فريق منتدى الدي في دي العربي
06-20-2016, 09:24 AM
رمضان ميدان للمستغفرين بالأسحار (وبالأسحار هم يستغفرون)
أ. د. فهمي أحمد عبدالرحمن القزاز
الحمدُ لله، وأفضل الصَّلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعدُ:
وقت السحر وقت التجلي الإلهي هو في الثلث الأخير من الليل كما هو معلوم، وصرح بعض العلماء أنه في وقت السدس الأخير من الليل ليكون أكثر خصوصية، ونزول وتجلي رب العزة على عباده في هذا الوقت ورد بالنص وهو لمصلحة العباد؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يَنْزِلُ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ الْفَجْرُ "[1].
قال الكلاباذي: أَرَادَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ لِيَكُونَ فِيهِ دَعْوَةٌ وَاسْتِغْفَارٌ فَيُجَابَ، وَسُؤَالُ حَاجَةٍ فَتُقْضَى، فَوَقْتُ السَّحُورِ زِيَادَةٌ عَلَى الْأَوْقَاتِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا الَّتِي هِيَ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، إِذًا فَالسُّحُورُ زِيَادَةٌ فِي الْقُوَّةِ، وَزِيَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَزِيَادَةٌ فِي الرُّخَصِ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ إِتْيَانَهَا، وَزِيَادَةٌ فِي الْحَيَاةِ، وَزِيَادَةٌ فِي الرِّفْقِ فِيهَا، وَزِيَادَةٌ فِي اكْتِسَابِ الطَّاعَةِ، وَزِيَادَةٌ عَلَى الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ[2].
وهذا الوقت الفضيل يتكرر في كل ليلية من ليالي السنة، ويزان في رمضان بالتسحر في هذا الوقت؛ والتسحر فيه البركة؛ فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً»[3]،والتسحر العلامة الفارقة بين صومنا وصوم أهل الكتاب؛ فعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السُّحُورِ»[4]، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم بالغداء المبارك؛ فعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّحُورِ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: «هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ»[5]، ومن السنة تأخيره إلى آخر الليل، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْإِفْطَارَ، وَأَخَّرُوا السُّحُورَ "[6]، وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»[7]، وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ»، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ " قَالَ: «قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً»[8].
ففي وقت السحر في رمضان يتنازعه أمرنا، الأول: الاستغفار، والثاني التسحر.
والاستغفار في هذا الوقت اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: يصلون، وممن قال ذلك: ابن عمر، ومجاهد، والضحاك.
أي: فَإِذَا آذَنَ اللَّيْلُ بِالِانْصِرَامِ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ قَدَّمُوا مِنَ التَّهَجُّدِ مَا يَرْجُونَ أَنْ يزلفهم إِلَى رضا اللهِ تَعَالَى. وَهَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّ هُجُوعَهُمُ الَّذِي يَكُونُ فِي خِلَالِ اللَّيْلِ قَبْلَ السَّحَرِ. فَأَمَّا فِي السَّحَرِ فَهُمْ يَتَهَجَّدُونَ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ الِاسْتِغْفَارَ بِالصَّلَاةِ فِي السَّحَرِ[9].
وقال آخرون: بل عني بذلك أنهم أخروا الاستغفار من ذنوبهم إلى السحر، وروى ذلك عن الحسن، قال: مدّوا في الصلاة ونَشطوا، حتى كان الاستغفار بسحر[10].
وَالِاسْتِغْفَارُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالذِّكْرِ بِقَوْلِهِمْ ربنا اغفر لنا.
الثَّانِي: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالْفِعْلِ، أَيْ بِالْأَسْحَارِ يَأْتُونَ بِفِعْلٍ آخَرَ طَلَبًا لِلْغُفْرَانِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ.
الثَّالِثُ: وَهُوَ أَغْرَبُهَا الِاسْتِغْفَارُ مِنْ بَابِ اسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ إِذَا جَاءَ أَوَانُ حَصَادِهِ، فَكَأَنَّهُمْ بِالْأَسْحَارِ يَسْتَحِقُّونَ الْمَغْفِرَةَ وَيَأْتِيهِمْ أَوَانُ الْمَغْفِرَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَاللَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْ مُغْفِرَتَهُمْ إِلَى السَّحَرِ؟ نَقُولُ وَقْتُ السَّحَرِ تَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الْمَشْهُودُ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ: إِنِّي غَفَرْتُ لِعَبْدِي، وَالْأَوَّلُ أظهر، والثاني عند المفسرين أشهر[11].
ولو تتبعنا أوصاف المتقين في الكتاب العزيز لوجدنا سمة بارزة عليهم وهو صلاتهم واستغفارهم ومناجاتهم لربهم في هذا الوقت، وقد ورد ذلك في موضعين من كتاب الله.
الأول: يخبرنا رب العزة فيه عن خمس صفات من صفات المتقين وتختم بهذه الصفات بهذه الصفة النفيسة؛ وهي: أنهم يستغفرون ربهم في وقت السحر؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران:15، 16، 17].
