فريق منتدى الدي في دي العربي
02-26-2016, 04:42 PM
التوطئة في العربية
د. أحمد عيد عبدالفتاح حسن
إنَّ التوطئةَ تمهيدٌ، وتهيئةٌ، وتقديمٌ، ولها مظاهرُ في نَحْونا العربيِّ، منها:
1- توطئة النظريَّة النَّحْوية للتطبيق:
اقتضت المنهجيَّة العلميَّة لصاحبها على مرِّ العصور أن يطرَح النظرية التي جاء بها، والفكرةَ التي اهتدى إليها، ثم يتبعُها التطبيقَ الكاشف عن دقائقها، المُوضِّح لجزئياتها.
ولقد نَشَدَ ابنُ مالكٍ في ألفيَّته من تقديم الكلام عن المعرَب والمبنيِّ على بيان الإعراب والبناء - التوطئةَ لإجرائهما على الكلمة، فتتحقق النظرية أولًا، ثم التطبيق لاحقًا؛ "لأن مَن عرَفَ أولًا قابِلَ الإعرابِ وغيرَ قابِلِه، تأتَّى له إجراءُ الإعرابِ على قابِلِه، ونفيُه مِن غيرِ قابِلِه؛ لأنَّ إجراءَ الإعراب على الكلمة وعدمَ إجرائه عليها فرعَا قَبولِها وعدم قَبولها؛ فلذا بيَّن أولًا القابِلَ وغيرَ القابلِ، ثم بيَّنَ الإعراب.
وقيل: إنما قدَّم المعرب على الإعراب؛ نظرًا إلى تقدُّم المحلِّ على الحال"[1].
2- توطئة بابٍ نحويٍّ لباب آخر:
فبابُ الأسماء الستة أُعرب بالأحرف: الواو، والألف، والياء؛ توطئةً لإعراب المثنَّى والمجموع عَلَى حدِّه بها؛ وذلك أنَّهم أرادوا أن يعربوا المثنى والمجموع بالأحرف؛ للفرق بينهما وبين المفرد، فأعرَبوا بعضَ المفردات بها؛ ليَأْنَسَ بها الطبعُ، ولا يستوحِشَ من الإعراب بها في التثنية والجمع السالم، فإذا انتقل الإعراب بها إلى المثنى والمجموع، لم يَنفِرْ منه؛ لسابقِ الأُلفةِ[2].
قال الصَّيْمرِيُّ: "وإنَّما جعلوا تغييرَها بالحروف دونَ الحركات؛ ليكون ذلك توطئةً لما يأتي من التثنية والجمع، وكانت هذه الأسماءُ أَولى بالتوطئة من غيرها؛ لأنَّ الإضافةَ تلزمها في اللفظ والمعنى، والإضافةُ فرع على المفرد، كما أنَّ التثنيةَ والجمع فرعٌ عليه؛ فلاشتراكهما في الفرعيَّة جعل أحدهما توطئةً للآخر"[3].
وقال ابن الوراق: "وصارت هذه الأسماء أولى بالتوطئة من غيرها؛ لأنها أسماءٌ لا تنفكُّ من إضافةِ المعنى، والإضافةُ فرعٌ على الأصل، كما أن التثنيةَ والجمعَ فرعٌ على الواحد، فلما شابهت هذه الأسماء التثنية والجمع في هذا الحكم، كانت أولى من غيرها التي لا مشاركةَ بينها وبين التثنية والجمع في هذا الحكم"[4].
والدَّارسون لهذا العلم الجليل يعلمون تعدُّدَ المذاهبِ في إعراب الأسماء الستَّة، وأن المذهبَ القاضي بكونِ الواو والألف والياء حروفًا نائبة عن حركات الإعراب الأصلية - معتمدُ ابنِ مالكٍ؛ لسهولته وبُعْدِه عن التكلُّف، ومن فوائده تلك التَّوطِئةُ المذكورة، وتأمل قولَه: "وهذا أسهلُ المذاهب وأبعدُها عن التكلُّف؛ لأن الإعراب إنما جيء به لبيانِ مقتضى العامل، ولا فائدةَ في جعل مقدرٍ متنازَعٍ فيه دليلًا، وإلغاء ظاهر وافٍ بالدلالة المطلوبة.
ولا يمنعُ من ذلك أصالةُ الحروف؛ لأن الحرفَ المختلف البيان صالحٌ للدلالة، أصلًا كان أو زائدًا، مع أن في جعلِ الحروف المشار إليها نفسَ الإعرابِ مزيدَ فائدةٍ؛ وهو كونُ ذلك توطئةً لإعراب المثنى والمجموع على حدِّه؛ لأنهما فرعان على الواحد، وإعرابُهما بالحروف لا مندوحةَ عنه، فإذا سبَق مثلُه في الآحاد، أُمِن مِن استبعاد، ولم يحد عن المعتاد"[5].
3- توطئةُ حركةٍ لحرفٍ:
إن المُتكلِّم والدارس العربيَّيْنِ لَيلحظانِ تغيُّرَ الحركات على الباء والخاءِ والميم والفاء والنون والذَّال قبل أحرفِ العلَّة الثلاثة في الأسماء الستة، وذلك في حال الرفع والنصب والجرِّ، فتقولُ: حضر أبُوك، وجاء أخُوك، وسافر حمُوكِ، وفُوك جميلٌ، وظهر هَنُوك، وجاء ذُو مال.
وتقول: أكرمتُ أبَاكَ، وقابلت أخَاكَ، ورأيتُ حمَاكِ، ونظِّفْ فَاك، وسترت هَنَاك، واحترَمْتُ ذَا علمٍ.
وتقول: مررتُ بأبِيك، وسلمت على أخِيك، وذهبتُ إلى حَمِيكِ، ولا تضعْ حرامًا في فِيك، وابتعدت عن هَنِيكَ، واستمعت إلى ذي علمٍ.
فهل يدلُّ ذلك على أن هذه الحركات حركاتُ إعراب؟
لا يدلُّ ذلك على أنها حركات إعراب؛ لأنها إنما تغيَّرت توطئةً لأحرف العلَّة التي بعدها؛ لأنها من جنسها.
وهذا الأمرُ بادٍ أيضًا في جمع المذكر السالم، نحو: هؤلاء مسلمُون، وقابلْتُ مسلمِين، فإن ضمةَ الميم التي نلحظُها في حال الرفع تتغيَّر إلى الكسرة في حالَيِ الجرِّ والنصب، وليس ذلك بإعرابٍ؛ وإنما جُعلَتِ الضمة توطئةً للواو التالية لها، وجُعِلتِ الكسرة توطئةً للياء الجائية إثرَها[6].
4- توطئةُ الجملة لأَنْ يعملَ ما قبلها في معناها:
كسرُ همزة (إنَّ) في صدرِ الجملة الاسمية، نحو: (إن الحقَّ واضح) مشعرٌ بتجريد المعنى الذي أفادته - وهو التأكيد - عن توطئة الجملة لأن يعملَ الفعلُ الذي قبلها في معناها.
