فريق منتدى الدي في دي العربي
06-14-2016, 06:57 AM
إن ربك يحب الحمد(ابن القيم)
وفى المسند من حديث الأسود بن سريع أنه قال: يا رسول الله، إنى حمدت ربى بمحامد فقال: "إن ربك يحب الحمد"، فهو يحب نفسه ومن أجل ذلك يثنى على نفسه، ويحمد نفسه، ويقدس نفسه، ويحب من يحبه ويحمده ويثنى عليه. بل كلما كانت محبة عبده له أقوى كانت محبة الله له أكمل وأتم، فلا أحد أحب إليه ممن يحبه ويحمده ويثنى عليه.
ومن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه لأنه ينقص هذه المحبة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به ولهذا لا يغفر الله [سبحانه] أن يشرك به لأن الشرك يتضمن نقصان هذه المحبة والتسوية فيها بينه وبين غيره، ولا ريب أن هذا من أعظم ذنوب المحب عند محبوبه التى [ينقص] بها من عينه [وتنحط] بها مرتبته عنده إذا كان من المخلوقين، فكيف يحتمل رب العالمين أن يشرك بينه وبين غيره فى المحبة.
والمخلوق لا يحتمل ذلك ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبه أبداً وعساه أن يتجاوز لمحبه عن غيره من الهفوات والزلات فى حقه، ومتى علم بأنه يحب غيره كما يحبه لم يغفر له هذا الذنب ولم يقربه إليه.
هذا مقتضى الطبيعة والفطرة، أفلا يستحى العبد أن يسوى بين إلهه ومعبوده وبين غيره فى هذه العبودية والمحبة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لله} [البقرة: 165]، فأخبر سبحانه أن من أحب شيئاً [من] دون الله كما يحب الله فقد اتخذه نداً، وهذا معنى قول المشركين لمعبوديهم: {تَالله إِن كُنَّا لَفِى ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97- 98]، فهذه تسوية فى المحبة والتألية، لا فى الذات والأفعال والصفات والمقصود أنه سبحانه يحب نفسه أعظم محبة ويحب من يحبه وخلق خلقه لذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك، وأعد الثواب والعقاب لأجل ذلك، وهذا هو محض الحق الذى به قامت السموات والأرض، وكان الخلق والأمر، فإذا قام به العبد فقد قام بالأمر الذى خلق له فرضى عنه صانعه وبارئه وأحبه إذ كان يحب ويرضى، فإذا صدف عن ذلك وأعرض عنه وأبق عن مالكه وسيده أبغضه ومقته، لأنه خرج عما خلق له وصار إلى ضد الحال التى هو لها، فاستوجب منه غضبه بدلاً من رضاه وعقوبته بدلاً من رحمته، فكأَنه استدعى من رحمته أن يعامله من نفسه بخلاف ما يحب، فإنه سبحانه عفوّ يحب العفو، محسن يحب الإحسان، جواد يحب الجود سبقت رحمته غضبه. فإذا أبق منه العبد وخامر عليه ذاهباً إلى عدوه فقد استدعى منه أن يجعل غضبه غالباً على رحمته وعقوبته على إحسانه، وهو سبحانه يحب من نفسه الإحسان والبر والإنعام، فقد استدعى من ربه فعل ما غيره أحب إليه منه. وهو بمنزلة عبد السوء الذى يحمل أستاذه من المخلوقين المحسن إليه، الذى طبيعته الإحسان والكرم، على خلاف مقتضى طبيعته وسجيته، فأُستاذه يحب لطبعه الإحسان، وهو بإِساءَته ولؤمه يكلفه ضد طباعه ويحمله على خلاف سجيته، فإذا راجع هذا العبد ما يحب سيده [إليه وأقبل عليه وأعرض عن عدوه فقد صار إلى الحال التى تقتضى محبة سيده له] وإنعامه عليه وإحسانه إليه، فيفرح به ولا بد أعظم فرح، وهذا الفرح هو دليل [عليه] غاية الكمال والغنى والمجد.
فليتدبر اللبيب وجود هذا الفرح ولوازمه وملزوماته يجد فى طيه من المعارف الإلهية ما لا تتسع له إلا القلوب المهيأَة لهذا الشأْن المخلوقة له، وهذا فرح محسن بر لطيف جواد غنى حميد، لا فرح محتاج إلى حصول [ما يفرح به] متكمل به مستقيل له من غيره، فهو عين الكمال، لازم للكمال، ملزوم له.
وأَلطف من هذا الوجه أن الله سبحانه خلق عباده المؤمنين وخلق كل شيء لأجلهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سخَّرَ لَكُمْ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَأَسْبَغ َ عَلَيْكُمْ نِعمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:02].
