مشاهدة النسخة كاملة : الدين في السياسة الخارجية الروسية


فريق منتدى الدي في دي العربي
09-09-2017, 12:11 PM
الدين في السياسة الخارجية الروسية



<h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>


أ.د. صالح بن محمد الخثلان

ملخص

منذ الأشهر الأولى لمحاولات التغيير السياسي التي شاع تسميتها بالربيع العربي وتحول معظمها إلى صراعات دموية اتخذت روسيا موقفاً ثابتاً ومتواصلاً بدعم النظام السوري رغم تشكل إجماع دولي على إدانته ودعم لمساعي تغييره لإنهاء معاناة الشعب السوري ووقف تدمير الدولة السورية. تمسكت روسيا بهذا الموقف خلال مراحل الصراع وتنامى دعمها للنظام رغم ما يتسبب فيه من مأساة إنسانية كبيرة الأمر الذي حير المراقبون وراحوا يبحثون في الأسباب التي يمكن أن تفسر إصرار موسكو على دعم النظام السوري وحمايته دولياً ليس فقط من خلال الاعتراض على ستة قرارات دولية كان يمكن أن تسهم في وضع نهاية للصراع، بل بالتدخل العسكري المباشر وتحمل الخسائر المادية والبشرية وكذلك الإساءة لسمعتها إقليميا ودولياً.

لقد طرحت جملة من التفسيرات لهذا الموقف الصلب من بينها: الرغبة في الدفاع عن مصالح روسيا الاقتصادية والعسكرية في سوريا والمحافظة على آخر موقع للنفوذ الروسي في المنطقة. هذا فضلاً عن هدفها الاستراتيجي المتمثل في الاعتراف بدورها في إدارة الشؤون الدولية واعتبارها شريكاً رئيساً في ضبط قضايا السلم والأمن الدوليين. كما أشار البعض إلى خشية روسيا من تكرار سيناريو ليبيا؛ حين تحول قرار دولي بتوفير منطقة حظر جوي لحماية المعارضة إلى تدخل عسكري مباشر أطاح بنظام القذافي وحول ليبيا إلى أرض متنازع عليها بين فئات متصارعة من أبرزها التنظيم المعروف باسم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وهو ما تخشى روسيا تكراره في سوريا الأمر الذي سيهدد أمن حدودها الجنوبية ويعيد تـأجيج الصراع في منطقة القوقاز.

ولاشك أن جميع هذه التفسيرات تقدم شيئاً من التوضيح للموقف الروسي الراسخ تجاه الصراع في سوريا، إلا أنها تتجاهل بعداً آخر يبدو أن له تأثيره على تشكل الموقف الروسي تجاه القضايا الدولية الراهنة بشكل عام وتجاه الصراع في سوريا بشكل خاص، ويتمثل في منظور قيمي وروحي مصدره الديانة الأرثوذكسية التي ينتمي لها غالبية الشعب الروسي وتعبر عنه المكانة المتنامية للكنيسة الأرثوذكسية في روسيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة. حيث يتبين من تصريحات متكررة لمسئولين حكوميين وكذلك لقيادات كنسية ومن أنشطة الكنيسة أن العامل الديني له نصيبه في تشكيل الرؤية الروسية للصراع في سوريا. ولذلك فإن الدراسة تقترح مراعاة هذا العامل إلى جانب العوامل الإستراتيجية والعسكرية والاقتصادية والسياسية من أجل الوصول إلى تفسير شامل للموقف الروسي تجاه الصراع في سوريا.

لو أجرينا مسحاً لكافة أدبيات العلاقات الدولية والسياسة الخارجية المنشورة قبل عقدين من الزمن على الأقل فلن نجد سوى إشارات عابرة للدين حيث سادت حالة من التجاهل التام للدين في دراسة العلاقات الدولية وقضاياها المختلفة وكذلك في التفسيرات المختلفة لسلوك الدول وتفاعلها مع بعضها البعض. ذلك التجاهل لم يكن عفوياً بل يعبر عن معتقد شاع بين دارسي العلاقات الدولية بل والعلوم الاجتماعية بشكل عام باختفاء الدين من الحياة العامة وتحوله إلى شأن فردي خاص نتيجة عملية التحديث والعلمنة التي أصبحت وفقاً لهذا التصور حالة حت[مية تكتسح كافة أرجاء العالم وتعيد تشكيل قيم الإنسان على أسس حديثة بعيداً عن المعتقدات الدينية. هذا الافتراض بانتهاء دور الدين في الحياة العامة والذي تحول إلى قناعة يتبين في غياب أي إشارة إلى الدين ضمن المدارس الرئيسة في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية. فالواقعية التي تعد المدرسة المهيمنة تجاهلت الدين تماماً فالدول تتصارع على القوة من خلال حسابات عقلانية للحصول على المزيد من القوة المقاسة بشكل مادي( قوة عسكرية واقتصادية). أما المدرسة الليبرالية التي نبهت إلى ضرورة النظر في دور قوى المجتمع في صناعة السياسة الخارجية فلم تكن الجماعات ذات النزعات الدينية ضمن تصوراتها كقوى مؤثرة حيث قصرت اهتمامها على القوى الاقتصادية والعمالية والحقوقية والبيئية. ولم يكن مستغرباً أن تتجاهل المناهج ذات النزعة الماركسية والتي راجت تحديداً في حقل الاقتصاد السياسي الدولي أي دور للدين أو المعتقدات بشكل عام في توجيه العلاقات بين الدول أو تشكيل سياساتها الخارجية. أما المناهج التي عنيت بصناعة القرار فلم تتطرق للدين سوى من خلال إشارات محدودة للمنظومة القيمية لصناع القرار أو الخصائص الثقافية للدولة. وانحصر الاهتمام بتأثير الأفكار والمعتقدات ومنها الدينية على السياسة الخارجية في دراسة الأيديولوجيات التي نظر إليها في الغالب من زاوية وظيفية حيث يستخدمها الساسة لتبرير سياساتهم ومنح مصالحهم المادية غطاء قيمياً من أجل تمريرها وكسب التأييد لها.

تجاهل الدين في الشأن السياسي الدولي لم يكن قاصراً على دارسي العلاقات الدولية بل شمل أيضا الممارسين؛ فالقادة وصناع القرار شاركوا ذات النظرة بتراجع دور الدين بسبب التحديث والعلمنة لذلك تجاهلت سياساتهم الخارجية أي اهتمام بالمعتقدات الدينية سوى في حالات قليلة.

هذا التجاهل شبه التام للعامل الديني سواء من دراسي العلاقات الدولية والسياسة الخارجية أو من ممارسيها ما لبث أن انقلب إلى اهتمام متزايد؛ فأصبحت الحكومات تعنى بالمسائل الدينية سواء على المستوى الفكري والقيمي أو المستوى التنظيمي والحركي ووضعت الاستراتيجيات للتعاطي مع المكون الديني في الشأن العام داخلياً وخارجياً. أما الدارسون فبدأ حوار داخلي بينهم فيه شيء من اللوم حول تجاهل ما سيصبح أحد أبرز المتغيرات في الشأن السياسي الدولي. هذا التحول من التجاهل إلى الاهتمام المكثف كان نتيجة تصاعد حضور الدين بشكل عام في الحياة السياسية داخل الدول وخارجها بشكل مناقض لكل التوقعات باندثاره، ويمكن لنا فقط ذكر بعض الأمثلة على هذا الصعود المهم ومنها الثورة الإسلامية في إيران، الحركة الجهادية ضد الغزو السوفيتي لأفغانستان وما تولد عنها لاحقاً من حركات وتنظيمات جهادية في مختلف أرجاء العالم، دور الكنائس في أمريكا اللاتينية في حركات التحرر، بروز المسيحية الأصولية وخاصة في الولايات المتحدة، إضافة إلى حضور الدين في السياسات الخارجية لبعض الدول كمبدأ أو قضية.

وقبل عقد تقريباً ونتيجة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر حدثت قفزة في الاهتمام بالعامل الديني وأثره على السلوك السياسي وتحوله إلى متغير مهم في التفاعلات السياسية الدولية، وأخيراً كان ظهور تنظيم إرهابي جديد المعروف بالدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وما أحدثه من نقلة في طبيعة التهديد الإرهابي وتشكل تحالفات إقليمية ودولية لمواجهته سبباً في انتقال الاهتمام بالمسألة الدينية في العلاقات الدولية إلى مصاف المسائل التقليدية مثل الصراع على النفوذ والقوة وسباق التسلح وعمليات التكامل الإقليمي.

وتعد الولايات المتحدة من أبرز الدول التي توظف الدين في سياستها الخارجية رغم أن نظامها الدستوري ينص على فصل الدين عن الدولة. ففي العام 1998 صدر تشريع من الكونجرس بإنشاء منصب سفير متجول للحريات الدينية وكذلك تأسيس الهيئة الأمريكية للحريات الدينية (USCERF) بهدف مراقبة مستوى الحريات الدينية والترويج لها في العالم ويشارك السفير والهيئة في إصدار تقارير سنوية عن الأوضاع الدينية في كافة الدول تتضمن توصيات للرئيس بتوجيه وزارة الخارجية لاتخاذ إجراءات ضد الدول التي يسجل عليها ملاحظات في مجال الحريات الدينية.

لقد أظهرت هذه الأحداث أهمية العامل الديني في الشأن السياسي داخلياً وخارجياً ، فكما كان الحال قبل التحديث والعلمنة لا يزال الدين يقوم بأدوار ووظائف سياسية مهمة حيث يمنح الشرعية للسلطة السياسية ويمكن أيضاً أن يقوضها، ويدعم السياسات الداخلية والخارجية، كما يمكن أن يكون مصدراً للثورة ضد النظم السياسية حيث توظفه المعارضة في حشد الأتباع وتعبئتهم، ويسهم في تشكيل الرأي العام ويوفر تفسيرات سهلة مطمئنة للأحدث المعقدة على الساحة الدولية. وقد يصل تأثير العامل الديني إلى دعم بقاء الدولة أو تقويضها كما حدث في يوغسلافيا، وما يحدث اليوم في العراق وسوريا واليمن.

تأثير الدين في الشأن السياسي يتحقق من خلال بعدين على الأقل: إما كعامل مؤثر في تشكيل الهويات والقيم والتوجهات والسياسات أو كقضية للصراع داخلياً أو خارجياً. وحسب جاك سنايدر فالدين يمكن أن يغير نمط العلاقات الدولية من خلال تحديد الفاعلين وأهدافهم ومواردهم والقواعد التي يتصرفون وفقها.