وليس بين (إن) المكسورةِ والمفتوحة فرقٌ في المعنى المفاد، إلا أن العربَ إذا أرادت توطئةَ الجملة لأن يعمل الفعلُ الذي قبلها في معناها، وأن تصيِّرها في معنى الحديث، فتحَتِ الهمزةَ، فقالت: (علمت أن الحقَّ واضح).
وإذا أرادت قطعَ الجملة مما قبلها، وأن تعتمدَ في كلامها على التوكيد اعتمادَها على الترجِّي والتمني، كسَرَتِ الهمزةَ؛ للإيذان بالابتداءِ والانقطاع عما قبل، وأنها قد جعَلَتِ التوكيدَ صدرَ الكلام؛ لأنه معنًى كسائر المعاني، وإن لم يكن في الفائدة مثل غيرِه[7].
5- توطئة علمٍ لعلمٍ:
كان ينبغي عندَ دراسةِ علومِ اللغة العربية أن يُقدَّم علمُ التصريف على غيره من العلوم؛ إذ هو معرفةُ ذوات الكَلِم الثابتة في أنفسها من غير تركيب.
ومعرفةُ الشيء في نفسه قبل أن يتركَّب ينبغي أن تكون مقدَّمةً على معرفة أحواله التي تكون له بعدَ التركيب، قال العلَّامة ابنُ جنِّي: "فالتصريفُ إنما هو لمعرفةِ أنفسِ الكَلِم الثابتة، والنحوُ إنما هو لمعرفة أحوالِه المُتنقِّلة، ألا ترى أنك إذا قلت: قامَ بكرٌ، ورأيت بكرًا، ومررت ببكرٍ، فإنك إنما خالفَتَ بين حركات حروف الإعراب؛ لاختلاف العامل، ولم تَعْرِضْ لباقي الكلمة.
وإذا كان ذلك كذلك، فقد كان من الواجب على مَن أراد معرفةَ النحو أن يبدأ بمعرفةِ التصريف؛ لأن معرفةَ ذاتِ الشيء الثابتة ينبغي أن تكون أصلًا لمعرفة حاله المتنقلةِ، إلا أن هذا الضَّرْبَ من العلم لما كان عويصًا صعبًا، بُدِئ قبلَه بمعرفة النحو، ثم جيء به بعدُ؛ ليكون الارتياضُ في النحو موطِّئًا للدخول فيه، ومعينًا على معرفة أغراضه ومعانيه، وعلى تصرف الحال"[8].
وقال ابنُ عصفورٍ: "وقد كان ينبغي أن يُقدَّم علمُ التصريف على غيره من علوم العربيَّة؛ إذ هو معرفةُ ذواتِ الكَلِم في أنفسِها من غير تركيب؛ ومعرفةُ الشيء في نفسه قبل أن يتركَّب ينبغي أن تكون مُقدَّمةً على معرفة أحوالِه التي تكون له بعد التركيب، إلا أنه أُخِّر للُطْفِه ودقَّتِه، فجُعِل ما قُدِّم عليه من ذكر العواملِ توطئةً له؛ حتى لا يَصِلَ إليه الطالبُ إلا وهو قد تدرَّب وارتاض للقياس"[9].
6- الحالُ الموطِّئة:
الحالُ الجامدةُ الموصوفة تُسمَّى حالًا موطِّئةً - بكسر الطاء - عندَ الجمهور؛ لأنها ذُكِرت توطئةً لذِكرِ ما يجيء بعدها، فهي غيرُ مقصودةٍ لذاتها؛ وإنما المقصودُ صفتُها التاليةُ لها، وما هي إلا وسيلةٌ ممهِّدة لذكرها؛ ولذلك قال ابن هشام في قوله عز وجل: ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 17]: "فإنما ذكر (بشرًا) توطئةً لذِكرِ (سويًّا)...".
وقال ابن بابشاذ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا ﴾ [الأحقاف: 12]: إن (لسانًا) حالٌ؛ لأنه لمَّا نعت اللسانَ بعربي - والصفةُ والموصوف كالشيء الواحد - صارتِ الحال شبيهةً بالمشتقِّ، وصارت (عربيًّا) هي الموطِّئة لكون اللسان حالًا، وليس حقيقةُ اللسان أن يكون حالًا؛ لكونه جامدًا، لولا ما ذكر من الصفة.
ومقتضى ما قاله: أن الموطِّئة هي صفة الحال، لا الحالُ الموصوفة[10].
7- توطئة كلمةٍ لذكر كلمةٍ أخرى:
يُذكَرُ المُبدلُ منه على سبيل التوطئة والتمهيد لذكر البدلِ؛ ولذا يقول النَّحْويُّون: (المُبدَلُ منه في حكم الطَّرح)، وذلك من جهة المعنى غالبًا دون اللَّفْظِ، بدليل جوازِ: ضربْتُ زيدًا يدَه، إذ لو لم يُعتدَّ بزيد أصلًا، لما كان للضمير ما يعود عليه.
والغرض من ذكر البدل: أن يُذكَر الاسمُ المقصود بالحكم بعدَ التوطئة والتمهيد لذكره؛ لإفادةِ توكيد الحكمِ وتقريره، وبيانِه وإيضاحه، ورفع الاحتمال عنه؛ "لأن هذا الحكمَ يُنسَب أولًا للمتبوع؛ فيكون ذكرُ المتبوع تمهيدًا للتابع الذي سيجيء، وتوجيهًا للنفس لاستقباله بشوقٍ ولَهْفةٍ.
فإذا استقبلَتْه وعرَفَتْه، استقبلَتْ معه الحكمَ وعرفته أيضًا؛ فكأن الحكمَ قد ذُكِر مرتين؛ وفي هذا تقويةٌ للحكم وتوكيد، ولأجل تحقيق هذا الغرض لا يصحُّ أن يتَّحِد لفظُ البدل والمُبدَل منه إلا إذا أفاد الثاني زيادةَ بيانٍ وإيضاح"[11]؛ ولذلك قالوا: البدلُ في حكم تكرير العامل، فعاملُ البدل مُقدَّر دلَّ عليه العاملُ في المُبدلِ منه، فهو مع البدل جملة أخرى، وإن كانوا يُسمُّون الكلامَ المشتمل على المبدل منه والبدل: جملةً واحدة؛ أخذًا بظاهر اللفظ، ولإيضاحِ ذلكم أقول:
البدلُ أحدُ التوابع الخمسة، وهو التابعُ المقصودُ بالحكم بلا واسطةٍ، ويُذكَرُ المُبدلُ منه قبلَه على سبيل التَّوطِئة والتمهيد لذكره، كما في قول الله جل جلاله: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6، 7]، فـ ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ ﴾ بدلٌ، وقد جاء المبدل منه قبلَه، وهو﴿ الصِّرَاطَ ﴾ توطئةً وتمهيدًا لذكر البدلِ الذي يفيد توكيدَ الحكم وتقريرَه، وقوله عز وجل: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97]، فـ ﴿ مَنِ اسْتَطَاعَ ﴾ بدلٌ، وقد جاء المُبدَل منه قبلَه، وهو ﴿ النَّاسِ ﴾ موطِّئًا وممهِّدًا لذكر البدل الذي يجيء لتوكيد الحكم وتقريره[12].