قال الكرماني: ولعله سبحانه وتعالى أشار بهذه الصفات الخمس المتعاطفة إلى دعائم الإسلام الخمس، فأشار بالصبر إلى الإيمان، وبالصدق إلى الزكاة المصدقة لدعواه، وبالقنوت الذي مدار مادته على الإخلاص إلى الصلاة التي هي محل المراقبة، وبالإنفاق إلى الحج الذي أعظم مقوماته المال، وبالاستغفار إلى الصيام الذي مبناه التخلي من أحوال البشر والتحلي بحلية الملك لا سيما في القيام ولا سيما في السحر؛ وسر ترتيبها أنه لما ذكر ما بين العبد والخالق في التوحيد الذي هو العدول أتبعه ما بينه وبين الخلائق في الإحسان، ولما ذكر عبادة القلب والمال ذكر عبادة البدن الدالة على الإخلاص في الإيمان، ولما ذكر عبادة البدن مجرداً بعد عبادة المال مجرداً ذكر عبادة ظاهرة مركبة منهما، شعارها تعرية الظاهر، ثم أتبعه عبادة بدنية خفية، عمادها تعرية الباطن، فختم بمثل ما بدأ به، وهو ما لا يطلع عليه حق الاطلاع إلا الله سبحانه وتعالى[12].
وقال العيني: في الآية التحريض على قيام آخر اللَّيْل... وَمن جِهَة الْعقل أَيْضا هُوَ وَقت صفاء النَّفس لخفة الْمعدة لانهضام الطَّعَام وانحداره عَن الْمعدة وَزَوَال كلال الْحَواس وَضعف الْقوي وفقدان المشوشات وَسُكُون الْأَصْوَات وَنَحْو ذَلِك[13].
والملاحظ في الآية الكريمة أن هؤلاء المتقين ابتدأت أوصافهم بالاستغفار والاعتراف بالذنب وختمت أعمالهم بالاستغفار في آخر الليل وكأنّ أعمالهم الصالحة محصورة بين استغفارين، ومن كان هذا حاله فهو من المتقين، فهم صابرون بأنواع الصبر كله؛ صبر على الطاعة، وصبر علي المعصية، وصبر على والابتلاء، وهم يراقبون الله في عباداتهم -الصلاة- فهم قانتون، ولم تكن الدنيا أكبر همهم ولا مبلغ علمهم وأثر ذلك في حياتهم فكانت الدنيا بأيدهم وليست في قلوبهم فهم منفقون، وَصِيغَ اسْتِغْفَارُهُمْ بأسلوب إِظْهَار اسْم الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ دُونَ ضَمِيرِهِ لِقَصْدِ إِظْهَارِ الِاعْتِنَاءِ بِهِمْ وَلِيَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فَيُفِيدُ تَقَوِّي الْخَبَرِ لِأَنَّهُ مِنَ النُّدْرَةِ بِحَيْثُ يَقْتَضِي التَّقْوِيَةَ لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ فِي السَّحَرِ يَشُقُّ عَلَى مَنْ يَقُومُ اللَّيْلَ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ إِعْيَائِهِ. فَهَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ، وهؤلاء المتقون لا يخصون الاستغفار في ليلة واحدة فقط وإنما على تكرار قيامهم في كل سحر[14] وهذا ما نفهمه من صيغة الجمع في قوله تعالى: (بالأسحار)، وكذلك
( يستغفرون )، وهي صيغة الجمع تفيد الاستمرارية والديمومة كما هو معلوم، فالعصبة المؤمنة مرتبطة بحبل الله الوثيق بجماعتها لا بكونها أفرادا اشتاتا، وفي درس سورة الفاتحة وصيغتها بالجمع كافية لمن كان له لبّ، أما لماذا خص الاستغفار في هذا الوقت دون غيره؟ فلأن العبادة فيه أشد إخلاصا وفيه مشقة كما يعلم فهو وقت نوم وراحة فصلاتهم واستغفارهم فيه أعجب من صلاتهم في أجزاء الليل الأخرى، وهو وقت صفاء النفوس والتجرد عن الدنيا وهمومها.
وينبغي الإشارة أنه ليس الْمَقْصُودُ طَلَبَ الْغُفْرَانَ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ فِي مَضْجَعِهِ إِذْ لَا تَظْهَرُ حِينَئِذٍ مَزِيَّةٌ لِتَقْيِيدِ الِاسْتِغْفَارِ بِالْكَوْنِ فِي الْأَسْحَارِ.
ومن كان هذا شأنه في هذا الوقت هو ومن معه من المؤمنين صرف عنه عذاب الله فضلا منه ورحمه ولما يرى من حالهم؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: " إِنِّي لَأَهُمُّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ عَذَابًا فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى عُمَّارِ بُيُوتِي والْمُتَحَابِّينَ فِيَّ والْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ صَرَفْتُ عَنْهُمْ " [15].
قال ابن عبد البر: لَمْ يَزَلِ الصَّالِحُونَ يَرْغَبُونَ فِي الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ بِالْأَسْحَارِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ)، رَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ كُنْتُ آتِي الْمَسْجِدَ فِي السَّحَرِ فَأَمُرُّ بِدَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُ وَدَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُ وَهَذَا السَّحَرُ فاغفر لي فلقيت بن مَسْعُودٍ فَقُلْتُ لَهُ كَلِمَاتٌ سَمِعْتُكَ تَقَوُّلُهُنَّ فِي السَّحَرِ فَقَالَ إِنَّ يَعْقُوبَ أَخَّرَ بَنِيهِ إِلَى السَّحَرِ حِينَ قَالَ لَهُمْ (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) (يُوسُفَ: 98) [16].
والموضع الثاني من الكتاب العزيز قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [الذاريات: 15 - 20].