وكرمهم وفضلهم على كثير ممن خلق فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَم وحملناهم فِى الْبِرِّ وَالْبَحْرِ وَرزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]، [وقال] لصالحيهم وصفوتهم: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآل إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين} [آل عمران: 33]. وقال [تعالى] لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} [طه: 41]، واتخذ منهم الخليلين، والخلة أعلى درجات المحبة.
وقد جاء فى بعض الآثار: يقول تعالى: "ابن آدم خلقتك لنفسى، وخلقت كل شيء لك فبحقى عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له".
وفى أثر آخر يقول تعالى: "ابن آدم، خلقتك لنفسى فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبنى تجدنى فإن وجدتنى وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء".
فالله سبحانه خلق عباده له، ولهذا اشترى منهم أنفسهم، وهذا عقد لم يعقده مع خلق غيرهم فيما أخبر به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ليسلموا إليه النفوس التى خلقها له.
وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة له مصطفاة عنده، مرضية لديه. وقدر السلعة يعرف بجلالة قدر مشتريها وبمقدار ثمنها، هذا إذا جهل قدرها فى نفسها، فإذا عرف قدر السلعة وعرف مشتريها، وعرف الثمن المبذول فيها علم شأْنها ومرتبتها فى الوجود. فالسلعة أنت، والله المشترى والثمن جنته والنظر إلى وجهه وسماع كلامه فى دار الأمن والسلام.
والله [سبحانه] لا يصطفى لنفسه إلا أعز الأشياء وأَشْرَفَهَا وأعظمها قيمة. وإذا كان قد اختار العبد لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له داراً فى جواره وقربه، وجعل ملائكته خدَمه يسعون فى مصالحه فى يقظته ومنامه وحياته وموته، ثم إنَّ العبد أبق عن سيده ومالكه، معرضاً عن رضاه، ثم لم يكفه ذلك حتى خامر عليه وصالح عدوه ووالاه من دونه وصار من جنده مؤثراً لمرضاته على مرضاة وليه ومالكه، فقد باع نفسه- التى اشتراها منه إلهه ومالكه وجعل ثمنها جنته والنظر إلى وجهه- من عدوه وأبغض خلقه إليه، واستبدل غضبه برضاه ولعنته برحمته ومحبته.
فأى مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه؟ قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْملائِكَةِ اسْجُدُوا لآدم فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُو، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدلاً} [الكهف: 50]. فتأمل ما تحت هذه المعاتبة وما فى طى هذا الخطاب من سوءِ هذا العبد وما تعرض له من المقت والخزى والهوان ومن استعطاف ربه واستعتابه ودعائه إياه إلى العود إلى وليه ومولاه الحق الذى هو أولى به، فإذا عاد إليه وتاب إليه فهو بمثابة من أَسر له العدو محبوباً له، واستولوا عليه وحالوا بينه وبينه، فهرب منهم ذلك المحبوب وجاءَ إلى محبه اختياراً وطوعاً حتى توسد عتبة بابه فخرج المحب من بيته فوجد محبوبه متوسداً عتبة بابه واضعاً خده وذقنه عليها، فكيف يكون فرحه ربه؟ ولله المثل الأعل
ويكفى فى هذا المثل الذى ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن فتح الله عين قلبه فأبصر ما فى طيه وما فى ضمنه، وعلم أنه ليس كلام مجاز ولا مبالغة ولا تخييل، بل كلام معصوم فى منطقة وعلمه وقصده وعمله، كل كلمة [منه] فى موضعها ومنزلتها ومقرها لا يتعدى بها عنه ولا يقصر بها.
والذى يزيد هذا المعنى تقريراً أن محبة الرب لعبده سبقت محبة العبد له سبحانه، فإن لولا محبة الله له لما جعل محبته فى قلبه، [فلما أحبه] ألهمه حبه وآثره به فلما أحبه العبد جازاه على تلك المحبة محبة أعظم منها فإنه من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً، ومن أتاه مشياً أتاه هرولة.
وهذا دليل على أن محبة الله لعبده الذى يحبه فوق محبة العبد له. [فإذا] تعرض هذا المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذى فر من محبه وآثر غيره عليه، فإذا عاوده وأقبل إليه وتخلى عن غيره، فكيف لا يفرح به محبه أعظم فرح وأكمله، والشاهد أقوى شاهد تؤيده الفطرة والعقل، فلو لم يخبر الصادق المصدوق بما أخبر به من هذا الأمر العظيم لكان فى الفطرة والعقل ما يشهد به، فإذا انضافت للشريعة المنزلة إلى [الفطرة المكملة إلى العقل الصحيح] المنور، فذلك الذى لا غاية له بعده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات وللمسلمين والمسلمات الاحياء والاموات
وفى المسند من حديث الأسود بن سريع أنه قال: يا رسول الله، إنى حمدت ربى بمحامد فقال: "إن ربك يحب الحمد"، فهو يحب نفسه ومن أجل ذلك يثنى على نفسه، ويحمد نفسه، ويقدس نفسه، ويحب من يحبه ويحمده ويثنى عليه. بل كلما كانت محبة عبده له أقوى كانت محبة الله له أكمل وأتم، فلا أحد أحب إليه ممن يحبه ويحمده ويثنى عليه.