ورغم الإجماع على أهمية الدين بوظائفه المختلفة في التفاعلات السياسية الدولية، إلا أنه لا يوجد اتفاق بين دارسي العلاقات الدولية حول كيفية التعاطي معه في محاولات تفسير الأحداث الدولية. ففي حين يرى البعض إمكانية تناوله كمتغير جديد ضمن الأطر النظرية القائمة، يرى آخرون أن التأثير الكبير للعامل الديني في القضايا الدولية يصعب استيعابه في حال التعاطي معه ضمن ما هو قائم ويرون ضرورة صياغة منهج جديد يمكِن الباحثين من الإلمام بشكل كامل لتأثير الدين على التفاعلات الدولية.

المؤكد هو أننا اليوم لا يمكننا تجاهل تأثير االدين في القضايا الدولية المعقدة ومواقف الدول منها كما هو الحال في الصراع في سوريا التي تعد مهد المسيحية وفيها أهم حواضر التاريخ الإسلامي.

موجز عن الكنيسة في السياسة الروسية خلال ثلاث مراحل من التاريخ الروسي

يمتد تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا إلى أكثر من ألف عام حين أعتنق الروس المسيحية الأرثوذكسية في عهد الأمير فلاديمير الأول (980-1015) مؤسس روسيا التي كانت حينئذ تعرف ب "كييف روس".

وبتحولها من الوثنية إلى المسيحية الأرثوذكسية التي وصلتها من شرق أوروبا حيث هيمنت الإمبراطورية البيزنطية فقد صيغت العلاقة بين الكنيسة والسلطة في الدولة الروسية الوليدة وفق النموذج البيزنطي حيث ترتبط الكنيسة والدولة في علاقة تناغم وانسجام ويتقاسمان المسؤوليات لتحقيق الغاية الإلهية فيشترك الإمبراطور والبطريرك في الإشراف على الكنيسة ورعاية المؤمنين. مبدأ التناغم هذا يعني أن الخلاص يتحقق من خلال وجود دولة مسيحية جنباً إلى جنب مع الكنيسة.

علاقة التناغم هذه حققت منافع متبادلة؛ حيث تلازم التبشير الذي قامت به الكنيسة بين القبائل الوثنية مع تمدد السلطة السياسية واتساع رقعة الدولة الروسية كما ساهمت الديانة الجديدة بدور توحيدي في بدايات تشكل الدولة. ومنحت الكنيسة الأمير الذي سيتبنى لاحقاً لقب القيصر مصدراً جديداً للشرعية بجانب القوة المادية؛ فسلطته مستمدة من تفويض إلهي. وباعتناق الروس الأوائل للمسيحية الأرثوذكسية أصبحت مكوناً رئيساً للهوية الروسية لا تقل أهمية عن اللغة الروسية وتظهر القيمة السياسية للمسيحية بشكل خاص أثناء الاضطرابات كما حدث أكثر من مرة في تاريخ روسيا.

وفي البدايات كان تأكيد البعد الديني في الهوية الروسية يهدف إلى إظهار تميز الروس عن جيرانهم الوثنيين والمسلمين وكذلك تأكيد ارتباطهم بالإمبراطورية البيزنطية، ولاحقاً أصبحت الأرثوذكسية عاملاً في تشكيل موقف الروس تجاه المسيحية الكاثوليكية الغربية. وخلال النزاعات الداخلية بين الأمراء الروس والهيمنة المغولية التي امتدت قرنين تقريباً وبعد سنوات من المداهنة للمغول لعبت الكنيسة دورا ًسياسياً مهماً في توحيد الأمة الروسية باستنهاض العامة والأمراء لمواجهة المغول واستعادة الدولة الروسية وتجميع أراضيها الأمر الذي عزز من نفوذها في الحياة السياسية.

وقد تكرر هذا الدور "التوحيدي" عدة مرات خلال التاريخ الروسي ومنها فترة الاضطراب (1598-1612) الناجمة عن صراع الأمراء الروس وتدخلات بولندا وكذلك خلال الحروب مع الدولة العثمانية التي امتدت ثلاثة قرون تقريباً وكذلك خلال الحربين العالميتين. ولم يقتصر الدور التعبوي للكنيسة في دعم الدولة لاستعادة أراضي روسيا بل مكنتها من التمدد خاصة باتجاه الشرق والجنوب حيث أعطت مشروع روسيا التوسعي طابعًا تبشيرياً في مواجهة الشعوب المسلمة التي كانت تقيم في منطقتي الفولغا شرقاً والقوقاز جنوباً.

ومن بين أهم التطورات التي عززت دور الكنيسة ومكانتها في روسيا انتشار فكرة في غاية الأهمية مضمونها أن موسكو أصبحت "روما الثالثة" بعد أن سقطت القسطنطينية "روما الثانية" في يد العثمانيين في 1453. فمنذ ذلك التاريخ أصبح جميع الأرثوذكس تحت سيطرة المسلمين ضمن الدولة العثمانية باستثناء موسكو ما يجعلها الوريثة الشرعية للقسطنطينية وآخر مركز مستقل للأرثوذكس في العالم. وحرص الأمراء والقساوسة الروس على تأكيد الصفة المقدسة لروسيا التي تحمل رسالة الرب للعالم وأصبح هذا الحس الرسالي تجاه العالم مكوناً مهماً في الذاكرة الروسية.

كان لفكرة موسكو "روما الثالثة" أثر ديني وسياسي كبيرين حيث أصبح القيصر الروسي الحامي الوحيد للأرثوذكس في العالم وصيغت نتيجة ذلك سياسة حماية الأقليات المسيحية في الإمبراطورية العثمانية سواء وجدت في المناطق العربية أو في البلقان. ولقد شكل الصراع مع الدولة العثمانية، الذي استمر لمدة ثلاث قرون، المجال الأبرز لتوظيف البعد الديني في السياسة الخارجية للإمبراطورية الروسية ودخلت روسيا لعبة التنافس الدولي على تركة الرجل المريض التي عُرفت بالمسألة الشرقية من خلال سياسة حماية الأقليات المسيحية وكان أبرز مظاهرها بعث إرسالية دينية لفلسطين ثم تأسيس وكالة لرعاية المسيحيين في فلسطين والشام وفي نهاية القرن التاسع عشر أسست الجمعية الإمبراطورية الروسية الفلسطينية التي سيعاد إحياؤها في التسعينيات بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وتنشط بشكل ملحوظ ضمن السياسة الخارجية الروسية الراهنة تجاه المنطقة.

في بداية القرن الثامن عشر اصطدم الدور المتنامي للكنيسة الأرثوذكسية بالمشروع الطموح للقيصر بطرس الأكبر لتحديث روسيا واللحاق بالغرب ما تطلب ضبط تأثير المؤسسة الدينية في الحياة العامة، وكان من ضمن الإجراءات المهمة لهذا الغرض إلغاء منصب البطريرك وإنشاء مجلس لإدارة الكنيسة بمشاركة موظفين حكوميين وتحديد وظائف وأدوار رجال الكنيسة لا تختلف عما يقوم به موظفي الجهاز الإداري في الدولة وحرمان الكنيسة من الكثير من ممتلكاتها من الأراضي والتي منحتها نفوذا كبيراً في السابق. ونتيجة لإصلاحات بطرس الأكبر فقدت الكنيسة دورها المستقل واستمرت على هذا الحال حتى نهاية الإمبراطورية الروسية وقيام الاتحاد السوفيتي الذي تعاطي مع الكنيسة من منطلق ماركسي معادي للأديان كافة؛ حيث تعرضت كغيرها من المؤسسات الدينية (إدارات الإفتاء الإسلامية) للقمع والاضطهاد وتم حظر أنشطتها بشكل تام. هذا الموقف العدائي تجاه الكنيسة ما لبث أن تبدل خلال الحرب العالمية الثانية وفق منطق نفعي صرف حين حرص الحزب الشيوعي على توظيف الدور التعبوي للكنيسة لدعم المجهود الحربي فأعيد منصب البطريركية وفتحت الكنائس والمدارس الدينية كما أعيد افتتاح دور الإفتاء في المناطق الإسلامية.

وحتى وصول ميخائيل غور****وف للسلطة في 1986 ورغم ما تتعرض له العلاقة بين السلطة والكنيسة من تقلبات، إلا أن الأخيرة عملت على التكيف مع الواقع الجديد من خلال المساهمة في الترويج للمنجزات الاشتراكية ومبادرات السلام التي اشتهرت بها السياسة الخارجية السوفيتية آنذاك. إصلاحات غور****وف تضمنت سياسة تسامح دينية استفادت منها الكنيسة وغيرها من المؤسسات الدينية في الاتحاد السوفيتي فتوسع نشاطها وزاد الإقبال عليها خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما تسبب فيه من متاعب وصعوبات واجهت المواطنين وحدوث فراغ روحي هائل نتيجة سقوط الأيديولوجية الشيوعية. شهدت فترة التسعينيات ما يشبه الانبعاث الديني في روسيا وهو ما زاد من مكانة المؤسسات الدينية وخاصة الكنيسة الأرثوذكسية التي بدأت تلعب أدواراً اجتماعية تتجاوز دورها التعبدي التقليدي. فأصبحت الكنيسة في مقدمة المؤسسات الاجتماعية التي تحظى باحترام اجتماعي كبير مما زاد من حظوظها السياسية ما جعل السياسيون يحرصون على الحصول على دعمها في صراعهم على السلطة. كما عزز من تنامي دور الكنيسة الاضطراب الكبير الذي عاشته روسيا خلال التسعينيات والذي أعاد بدوره طرح مسألة الهوية الروسية من جديد حيث تمثل المسيحية الأرثوذكسية مكوناً أساسياً من مكونات هذه الهوية منذ تشكلها قبل 1000 عام .من جانبها حرصت السلطة على استثمار هذا الحضور المتنامي للكنيسة في صراعها مع المعارضة ودعمت الكنيسة ترشيح بوريس يلتسن للانتخابات الرئاسية في 1996 من خلال التحذير من عودة الشيوعية في حال فوز منافسه غينادي زوغانوف زعيم الحزب الشيوعي، وحدث هذا رغم أن القانون الانتخابي يحظر مشاركة الكنيسة في الانتخابات، كما ينص الدستور في مادته على فصل الدين عن الدولة.