الكلام في هذا الموضع عن المتقين أيضا وهم الذين تجاوزوا مرحلة الاحسان، الاحسان القولي، والفعلي؛ إحسان القلب، وإحسان الجوارح، ومن أوصافهم البارزة: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾.
قال القشيري: أخبر عنهم أنهم- مع تهجدهم ودعائهم- ينزلون أنفسهم في الأسحار منزلة العاصين، فيستغفرون استصغارا لقدرهم، واستحقارا لفعلهم. والليل للأحباب في أنس المناجاة، وللعصاة في طلب النجاة. والسّهر لهم في لياليهم دائما إمّا لفرط أسف أو لشدّة لهف، وإمّا لاشتياق أو لفراق وإمّا لكمال أنس وطيب روح[17].
ومعنى قوله عز وجل: ﴿ كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ﴾ أن نومهم كان قليلا لاشتغالهم بالصلاة والعبادة، فالمراد من كل ليلة [18].
وفي الآية فِعْلُ الْكَوْنِ فِي قَوْلِهِ: (كانُوا) الدَّالُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا سُنَّةٌ مُتَقَرِّرَةٌ.
وفيها: الْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: كَانُوا يُقِيمُونَ اللَّيْلَ، أَوْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، إِلَى قَوْلِهِ: قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ الْهُجُوعِ تَذْكِيرًا بِالْحَالَةِ الَّتِي تَمِيلُ إِلَيْهَا النُّفُوسُ فَتَغْلِبُهَا وَتَصْرِفُهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ﴾ [السَّجْدَة: 16]، فَكَانَ فِي الْآيَةِ إِطْنَابٌ اقْتَضَاهُ تَصْوِيرُ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَالْبَلِيغُ قَدْ يُورِدُ فِي كَلَامِهِ مَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ اسْتِفَادَةُ الْمَعْنَى إِذَا كَانَ يَرْمِي بِذَلِكَ إِلَى تَحْصِيلِ صُوَرِ الْأَلْفَاظِ الْمَزِيدَةِ.
وفيها: التَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ: (مِنَ اللَّيْلِ)، لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُمْ تَرَكُوا النَّوْمَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ اسْتِدْعَاءُ النُّفُوسِ لِلنَّوْمِ فِيهِ زِيَادَةً فِي تَصْوِيرِ جَلَالِ قِيَامِهِمُ اللَّيْلَ وَإِلَّا فَإِنَّ قَوْلَهُ: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ يُفِيدُ أَنَّهُ مِنَ اللَّيْلِ.
وفيها: تَقْيِيدُ الْهُجُوعِ بِالْقَلِيلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْمِلُونَ مُنْتَهَى حَقِيقَةِ الْهُجُوعِ بَلْ يَأْخُذُونَ مِنْهُ قَلِيلًا.
وفيها: الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْلِيلِ هُجُوعِهِمْ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ أقل مَا يهجهه الْهَاجِعُ. وَالْهُجُوعُ: النَّوْمُ الْخَفِيفُ وَهُوَ الْغِرَارُ[19].
والملاحظ أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُمْ بِقِلَّةِ الْهُجُوعِ، وَلَمْ يَمْدَحْهُمْ بِكَثْرَةِ السَّهَرِ، وَمَا قَالَ: كَانُوا كَثِيرًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَسْهَرُونَ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ، مَعَ أَنَّ السَّهَرَ هُوَ الْكُلْفَةُ وَالِاجْتِهَادُ لَا الْهُجُوعُ؟
نَقُولُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نَوْمَهُمْ عِبَادَةٌ، حَيْثُ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِمْ هَاجِعِينَ قَلِيلًا، وذلك الهجوع أورثهم لاشتغال بِعِبَادَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ فِي وُجُوهِ الْأَسْحَارِ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الْإِعْجَابِ بِأَنْفُسِهِمْ وَالِاسْتِكْبَارِ[20].
وَانْتَصَبَ ﴿ قَلِيلاً ﴾ عَلَى الظَّرْفِ لِأَنَّهُ وُصِفَ بِالزَّمَانِ بِقَوْلِهِ: مِنَ اللَّيْلِ. وَالتَّقْدِيرُ: زَمَنًا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ يَهْجَعُونَ. ومِنَ اللَّيْلِ تَبْعِيضٌ[21].
و «ما» في قوله: ﴿ ما يهجعون ﴾ مزيدة في الوجهين، ويجوز أن تكون مصدرية مرتفعة بـ «قليلاً» على الفاعل، أي: كانوا قليلاً من الليل هجوعهم. وقال النسفي: يرتفع هجوعهم على البدل من الواو في «كانوا» لا بقليلاً لأنه صار موصوفاً بقوله: مِنَ اللَّيْلِ فبعد من شبه الفعل وعمله، ولا يجوز أن تكون «ما» نافية على معنى: أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ويُحْيُونه كله، أو كانوا ناساً قليلاً ما يهجعون من الله لأن «ما» النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، ولأن المحسنين وهم السابقون كانوا كثيراً في الصدر الأول، وموجودون في كل زمان ومكان، فلا معنى لقلتهم، وأيضاً: فمدحهم بإحياء الليل كله مخالف لحالته صلّى الله عليه وسلم، وما كان يأمر به[22].