ومن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه لأنه ينقص هذه المحبة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به ولهذا لا يغفر الله [سبحانه] أن يشرك به لأن الشرك يتضمن نقصان هذه المحبة والتسوية فيها بينه وبين غيره، ولا ريب أن هذا من أعظم ذنوب المحب عند محبوبه التى [ينقص] بها من عينه [وتنحط] بها مرتبته عنده إذا كان من المخلوقين، فكيف يحتمل رب العالمين أن يشرك بينه وبين غيره فى المحبة.
والمخلوق لا يحتمل ذلك ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبه أبداً وعساه أن يتجاوز لمحبه عن غيره من الهفوات والزلات فى حقه، ومتى علم بأنه يحب غيره كما يحبه لم يغفر له هذا الذنب ولم يقربه إليه.
هذا مقتضى الطبيعة والفطرة، أفلا يستحى العبد أن يسوى بين إلهه ومعبوده وبين غيره فى هذه العبودية والمحبة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لله} [البقرة: 165]، فأخبر سبحانه أن من أحب شيئاً [من] دون الله كما يحب الله فقد اتخذه نداً، وهذا معنى قول المشركين لمعبوديهم: {تَالله إِن كُنَّا لَفِى ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97- 98]، فهذه تسوية فى المحبة والتألية، لا فى الذات والأفعال والصفات والمقصود أنه سبحانه يحب نفسه أعظم محبة ويحب من يحبه وخلق خلقه لذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك، وأعد الثواب والعقاب لأجل ذلك، وهذا هو محض الحق الذى به قامت السموات والأرض، وكان الخلق والأمر، فإذا قام به العبد فقد قام بالأمر الذى خلق له فرضى عنه صانعه وبارئه وأحبه إذ كان يحب ويرضى، فإذا صدف عن ذلك وأعرض عنه وأبق عن مالكه وسيده أبغضه ومقته، لأنه خرج عما خلق له وصار إلى ضد الحال التى هو لها، فاستوجب منه غضبه بدلاً من رضاه وعقوبته بدلاً من رحمته، فكأَنه استدعى من رحمته أن يعامله من نفسه بخلاف ما يحب، فإنه سبحانه عفوّ يحب العفو، محسن يحب الإحسان، جواد يحب الجود سبقت رحمته غضبه. فإذا أبق منه العبد وخامر عليه ذاهباً إلى عدوه فقد استدعى منه أن يجعل غضبه غالباً على رحمته وعقوبته على إحسانه، وهو سبحانه يحب من نفسه الإحسان والبر والإنعام، فقد استدعى من ربه فعل ما غيره أحب إليه منه. وهو بمنزلة عبد السوء الذى يحمل أستاذه من المخلوقين المحسن إليه، الذى طبيعته الإحسان والكرم، على خلاف مقتضى طبيعته وسجيته، فأُستاذه يحب لطبعه الإحسان، وهو بإِساءَته ولؤمه يكلفه ضد طباعه ويحمله على خلاف سجيته، فإذا راجع هذا العبد ما يحب سيده [إليه وأقبل عليه وأعرض عن عدوه فقد صار إلى الحال التى تقتضى محبة سيده له] وإنعامه عليه وإحسانه إليه، فيفرح به ولا بد أعظم فرح، وهذا الفرح هو دليل [عليه] غاية الكمال والغنى والمجد.
فليتدبر اللبيب وجود هذا الفرح ولوازمه وملزوماته يجد فى طيه من المعارف الإلهية ما لا تتسع له إلا القلوب المهيأَة لهذا الشأْن المخلوقة له، وهذا فرح محسن بر لطيف جواد غنى حميد، لا فرح محتاج إلى حصول [ما يفرح به] متكمل به مستقيل له من غيره، فهو عين الكمال، لازم للكمال، ملزوم له.
وأَلطف من هذا الوجه أن الله سبحانه خلق عباده المؤمنين وخلق كل شيء لأجلهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سخَّرَ لَكُمْ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَأَسْبَغ َ عَلَيْكُمْ نِعمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:02].