حرصت الكنيسة في المقابل على استغلال حاجة الكرملين لها للحصول على ميزات تحققت بصدور قانون في 19977 يمنحها موقعاً متميزاً في المجتمع الروسي ويقيد عمل المنظمات الدينية الأجنبية التي بدأت جهوداً تبشيرية كان لابد من مواجهتها بهذا القانون الذي شاركت الكنيسة في صياغته.[17] وتدريجياً تشكلت علاقة بين السلطة السياسية والكنيسة الأرثوذكسية يمكن وصفها بتبادل الدعم داخلياً وخارجياً استمرت حتى وقتنا الحاضر. واليوم وبسبب سعي الكرملين نحو صياغة ما يشبه أيدلوجية قومية جامعة تكون بديلاَ للأيدلوجية الشيوعية ترسم توجهات روسيا في الداخل والخارج فقد زادت فرص الكنيسة لتعزيز دورها حيث تمثل المسيحية الأرثوذكسية أحد المكونات الرئيسة لهذه الإيديولوجية.

الكنيسة والسياسة الخارجية الروسية

منذ تفكك الاتحاد السوفيتي ظهر جدل بين دارسي السياسية الخارجية حول محددات السياسة الخارجية للدولة الروسية الجديدة والمؤسسات المشاركة في صناعتها. فمقارنة مع العهد السوفيتي حين كانت السياسة الخارجية مبنية على منطلقات أيدلوجية ومصالح القوة العظمى وتحتكرها الأجهزة العليا في الحزب الشيوعي، لا تبدو الصورة واضحة بالنسبة لسياسة روسيا الاتحادية سواء فيما يتعلق بالدوافع والعوامل المؤثرة أو آليات صناعة القرار. الأمر الوحيد المتفق عليه هو انتهاء دور الإيديولوجية وحلول النزعة البرجماتية في تحركات روسيا على الساحة الدولية. إلا أن مبدأ البرجماتية لا يكفي لتفسير السياسة الروسية التي تبدو أحياناً في صدام مع الحسابات البرجماتية المباشرة.

لقد بينت دراسات مختلفة أن السياسة الخارجية الروسية هي نتاج لعدة محددات تشكلت خلال مرحلة تفكك الاتحاد السوفيتي وتبعاته المؤلمة على روسيا سواءً ما يتعلق بهويتها القومية أو مكانتها الدولية أو أحوالها الاقتصادية التي تعتمد فيها بالدرجة الأولى على مبيعات النفط والغاز، وأخيراً صورتها كقوة عسكرية عظمى بعد ما واجهته من صعوبات خلال التسعينيات في حربها ضد الأقلية الشيشانية. كما تشير دراسات إلى تأثير لقوى وجماعات خارج الإطار التقليدي لصناعة القرار ومن أبرزها المؤسسة العسكرية والأمنية وشركات النفط والغاز والكنيسة والمراكز البحثية.

لذلك فهناك حاجة للأخذ بجميع هذه المحددات للوصول إلى فهم دقيق للسياسة الخارجية للدولة الروسية بدلاً من البحث عن متغير واحد يفسر النشاط الروسي المتنامي على الساحة الدولية منذ استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية مع بداية هذا القرن. وهناك ما يبرر إضافة مؤثر آخر يتمثل في المنظومة القيمية للشعب الروسي وكذلك الاعتقاد الشائع بين الروس بتميز روسيا ثقافياً وروحياً ما يمنحها دوراً مختلفاً على الساحة الدولية حيث يزداد حضور البعد الثقافي في علاقات الدول وتحركاتها تجاه بعضها البعض.

وتتأكد هذه الحاجة لنظرة شاملة لمحددات السياسة الخارجية الروسية من خلال قراءة وثائق "مفهوم أو عقيدة" السياسة الخارجية الروسيةforeign policy concept التي نشر منها أربع نسخ في (1993) (2000) ( 2008 ) (2013 ) وتتضمن تشخيصاً للواقع الدولي وتحديداً للمبادئ والاتجاهات الرئيسة للسياسة الروسية والأوليات سواءً من حيث القضايا أو المناطق التي يجب أن تحظى باهتمام خاص. النسختان الاخيرتان (2013،20088) تكشفان عن حضور متنامي للعامل الثقافي/الديني في تشكيل توجهات السياسة الروسية وتحديد الأولويات. ففي الوثيقتين إشارات إلى تزايد دور الدين على الساحة الدولية وتأكيد متكرر على البعد الحضاري في العلاقات بين الشعوب والتنبيه لما يوصف بتكتل الحضارات ومحاولات فرض أنظمة قيمية بوصفها قيماً إنسانية مشتركة. فللمرة الأولى-وفق وثيقة 2013- تحدث في التاريخ الحديث "المنافسة العالمية على المستوى الحضاري". وتروج الوثيقة لروسيا كنموذج للتعايش الحضاري والتعددية الثقافية. وتضمنت النسختان إشارة صريحة للكنيسة الأرثوذكسية من خلال التأكيد على ضرورة التفاعل النشط معها ودعم مبادراتها في قضايا الحوار بين الأديان والثقافات والتصدي للتعصب الديني.

ويتأكد حضور الرؤية الدينية أو "الروحانية" وهو الوصف الذي يستخدمه الساسة الروس من خلال تصريحات للرئيس فلاديمير بوتين ولوزير الخارجية سيرغي لافروف في أكثر من مناسبة؛ ففي خطابه السنوي أمام مجلس الاتحاد (المجلس الأعلى في البرلمان) في ديسمبر 2013 انتقد الرئيس النزعة نحو ما وصفه بتدمير القيم التقليدية باسم حرية الفكر والآراء رغم أن غالبية الناس ترفض هذه الاتجاهات وذكر أن هناك تأييد لتوجهات روسيا لحماية القيم التقليدية والتي تعد الأساس الروحي والأخلاقي للحضارات. وفي خطابه قال "نحن نقدر الأسرة التقليدية والحياة البشرية الحقيقية، بما في ذلك الحياة الدينية لشخص ما وليس فقط وجوده المادي، ونقدر أيضا القيم الروحية الإنسانية والتنوع في العالم".

وفي فبراير 20122 نشرت انترفاكس (وكالة أنباء روسية خاصة) خبراً بأن بوتين وكان حينها رئيسا للوزراء وخلال لقائه مع قادة الكنيسة الأرثوذكسية قد وعد بالدفاع عن المسيحيين الذين يتعرضون للظلم خارج روسيا وجعل هذا من مهام السياسة الخارجية الروسية. كما أكد بوتين في لقاء آخر مع قادة الكنائس المحلية في يوليو 20133 على أن العلاقة بين الدولة والكنيسة بلغت مستويات متقدمة وقال "علينا أن نعمل كشركاء حقيقيين لمعالجة القضايا الداخلية والدولية الأكثر إلحاحا وتطوير مبادرات مشتركة لصالح وطننا وشعبنا". وزير الخارجية سيرغي لافروف وفي حديث له أمام مجلس سياسات الدفاع والخارجية الروسي في نوفمبر 2014 وبعد تأكيده بأن النظام الدولي يجب أن يكون متعدد الأقطاب ويعكس التعددية الثقافية والحضارية في العالم وجه انتقاداً حاداً للدول الأوربية لتجنبها الحديث عن حقوق المسيحيين في الشرق الأوسط رغم اهتمامها المكثف بظاهرة الاسلاموفوبيا في أوروبا. واتهم لافروف الأوربيين بالخجل من الحديث عن ظاهرة كراهية المسيحية كما خجلوا من تضمين دستور الاتحاد الأوروبي نصاً يؤكد الجذور المسيحية لأوروبا. ولذلك فقد تقدمت روسيا بمقترح لتخصيص لقاء ضمن الاجتماعات السنوية لمنظمة الأمن والتعاون الأوربي السنوية لبحث هذه الظاهرة.

وفي 2007 وخلال مشاركته في احتفال أقامته الكنيسة الأرثوذكسية بمناسبة مرور ست سنوات على تولي البطريرك الكسي الثاني أثنى لافروف على دور الكنيسة في الدفاع عن حقوق المواطنين الروس المقيمين خارج روسيا ودورها في تأكيد مبدأ التنوع الحضاري في العالم المعاصر، وعبر أيضاً عن رضاه باستمرار التواصل بين وزارة الخارجية والكنيسة ووصف التعاون بينهما بأنه تقليد عريق في الدبلوماسية الروسية. البطريرك كيريل عبر عن تقديره لتعاون الوزارة مع الكنيسة لحماية الحقوق الثقافية والدينية للروس في الخارج وللتفاهم المشترك حول ضرورة إنشاء نظام دولي عادل وعلى أسس روحية.

وخلال احتفال مماثل في 2009 كرر الوزير لافروف ثنائه على دور الكنيسة الأرثوذكسية في الدفاع عن القيم الروحية داخل روسيا وخارجها، وأكد عدم إمكانية مواجهة التحديات في العالم المعاصر دون تعزيز القيم الأخلاقية ما يستدعي الموائمة بين قضايا السياسة الخارجية وقيم الأديان العالمية من أجل ضمان محافظة النظام الدولي على تنوعه الثقافي والحضاري ضد مساعي فرض الثقافة الغربية. كما أكد على ضرورة استمرار التعاون بين وزارة الخارجية والكنيسة من خلال مجموعة العمل المشتركة المشكلة في 2003 بهدف المساهمة في الجهود الدولية في حوار الأديان ومكافحة التعصب. وبمناسبة مرور خمسة وستون عام على تأسيس إدارة الشؤون الخارجية في الكنيسة بعث لافروف خطاباً إلى البطريرك كيريل أثنى فيه على دور الكنسية في تعزيز الأسس الأخلاقية للعلاقات الدولية وسعيها لمساهمة في حل القضايا الدولية المهمة.

وشارك في هذا الاحتفال رئيس الديوان الرئاسي ونائب رئيس الوزراء وعدد من المسولين الحكوميين. وتقديراً لجهوده في تعزيز العلاقة بين وزارة الخارجية والكنيسة ودعم مبادرات الكنيسة على الساحة الدولية منحت الكنيسة وزير الخارجية وسام القديس سيرجيوس من الدرجة الاولى.