والباء في قوله: ﴿ بالأسحار ﴾ الحكمة فيها أَيِ اسْتِغْفَارًا مُتَّصِلًا بِالْأَسْحَارِ مُقْتَرِنًا بِهَا، لِأَنَّ الْكَائِنَ فِيهَا مُقْتَرِنًا بِهَا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ وَقْتًا عَنِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُمْ بِاللَّيْلِ لَا يَهْجَعُونَ، وَمَعَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّحَرِ يَسْتَغْفِرُونَ، فَيَكُونُ فِيهِ بَيَانُ كَوْنِهِمْ مُسْتَغْفِرِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْهُمْ ذَنْبٌ، لِأَنَّهُمْ وَقْتَ الِانْتِبَاهِ فِي الْأَسْحَارِ لَمْ يَخْلُو الْوَقْتُ لِلذَّنْبِ[23].
وقوله: ﴿ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ فيه أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين، فكأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه[24].
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَائِدَتُهُ انْحِصَارُ الْمُسْتَغْفِرِينَ، أَيْ لِكَمَالِهِمْ فِي الِاسْتِغْفَارِ، كَأَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسَ بِمُسْتَغْفِرٍ، فَهُمُ الْمُسْتَغْفِرُونَ لَا غَيْرُ، يُقَالُ فُلَانٌ هُوَ الْعَالِمُ لِكَمَالِهِ في العلم كَأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ.
وقال الرازي: وَهُوَ جَيِّدٌ، وَلَكِنَّ فِيهِ فَائِدَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَطَفَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ عَلَى قَوْلِهِ كانُوا ﴿ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ﴾ [الذاريات: 17] فَلَوْ لَمْ يُؤَكِّدْ مَعْنَى الْإِثْبَاتِ بِكَلِمَةِ هُمْ لَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَبِالْأَسْحَارِ قَلِيلًا مَا يَسْتَغْفِرُونَ، تَقُولُ فُلَانٌ قَلِيلًا مَا يُؤْذِي وَإِلَى النَّاسِ يُحْسِنُ قَدْ يُفْهَمُ أَنَّهُ قَلِيلُ الْإِيذَاءِ قَلِيلُ الْإِحْسَانِ، فَإِذَا قُلْتَ قَلِيلًا مَا يُؤْذِي وَهُوَ يُحْسِنُ زَالَ ذَلِكَ الْفَهْمُ وَظَهَرَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: قَلِيلُ الْإِيذَاءِ كَثِيرُ الْإِحْسَانِ[25].
ثُمَّ أَتْبَعَ صفاتهم بِأَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فِي السَّحَرِ، أَيْ فَإِذَا آذَنَ اللَّيْلُ بِالِانْصِرَامِ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ قَدَّمُوا مِنَ التَّهَجُّدِ مَا يَرْجُونَ أَنْ يزلفهم إِلَى رضا اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّ هُجُوعَهُمُ الَّذِي يَكُونُ فِي خِلَالِ اللَّيْلِ قَبْلَ السَّحَرِ...وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ طَلَبَ الْغُفْرَانَ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ فِي مَضْجَعِهِ إِذْ لَا تَظْهَرُ حِينَئِذٍ مَزِيَّةٌ لِتَقْيِيدِ الِاسْتِغْفَارِ بِالْكَوْنِ فِي الْأَسْحَارِ[26].
وأختم بقولي: إن الله جعل للصوم غاية وهي: التقوى، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، ومن صفات المتقين كما مرّ بنا الاستغفار بالأسحار فمدرسة الصوم تعين على هذه الصفة وتربي الجيل المسلم على هذه الخصلة الحميدة لتكون لهم زادا بسيرهم الى الله في باقي أيام السنة، ولا سيما أن الاستغفار في وقت السحر داخل في مضمون قيام رمضان الذي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمته؛فقَالَ عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَيْكُمْ وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، فمدرسة الصوم ميدان واسع للمستغفرين بالأسحار وللذين بالأسحار هم يستغفرون.
أعاننا الله على صيام رمضان وقيامه إيمانا واحتسابا، وجعلنا من المستغفرين بالأسحار، لننال رضا مَن ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾.
وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على سيّدنا مُحمّدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.
[1]صحيح مسلم (1/ 522) (758)، علما أن التجلي الإلهي الذي ورد بالنصوص كله في الليل إلا في يوم عرفة كما ورد بالنص.
[2]بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخبار للكلاباذي (ص: 179).
[3]صحيح البخاري (3/ 29) (1923).
[4]سنن النسائي (4/ 146) (2166).
[5]سنن أبي داود (2/ 303) (2344).
[6] مسند أحمد ط الرسالة (35/ 241) (21312)، وهذا المتن صحيح بمجموع طرقه ومعناه، وهذا اسناد ضعيف.
[7] صحيح البخاري (3/ 29) (1920).
[8] صحيح البخاري (3/ 29) (1921).
[9] التحرير والتنوير (26/ 349).
[10] تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (22/ 412).
[11] تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (28/ 168).
[12] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (4/ 285).
[13] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (25/ 159).
[14] تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (28/ 168).
[15]شعب الإيمان (4/ 379) (2685).
[16] الاستذكار (2/ 530).
[17] لطائف الإشارات = تفسير القشيري (3/ 463).
[18] تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (5/ 174).
[19] التحرير والتنوير (26/ 349).
[20] تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (28/ 168).
[21] التحرير والتنوير (26/ 349).
[22] البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (5/ 467).
[23] تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (28/ 168).
[24] تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 399).