فـ"الذي عليه الاعتماد من الاسمين - أعني: البدلَ والمُبدلَ منه - هو الاسمُ الثاني، وذُكِر الأولُ توطئةً لبيان الثاني.
يدلُّ على ذلك ظهورُ هذا المعنى في بدل البعضِ، وبدل الاشتمالِ، ألا ترى أنك إذا قلتَ: ضربتُ زيدًا رأسَه، فالضربُ إنما وقع برأسِه دونَ سائرِه، وكذلك قولُك: سُرِقَ زيدٌ مالُه، إنما المسروقُ المالُ دونَ زيدٍ"[13].
فمن المقرَّر عند النحويِّين أن "البدل هو الذي قُصِد بما نُسِب إلى المبدل منه، وأن المبدلَ منه ذُكِر توطئةً له.
ومن أجل ذلك تَكْثُر إعادةُ العامل مع البدلِ دونَ سائر التوابع، ومنه قولُه سبحانه وتعالى: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ﴾ [الأعراف: 75]، وكذا قوله جل جلاله: ﴿ لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ ﴾ [الزخرف: 33]، فـ﴿ لِبُيُوتِهِمْ ﴾ بدلُ اشتمالٍ من﴿ لِمَنْ يَكْفُرُ ﴾، و﴿ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ﴾ بدلُ بعضٍ من ﴿ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ﴾"[14].
قال ابنُ الحاجبِ في حدِّ البدل: "تابعٌ مقصودٌ بما نُسِب إلى المتبوعِ دونَه.
فقولُنا: "تابعٌ" يشملُ التوابعَ كلَّها، وقولُنا: "مقصودٌ" دخل فيه المعطوفُ، فأخرجناه بقولِنا: دونَه؛ يعني: دونَ المتبوع، فإن الضميرَ في (دونه) للمتبوع، فإنَّا إذا قلنا: أعجبني زيدٌ حسنُه، فالإعجابُ منسوبٌ إلى الحُسْنِ، وإنما ذُكِر زيد للتوطئةِ والتمهيد"[15].
8- توطئةُ حرفٍ لحكم نَحْويٍّ:
إذا اتَّصلت (ما) الزائدة بـ (إنَّ أو إحدى أخواتها)، أو اتصلت بـ(رُبَّ)، ترتَّب على ذلك أمران:
الأمر الأول: كَفُّ (إن) وأخواتها عن العملِ في الجملة الاسميَّة، وكَفُّ (رب) عن جرِّ النكرةِ؛ ولذلك تُسمَّى: (ما) الكافَّة.
والأمر الثاني: إزالةُ اختصاصها بالأسماء، وتهيئتُها للدخول على الجملة الفعليَّة؛ ولذلك تُسمَّى: (ما) المُهيِّئة والموطِّئة[16].
ومن الأمثلةِ المُوضِّحة لذلك: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم:((إنما الأعمالُ بالنيَّة))[17]، وقولُك: إنما يُعاقَبُ المجرمُ، ومنه قول الله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [الكهف: 110]، وقوله جل جلاله:﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ﴾ [الأنفال: 6].
فنلحَظُ اتِّصالَ (ما) الزائدة بـ(إنَّ، وأنَّ، وكأنَّ)، وقد ترتَّب على ذلك:
• كفُّها عن العمل؛ فالجملةُ الاسميَّة المذكورةُ بعدَها تُعرَبُ مبتدأ وخبرًا.
• وزوالُ اختصاصها بالأسماء.
• وتهيئتُها وتوطئتُها للدخول على الجملة الفعلية، كما رأينا في بعض الأمثلة.
ومن أمثلتِها مع (ربَّ) قوله سبحانه وتعالى: ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الحجر: 2]، فقد وَلِيَ (رُبَّ) المخفَّفةَ الجملةُ الفعلية، و(ما) هي التي هيَّئتْها لذلك، قال المُراديُّ: " فـ(ما) في ذلك مهيِّئةٌ؛ لأنها هيَّأتْ هذه الألفاظَ لدخولها على الفعل"[18].
9- اللام المُوطِّئةُ:
هي اللامُ الداخلةُ على أداةِ الشرط، في نحو قولك: والله لَئنْ أكرمتني لأكرمنَّك، فـ "أدواتُ الشرط المُقدَّمُ عليها قسَمٌ ملفوظٌ به أو محذوفٌ، تُقرَنُ بها في الغالب لامٌ مفتوحةٌ؛ يُؤكَّد بها طلبُ القسم لجوابِه.
وأكثرُ ما يكون ذلك مع (إنَّ) والقسَمُ محذوفٌ، كما في قول الله عز وجل: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 145]..."[19].
وسُمِّيَتْ هذه اللامُ موطِّئةً؛ لأنها وطَّأَتْ لجوابِ القسم، وتُسمَّى أيضًا: المُؤذِنة بما أراده المُتكلِّم من معنى القسَمِ، وقول النَّحْويِّين: "إنها مُوطِّئةٌ للقَسَمِ" فيه تَجوُّزٌ، وإنما هي مُوطِّئةٌ لجوابِ القسَمِ[20].
و"يُسمِّيها بعضُهم: لامَ الشرطِ؛ لدخولها على حرفِ الشرط، وبعضُهم يُسمِّيها: المُوطِّئة؛ لأنها يتعقَّبُها جوابُ القسم، كأنها تَوطِئةٌ لذكر الجواب، وليست جوابًا للقسم، وإن كان ذلك أصلَها؛ لأن القسَم لا يُجابُ بالشرط، كما لا يُجابُ بالقسم؛ لأن الشرطَ يجري مَجرَى القسمِ؛ لما بينهما من المناسبة من جهة احتياجِ كلِّ واحدٍ منهما إلى جوابٍ، والقسمُ وجوابه جملتان تلازمَتَا فكانتا كالجملةِ الواحدة، كما أن الشرطَ وجوابَه كالجملة الواحدة ... وذلك قولُك: واللهِ لَئِنْ أكرمتني لأكرمَنَّك، فاللام الأولى مؤكِّدة وطَّأَت للجواب، والجواب (لأكرمَنَّك)، وهو جوابُ القسم، والشرط مُلغًى لا عملَ له؛ لأنك صدَّرْتَ بالقسَم، وتركت الشرطَ حَشْوًا.