وخلال ندوة على هامش اجتماعات الدورة الثامنة والعشرين لمجلس حقوق الإنسان تحدث لافروف باستفاضة عما "يتعرض له المسيحيين من اضطهاد وتمييز ليس فقط في الشرق الأوسط بل في أوكرانيا أيضاَ حيث تدمر الكنائس ويقمع رجال الكنيسة وفي أوروبا حيث أصبح هناك شعور بالخجل من القيم المسيحية التي تشكل أساس الحضارة الأوربية بسبب الأفكار العلمانية المتطرفة، وأن المسيحية وليس الإسلام فقط تتعرض في أوروبا للازدراء، وحذر الغرب بأن التاريخ يسجل أن الحضارة التي تتخلى عن قيمها الأخلاقية تفتقد قوتها الروحية".[32]ونلحظ هنا درجة كبيرة من التشابه بين هذه الأفكار التي يعلنها الوزير لافروف وبين خطاب الكنيسة الأرثوذكسية بالحاجة للدفاع عن المسيحية والمسيحيين وهو خطاب تلخصه ورقة قدمتها الكنيسة في المؤتمر السنوي الخامس عشر لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي الخاص بالمسائل الإنسانية المنعقد في وارسو في ديسمبر 2011 ونجد في هذه الورقة أصل المقترح الذي قدمه وزير الخارجية لافروف في نهاية 2014 لمنظمة الأمن والتعاون الأوربي لجعل قضية كراهية المسيحية (المسيحية فوبيا) من بين القضايا الدائمة على أجندتها ما يؤكد التنسيق بين الوزارة والكنيسة.

ومن التحركات التي تظهر اهتمام السياسة الخارجية الروسية بمسائل الأديان في العلاقات الدولية مقترح تقدمت به وزارة الخارجية لإنشاء مجلس استشاري للأديان العالمية تحت مظلة الأمم المتحدة يهدف للتعاطي مع الجانب الديني في حوار الحضارات ويكون منتدى يتواصل من خلاله قادة الأديان العالمية مع المسئولين الحكوميين لتبادل الرأي حول أجندة الأمم المتحدة الإنسانية والدينية.سفير روسيا في المملكة المتحدة الاكسندر ياكوفينكو نشر مقالاً بعنوان احموا حماية المسيحيين في الشرق الأوسط ذكر فيه أن حماية المسيحيين في الشرق الأوسط يأتي في مقدمة أولويات السياسة الخارجية الروسية وتحدث عن جهود الحكومة الروسية والمنظمات المدنية في روسيا لتقديم الدعم والحماية للأقليات المسيحية في الشرق الأوسط ودعا الدول الأوربية إلى مشاركة روسيا هذه الجهود بالنظر إلى الجذور المسيحية للحضارة الأوربية.

الوزير سيرغي لافروف أعاد تأكيد هذه المسؤولية فقد صرح بأن المسيحيين الذين يتعرضون لعمليات *** ونهب واختطاف ويتم طردهم من وطنهم "يتطلعون إلى روسيا بحثا عن الحماية".


أما أبرز الخطوات التي تؤكد تنامي البعد الديني في السياسة الخارجية الروسية تجاه الشرق الأوسط فتتمثل في إعادة إحياء الجمعية الإمبراطورية الروسية الفلسطينية والتي تأسست قبل أكثر من 130 سنة. وجاء إنشاء الجمعية في إطار التنافس الدولي على بلاد الشام في القرن التاسع عشر والذي عرف بالمسألة الشرقية حيث تبنت القوى الكبرى آنذاك دعم الأقليات الدينية وحمايتها وتقديم الدعم للكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية من خلال القنصليات في القدس وكذلك إرسال البعثات التبشيرية حيث بلغ عدد المؤسسات التبشيرية الأوروبية في بلاد الشام حتى عام1912 ثمانية وثلاثون مؤسسة. لم تكن الإمبراطورية الروسية خارج هذا التنافس حيث بعثت إرسالية تبشيرية، إلا أن تقريراً مفصلاً عن الأحوال الصعبة للكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين مقارنة ببقية الكنائس أقنع السلطات الإمبراطورية بالأخذ بتوصية التقرير بضرورة تأسيس جمعية تتولى الإشراف على علاقات روسيا بالأماكن المقدسة في فلسطين وبلاد الشام وهو ما تم في سانت بطرسبرغ في 1882 وترأسها عم القيصر نيقولا الثاني وضمت في عضويتها بعض أفراد الأسرة القيصرية ومسئولين حكوميين وتحديداً من وزارة الخارجية وحصلت على تبرعات كبيرة، وكان من ضمن أهداف الجمعية:-

جمع وتطوير ونشر المعلومات في روسيا عن ألاماكن المقدسة في الشرق.
مساعدة وتشجيع الحجاج الأرثوذكسيين في الوصول إلى هذه ألاماكن.
تقوية ودعم الطائفة الأرثوذكسية بين السكان المحليين.
تنفيذ الدراسات والأبحاث العلمية حول تاريخ وآثار فلسطين.
تأسيس المدارس، بناء المستشفيات وبيوت الحجاج.
تقديم المساعدات المادية إلى السكان المحليين والكنائس والأديرة ورجال الدين.

ومنذ تأسيسها وحتى عام 1914 أنشأت الجمعية 114 مدرسة وفتحت مراكز طبية وقامت ببناء الكنائس وترميمها وتجهيزها بالأثاث ولم تقتصر أنشطتها على فلسطين بل شملت بلاد الشام . وأثناء الحرب العالمية الأولى تراجع نشاط الجمعية وضعفت بعد الثورة الشيوعية حيث تغير اسمها إلى الجمعية الفلسطينية الروسية، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي أصدر مجلس السوفيت الأعلى (البرلمان ) الروسي قراراً باستئناف الجمعية نشاطها تحت اسمها القديم” الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية” لتعمل على دعم جهود الدولة الروسية في منطقة الشرق الأوسط في كافة المجالات الدبلوماسية والعلمية والثقافية والدينية والاجتماعية. وتولى رئاسة الجمعية شخصيات سياسية بارزة منها رئيسها الحالي سيرغي ستيباشين-رئيس الوزراء السابق- الذي أكد توجه نحو إنشاء فروع للجمعية في سوريا ولبنان. ويحمل وزير الخارجية سيرغي لافروف وكذلك سفير روسيا في المملكة العربية السعودية ومندوبها لدى منظمة التعاون الإسلامي عضوية فخرية في الجمعية.

وتشرف الجمعية على المركز الروسي للثقافة والعلوم في بيت لحم والذي دشنه الرئيس الروسي بوتين في يونيو 2012. وعقدت الجمعية مؤتمرها الأول في موسكو في يوليو 2010بحضور بطريرك موسكو وسائر روسيا، ونائب وزير الخارجية، وعمدة موسكو.[39] وفي نوفمبر 20133 نظمت الجمعية في موسكو مؤتمر مسيحي الشرق بمشاركة شخصيات سياسية ودينية من روسيا والشرق الأوسط وخلال المؤتمر أعلن مسئول العلاقات الخارجية في فرع موسكو للجمعية عن إنشاء الجمعية لمركز لشؤون القدس يتركز عمله "على إظهار عروبة القدس أمام محاولات التهويد الإسرائيلية.

وفي ديسمبر 2013 أنشأت الجمعية مركزاً سمته المركز الاجتماعي لحماية المسيحيين في الشرق الأوسط ترأسه يلينا أغابوفا نائب رئيس الجمعية. ومن المهام التي تم تكليف المركز الجديد بها والتي سيقوم بها بالتعاون مع وزارة الخارجية الروسية وبدعم من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية: متابعة وضع المسيحيين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتحرك بسرعة رداً على ما يحدث هناك، وتقديم المساعدات الإنسانية بالإضافة إلى مواصلة العمل على ساحة مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة بجنيف وغيره من المنظمات الدولية.

وفي شهر ابريل 2014 قام رئيس الجمعية الإمبراطورية سيرغي ستيباشين بزيارة لسوريا التقى خلالها الرئيس بشار الأسد وبلغه رسالة شفهية من الرئيس فلاديمير بوتين "أكد فيها تصميم بلاده على مواصلة دعمها صمود الشعب السوري في جميع المجالات في مواجهة الحرب التي يخوضها ضد الإرهاب الدولي المدعوم من بعض الدول الغربية والإقليمية."[42] وحسب صحيفة تشرين التي نشرت خبر اللقاء عبر ستيباشين عن "إدانة بلاده لما تقوم به المجموعات الإرهابية من أعمال *** وترويع تستهدف الشعب السوري بمختلف مكوناته" وذكر "أن الجمعية التي يرأسها تقوم بجمع تبرعات لإرسال مساعدات إنسانية "[43] ونشرت وكالة الإنباء الروسية "تاس" نفي أكتوبر 20144 تصريحاً لنائب رئيس الجمعية أوليغ فومين عن نية الجمعية فتح فرع لها في مصر لمساعدة الأقباط، إضافة إلى التخطيط لفتح فروع في ليبيا والجزائر والمغرب. ودأبت الجمعية على تنظيم حلقة نقاش عن أحوال المسيحيين في الشرق الأوسط على هامش اجتماعات مجلس حقوق الإنسان الدورية في جنيف بالتنسيق مع البعثة الدائمة لروسيا.

ولعل المؤشر الأكثر أهمية على علاقة الجمعية بالسياسة الخارجية الروسية هو كون نائب وزير الخارجية والمبعوث الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف يتولى منصب نائب رئيس الجمعية وشارك ضمن وفد الجمعية في فبراير 2014 في زيارة للفاتيكان لعرض مأساة المسيحيين في سوريا.[46]
أسباب الحضور الديني في السياسة الخارجية الروسية:

الوقائع أعلاه سواء كانت تصريحات أو مبادرات تشير إلى أن العامل الديني (الروحي حسب لغة المسئولين الروس) يسهم بشكل أواخر في تشكيل الرؤية الروسية للعالم والتي بدورها تؤطر التحرك الخارجي ضمن جملة من المحددات. ويظهر لنا أن هذا البعد الروحي في السياسة الخارجية الروسية الراهنة يعود للأسباب التالية:-

أن تأكيد القيادة الروسية أن روسيا قوة كبرى وشريك رئيس في إدارة الشؤون الدولية يستوجب استحضار التاريخ الروسي حين كانت الإمبراطورية الروسية شريكاً رئيساً في تشكيل السياسة الأوربية في القرنين الثامن والتاسع عشر وكانت الأرثوذكسية مكوناً مهماً في سياسة الإمبراطورية حينئذ. ولذلك لا يمكن تصور عودة روسيا قوة كبرى بعد تخلصها من الإرث السوفيتي دون تاريخها المليء بالموروث الديني رغم جميع محاولات الإصلاح والتحديث.

أن متطلبات لعب دور القوة الكبرى لا تقتصر على امتلاك مقدرات مادية عسكرية وبشرية واقتصادية فقط، بل هناك حاجة إلى "رسالة" تمنح روسيا حساً رسالياً يكون مباركاً لتحركاتها في مختلف مناطق العالم.
يعيش ما يقرب من 25% من أتباع الكنيسة الروسية الأرثوذكسية خارج روسيا خاصة في الجمهوريات السوفيتية السابقة وكذلك في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط ولها أتباع أيضا في مختلف مناطق العالم. هذا الانتشار خارج الحدود الجغرافية يمنح الكنيسة فرصة لتوسيع تأثيرها الديني ويجعل الدولة الروسية شريكاً في مساعدة هؤلاء الأتباع والدفاع عن حقوقهم الثقافية والدينية.