وكرمهم وفضلهم على كثير ممن خلق فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَم وحملناهم فِى الْبِرِّ وَالْبَحْرِ وَرزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]، [وقال] لصالحيهم وصفوتهم: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآل إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين} [آل عمران: 33]. وقال [تعالى] لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} [طه: 41]، واتخذ منهم الخليلين، والخلة أعلى درجات المحبة.
وقد جاء فى بعض الآثار: يقول تعالى: "ابن آدم خلقتك لنفسى، وخلقت كل شيء لك فبحقى عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له".
وفى أثر آخر يقول تعالى: "ابن آدم، خلقتك لنفسى فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبنى تجدنى فإن وجدتنى وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء".
فالله سبحانه خلق عباده له، ولهذا اشترى منهم أنفسهم، وهذا عقد لم يعقده مع خلق غيرهم فيما أخبر به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ليسلموا إليه النفوس التى خلقها له.
وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة له مصطفاة عنده، مرضية لديه. وقدر السلعة يعرف بجلالة قدر مشتريها وبمقدار ثمنها، هذا إذا جهل قدرها فى نفسها، فإذا عرف قدر السلعة وعرف مشتريها، وعرف الثمن المبذول فيها علم شأْنها ومرتبتها فى الوجود. فالسلعة أنت، والله المشترى والثمن جنته والنظر إلى وجهه وسماع كلامه فى دار الأمن والسلام.
والله [سبحانه] لا يصطفى لنفسه إلا أعز الأشياء وأَشْرَفَهَا وأعظمها قيمة. وإذا كان قد اختار العبد لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له داراً فى جواره وقربه، وجعل ملائكته خدَمه يسعون فى مصالحه فى يقظته ومنامه وحياته وموته، ثم إنَّ العبد أبق عن سيده ومالكه، معرضاً عن رضاه، ثم لم يكفه ذلك حتى خامر عليه وصالح عدوه ووالاه من دونه وصار من جنده مؤثراً لمرضاته على مرضاة وليه ومالكه، فقد باع نفسه- التى اشتراها منه إلهه ومالكه وجعل ثمنها جنته والنظر إلى وجهه- من عدوه وأبغض خلقه إليه، واستبدل غضبه برضاه ولعنته برحمته ومحبته.
فأى مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه؟ قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْملائِكَةِ اسْجُدُوا لآدم فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُو، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدلاً} [الكهف: 50]. فتأمل ما تحت هذه المعاتبة وما فى طى هذا الخطاب من سوءِ هذا العبد وما تعرض له من المقت والخزى والهوان ومن استعطاف ربه واستعتابه ودعائه إياه إلى العود إلى وليه ومولاه الحق الذى هو أولى به، فإذا عاد إليه وتاب إليه فهو بمثابة من أَسر له العدو محبوباً له، واستولوا عليه وحالوا بينه وبينه، فهرب منهم ذلك المحبوب وجاءَ إلى محبه اختياراً وطوعاً حتى توسد عتبة بابه فخرج المحب من بيته فوجد محبوبه متوسداً عتبة بابه واضعاً خده وذقنه عليها، فكيف يكون فرحه ربه؟ ولله المثل الأعل
ويكفى فى هذا المثل الذى ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن فتح الله عين قلبه فأبصر ما فى طيه وما فى ضمنه، وعلم أنه ليس كلام مجاز ولا مبالغة ولا تخييل، بل كلام معصوم فى منطقة وعلمه وقصده وعمله، كل كلمة [منه] فى موضعها ومنزلتها ومقرها لا يتعدى بها عنه ولا يقصر بها.
والذى يزيد هذا المعنى تقريراً أن محبة الرب لعبده سبقت محبة العبد له سبحانه، فإن لولا محبة الله له لما جعل محبته فى قلبه، [فلما أحبه] ألهمه حبه وآثره به فلما أحبه العبد جازاه على تلك المحبة محبة أعظم منها فإنه من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً، ومن أتاه مشياً أتاه هرولة.
وهذا دليل على أن محبة الله لعبده الذى يحبه فوق محبة العبد له. [فإذا] تعرض هذا المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذى فر من محبه وآثر غيره عليه، فإذا عاوده وأقبل إليه وتخلى عن غيره، فكيف لا يفرح به محبه أعظم فرح وأكمله، والشاهد أقوى شاهد تؤيده الفطرة والعقل، فلو لم يخبر الصادق المصدوق بما أخبر به من هذا الأمر العظيم لكان فى الفطرة والعقل ما يشهد به، فإذا انضافت للشريعة المنزلة إلى [الفطرة المكملة إلى العقل الصحيح] المنور، فذلك الذى لا غاية له بعده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات وللمسلمين والمسلمات الاحياء والاموات