[25] تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (28/ 168).
[26] التحرير والتنوير (26/ 349).
أ. د. فهمي أحمد عبدالرحمن القزاز
الحمدُ لله، وأفضل الصَّلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعدُ:
وقت السحر وقت التجلي الإلهي هو في الثلث الأخير من الليل كما هو معلوم، وصرح بعض العلماء أنه في وقت السدس الأخير من الليل ليكون أكثر خصوصية، ونزول وتجلي رب العزة على عباده في هذا الوقت ورد بالنص وهو لمصلحة العباد؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يَنْزِلُ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ الْفَجْرُ "[1].
قال الكلاباذي: أَرَادَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ لِيَكُونَ فِيهِ دَعْوَةٌ وَاسْتِغْفَارٌ فَيُجَابَ، وَسُؤَالُ حَاجَةٍ فَتُقْضَى، فَوَقْتُ السَّحُورِ زِيَادَةٌ عَلَى الْأَوْقَاتِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا الَّتِي هِيَ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، إِذًا فَالسُّحُورُ زِيَادَةٌ فِي الْقُوَّةِ، وَزِيَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَزِيَادَةٌ فِي الرُّخَصِ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ إِتْيَانَهَا، وَزِيَادَةٌ فِي الْحَيَاةِ، وَزِيَادَةٌ فِي الرِّفْقِ فِيهَا، وَزِيَادَةٌ فِي اكْتِسَابِ الطَّاعَةِ، وَزِيَادَةٌ عَلَى الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ[2].
وهذا الوقت الفضيل يتكرر في كل ليلية من ليالي السنة، ويزان في رمضان بالتسحر في هذا الوقت؛ والتسحر فيه البركة؛ فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً»[3]،والتسحر العلامة الفارقة بين صومنا وصوم أهل الكتاب؛ فعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السُّحُورِ»[4]، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم بالغداء المبارك؛ فعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّحُورِ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: «هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ»[5]، ومن السنة تأخيره إلى آخر الليل، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْإِفْطَارَ، وَأَخَّرُوا السُّحُورَ "[6]، وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»[7]، وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ»، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ " قَالَ: «قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً»[8].
ففي وقت السحر في رمضان يتنازعه أمرنا، الأول: الاستغفار، والثاني التسحر.
والاستغفار في هذا الوقت اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: يصلون، وممن قال ذلك: ابن عمر، ومجاهد، والضحاك.
أي: فَإِذَا آذَنَ اللَّيْلُ بِالِانْصِرَامِ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ قَدَّمُوا مِنَ التَّهَجُّدِ مَا يَرْجُونَ أَنْ يزلفهم إِلَى رضا اللهِ تَعَالَى. وَهَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّ هُجُوعَهُمُ الَّذِي يَكُونُ فِي خِلَالِ اللَّيْلِ قَبْلَ السَّحَرِ. فَأَمَّا فِي السَّحَرِ فَهُمْ يَتَهَجَّدُونَ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ الِاسْتِغْفَارَ بِالصَّلَاةِ فِي السَّحَرِ[9].
وقال آخرون: بل عني بذلك أنهم أخروا الاستغفار من ذنوبهم إلى السحر، وروى ذلك عن الحسن، قال: مدّوا في الصلاة ونَشطوا، حتى كان الاستغفار بسحر[10].
وَالِاسْتِغْفَارُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالذِّكْرِ بِقَوْلِهِمْ ربنا اغفر لنا.
الثَّانِي: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالْفِعْلِ، أَيْ بِالْأَسْحَارِ يَأْتُونَ بِفِعْلٍ آخَرَ طَلَبًا لِلْغُفْرَانِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ.
الثَّالِثُ: وَهُوَ أَغْرَبُهَا الِاسْتِغْفَارُ مِنْ بَابِ اسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ إِذَا جَاءَ أَوَانُ حَصَادِهِ، فَكَأَنَّهُمْ بِالْأَسْحَارِ يَسْتَحِقُّونَ الْمَغْفِرَةَ وَيَأْتِيهِمْ أَوَانُ الْمَغْفِرَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَاللَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْ مُغْفِرَتَهُمْ إِلَى السَّحَرِ؟ نَقُولُ وَقْتُ السَّحَرِ تَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الْمَشْهُودُ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ: إِنِّي غَفَرْتُ لِعَبْدِي، وَالْأَوَّلُ أظهر، والثاني عند المفسرين أشهر[11].
ولو تتبعنا أوصاف المتقين في الكتاب العزيز لوجدنا سمة بارزة عليهم وهو صلاتهم واستغفارهم ومناجاتهم لربهم في هذا الوقت، وقد ورد ذلك في موضعين من كتاب الله.
الأول: يخبرنا رب العزة فيه عن خمس صفات من صفات المتقين وتختم بهذه الصفات بهذه الصفة النفيسة؛ وهي: أنهم يستغفرون ربهم في وقت السحر؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران:15، 16، 17].