تؤمن القيادة الروسية بمفهوم واسع للتنافس الدولي الراهن لا يقتصر على تحقيق المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية التقليدية فحسب بل يشمل الترويج لأنظمة قيمية ونماذج حضارية ما يمنح الكنيسة الأرثوذكسية فرصة للتأثير؛ خاصة مع وجود قناعة راسخة عند النخب الروسية على اختلاف توجهاتها بأن روسيا تمثل نموذجاً مثالياً للتعايش الديني والحضاري.
في إطار التنافس الحضاري الدولي أصبحت الخارجية الروسية توظف القوة الناعمة والتي نصت عليها وثيقة السياسية الخارجية المنشورة في 2013 ومن أدواتها اللغة والثقافة الروسيتين. هذا التوظيف يظهر بشكل بارز في مفهوم العالم الروسي (روسكي مير) الذي يشمل الروس حيثما كانوا، وحسب البطريرك كيريل فالعالم الروسي يعد رابطة بين مختلف الشعوب المرتبطة بروسيا التاريخية (كييف روس) دون اعتبار للحدود الجغرافية أو السياسية. هذه الشعوب تعيش اليوم في أربعة عشر دولة تشكلت حديثا على أثر تفكك الاتحاد السوفيتي وتمثل أراضيها مجالاً حيوياً لروسيا. وفي2007 أعلنت الحكومة الروسية إنشاء صندوق روسكي مير لدعم اللغة والثقافة الروسية على مستوى العالم، ووقع الصندوق في 2009 اتفاقية تعاون مع الكنيسة لتنفيذ نشاط مشترك لتقديم الدعم للمدارس المرتبطة بالكنيسة خارج روسيا.

كيف تتحرك الكنيسة خارجياً؟

في عام2000 أصدرت الكنيسة وثيقة تأسيسية تحت عنوان "أسس المفهوم الاجتماعي" تضمنت رؤية وتوجهات مفصلة لعلاقة الكنيسة بأتباعها وبالأمة الروسية والدولة وكذلك بالأجهزة الحكومية . وأكدت الوثيقة أن الكنيسة ترتبط مع الدولة في علاقة تتسم بالانسجام قوامها التعاون وتقاسم الاختصاصات والدعم المتبادل مع عدم تدخل أي منهما في شؤون الآخر. فالدولة بحاجة لدعم الكنيسة ومباركتها لتحقيق أهدافها، في حين توفر الدولة الدعم الكنيسة لتهيئة الظروف المناسبة للقيام بواجباتها الدينية. وتحدثت الوثيقة عما وصفته بالمواطنة المسيحية؛ حيث يتوجب على المسيحي حب وطنه والتضحية من أجله والالتزام بما يصدر عن الدولة من توجيهات وكذلك التضامن مع مواطنيه حيثما كانوا. وحددت الوثيقة أيضاً عدة مجالات للتعاون بين الكنيسة والدولة من أبرزها:

أ) صنع السلام على الصعيد الدولي وتعزيز التفاهم المتبادل والتعاون بين الشعوب والدول.
ب) الحفاظ على الأخلاق في المجتمع.
ج) التربية الروحية والثقافية والأخلاقية والتنشئة الوطنية.
د) تطوير المشاريع الخيرية المشتركة.
ه) حفظ وتطوير التراث التاريخي والثقافي.
و) الحوار مع الهيئات الحكومية حول القضايا الهامة للكنيسة والمجتمع بما في ذلك وضع القوانين والسياسة العامة.
ز) العناية بأفراد الجيش والأمن وتوفير التعليم الروحي والأخلاقي لهم.
ح) بذل الجهود للتصدي للجريمة ورعاية السجناء.
ط) تقديم الرعاية الصحية.
ك) دعم الأسرة، والأمومة والطفولة.
ع) التصدي للتنظيمات شبه الدينية التي تهدد المجتمع (يقصد بها الأنشطة التبشيرية التي تقوم بها كنائس غربية).

كما بينت الوثيقة أن الكنيسة تحضر على أعضائها الدخول في الصراعات السياسية وتقديم الدعم للأحزاب أو الزعماء السياسيين ولا تشارك أنشطة الحكومة الاستخباراتية وتحضر دعم العدوان الخارجي. من جانب آخر تتبنى الكنيسة الأرثوذكسية مفهوم الحرب العادلة وتؤكد دورها في حل النزاعات واستعدادها للتوسط بين الأطراف المتنازعة بما في ذلك على المستوى الدولي.

الوثيقة تضمنت مبحثاً خاصاً بالعلاقات الدولية تحدث عن مفهوم الكنيسة للعلاقات بين الدول والذي تسم بالواقعية ويتأسس على رؤية تشاؤمية للطبيعة البشرية والخطية الأصلية ؛ فهي تؤكد حتمية الصراع بين الدول، إلا أنها تدعو لالتزام الطرق السلمي لحل النزاعات. كما شمل هذا المبحث مناقشة لتفكك الاتحاد السوفيتي وما ترتب عليه من أضرار على الشعوب من خلال فرض هويات وطنية ولذلك أكدت فضائل التكامل السياسية والاقتصادية بل وحتى توفير القدرة العسكرية لمواجهة التهديدات الخارجية المشتركة. وتضمنت الوثيقة أيضا نقدا لازدواجية المعايير في العلاقات الدولية وهيمنة القوى الكبرى على المنظمات الدولية ودعت للمساواة بين أعضاء المنظمات الدولية في عملية صناعة القرار وحقوق التصويت داخلها. هذه الدعوة تكاد تكوون مماثلة لدعوات روسيا لإصلاح المؤسسات الدولية بما يعبر عن الواقع الراهن لتوزيع القوة في النظام الدولي. كما انتقدت الوثيقة ظاهرة تركز القوة في الشركات المتعددة الجنسية وسعيها إلى فرض سياساتها دون مراعاة مصالح الشعوب وقيمها وتقاليدها ما يستدعي تأسيس نظام عالمي لضبط ممارسات هذه الشركات. كما تناولت التوزيع غير العادل لثمار العولمة وتركيز الثروة في يد الأقلية، إضافة إلى مساعي بعض الدول لتوظيف العولمة لفرض قيمها بدعوى أنها تمثل قيماً إنسانية مشتركة. كما انتقدت الوثيقة هيمنة الرؤية العلمانية عند سن القوانين الدولية خاصة تلك التي تمس مباشرة المسائل الاجتماعية يقصد بهذا معاهدات حقوق الإنسان) وأكدت سعيها لمشاركة في عملية صياغة هذه القوانين وتأكيد القيم المسيحية وكذلك العمل على الاعتراف بالحق في تقديم منظور ديني تجاه كيفية التعاطي مع هذه المسائل.

كذلك أيضا نقد للعلاقات الدولية والعولمة وفرض ثقافات تحت اسم قيم إنسانية مشتركة والتعدي على الهويات الوطنية والدينية تركيز القوة والثراء في يد الأقلية. كل هذا يكاد يكون صورة مكررة من ما تضمنته وثيقة السياسة الخارجية الروسية خاصة في نسختها ما يدل على تنسيق بين وزارة الخارجية والكنيسة[49]
تنشط الكنيسة الأرثوذكسية خارج روسيا بشكل منتظم ومتواصل من خلال إدارة الشؤون الخارجية والتي جعلت البعض يصف الكنيسة بالكيان الوحيد داخل روسيا الذي يتمتع بسياسة خارجية مستقلة. وتتولى إدارة الشؤون الخارجية الإشراف على علاقات الكنيسة ببقية الكنائس الأرثوذكسية وغير الأرثوذكسية والمنظمات المسيحية والطوائف الدينية غير المسيحية وكذلك العلاقة مع الهيئات الحكومية والبرلمانية والمنظمات الإقليمية والدولية. وقد تنامى نشاط الإدارة التي تأسس في 1946 نتيجة تزايد حضور الكنيسة الخارجي حيث تتولى علاقات الكنيسة مع منظمة الأمم المتحدة ومجلس أوروبا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وتشمل أجندة التعاون قضايا دولية يأتي في مقدمتها: الأمن والسلام ومحاربة الإرهاب والتطرف وتعزيز حقوق الإنسان وحوار الحضارات. وتتواصل الإدارة باسم الكنيسة مع الهيئات الحكومية والبعثات الدبلوماسية والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني خارج روسيا بهدف الحفاظ على القيم الدينية والثقافية التقليدية وضمان استمرار حضور البعد الديني في المجتمع الدولي.

كما تتولى الإدارة مسؤولية متابعة القضايا الدولية المؤثرة على مصالح الكنيسة وإبلاغ البطريرك بكافة التطورات وتحديد مواقف الكنيسة وصياغة بياناتها تجاهها. وتمارس الإدارة مهامها من خلال عدة أقسام كما يتبعها قسم للمراسم ويرأس الإدارة المطران هيلاريون وهو عضو في المجمع المقدس للكنيسة. وخلال العهد السوفيتي وتحديداً في الستينيات والسبعينيات استثمرت الكنيسة نشاطها الخارجي وخاصة إصدار البيانات حول قضايا الأمن والسلم الدوليين كوسيلة لتخفيف الضغط الممارس عليها من السلطات في الداخل.

وتتولى الإدارة التنسيق بين الكنيسة ووزارة الخارجية وتم تأطير هذا التنسيق في 2003 بتوقيع اتفاق تعاون بين الكنيسة والوزارة تم بموجبه تشكيل مجموعة عمل مشتركة يجتمع بشكل دوري للبحث في قضايا التعاون في الشأن الدولي. وحتى 2016 عقدت مجموعة العمل واحد وعشرين اجتماعاً برئاسة مشتركة من نائب وزير الخارجية والمطران هيلاريون رئيس إدارة الشؤون الخارجية بالكنيسة. وقد أثمر التعاون بين الكنيسة ووزارة الخارجية عن مشروع أطلق عليه اسم الأيام الروسية في الخارج يقوم على تنظيم أنشطة دينية بالتعاون بين الكنيسة والخارجية من خلال البعثات الدبلوماسية وشكلت لهذا الغرض لجنة تنظيمية تقر الأنشطة السنوية برئاسة مشتركة تجمع مسئول الشؤون الخارجية في الكنيسة ونائب وزير الخارجية. فعلى سبيل المثال نُظم في 2008 مهرجان الأيام الروسية في سبع دول في أمريكا اللاتينية التقى خلالها مسئول الشؤون الخارجية في الكنيسة الأرثوذكسية عدد من رؤساء تلك الدول. وبهدف تعزيز حضورها الدولي فقد حرصت الكنيسة على إنهاء الخلاف مع الكنيسة الروسية التي تنشط خارج روسيا منذ العشرينيات من القرن الماضي بعد استيلاء الحزب الشيوعي على السلطة حيث تم توقيع اتفاق مصالحة بين الكنيستين بحضور الرئيس فلاديمير بوتين الذي احتفى بهذا الحدث التاريخي.