وإذا اجتمع الجزاءُ والقسم؛ فأيُّهما سبَق الآخرَ وتصدَّر، كان الجوابُ له؛ مثالُ تَصدُّر الشرط قولُك: إن تَقُمْ والله أَقُمْ، جزمت الجواب بحرف الجزاء؛ لتصدُّرِه، وأَلْغيتَ القَسَمَ؛ لأنه حَشْوٌ، ومثال تصدُّر القسَم قولُك: واللهِ لَئِن أتيتني لآتِيَنَّك، فاللامُ الأولى مُوطِّئةٌ، والثانية جوابُ القسم، واعتمادُ القسَمِ عليه لا عملَ للشرط فيه، يدل على ذلك قوله جل جلاله: ﴿ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ ﴾ [الحشر: 12]، الجوابُ للقسمِ المحذوفِ، والشرطُ مُلغًى، بدليلِ ثبوتِ النون في الفعل المنفي؛ إذ لو كان جوابًا للشرط لكان مجزومًا، فكانت النونُ محذوفةً"[21].
10 - النعتُ المُوطِّئُ، أو نعتُ التَّوطِئةِ والتَّمهيدِ:
هو النعتُ الجامدُ، غيرُ المقصودِ لذاته، المنعوتُ بنعتٍ مُشتقٍّ بعدَه، ويُذكَرُ على سبيل التَّوطئةِ والتمهيد لهذا المُشتقِّ؛ لأنه هو المقصودُ في الحقيقةِ ومحلُّ الفائدة، ولا يُسمَّى الجامدُ السابقُ نعتًا إلا لكونه موصوفًا بهذا المُشتقِّ، نحو قولك: (استعنْتُ بأخٍ أخٍ مخلصٍ، واقتديت برجلٍ رجلٍ كريمٍ، وقابلت امرأةً امرأةً مجتهدةً)، فكل من (أخ، ورجل، وامرأة) الثانية نعتٌ جامد غيرُ مقصود لذاته، والمقصودُ هو نعتُه المشتقُّ الذي يليه[22].
ومن أمثلة النعتِ المُوطِّئِ الواردة قولُهم: (لا ماءَ ماءً باردًا عندنا)، فـ(ماء) الثاني نعتٌ جامدٌ لـ(ماء) الأول، ومُوطِّئ للنعت المشتقِّ الذي بعدَه؛ وهو (باردًا)؛ فإنه نعتٌ مشتقٌّ لـ(ماء) الثاني، وهو المقصودُ والمرادُ، وقد قرَّر الصَّبَّان أنه: "يُوصَف بالاسمِ الجامد إذا وُصِف بمشتقٍّ، نحو: مررتُ برجلٍ رجلٍ صالح، ويُسمَّى: نعتًا مُوطِّئًا، ولا بدَّ من تنوين (باردًا)؛ لأن العرب لا تُركِّبُ أربعة أشياء، ولا يصحُّ أن يكون (ماء) الثاني توكيدًا لفظيًّا ولا بدلًا؛ لأنه مُقيَّدٌ بالوصف والأوَّلُ مُطلَقٌ، فليس مرادفًا حتى يكونَ توكيدًا، ولا مساويًا حتى يكون بدلًا"[23].
11 - توكيدُ الضمير المتَّصل بالمنفصل تمهيدًا لتوكيده بالنفسِ والعينِ:
من المقرَّر في ضوابط الفصحى أنه إذا أُريدَ توكيدُ الضميرِ المرفوع المتصل بالنفس أو بالعين، فلا بدَّ من توكيده قبلَها بضمير مرفوعٍ منفصل، فتقول: قم أنت نفسُك، وقمتَ أنت نفسُك[24].
وعلَّةُ وجوب ذلك منحصرةٌ في أمرين:
أحدهما: وقوعُ اللَّبْس في بعض المواضع، كما لو قلت: هند ذهبَتْ نفسُها، وسُعْدَى خرجت عينُها؛ إذ يُحتمَلُ أن تكون نفسُها ذهبت، وعينُها خرجت، فإذا قيل: ذهبَتْ هي نفسُها، لم يكن لَبْسٌ، ولم يُفرِّقوا بين هذَيْنِ المثالين وغيرهما؛ طردًا للباب على وتيرة واحدة.
والثاني: أن الضميرَ المرفوع المتصلَ بمنزلة الجزء، فكرهوا أن يُؤكِّدوه أولًا بمستقلٍّ من غير جنسه؛ فأكَّدوه أولًا بمستقلٍّ من جنسه وبمعناه؛ وهو الضميرُ المنفصل المرفوع؛ ليكون تمهيدًا وتوطئةً لتأكيده بالمستقلِّ من غير جنسِه؛ وهو النفسُ والعين اللَّذان هما من الأسماء الظاهرة.
أما إذا كان المُؤكَّد اسمًا ظاهرًا، أو ضميرَ رفعٍ منفصلًا، أو ضميرَ نصبٍ مُطلقًا، فلا يُشترَطُ هذا الشرط؛ لفقد العلَّة المقتضيةِ له؛ إذ الظاهرُ مُستقلٌّ، والمنفصلُ ليس كالمتصل؛ لاستقلالِه بنفسه، والمنصوبُ ليس كالمرفوع في شدَّة الاتصال[25].
﴿ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10]
[1] حاشية الصبان على شرح الأُشموني: 1/ 47.
[2] ينظر: الخصائص 1/ 310، وشرح المفصل 1/ 153، وشرح الأُشموني 1/ 74.
[3] التبصرة والتذكرة: 1/ 84.
[4] علل النحو: 150.
[5] شرح التسهيل: 1/ 43.
[6]ينظر: الإنصاف في مسائل الخلاف: 1/ 28.
[7]نتائج الفكر في النحو ص: 267.
[8] المنصف: 1/ 4، 5.
[9] الممتع في التصريف: 1/ 33.
[10] ينظر: التصريح: 1/ 576.
[11] النحو الوافي: 3/ 665.
[12] ينظر: التصريح (2/ 190).
[13] شرح المفصل: 2/ 262.
[14] شرح الكافية الشافية: 3/ 1286.
[15] أمالي ابن الحاجب: 2/ 552.
[16] ينظر: شرح الجمل؛ لابن الفخار (1/ 108)، وشرح شذور الذهب للجوجري (2/ 507)، والتصريح (1/ 316).
[17] في صحيح البخاري، باب النية في الأَيمان، حديث رقم (6689).
[18] الجنى الداني في حروف المعاني، ص: 335.
[19] شرح الكافية الشافية: 2/ 895.
[20] ينظر: الجنى الداني، ص: 136، 137.
[21] شرح المفصل؛ لابن يعيش 5/ 141، 142.
[22] ينظر: النحو الوافي: 3/ 456، 460، وضياء السالك إلى أوضح المسالك: 3/ 151.
[23] حاشية الصبان: 2/ 12.
[24] ينظر: توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك: 2/ 977.