قال الكرماني: ولعله سبحانه وتعالى أشار بهذه الصفات الخمس المتعاطفة إلى دعائم الإسلام الخمس، فأشار بالصبر إلى الإيمان، وبالصدق إلى الزكاة المصدقة لدعواه، وبالقنوت الذي مدار مادته على الإخلاص إلى الصلاة التي هي محل المراقبة، وبالإنفاق إلى الحج الذي أعظم مقوماته المال، وبالاستغفار إلى الصيام الذي مبناه التخلي من أحوال البشر والتحلي بحلية الملك لا سيما في القيام ولا سيما في السحر؛ وسر ترتيبها أنه لما ذكر ما بين العبد والخالق في التوحيد الذي هو العدول أتبعه ما بينه وبين الخلائق في الإحسان، ولما ذكر عبادة القلب والمال ذكر عبادة البدن الدالة على الإخلاص في الإيمان، ولما ذكر عبادة البدن مجرداً بعد عبادة المال مجرداً ذكر عبادة ظاهرة مركبة منهما، شعارها تعرية الظاهر، ثم أتبعه عبادة بدنية خفية، عمادها تعرية الباطن، فختم بمثل ما بدأ به، وهو ما لا يطلع عليه حق الاطلاع إلا الله سبحانه وتعالى[12].
وقال العيني: في الآية التحريض على قيام آخر اللَّيْل... وَمن جِهَة الْعقل أَيْضا هُوَ وَقت صفاء النَّفس لخفة الْمعدة لانهضام الطَّعَام وانحداره عَن الْمعدة وَزَوَال كلال الْحَواس وَضعف الْقوي وفقدان المشوشات وَسُكُون الْأَصْوَات وَنَحْو ذَلِك[13].
والملاحظ في الآية الكريمة أن هؤلاء المتقين ابتدأت أوصافهم بالاستغفار والاعتراف بالذنب وختمت أعمالهم بالاستغفار في آخر الليل وكأنّ أعمالهم الصالحة محصورة بين استغفارين، ومن كان هذا حاله فهو من المتقين، فهم صابرون بأنواع الصبر كله؛ صبر على الطاعة، وصبر علي المعصية، وصبر على والابتلاء، وهم يراقبون الله في عباداتهم -الصلاة- فهم قانتون، ولم تكن الدنيا أكبر همهم ولا مبلغ علمهم وأثر ذلك في حياتهم فكانت الدنيا بأيدهم وليست في قلوبهم فهم منفقون، وَصِيغَ اسْتِغْفَارُهُمْ بأسلوب إِظْهَار اسْم الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ دُونَ ضَمِيرِهِ لِقَصْدِ إِظْهَارِ الِاعْتِنَاءِ بِهِمْ وَلِيَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فَيُفِيدُ تَقَوِّي الْخَبَرِ لِأَنَّهُ مِنَ النُّدْرَةِ بِحَيْثُ يَقْتَضِي التَّقْوِيَةَ لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ فِي السَّحَرِ يَشُقُّ عَلَى مَنْ يَقُومُ اللَّيْلَ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ إِعْيَائِهِ. فَهَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ، وهؤلاء المتقون لا يخصون الاستغفار في ليلة واحدة فقط وإنما على تكرار قيامهم في كل سحر[14] وهذا ما نفهمه من صيغة الجمع في قوله تعالى: (بالأسحار)، وكذلك
( يستغفرون )، وهي صيغة الجمع تفيد الاستمرارية والديمومة كما هو معلوم، فالعصبة المؤمنة مرتبطة بحبل الله الوثيق بجماعتها لا بكونها أفرادا اشتاتا، وفي درس سورة الفاتحة وصيغتها بالجمع كافية لمن كان له لبّ، أما لماذا خص الاستغفار في هذا الوقت دون غيره؟ فلأن العبادة فيه أشد إخلاصا وفيه مشقة كما يعلم فهو وقت نوم وراحة فصلاتهم واستغفارهم فيه أعجب من صلاتهم في أجزاء الليل الأخرى، وهو وقت صفاء النفوس والتجرد عن الدنيا وهمومها.
وينبغي الإشارة أنه ليس الْمَقْصُودُ طَلَبَ الْغُفْرَانَ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ فِي مَضْجَعِهِ إِذْ لَا تَظْهَرُ حِينَئِذٍ مَزِيَّةٌ لِتَقْيِيدِ الِاسْتِغْفَارِ بِالْكَوْنِ فِي الْأَسْحَارِ.
ومن كان هذا شأنه في هذا الوقت هو ومن معه من المؤمنين صرف عنه عذاب الله فضلا منه ورحمه ولما يرى من حالهم؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: " إِنِّي لَأَهُمُّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ عَذَابًا فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى عُمَّارِ بُيُوتِي والْمُتَحَابِّينَ فِيَّ والْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ صَرَفْتُ عَنْهُمْ " [15].
قال ابن عبد البر: لَمْ يَزَلِ الصَّالِحُونَ يَرْغَبُونَ فِي الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ بِالْأَسْحَارِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ)، رَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ كُنْتُ آتِي الْمَسْجِدَ فِي السَّحَرِ فَأَمُرُّ بِدَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُ وَدَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُ وَهَذَا السَّحَرُ فاغفر لي فلقيت بن مَسْعُودٍ فَقُلْتُ لَهُ كَلِمَاتٌ سَمِعْتُكَ تَقَوُّلُهُنَّ فِي السَّحَرِ فَقَالَ إِنَّ يَعْقُوبَ أَخَّرَ بَنِيهِ إِلَى السَّحَرِ حِينَ قَالَ لَهُمْ (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) (يُوسُفَ: 98) [16].
والموضع الثاني من الكتاب العزيز قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [الذاريات: 15 - 20].