وتنشط الكنيسة الأرثوذكسية بشكل مكثف في دول الاتحاد السوفيتي السابق والتي تعدها روسيا منطقة نفوذ تقليدي وتسعى لاستمرار التأثير الروسي من خلال آليات وشبكات متعددة ومنها رابطة الدول المستقلة والاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يضم روسيا وروسيا البيضاء وكازاخستان وأرمينيا. ويأتي دور الكنيسة في دعم هذه الهيمنة من خلال دعوى المسؤولية الروحية تجاه الأقليات الروسية في هذه الدول، وكذلك ترجمة للرابطة التاريخية والروحية والثقافية بين روسيا وشعوبها. ويظهر هذا الدور بشكل خاص في أوكرانيا حيث تتحدث الكنيسة عن ضرورة المحافظة على الرابطة الحضارية مع أوكرانيا وذلك لمكانتها الخاصة في تاريخ روسيا القديم حيث ولدت الأمة الروسية قبل أكثر من 1000 عام على أراضي أوكرانيا وعرفت آنذاك باسم "كييف روس". وتنظر الكنيسة بريبة نحو مساع الغرب لبناء شراكة مع أوكرانيا تهدف من خلاله لعزل أوكرانيا من محيطها التاريخي وانتمائها الحضاري الأرثوذكسي؛ ولذلك تعبر دائماً عن دعمها للسياسة الروسية تجاه الأزمة هناك. هذا الموقف يتكرر في بقية الجمهوريات السوفيتية ويعكس انسجام بين مفهوم العالم الروسي الذي يروج له الكرملين ويشمل كافة الدول التي خلفت الاتحاد السوفيتي وبين رؤية الكنيسة بأن الكنائس في هذه الدول تدخل ضمن "سلطتها الروحية".

محاولات مختلفة لتفسير السياسة الروسية تجاه سوريا

الموقف الروسي الثابت تجاه الصراع في سوريا أثار حيرة المراقبين الذي سعوا للبحث عن تفسير لهذا الدعم المتواصل الذي تقدمه موسكو للنظام السوري وبلغ حد التدخل العسكري المباشر رغم ما تسبب فيه من *** مئات الآلاف من الأبرياء وتشريد الملايين وتدمير مقدرات الدولة. وطرحت جملة من التفسيرات الإستراتيجية والعسكرية والاقتصادية إضافة إلى خشية موسكو من تكرار التجربة الليبية في 2011.

بعض المراقبين أشار إلى أن الموقف الروسي المتعنت تجاه الصراع في سوريا يمكن تفسيره من خلال مصالح روسيا الإستراتيجية على مستوى النظام الدولي؛ فهي ترى في الصراع فرصة لاستعادة المكانة وفرض الشراكة الدولية بدلاً من الانفراد الأمريكي بإدارة العلاقات الدولية. فروسيا في مجمل تحركاتها تجاه القضايا الدولية الراهنة تنطلق من هذه الرؤية الإستراتيجية وهو ما يفسر دخولها في مواجهات متكررة مع الولايات المتحدة دفعت البعض إلى الحديث عن حرب باردة جديدة. آخرون يرون أن الموقف الروسي نابع من رغبة موسكو المحافظة على ما تبقى من مصالحها في المنطقة التي شهدت تآكلاً مستمراً منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. فقد أصبحت سوريا الشريك العسكري الوحيد لروسيا في المنطقة وتبرز هنا أهمية ميناء طرطوس على البحر المتوسط كآخر قاعدة للأسطول الروسي. ويرجع استخدام هذه القاعدة إلى بداية السبعينيات حين وقعت اتفاقية بين سوريا والاتحاد السوفيتي في 1971 نشأ بموجبها محطة في ميناء طرطوس للإمداد والصيانة للأسطول السوفيتي في البحر المتوسط. ومنذ 2009 عملت روسيا على تحديث المحطة لتصبح مهيئة لاستضافة غواصات نووية ما حولها إلى قاعدة عسكرية وذلك في إطار التصعيد المتبادل مع حلف الناتو الذي يستمر في التوسع شرقاً قريباً من الحدود الروسية.

قرب منطقة الشرق الأوسط لحدود روسيا الجنوبية ولَد دائماً مخاوف في موسكو من تمدد صراعات المنطقة نحو شمال القوقاز التي كانت ولا تزال مصدر تهديد لاستقرار روسيا ووحدتها وخاضت القوات الروسية فيها أشرس معركة مع الثوار الشيشان الذين تلقوا دعم عناصر جهادية تخشى روسيا استعادتهم الحيوية نتيجة استغلاهم بؤر الصراع في الشرق الأوسط؛ خاصة مع ظهور تنظيم داعش وانضمام مقاتلين روس للتنظيم تقدر أجهزة الأمن الروسية عددهم بخمسة ألاف مقاتل. من هنا فإن التدخل الروسي في سوريا يفسر كمحاولة دفاعية لاحتواء خطر هذا التنظيم وتأمين حدود روسيا الجنوبية.

البعض يفسر الموقف الروسي كنتيجة لخشيتها على مصالحها الاقتصادية حيث تعد سوريا شريكاً تجارياً رئيساً وتشمل العلاقات مبيعات الأسلحة واستثمارات في مجالات الطاقة والتنقيب عن النفط والغاز وبناء مفاعل نووي لتوليد الكهرباء وكذلك المشاركة في مشاريع البنية التحتية والزراعة والري والاتصالات والنقل. وكانت روسيا قد ألغت معظم الديون السوفيتية على سوريا وتقدر ب 13 مليار دولار.

وثمة تفسير آخر للتشدد الروسي والذي ظهر جلياً في اعتراضها ست مرات على صدور قرار أممي ضد النظام السوري يتمثل في خشيتها من أن تتعرض مرة أخرى لما تصفه بالخديعة كما حدث في ليبيا حين وسع الناتو تفسير قرار مجلس الأمن 1973 بفرض منطقة حظر جوي ليتحول إلى غطاء لتقديم دعم للمعارضة لإسقاط النظام وانتهى إلى دخول ليبيا نفق حرب أهلية لا تزال مستمرة.

لاشك أن جميع التفسيرات أعلاه تساعد في فهم الموقف الروسي تجاه الصراع في سوريا؛ فقضايا السياسة الخارجية بشكل عام تتسم بالتعقيد الشديد الذي لا ينسجم مع التفسير الأحادي ورغم أن كل تفسير له قيمة ووزن مختلف، إلا أنه لا يمكن استبعاده إذا ما أردنا الوصول إلى فهم موضوعي للموقف الروسي الذي دفع روسيا إلى إرسال قواتها خارج مجالها الجغرافي التقليدي وذلك لأول مرة منذ التجربة المريرة للغزو السوفيتي لأفغانستان قبل أكثر من ثلاثة عقود.

وفي ضوء ما ذكرناه في الصفحات السابقة حول أهمية المسيحية الأرثوذكسية في السياسة الخارجية خلال العهد الإمبراطوري وكذلك تنامي دور الكنيسة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وإعادة إحياء مفهوم حماية الأقليات المسيحية في السياسة الروسية وحديث المسئولين الروس المتواصل عن الجانب الروحي في العلاقات الدولية والتأكيد على حماية القيم التقليدية (الدينية) الروسية أمام مساعي الغرب فرض قيمه على بقية العالم، فإن السؤال عن احتمال تأثر السياسة الروسية تجاه الصراع في سوريا برؤية مسيحية أرثوذكسية يصبح أمراً مشروعاً، خاصة وأن التنظيمات الدينية المتطرفة أصبحت طرفاً رئيساً في الصراع. إن ما تمارسه هذه التنظيمات من جرائم طالت حتى الأقلية المسيحية لا يمكن أن تمر دون استثارة المشاعر الدينية لقادة الكنيسة الأرثوذكسية في إطار وعيهم بالدور التاريخي للكنيسة بالتعاون مع الإمبراطورية في حماية الأقليات المسيحية في الأماكن المقدسة في منطقة الشام الكبرى ( سوريا فلسطين ولبنان والأردن). من هنا فقد يكون لثبات الموقف الروسي تجاه الصراع، والذي أثار تساؤلات وحيرة المراقبين دوافع دينية تشكل هذا الموقف جنباً إلى جنب مع المصالح الإستراتيجية والاقتصادية والعسكرية. ويتبين هذا من خلال النظر في تصريحات وأنشطة للبطريرك كيريل وكذلك المطران هيلاريون الذي يعد بمثابة وزير خارجية الكنسية والتي يظهر من خلالها حضوراً لا يستهان به لرؤية الكنيسة في السياسة الروسية تجاه الصراع في سوريا. بل إن هناك مؤشرات تظهر أن الكنيسة الأرثوذكسية تلعب دوراً متزايداً يتجاوز اهتماماتها التقليدية فهي تتحرك خارجياً وتصدر بيانات حول القضايا الدولية الراهنة مثل الصراع في أوكرانيا والربيع العربي والصراع في سوريا كما يعقد مسئوليها وبشكل مستمر لقاءات دبلوماسية ويقومون بزيارات خارجية ويشاركون في أنشطة دبلوماسية وحقوقية دولية غالبها معنية بالصراع في سوريا.