[25] ينظر: حاشية الصبان: 3/ 79.
د. أحمد عيد عبدالفتاح حسن
إنَّ التوطئةَ تمهيدٌ، وتهيئةٌ، وتقديمٌ، ولها مظاهرُ في نَحْونا العربيِّ، منها:
1- توطئة النظريَّة النَّحْوية للتطبيق:
اقتضت المنهجيَّة العلميَّة لصاحبها على مرِّ العصور أن يطرَح النظرية التي جاء بها، والفكرةَ التي اهتدى إليها، ثم يتبعُها التطبيقَ الكاشف عن دقائقها، المُوضِّح لجزئياتها.
ولقد نَشَدَ ابنُ مالكٍ في ألفيَّته من تقديم الكلام عن المعرَب والمبنيِّ على بيان الإعراب والبناء - التوطئةَ لإجرائهما على الكلمة، فتتحقق النظرية أولًا، ثم التطبيق لاحقًا؛ "لأن مَن عرَفَ أولًا قابِلَ الإعرابِ وغيرَ قابِلِه، تأتَّى له إجراءُ الإعرابِ على قابِلِه، ونفيُه مِن غيرِ قابِلِه؛ لأنَّ إجراءَ الإعراب على الكلمة وعدمَ إجرائه عليها فرعَا قَبولِها وعدم قَبولها؛ فلذا بيَّن أولًا القابِلَ وغيرَ القابلِ، ثم بيَّنَ الإعراب.
وقيل: إنما قدَّم المعرب على الإعراب؛ نظرًا إلى تقدُّم المحلِّ على الحال"[1].
2- توطئة بابٍ نحويٍّ لباب آخر:
فبابُ الأسماء الستة أُعرب بالأحرف: الواو، والألف، والياء؛ توطئةً لإعراب المثنَّى والمجموع عَلَى حدِّه بها؛ وذلك أنَّهم أرادوا أن يعربوا المثنى والمجموع بالأحرف؛ للفرق بينهما وبين المفرد، فأعرَبوا بعضَ المفردات بها؛ ليَأْنَسَ بها الطبعُ، ولا يستوحِشَ من الإعراب بها في التثنية والجمع السالم، فإذا انتقل الإعراب بها إلى المثنى والمجموع، لم يَنفِرْ منه؛ لسابقِ الأُلفةِ[2].
قال الصَّيْمرِيُّ: "وإنَّما جعلوا تغييرَها بالحروف دونَ الحركات؛ ليكون ذلك توطئةً لما يأتي من التثنية والجمع، وكانت هذه الأسماءُ أَولى بالتوطئة من غيرها؛ لأنَّ الإضافةَ تلزمها في اللفظ والمعنى، والإضافةُ فرع على المفرد، كما أنَّ التثنيةَ والجمع فرعٌ عليه؛ فلاشتراكهما في الفرعيَّة جعل أحدهما توطئةً للآخر"[3].
وقال ابن الوراق: "وصارت هذه الأسماء أولى بالتوطئة من غيرها؛ لأنها أسماءٌ لا تنفكُّ من إضافةِ المعنى، والإضافةُ فرعٌ على الأصل، كما أن التثنيةَ والجمعَ فرعٌ على الواحد، فلما شابهت هذه الأسماء التثنية والجمع في هذا الحكم، كانت أولى من غيرها التي لا مشاركةَ بينها وبين التثنية والجمع في هذا الحكم"[4].
والدَّارسون لهذا العلم الجليل يعلمون تعدُّدَ المذاهبِ في إعراب الأسماء الستَّة، وأن المذهبَ القاضي بكونِ الواو والألف والياء حروفًا نائبة عن حركات الإعراب الأصلية - معتمدُ ابنِ مالكٍ؛ لسهولته وبُعْدِه عن التكلُّف، ومن فوائده تلك التَّوطِئةُ المذكورة، وتأمل قولَه: "وهذا أسهلُ المذاهب وأبعدُها عن التكلُّف؛ لأن الإعراب إنما جيء به لبيانِ مقتضى العامل، ولا فائدةَ في جعل مقدرٍ متنازَعٍ فيه دليلًا، وإلغاء ظاهر وافٍ بالدلالة المطلوبة.
ولا يمنعُ من ذلك أصالةُ الحروف؛ لأن الحرفَ المختلف البيان صالحٌ للدلالة، أصلًا كان أو زائدًا، مع أن في جعلِ الحروف المشار إليها نفسَ الإعرابِ مزيدَ فائدةٍ؛ وهو كونُ ذلك توطئةً لإعراب المثنى والمجموع على حدِّه؛ لأنهما فرعان على الواحد، وإعرابُهما بالحروف لا مندوحةَ عنه، فإذا سبَق مثلُه في الآحاد، أُمِن مِن استبعاد، ولم يحد عن المعتاد"[5].
3- توطئةُ حركةٍ لحرفٍ:
إن المُتكلِّم والدارس العربيَّيْنِ لَيلحظانِ تغيُّرَ الحركات على الباء والخاءِ والميم والفاء والنون والذَّال قبل أحرفِ العلَّة الثلاثة في الأسماء الستة، وذلك في حال الرفع والنصب والجرِّ، فتقولُ: حضر أبُوك، وجاء أخُوك، وسافر حمُوكِ، وفُوك جميلٌ، وظهر هَنُوك، وجاء ذُو مال.
وتقول: أكرمتُ أبَاكَ، وقابلت أخَاكَ، ورأيتُ حمَاكِ، ونظِّفْ فَاك، وسترت هَنَاك، واحترَمْتُ ذَا علمٍ.
وتقول: مررتُ بأبِيك، وسلمت على أخِيك، وذهبتُ إلى حَمِيكِ، ولا تضعْ حرامًا في فِيك، وابتعدت عن هَنِيكَ، واستمعت إلى ذي علمٍ.
فهل يدلُّ ذلك على أن هذه الحركات حركاتُ إعراب؟
لا يدلُّ ذلك على أنها حركات إعراب؛ لأنها إنما تغيَّرت توطئةً لأحرف العلَّة التي بعدها؛ لأنها من جنسها.
وهذا الأمرُ بادٍ أيضًا في جمع المذكر السالم، نحو: هؤلاء مسلمُون، وقابلْتُ مسلمِين، فإن ضمةَ الميم التي نلحظُها في حال الرفع تتغيَّر إلى الكسرة في حالَيِ الجرِّ والنصب، وليس ذلك بإعرابٍ؛ وإنما جُعلَتِ الضمة توطئةً للواو التالية لها، وجُعِلتِ الكسرة توطئةً للياء الجائية إثرَها[6].
4- توطئةُ الجملة لأَنْ يعملَ ما قبلها في معناها:
كسرُ همزة (إنَّ) في صدرِ الجملة الاسمية، نحو: (إن الحقَّ واضح) مشعرٌ بتجريد المعنى الذي أفادته - وهو التأكيد - عن توطئة الجملة لأن يعملَ الفعلُ الذي قبلها في معناها.