الكلام في هذا الموضع عن المتقين أيضا وهم الذين تجاوزوا مرحلة الاحسان، الاحسان القولي، والفعلي؛ إحسان القلب، وإحسان الجوارح، ومن أوصافهم البارزة: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾.
قال القشيري: أخبر عنهم أنهم- مع تهجدهم ودعائهم- ينزلون أنفسهم في الأسحار منزلة العاصين، فيستغفرون استصغارا لقدرهم، واستحقارا لفعلهم. والليل للأحباب في أنس المناجاة، وللعصاة في طلب النجاة. والسّهر لهم في لياليهم دائما إمّا لفرط أسف أو لشدّة لهف، وإمّا لاشتياق أو لفراق وإمّا لكمال أنس وطيب روح[17].
ومعنى قوله عز وجل: ﴿ كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ﴾ أن نومهم كان قليلا لاشتغالهم بالصلاة والعبادة، فالمراد من كل ليلة [18].
وفي الآية فِعْلُ الْكَوْنِ فِي قَوْلِهِ: (كانُوا) الدَّالُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا سُنَّةٌ مُتَقَرِّرَةٌ.
وفيها: الْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: كَانُوا يُقِيمُونَ اللَّيْلَ، أَوْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، إِلَى قَوْلِهِ: قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ الْهُجُوعِ تَذْكِيرًا بِالْحَالَةِ الَّتِي تَمِيلُ إِلَيْهَا النُّفُوسُ فَتَغْلِبُهَا وَتَصْرِفُهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ﴾ [السَّجْدَة: 16]، فَكَانَ فِي الْآيَةِ إِطْنَابٌ اقْتَضَاهُ تَصْوِيرُ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَالْبَلِيغُ قَدْ يُورِدُ فِي كَلَامِهِ مَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ اسْتِفَادَةُ الْمَعْنَى إِذَا كَانَ يَرْمِي بِذَلِكَ إِلَى تَحْصِيلِ صُوَرِ الْأَلْفَاظِ الْمَزِيدَةِ.
وفيها: التَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ: (مِنَ اللَّيْلِ)، لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُمْ تَرَكُوا النَّوْمَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ اسْتِدْعَاءُ النُّفُوسِ لِلنَّوْمِ فِيهِ زِيَادَةً فِي تَصْوِيرِ جَلَالِ قِيَامِهِمُ اللَّيْلَ وَإِلَّا فَإِنَّ قَوْلَهُ: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ يُفِيدُ أَنَّهُ مِنَ اللَّيْلِ.
وفيها: تَقْيِيدُ الْهُجُوعِ بِالْقَلِيلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْمِلُونَ مُنْتَهَى حَقِيقَةِ الْهُجُوعِ بَلْ يَأْخُذُونَ مِنْهُ قَلِيلًا.
وفيها: الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْلِيلِ هُجُوعِهِمْ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ أقل مَا يهجهه الْهَاجِعُ. وَالْهُجُوعُ: النَّوْمُ الْخَفِيفُ وَهُوَ الْغِرَارُ[19].
والملاحظ أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُمْ بِقِلَّةِ الْهُجُوعِ، وَلَمْ يَمْدَحْهُمْ بِكَثْرَةِ السَّهَرِ، وَمَا قَالَ: كَانُوا كَثِيرًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَسْهَرُونَ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ، مَعَ أَنَّ السَّهَرَ هُوَ الْكُلْفَةُ وَالِاجْتِهَادُ لَا الْهُجُوعُ؟
نَقُولُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نَوْمَهُمْ عِبَادَةٌ، حَيْثُ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِمْ هَاجِعِينَ قَلِيلًا، وذلك الهجوع أورثهم لاشتغال بِعِبَادَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ فِي وُجُوهِ الْأَسْحَارِ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الْإِعْجَابِ بِأَنْفُسِهِمْ وَالِاسْتِكْبَارِ[20].
وَانْتَصَبَ ﴿ قَلِيلاً ﴾ عَلَى الظَّرْفِ لِأَنَّهُ وُصِفَ بِالزَّمَانِ بِقَوْلِهِ: مِنَ اللَّيْلِ. وَالتَّقْدِيرُ: زَمَنًا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ يَهْجَعُونَ. ومِنَ اللَّيْلِ تَبْعِيضٌ[21].
و «ما» في قوله: ﴿ ما يهجعون ﴾ مزيدة في الوجهين، ويجوز أن تكون مصدرية مرتفعة بـ «قليلاً» على الفاعل، أي: كانوا قليلاً من الليل هجوعهم. وقال النسفي: يرتفع هجوعهم على البدل من الواو في «كانوا» لا بقليلاً لأنه صار موصوفاً بقوله: مِنَ اللَّيْلِ فبعد من شبه الفعل وعمله، ولا يجوز أن تكون «ما» نافية على معنى: أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ويُحْيُونه كله، أو كانوا ناساً قليلاً ما يهجعون من الله لأن «ما» النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، ولأن المحسنين وهم السابقون كانوا كثيراً في الصدر الأول، وموجودون في كل زمان ومكان، فلا معنى لقلتهم، وأيضاً: فمدحهم بإحياء الليل كله مخالف لحالته صلّى الله عليه وسلم، وما كان يأمر به[22].