الكنيسة الروسية الأرثوذكسية والصراع في سوريا: أمثلة ونماذج على تحركاتها وانشطتها:
مع بدء روسيا عملياتها العسكرية في سوريا في الثلاثين من سبتمبر 2015 نقلت وكالة إنترفاكس الروسية للأنباء عن رئيس قسم الشؤون العامة في الكنيسة (فسيفولود تشابلن) تصريحاً بأن "القتال (في سوريا) ضد الإرهاب هو معركة مقدسة، وربما تكون بلادنا هي القوة الأنشط في العالم التي تقاتله".[58] هذا التصريح كان مفاجئاً للمراقبين وأثار ردود فعل غاضبة خاصة في المنطقة وكشف بوضوح عن جانب للسياسة الروسية لم يكن ظاهراً حتى تلك اللحظة والمتمثل في ما تطرحه هذه الدراسة وهو حضور البعد الديني في التحرك الروسي الخارجي إجمالاً وتجاه سوريا على وجه الخصوص. مباركة الكنيسة للتدخل العسكري تأكدت مرة أخرى من خلال بيان صدر بعد أسبوعين من التدخل عبر فيه البطريرك عن دعمه للتدخل العسكري مبرراً ذلك بفشل العملية السلمية في إنهاء الصراع ما استدعى توفير الحماية العسكرية للمدنيين. وقال "إن السلطات الروسية اتخذت قراراً مسئولا باستخدامها القوة العسكرية لحماية الشعب السوري ضد الإرهابيين وتمنى أن يعيد هذا التدخل تحقيق السلام والعدل".[59] وإذا كان هذه التصريحات تكشف مباشرة عن موقف الكنيسة، فإن تحركاتها على مستويات مختلفة وبالتنسيق مع الحكومة الروسية منذ بدء الصراع في سوريا في 20111 تؤكد أن الموقف الروسي المتصلب لم يكن مجرد تعبير عن رؤية سياسية أو حتى إستراتيجية بل ساهم في تشكله رؤية دينية لم تلبث أن تظهر بشكل أكثر وضوحاً مع تطور مراحل الصراع.

فمنذ الأشهر الأولى للصراع في سوريا نشطت الكنيسة الأرثوذكسية للاطمئنان على عدم تعرض الأقلية المسيحية هناك للضرر بشكل يكرر التجربة الصعبة التي عاشتها الأقلية المسيحية في العراق نتيجة الأعمال المسلحة والصراع الطائفي والذي تسبب في تهجير مئات الإلف من المسيحيين حسب إفادات متكررة لمسئولي الكنيسة الروسية. فحسب تقديرات رئيس دائرة الشؤون الخارجية في الكنيسة فإن عدد المسيحيين في العراق تناقص من مليون ونصف إلى 150 ألف يعيشون أوضاعاً صعبة. وتخشى الكنيسة الروسية أن يتعرض المسيحيون في سوريا لنفس المصير المؤلم وهو ما يبرر تحركها المستمر والذي يأخذ أشكال متعددة تشمل التصريحات والزيارات والمشاركة في المؤتمرات الدولية وتقديم التقارير والتوصيات وكذلك توفير المساعدات الإنسانية.

لقد كان الحدث الأبرز خلال السنة الأولى للأزمة السورية هو زيارة البطريرك كيريل لسوريا في شهر نوفمبر 2011 ولقائه الرئيس بشار الأسد وعدد من المسئولين السوريين. وخلال اجتماعه مع الرئيس الأسد أعرب البطريرك عن قلقه تجاه الأزمة التي يعيشها الوطن العربي آنذاك نتيجة الاحتجاجات السياسية وآثارها السلبية على الأقلية المسيحية وخاصة في العراق ومصر، كما دعا إلى ضرورة الاعتماد على معلومات "موضوعية" عن الوضع في سوريا حيث تعتمد وسائل الإعلام في تغطيتها للأحدث على جانب واحد حسب قوله.[61] وخلال لقاء جمعه مع قادة الكنيسة في سوريا وصف البطريرك أن زيارته لسوريا "في هذا الوقت الصعب بأنها تعبير عن إرادة الله".[62] وفي جميع لقاءاته خلال الزيارة أكد البطريرك الأهمية الخاصة لسوريا فهي مهد المسيحية حيث تقع كنيسة أنطاليا التي تتمتع بمكانة خاصة في تاريخ المسيحية فهي تأتي في الأهمية بعد كنيسة القدس ومنها انتشرت المسيحية، ولذلك السبب فإن ما يتعرض له المسيحيون في سوريا بسبب الصراع سيكون له آثار خطيرة على الوجود المسيحي في المشرق بشكل عام.

وفي هذا الإطار أصدرت الكنيسة وخلال مراحل مختلفة من الصراع بيانات عبرت فيها عن قلق عميق من تأثيرات الصراع على الأقلية المسيحية ودعت المجتمع الدولي للتدخل. ففي يناير 2014 صدر بيان مشترك بين البطريرك كيريل وبطريرك انطاليا موجه لمؤتمر جنيف الثاني دعا لإنهاء الصراع والتصدي لظاهرة التطرف.[64] وسبق هذا البيان المشترك توجيه البطريرك كيريل توجيه رسالة لمؤتمر جنيف الثاني ذكر فيها المشاركين بما يتعرض له المسيحيون بسبب استمرار الصراع. وكان مجلس الأساقفة في الكنيسة الروسية قد اصدر بياناً في شهر فبراير 20133 عبره فيه عن قلقه تجاه ما يتعرض له المسيحيون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يصل مستوى التهديد الوجودي ودعا إلى حمايتهم.

ولا تقتصر بيانات ورسائل الكنيسة على مجرد بيان معاناة الأقلية المسيحية وضرورة توفير الحماية لهم بل تعبر أحيانا عن مواقف سياسية كما يظهر في رسالة بعثها البطريرك كيريل للرئيس الأمريكي باراك أوباما في شهر سبتمبر 2013 أعلن فيها عن قلقه تجاه مؤشرات لنية واشنطن التدخل العسكري محذراً من أن التدخل سيزيد من معاناة المدنيين ويمكِن القوى المتطرفة- حسب وصفه- من الوصول للسلطة ما يمثل تهديداً وجودياً للأقلية المسيحية. وصيغت الرسالة بأسلوب يظهر منه استثارة البعد الديني حيث يقول "لدي يقين قوي أن الدول التي تنتمي للحضارة المسيحية تتحمل مسؤولية خاصة لحماية المسيحيين في الشرق الأوسط "
وفي لقاء جمعه مع رئيس الكنيسة الأرثوذكسية السورية في شهر نوفمبر 2011 أكد البطريرك أن روسيا وعلى مر التاريخ وحين يكون هناك خطر يهدد المسيحيين في الشرق تشعر أن عليها مسؤولية مساعدتهم، وقال إن ما يتعرض له المسيحيون اليوم في المنطقة أسوا مما تعرض له المسيحيين الأوائل في الإمبراطورية الرومانية.

وتكشف تصريحات مسئولي الكنيسة موقفاً مشابها لموقف الحكومة الروسية تجاه الصراع في سوريا؛ ففي مقابلة مع وكالة نوفيستي الروسية قدم المطران هيلاريون مدير إدارة الشؤون الخارجية في الكنسية تشخيصاً يتطابق مع ما يطرحه المسئولون الروس بأن "الصراع في سوريا وأوكرانيا يعد جزء من خطة إستراتيجية وتطبيق لفكرة الفوضى الخلاقة التي من أهدافها خلق بؤر توتر على حدود روسيا". ويرى المطران أن "صراعات المنطقة في سوريا والعراق ليست حروباً أهلية بل هي نتيجة تدخلات قوى خارجية لتنفيذ مخططات وتحقيق مصالح على حساب شعوب المنطقة".

ويقدم المطران هيلاريون برنامجاً تلفزيونياً عنوانه "الكنيسة والعالم " استضاف في إحدى حلقاته مبعوث وزارة الخارجية الروسية لحقوق الإنسان والديمقراطية وحكم القانون قسطنطين دولقوف وظهره خلال حديثهما اتفاق تام حول أسباب الصراع في سوريا وإلقاء المسؤولية كاملة على الولايات المتحدة.

كما استضاف المطران في برنامجه سيرغي ستيباشين رئيس الجمعية الامبراطورية تحدث خلاله عن تعرض المسيحيين في الشرق الاوسط لم***ة "شبيه بالم***ة التي تعرض لها الارمن بداية القرن الماضي"[72]
وتشمل تحركات الكنيسة للترويج لموقفها تجاه الصراع في سوريا عقد قادتها اجتماعات مع المسئولين الروس وكذلك مع السفراء الأجانب في موسكو والوفود الأجنبية التي تزور روسيا حيث يوثق موقع الكنيسة الالكتروني هذه اللقاءات التي تكاد لا تنقطع. ولتقدير موقفها الثابت يحرص السفير السوري في موسكو على زيارة الكنيسة وتقديم الشكر على جهودها المتواصلة لدعم سوريا في حربها ضد "الجماعات الإرهابية". وفي إحدى هذه اللقاءات عبَر البطريرك للسفير عن رأي تردده الخارجية الروسية دائماً بأن "تترك سوريا للسوريين لحل مشاكلهم بأنفسهم".[73] كما يلتقي البطريرك بسفراء الدول الكبرى في موسكو ويناقش معهم أوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط ويؤكد لهم الحاجة إلى تعاون القيادات الدينية والسياسية لمنع اضطهادهم.

وخلال لقاء جمعه مع نائبة وزير الخارجية الألمانية في أبريل 2013 حرص رئيس دائرة الشؤون الخارجية في الكنيسة المطران هيلاريون على تذكيرها بما يتعرض له المسيحيون في الشرق الأوسط من تهديد وجودي ودعا ألمانيا بأن لا تتجاهل هذه المأساة.

وفي أبريل 2016 شارك ممثلو الكنيسة في زيارة لسوريا قام بها وفود برلماني مكون من أعضاء "مجموعة الدفاع عن القيم المسيحية" في البرلمان واستمرت زيارتهم أربعة أيام التقوا خلالها الرئيس السوري الذي أشاد بدور الكنيسة وما قدمته من مساعدات.

وخلال لقاء مع السفير السوري في 29 نوفمبر 2012رياض حداد تحدث هيلاريون عن روسيا وقال أنها الدولة الوحيدة التي تتمسك بموقف الحل السلمي. وذكر المطران أن الكنيسة تطرح بانتظام وضع المسيحيين في الشرق الأوسط على جدول أعمال المنتديات الدولية وكذلك خلال اللقاءات مع الزعماء الدينيين والسياسيين، كما ذكر أن الكنيسة تستمر في مناشدتها للمجتمع الدولي والمنظمات الدولية والزعماء السياسيين والدينيين لبذل الجهد والتدخل لحماية الوجود المسيحي في المنطقة.

وفي 2013 وخلال احتفالات روسيا بذكرى دخول المسيحية روسيا تقدم قادة الكنيسة بطلب للرئيس بوتين للقيام بما يستطيع لوقف الاضطهاد للأقليات المسيحية في الشرق الأوسط.