وليس بين (إن) المكسورةِ والمفتوحة فرقٌ في المعنى المفاد، إلا أن العربَ إذا أرادت توطئةَ الجملة لأن يعمل الفعلُ الذي قبلها في معناها، وأن تصيِّرها في معنى الحديث، فتحَتِ الهمزةَ، فقالت: (علمت أن الحقَّ واضح).
وإذا أرادت قطعَ الجملة مما قبلها، وأن تعتمدَ في كلامها على التوكيد اعتمادَها على الترجِّي والتمني، كسَرَتِ الهمزةَ؛ للإيذان بالابتداءِ والانقطاع عما قبل، وأنها قد جعَلَتِ التوكيدَ صدرَ الكلام؛ لأنه معنًى كسائر المعاني، وإن لم يكن في الفائدة مثل غيرِه[7].
5- توطئة علمٍ لعلمٍ:
كان ينبغي عندَ دراسةِ علومِ اللغة العربية أن يُقدَّم علمُ التصريف على غيره من العلوم؛ إذ هو معرفةُ ذوات الكَلِم الثابتة في أنفسها من غير تركيب.
ومعرفةُ الشيء في نفسه قبل أن يتركَّب ينبغي أن تكون مقدَّمةً على معرفة أحواله التي تكون له بعدَ التركيب، قال العلَّامة ابنُ جنِّي: "فالتصريفُ إنما هو لمعرفةِ أنفسِ الكَلِم الثابتة، والنحوُ إنما هو لمعرفة أحوالِه المُتنقِّلة، ألا ترى أنك إذا قلت: قامَ بكرٌ، ورأيت بكرًا، ومررت ببكرٍ، فإنك إنما خالفَتَ بين حركات حروف الإعراب؛ لاختلاف العامل، ولم تَعْرِضْ لباقي الكلمة.
وإذا كان ذلك كذلك، فقد كان من الواجب على مَن أراد معرفةَ النحو أن يبدأ بمعرفةِ التصريف؛ لأن معرفةَ ذاتِ الشيء الثابتة ينبغي أن تكون أصلًا لمعرفة حاله المتنقلةِ، إلا أن هذا الضَّرْبَ من العلم لما كان عويصًا صعبًا، بُدِئ قبلَه بمعرفة النحو، ثم جيء به بعدُ؛ ليكون الارتياضُ في النحو موطِّئًا للدخول فيه، ومعينًا على معرفة أغراضه ومعانيه، وعلى تصرف الحال"[8].
وقال ابنُ عصفورٍ: "وقد كان ينبغي أن يُقدَّم علمُ التصريف على غيره من علوم العربيَّة؛ إذ هو معرفةُ ذواتِ الكَلِم في أنفسِها من غير تركيب؛ ومعرفةُ الشيء في نفسه قبل أن يتركَّب ينبغي أن تكون مُقدَّمةً على معرفة أحوالِه التي تكون له بعد التركيب، إلا أنه أُخِّر للُطْفِه ودقَّتِه، فجُعِل ما قُدِّم عليه من ذكر العواملِ توطئةً له؛ حتى لا يَصِلَ إليه الطالبُ إلا وهو قد تدرَّب وارتاض للقياس"[9].
6- الحالُ الموطِّئة:
الحالُ الجامدةُ الموصوفة تُسمَّى حالًا موطِّئةً - بكسر الطاء - عندَ الجمهور؛ لأنها ذُكِرت توطئةً لذِكرِ ما يجيء بعدها، فهي غيرُ مقصودةٍ لذاتها؛ وإنما المقصودُ صفتُها التاليةُ لها، وما هي إلا وسيلةٌ ممهِّدة لذكرها؛ ولذلك قال ابن هشام في قوله عز وجل: ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 17]: "فإنما ذكر (بشرًا) توطئةً لذِكرِ (سويًّا)...".
وقال ابن بابشاذ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا ﴾ [الأحقاف: 12]: إن (لسانًا) حالٌ؛ لأنه لمَّا نعت اللسانَ بعربي - والصفةُ والموصوف كالشيء الواحد - صارتِ الحال شبيهةً بالمشتقِّ، وصارت (عربيًّا) هي الموطِّئة لكون اللسان حالًا، وليس حقيقةُ اللسان أن يكون حالًا؛ لكونه جامدًا، لولا ما ذكر من الصفة.
ومقتضى ما قاله: أن الموطِّئة هي صفة الحال، لا الحالُ الموصوفة[10].
7- توطئة كلمةٍ لذكر كلمةٍ أخرى:
يُذكَرُ المُبدلُ منه على سبيل التوطئة والتمهيد لذكر البدلِ؛ ولذا يقول النَّحْويُّون: (المُبدَلُ منه في حكم الطَّرح)، وذلك من جهة المعنى غالبًا دون اللَّفْظِ، بدليل جوازِ: ضربْتُ زيدًا يدَه، إذ لو لم يُعتدَّ بزيد أصلًا، لما كان للضمير ما يعود عليه.
والغرض من ذكر البدل: أن يُذكَر الاسمُ المقصود بالحكم بعدَ التوطئة والتمهيد لذكره؛ لإفادةِ توكيد الحكمِ وتقريره، وبيانِه وإيضاحه، ورفع الاحتمال عنه؛ "لأن هذا الحكمَ يُنسَب أولًا للمتبوع؛ فيكون ذكرُ المتبوع تمهيدًا للتابع الذي سيجيء، وتوجيهًا للنفس لاستقباله بشوقٍ ولَهْفةٍ.
فإذا استقبلَتْه وعرَفَتْه، استقبلَتْ معه الحكمَ وعرفته أيضًا؛ فكأن الحكمَ قد ذُكِر مرتين؛ وفي هذا تقويةٌ للحكم وتوكيد، ولأجل تحقيق هذا الغرض لا يصحُّ أن يتَّحِد لفظُ البدل والمُبدَل منه إلا إذا أفاد الثاني زيادةَ بيانٍ وإيضاح"[11]؛ ولذلك قالوا: البدلُ في حكم تكرير العامل، فعاملُ البدل مُقدَّر دلَّ عليه العاملُ في المُبدلِ منه، فهو مع البدل جملة أخرى، وإن كانوا يُسمُّون الكلامَ المشتمل على المبدل منه والبدل: جملةً واحدة؛ أخذًا بظاهر اللفظ، ولإيضاحِ ذلكم أقول:
البدلُ أحدُ التوابع الخمسة، وهو التابعُ المقصودُ بالحكم بلا واسطةٍ، ويُذكَرُ المُبدلُ منه قبلَه على سبيل التَّوطِئة والتمهيد لذكره، كما في قول الله جل جلاله: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6، 7]، فـ ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ ﴾ بدلٌ، وقد جاء المبدل منه قبلَه، وهو﴿ الصِّرَاطَ ﴾ توطئةً وتمهيدًا لذكر البدلِ الذي يفيد توكيدَ الحكم وتقريرَه، وقوله عز وجل: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97]، فـ ﴿ مَنِ اسْتَطَاعَ ﴾ بدلٌ، وقد جاء المُبدَل منه قبلَه، وهو ﴿ النَّاسِ ﴾ موطِّئًا وممهِّدًا لذكر البدل الذي يجيء لتوكيد الحكم وتقريره[12].
