين، عن الدولة والمجتمع والحياة، فإنه من المنطقي تناول سبل إحياء الفروض الكفائية، وقبل أن نتحدث عن سبل الإحياء، علينا أن نبحث جملة من القضايا التي تشكّل أساساً شرعياً وفكرياً، يتم بناءُ العملَ عليها.
وهذا يحتاج أولا إلى مناقشة نظرتنا إلى تراثنا الشرعي عامة والفقهي والأصولي خاصة، وكيفية تناوله والاستفادة منه في عصرنا، وأيضا مناقشة واجب العالم الشرعي، والعالم الدنيوي، والنفرة في سبيل التخصص العلمي، وتأصيل ذلك من المنظور الشرعي والأصولي، كذلك دور الفرد والجماعات والفئات الاجتماعية في القيام بأعباء النهضة، ومن ثم التعرض إلى تكوين العالم الشرعي الذي يقع عليه العبء الأكبر في البحث والتوعية، وأيضا بعض المسائل المثارة في هذا الشأن.
[1] الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، د. يوسف القرضاوي، سلسلة كتاب الأمة، العدد ( 2 )، الطبعة الثالثة، 1402هـ، ص151، 152.
[2] انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن، ط1، 1415هـ، 1994م، ص46.
[3] القضايا الكبرى، مالك بن نبي، م س، ص43.
[4] المثال الأبرز على ذلك: الدول التي كانت مندرجة تحت ما يسمى المنظومة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفيتي سابقا ومعه رومانيا وألمانيا الشرقية وبولندا وغيرها. فقد رصد كثيرون كيف بالغ الاتحاد السوفيتي في التسلح بأسلحة نووية وبيولوجية كافية لتدمير أمريكا وأوروبا عدة مرات في الوقت الذي كان الشعب يعاني فيه من شظف العيش، وكانوا يجبرون العجائز على كسح الجليد بحجة أن الكل يجب عليه العمل مقابل طعامه وكسوته، وقد أقيل الزعيم السوفيتي السابق "خروشوف" لأنه رأى تخفيض النفقات العسكرية، وتوجيهها لخدمة الإنسان، وقال لهم: إن مرة واحدة للتدمير كافية، بدلا من مرات عدة. راجع تفصيلا: قضايا دولية معاصرة، السياسة الدولية من الحرب الباردة إلى الوفاق. د. إسماعيل صبري مقلد، مؤسسة الصباح للنشر، الكويت، 1980م، ص132-136. وكان هذا سببا في السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي ثم انفراط المنظومة الاشتراكية كلها، عندما وجد المواطن نفسه ضائعا وسط شعارات لم تحقق له طعاما ولا مالا ولا أمانا، فقط ترسانات نووية.
[5] المقاصد العامة للشريعة، م س، ص47.
[6] الموافقات، م س، ج2، ص51.
[7] السابق، ج2، ص50.
[8] السابق، ج2، ص53.
[9] أدب الدنيا والدين، ص73.
[10] الموافقات..، ج2، ص144.
[11] السابق، ج2، ص145.