والباء في قوله: ﴿ بالأسحار ﴾ الحكمة فيها أَيِ اسْتِغْفَارًا مُتَّصِلًا بِالْأَسْحَارِ مُقْتَرِنًا بِهَا، لِأَنَّ الْكَائِنَ فِيهَا مُقْتَرِنًا بِهَا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ وَقْتًا عَنِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُمْ بِاللَّيْلِ لَا يَهْجَعُونَ، وَمَعَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّحَرِ يَسْتَغْفِرُونَ، فَيَكُونُ فِيهِ بَيَانُ كَوْنِهِمْ مُسْتَغْفِرِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْهُمْ ذَنْبٌ، لِأَنَّهُمْ وَقْتَ الِانْتِبَاهِ فِي الْأَسْحَارِ لَمْ يَخْلُو الْوَقْتُ لِلذَّنْبِ[23].
وقوله: ﴿ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ فيه أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين، فكأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه[24].
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَائِدَتُهُ انْحِصَارُ الْمُسْتَغْفِرِينَ، أَيْ لِكَمَالِهِمْ فِي الِاسْتِغْفَارِ، كَأَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسَ بِمُسْتَغْفِرٍ، فَهُمُ الْمُسْتَغْفِرُونَ لَا غَيْرُ، يُقَالُ فُلَانٌ هُوَ الْعَالِمُ لِكَمَالِهِ في العلم كَأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ.
وقال الرازي: وَهُوَ جَيِّدٌ، وَلَكِنَّ فِيهِ فَائِدَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَطَفَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ عَلَى قَوْلِهِ كانُوا ﴿ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ﴾ [الذاريات: 17] فَلَوْ لَمْ يُؤَكِّدْ مَعْنَى الْإِثْبَاتِ بِكَلِمَةِ هُمْ لَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَبِالْأَسْحَارِ قَلِيلًا مَا يَسْتَغْفِرُونَ، تَقُولُ فُلَانٌ قَلِيلًا مَا يُؤْذِي وَإِلَى النَّاسِ يُحْسِنُ قَدْ يُفْهَمُ أَنَّهُ قَلِيلُ الْإِيذَاءِ قَلِيلُ الْإِحْسَانِ، فَإِذَا قُلْتَ قَلِيلًا مَا يُؤْذِي وَهُوَ يُحْسِنُ زَالَ ذَلِكَ الْفَهْمُ وَظَهَرَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: قَلِيلُ الْإِيذَاءِ كَثِيرُ الْإِحْسَانِ[25].
ثُمَّ أَتْبَعَ صفاتهم بِأَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فِي السَّحَرِ، أَيْ فَإِذَا آذَنَ اللَّيْلُ بِالِانْصِرَامِ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ قَدَّمُوا مِنَ التَّهَجُّدِ مَا يَرْجُونَ أَنْ يزلفهم إِلَى رضا اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّ هُجُوعَهُمُ الَّذِي يَكُونُ فِي خِلَالِ اللَّيْلِ قَبْلَ السَّحَرِ...وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ طَلَبَ الْغُفْرَانَ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ فِي مَضْجَعِهِ إِذْ لَا تَظْهَرُ حِينَئِذٍ مَزِيَّةٌ لِتَقْيِيدِ الِاسْتِغْفَارِ بِالْكَوْنِ فِي الْأَسْحَارِ[26].
وأختم بقولي: إن الله جعل للصوم غاية وهي: التقوى، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، ومن صفات المتقين كما مرّ بنا الاستغفار بالأسحار فمدرسة الصوم تعين على هذه الصفة وتربي الجيل المسلم على هذه الخصلة الحميدة لتكون لهم زادا بسيرهم الى الله في باقي أيام السنة، ولا سيما أن الاستغفار في وقت السحر داخل في مضمون قيام رمضان الذي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمته؛فقَالَ عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَيْكُمْ وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، فمدرسة الصوم ميدان واسع للمستغفرين بالأسحار وللذين بالأسحار هم يستغفرون.
أعاننا الله على صيام رمضان وقيامه إيمانا واحتسابا، وجعلنا من المستغفرين بالأسحار، لننال رضا مَن ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾.
وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على سيّدنا مُحمّدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.
[1]صحيح مسلم (1/ 522) (758)، علما أن التجلي الإلهي الذي ورد بالنصوص كله في الليل إلا في يوم عرفة كما ورد بالنص.
[2]بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخبار للكلاباذي (ص: 179).
[3]صحيح البخاري (3/ 29) (1923).
[4]سنن النسائي (4/ 146) (2166).
[5]سنن أبي داود (2/ 303) (2344).
[6] مسند أحمد ط الرسالة (35/ 241) (21312)، وهذا المتن صحيح بمجموع طرقه ومعناه، وهذا اسناد ضعيف.
[7] صحيح البخاري (3/ 29) (1920).
[8] صحيح البخاري (3/ 29) (1921).
[9] التحرير والتنوير (26/ 349).
[10] تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (22/ 412).
[11] تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (28/ 168).
[12] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (4/ 285).
[13] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (25/ 159).
[14] تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (28/ 168).
[15]شعب الإيمان (4/ 379) (2685).
[16] الاستذكار (2/ 530).
[17] لطائف الإشارات = تفسير القشيري (3/ 463).
[18] تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (5/ 174).
[19] التحرير والتنوير (26/ 349).
[20] تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (28/ 168).
[21] التحرير والتنوير (26/ 349).
[22] البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (5/ 467).
[23] تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (28/ 168).
[24] تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 399).
[25] تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (28/ 168).
[26] التحرير والتنوير (26/ 349).