فـ"الذي عليه الاعتماد من الاسمين - أعني: البدلَ والمُبدلَ منه - هو الاسمُ الثاني، وذُكِر الأولُ توطئةً لبيان الثاني.
يدلُّ على ذلك ظهورُ هذا المعنى في بدل البعضِ، وبدل الاشتمالِ، ألا ترى أنك إذا قلتَ: ضربتُ زيدًا رأسَه، فالضربُ إنما وقع برأسِه دونَ سائرِه، وكذلك قولُك: سُرِقَ زيدٌ مالُه، إنما المسروقُ المالُ دونَ زيدٍ"[13].
فمن المقرَّر عند النحويِّين أن "البدل هو الذي قُصِد بما نُسِب إلى المبدل منه، وأن المبدلَ منه ذُكِر توطئةً له.
ومن أجل ذلك تَكْثُر إعادةُ العامل مع البدلِ دونَ سائر التوابع، ومنه قولُه سبحانه وتعالى: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ﴾ [الأعراف: 75]، وكذا قوله جل جلاله: ﴿ لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ ﴾ [الزخرف: 33]، فـ﴿ لِبُيُوتِهِمْ ﴾ بدلُ اشتمالٍ من﴿ لِمَنْ يَكْفُرُ ﴾، و﴿ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ﴾ بدلُ بعضٍ من ﴿ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ﴾"[14].
قال ابنُ الحاجبِ في حدِّ البدل: "تابعٌ مقصودٌ بما نُسِب إلى المتبوعِ دونَه.
فقولُنا: "تابعٌ" يشملُ التوابعَ كلَّها، وقولُنا: "مقصودٌ" دخل فيه المعطوفُ، فأخرجناه بقولِنا: دونَه؛ يعني: دونَ المتبوع، فإن الضميرَ في (دونه) للمتبوع، فإنَّا إذا قلنا: أعجبني زيدٌ حسنُه، فالإعجابُ منسوبٌ إلى الحُسْنِ، وإنما ذُكِر زيد للتوطئةِ والتمهيد"[15].
8- توطئةُ حرفٍ لحكم نَحْويٍّ:
إذا اتَّصلت (ما) الزائدة بـ (إنَّ أو إحدى أخواتها)، أو اتصلت بـ(رُبَّ)، ترتَّب على ذلك أمران:
الأمر الأول: كَفُّ (إن) وأخواتها عن العملِ في الجملة الاسميَّة، وكَفُّ (رب) عن جرِّ النكرةِ؛ ولذلك تُسمَّى: (ما) الكافَّة.
والأمر الثاني: إزالةُ اختصاصها بالأسماء، وتهيئتُها للدخول على الجملة الفعليَّة؛ ولذلك تُسمَّى: (ما) المُهيِّئة والموطِّئة[16].
ومن الأمثلةِ المُوضِّحة لذلك: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم:((إنما الأعمالُ بالنيَّة))[17]، وقولُك: إنما يُعاقَبُ المجرمُ، ومنه قول الله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [الكهف: 110]، وقوله جل جلاله:﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ﴾ [الأنفال: 6].
فنلحَظُ اتِّصالَ (ما) الزائدة بـ(إنَّ، وأنَّ، وكأنَّ)، وقد ترتَّب على ذلك:
• كفُّها عن العمل؛ فالجملةُ الاسميَّة المذكورةُ بعدَها تُعرَبُ مبتدأ وخبرًا.
• وزوالُ اختصاصها بالأسماء.
• وتهيئتُها وتوطئتُها للدخول على الجملة الفعلية، كما رأينا في بعض الأمثلة.
ومن أمثلتِها مع (ربَّ) قوله سبحانه وتعالى: ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الحجر: 2]، فقد وَلِيَ (رُبَّ) المخفَّفةَ الجملةُ الفعلية، و(ما) هي التي هيَّئتْها لذلك، قال المُراديُّ: " فـ(ما) في ذلك مهيِّئةٌ؛ لأنها هيَّأتْ هذه الألفاظَ لدخولها على الفعل"[18].
9- اللام المُوطِّئةُ:
هي اللامُ الداخلةُ على أداةِ الشرط، في نحو قولك: والله لَئنْ أكرمتني لأكرمنَّك، فـ "أدواتُ الشرط المُقدَّمُ عليها قسَمٌ ملفوظٌ به أو محذوفٌ، تُقرَنُ بها في الغالب لامٌ مفتوحةٌ؛ يُؤكَّد بها طلبُ القسم لجوابِه.
وأكثرُ ما يكون ذلك مع (إنَّ) والقسَمُ محذوفٌ، كما في قول الله عز وجل: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 145]..."[19].
وسُمِّيَتْ هذه اللامُ موطِّئةً؛ لأنها وطَّأَتْ لجوابِ القسم، وتُسمَّى أيضًا: المُؤذِنة بما أراده المُتكلِّم من معنى القسَمِ، وقول النَّحْويِّين: "إنها مُوطِّئةٌ للقَسَمِ" فيه تَجوُّزٌ، وإنما هي مُوطِّئةٌ لجوابِ القسَمِ[20].
و"يُسمِّيها بعضُهم: لامَ الشرطِ؛ لدخولها على حرفِ الشرط، وبعضُهم يُسمِّيها: المُوطِّئة؛ لأنها يتعقَّبُها جوابُ القسم، كأنها تَوطِئةٌ لذكر الجواب، وليست جوابًا للقسم، وإن كان ذلك أصلَها؛ لأن القسَم لا يُجابُ بالشرط، كما لا يُجابُ بالقسم؛ لأن الشرطَ يجري مَجرَى القسمِ؛ لما بينهما من المناسبة من جهة احتياجِ كلِّ واحدٍ منهما إلى جوابٍ، والقسمُ وجوابه جملتان تلازمَتَا فكانتا كالجملةِ الواحدة، كما أن الشرطَ وجوابَه كالجملة الواحدة ... وذلك قولُك: واللهِ لَئِنْ أكرمتني لأكرمَنَّك، فاللام الأولى مؤكِّدة وطَّأَت للجواب، والجواب (لأكرمَنَّك)، وهو جوابُ القسم، والشرط مُلغًى لا عملَ له؛ لأنك صدَّرْتَ بالقسَم، وتركت الشرطَ حَشْوًا.
وإذا اجتمع الجزاءُ والقسم؛ فأيُّهما سبَق الآخرَ وتصدَّر، كان الجوابُ له؛ مثالُ تَصدُّر الشرط قولُك: إن تَقُمْ والله أَقُمْ، جزمت الجواب بحرف الجزاء؛ لتصدُّرِه، وأَلْغيتَ القَسَمَ؛ لأنه حَشْوٌ، ومثال تصدُّر القسَم قولُك: واللهِ لَئِن أتيتني لآتِيَنَّك، فاللامُ الأولى مُوطِّئةٌ، والثانية جوابُ القسم، واعتمادُ القسَمِ عليه لا عملَ للشرط فيه، يدل على ذلك قوله جل جلاله: ﴿ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ ﴾ [الحشر: 12]، الجوابُ للقسمِ المحذوفِ، والشرطُ مُلغًى، بدليلِ ثبوتِ النون في الفعل المنفي؛ إذ لو كان جوابًا للشرط لكان مجزومًا، فكانت النونُ محذوفةً"[21].
10 - النعتُ المُوطِّئُ، أو نعتُ التَّوطِئةِ والتَّمهيدِ:
هو النعتُ الجامدُ، غيرُ المقصودِ لذاته، المنعوتُ بنعتٍ مُشتقٍّ بعدَه، ويُذكَرُ على سبيل التَّوطئةِ والتمهيد لهذا المُشتقِّ؛ لأنه هو المقصودُ في الحقيقةِ ومحلُّ الفائدة، ولا يُسمَّى الجامدُ السابقُ نعتًا إلا لكونه موصوفًا بهذا المُشتقِّ، نحو قولك: (استعنْتُ بأخٍ أخٍ مخلصٍ، واقتديت برجلٍ رجلٍ كريمٍ، وقابلت امرأةً امرأةً مجتهدةً)، فكل من (أخ، ورجل، وامرأة) الثانية نعتٌ جامد غيرُ مقصود لذاته، والمقصودُ هو نعتُه المشتقُّ الذي يليه[22].
ومن أمثلة النعتِ المُوطِّئِ الواردة قولُهم: (لا ماءَ ماءً باردًا عندنا)، فـ(ماء) الثاني نعتٌ جامدٌ لـ(ماء) الأول، ومُوطِّئ للنعت المشتقِّ الذي بعدَه؛ وهو (باردًا)؛ فإنه نعتٌ مشتقٌّ لـ(ماء) الثاني، وهو المقصودُ والمرادُ، وقد قرَّر الصَّبَّان أنه: "يُوصَف بالاسمِ الجامد إذا وُصِف بمشتقٍّ، نحو: مررتُ برجلٍ رجلٍ صالح، ويُسمَّى: نعتًا مُوطِّئًا، ولا بدَّ من تنوين (باردًا)؛ لأن العرب لا تُركِّبُ أربعة أشياء، ولا يصحُّ أن يكون (ماء) الثاني توكيدًا لفظيًّا ولا بدلًا؛ لأنه مُقيَّدٌ بالوصف والأوَّلُ مُطلَقٌ، فليس مرادفًا حتى يكونَ توكيدًا، ولا مساويًا حتى يكون بدلًا"[23].
11 - توكيدُ الضمير المتَّصل بالمنفصل تمهيدًا لتوكيده بالنفسِ والعينِ:
من المقرَّر في ضوابط الفصحى أنه إذا أُريدَ توكيدُ الضميرِ المرفوع المتصل بالنفس أو بالعين، فلا بدَّ من توكيده قبلَها بضمير مرفوعٍ منفصل، فتقول: قم أنت نفسُك، وقمتَ أنت نفسُك[24].
وعلَّةُ وجوب ذلك منحصرةٌ في أمرين:
أحدهما: وقوعُ اللَّبْس في بعض المواضع، كما لو قلت: هند ذهبَتْ نفسُها، وسُعْدَى خرجت عينُها؛ إذ يُحتمَلُ أن تكون نفسُها ذهبت، وعينُها خرجت، فإذا قيل: ذهبَتْ هي نفسُها، لم يكن لَبْسٌ، ولم يُفرِّقوا بين هذَيْنِ المثالين وغيرهما؛ طردًا للباب على وتيرة واحدة.
والثاني: أن الضميرَ المرفوع المتصلَ بمنزلة الجزء، فكرهوا أن يُؤكِّدوه أولًا بمستقلٍّ من غير جنسه؛ فأكَّدوه أولًا بمستقلٍّ من جنسه وبمعناه؛ وهو الضميرُ المنفصل المرفوع؛ ليكون تمهيدًا وتوطئةً لتأكيده بالمستقلِّ من غير جنسِه؛ وهو النفسُ والعين اللَّذان هما من الأسماء الظاهرة.
أما إذا كان المُؤكَّد اسمًا ظاهرًا، أو ضميرَ رفعٍ منفصلًا، أو ضميرَ نصبٍ مُطلقًا، فلا يُشترَطُ هذا الشرط؛ لفقد العلَّة المقتضيةِ له؛ إذ الظاهرُ مُستقلٌّ، والمنفصلُ ليس كالمتصل؛ لاستقلالِه بنفسه، والمنصوبُ ليس كالمرفوع في شدَّة الاتصال[25].
﴿ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10]
[1] حاشية الصبان على شرح الأُشموني: 1/ 47.
[2] ينظر: الخصائص 1/ 310، وشرح المفصل 1/ 153، وشرح الأُشموني 1/ 74.
[3] التبصرة والتذكرة: 1/ 84.
[4] علل النحو: 150.
[5] شرح التسهيل: 1/ 43.
[6]ينظر: الإنصاف في مسائل الخلاف: 1/ 28.
[7]نتائج الفكر في النحو ص: 267.
[8] المنصف: 1/ 4، 5.
[9] الممتع في التصريف: 1/ 33.
[10] ينظر: التصريح: 1/ 576.
[11] النحو الوافي: 3/ 665.
[12] ينظر: التصريح (2/ 190).
[13] شرح المفصل: 2/ 262.
[14] شرح الكافية الشافية: 3/ 1286.
[15] أمالي ابن الحاجب: 2/ 552.
[16] ينظر: شرح الجمل؛ لابن الفخار (1/ 108)، وشرح شذور الذهب للجوجري (2/ 507)، والتصريح (1/ 316).
[17] في صحيح البخاري، باب النية في الأَيمان، حديث رقم (6689).
[18] الجنى الداني في حروف المعاني، ص: 335.
[19] شرح الكافية الشافية: 2/ 895.
[20] ينظر: الجنى الداني، ص: 136، 137.
[21] شرح المفصل؛ لابن يعيش 5/ 141، 142.
[22] ينظر: النحو الوافي: 3/ 456، 460، وضياء السالك إلى أوضح المسالك: 3/ 151.
[23] حاشية الصبان: 2/ 12.
[24] ينظر: توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك: 2/ 977.
[25] ينظر: حاشية الصبان: 3/ 79.