وخلال لقاءه في موسكو مع بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر في فبراير 2015 تحدث وزير الخارجية سيرغي لافروف عن جهود روسيا من أجل تسوية الأزمتين في سوريا واليمن سلميا، والحيلولة دون زعزعة الوضع في العراق وقال إن تفشي التطرف والإرهاب سببه التدخلات الخارجية وشكر البطريرك يوحنا العاشر موسكو على ما تبذله من جهود في بسط الاستقرار بالشرق الأوسط.. وخلال اللقاء قلًد البطريرك الوزير لافروف وسام الكنيسة تقديراً لجهوده.

كما شارك مدير إدارة الشؤون الخارجية في الكنيسة المطران هيلاريون في مؤتمر دولي حول الحوار بين الأديان عقد في بودابست في يونيو 2011 تحدث خلاله الاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون وحرص في ورقته التي قدمها للمؤتمر على استثارة المشاركين من خلال مقارنة بين عدد المسلمين في أوروبا والذي زاد حسب قوله من سبعة ملايين في 1992 إلى 24 مليون 2011 بالمسيحيين في الدول الإسلامية الذين يتعرضون للاضطهاد وتتناقص أعدادهم لدرجة قد تهدد وجودهم خاصة في العراق وسوريا ودعا الاتحاد الأوروبي إلى تبني مبادرة لحمايتهم من خلال إجراءات عملية تتمثل في ربط المساعدات المقدمة للدول الإسلامية بتحسن أوضاع الأقليات المسيحية فيها.[81] وقد كرر المطران مقترح ربط المساعدات لهذه الدول بشرط تحسين ظروف المسيحيين فيها في لقاء مع بوتين حين كان رئيساً للوزراء وقد أثنى بوتين على المقترح.

وفي نوفمبر 2011 شاركت الكنيسة في حلقة نقاش نظمتها الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية في موسكو بمشاركة وزارة الخارجية الروسية ومجلس الدوما تحت عنوان "وضع المسيحيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" ذكر خلالها نائب إدارة الشؤون الخارجية في الكنيسة نيقولاي بالاشوف أن الكنيسة تتحدث عن وضع المسيحيين في الشرق الأوسط في المحافل الدولية ومنها الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الكنائس العالمي وأثنى على قرار البرلمان الأوربي صدر في 2011 يربط المساعدات المالية والاقتصادية والسياسية لدول المنطقة بتحسن أوضاع المسيحيين، إلا أنه انتقد عدم تنفيذ القرار. كما أنتقد ما وصفه بصمت الإعلام الدولي عن مأساة المسيحيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وقال إن على الكنيسة والجمعية الإمبراطورية بذل المزيد لتوعية الرأي العام العالمي بها.[83]وخلال ندوة عقدت في إمارة ليخشنتاين حضرها مبعوث الأمم المتحدة لسوريا الأخضر الإبراهيمي في نوفمبر 2013 قدم المطران هيلاريون ورقة طويلة عن أوضاع المسيحيين في سوريا وما يتعرضون لها من تهديد وحمل الغرب مسؤولية ذلك بسبب دعمهم- حسب زعمه- الإرهابيين وتجاهل مأساة المسيحيين.

وشاركت الحكومة الروسية وبالتنسيق مع الفاتيكان ولبنان في تقديم مشروع بيان لمجلس حقوق الإنسان تحت عنوان "دعم حقوق الإنسان للمسيحيين خاصة في الشرق الأوسط" وكانت هذه المرة الأولى التي يصدر فيها المجلس بيان بهذا الشأن.[85] وكان للكنيسة والجمعية الامبراطورية الروسية دور مهم في صياغة المسودة الأولى لهذا المشروع.[86]
وشارك المطران هيلاريون في أكتوبر 2012 اجتماعات اللجنة الثالثة المعنية بالشؤون الاجتماعية والإنسانية والثقافية في الجمعية العامة قدم خلالها ورقة بعنوان "مكافحة التمييز ضد المسيحيين في العالم كمساهمة في تعزيز حقوق الإنسان".[87]
ومن ضمن جهود الكنيسة أيضا تقديم المساعدات المالية والعينية للمتضررين من الحرب والتي تجمع من مختلف المدن الروسية.[88] كما قامت الكنيسة بجهود لإطلاق سراح المطارنة المختطفين في سوريا(يوحنا إبراهيم و بولس اليازجي) وطلب البطريرك من الرئيس الروسي التدخل لإطلاق سراحهم إضافة إلى مخاطبة الرئيسين الأمريكي والتركي وأمين عام منظمة الأمم المتحدة لبذل جهود مماثلة.[89] وخلال اللقاء التاريخي الذي جمع البابا والبطريرك في كوبا في فبراير 2016 وأنهى قروناً من العداء كانت قضية حماية مسيحي الشرق حاضرة بل كانت من أسباب تيسير هذا اللقاء التاريخي حسب تصريح المطران هيلاريون مدير الشؤون الخارجية في الكنيسة. ولاستكمال هذا التعاون تجاه قضية مسيحي سوريا فقد استقبل البابا المطران هيلاريون في سبتمبر 2016 وأشاد بما تحقق من تعاون خلال المدة القصيرة وأكد الحاجة لاستمرار التنسيق بين الكنيسة والفاتيكان في هذا الملف. الحكومة الروسية تقوم بجهود تنسيقية مماثلة مع الفاتيكان ففي شهر ديسمبر 2016 قام وزير الخارجية الروسي بزيارة للفاتيكان وناقش خلالها التعاون بين روسيا والفاتيكان في مجال "حماية المسيحيين في مناطق النزاع".

ما تضمنته الصفحات السابقة مجرد أمثلة على الجهود المتعددة للكنيسة تجاه قضية الصراع في سوريا والتي تظهر توافقاً بين رؤية الكنيسة ورؤية الحكومة الروسية للصراع حيث يؤكد الطرفان دائماً على أن استمرار الصراع يهدد الوجود المسيحي في سوريا ما يستوجب التدخل لحماية الأقلية المسيحية هناك كما تشترك الكنيسة مع الحكومة الروسية في التشكيك في نوايا الغرب تجاه الصراع في سوريا وتحميله مسؤولية الاضطراب في المنطقة. ولعل هذه الرؤية المشتركة هي ما يبرر للكنيسة تقديم الدعم لموقف الحكومة الروسية الثابت تجاه الصراع ومباركة جهودها ومن ضمنها التدخل العسكري.

الخاتمة:

حاولنا في هذه الدراسة بيان جانب في السياسة الخارجية الروسية بشكل عام وتجاه الصراع في سوريا بشكل خاص لا يبدوا أنه يحظى باهتمام كاف من الدارسين والمراقبين ويتمثل في تأثير القيم المسيحية على هذه السياسة والذي يظهر في أحاديث المسئولين الحكوميين وكذلك من خلال أنشطة وتحركات مؤسسات روسية مثل الكنيسة الأرثوذكسية والجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية. وحيث ركزت الدراسة على دور الكنيسة فقد تبين لنا كيف أنها ومنذ بداية الصراع في سوريا نشطت بشكل ملحوظ من خلال الزيارات والتصريحات واللقاءات الدبلوماسية وإصدار البيانات إضافة الى المشاركة في المحافل الدولية بهدف حشد موقف دولي لحماية الاقلية المسيحية وبدعم صريح من وزارة الخارجية الروسية ما يشير الى عودة سياسة حماية الاقليات الدينية التي تبنتها الامبراطورية الروسية في نهاية القرن التاسع عشر في علاقتها بالدولة العثمانية. ولقد أظهرت الامثلة القلية التي تضمنتها الصفحات أعلاه أن الكنيسة الأرثوذكسية تمارس اليوم دوراً شبيهاً الى حد كبير بالدور الذي لعبته خلال الامبراطورية الروسية. إن تكرار حديث البطريرك وقادة الكنيسة عما تعرضت له الاقلية المسيحية في العراق من اضطهاد تسبب في تهجير أكثر من ثلثيهم وخشية أن تتعرض الاقلية المسيحية في سوريا الى نفس المصير يؤكد أن هذه المسألة تمثل أحد الاهداف المباشرة للتدخل العسكري الروسي. ويظهر هذا بشكل واضح في استخدام المسؤولين الروس ذات المفردات التي يستخدمها قادة الكنيسة لوصف معاناة المسيحيين الارثوذوكس بسبب الصراع في سوريا فهي تعد "كارثة حضارية" "تطهير ديني" و"تصفية الوجود المسيحي". روسيا اليوم تشعر بتحمل مسؤولية حماية المسيحين في الشرق الأوسط امتداداً لدورها التاريخي وكذلك بسبب "تخلي الحكومات الغربية عنهم" نتيجة حسابات سياسية واستراتيجية من جهة وهيمنة القيم العلمانية على توجهاتهم من جهة أخرى جعلتهم يتجاهلون مأساة "أخوتهم في الانتماء الحضاري المسيحي". هذا الدور لا يقتصر على حماية المسيحيين بل يتجاوزه الى حماية الدين المسيحي وهو ما يفسر احتفاء الروس بنجاحهم في جعل العالم يهتم بمسألة "العداء للمسيحية" كما يهتم بالإسلاموفوبيا ومعاداة السامية.

قد يرى البعض أن نشاط الكنيسة في القضايا الدولية ومنها الصراع في سوريا ليس سوى توظيفاً سياسياً لورقة حماية الاقلية المسيحية لتغطية أهداف روسيا الاستراتيجية على المستويين الاقليمي والدولي. وفي مقابل ذلك تحظى الكنيسة بدعم الحكومة الروسية لأنشطتها داخل روسيا. فالدولة تجد في مباركة الكنيسة لتحركاتها الخارجية سنداً شرعياً مهماً يبرر تخصيص الموارد المحدودة لدعم هذه التحركات خاصة في سوريا حيث ترتفع التكلفة البشرية والمالية. الكنيسة في المقابل تحصل على دعم الدولة لتوسيع نشاطها التبشيري وتواصلها مع أتباعها في الخارج وكذلك مواجهة الحركات التبشيرية الغربية التي استهدفت المجتمع الروسي ومجتمعات الدول المحيطة بروسيا وكذلك التصدي لمحاولات نشر القيم العلمانية في المجتمعات الأرثوذكسية باسم حقوق الإنسان.

منطق تبادل المنافع هذا ليس مستبعداً، إلا أنه ليس كافٍ لتفسير النشاط غير المنقطع للكنيسة وسعيها لاستثمار كافة المناسبات الداخلية والخارجية لطرح قضية حماية الأقلية المسيحية في سوريا والشرق الاوسط بشكل عام والدعم الذي تلقاه جهودها هذه من قبل أجهزة الحكومية الروسية وخاصة وزارة الخارجية. إن التفسير الأكثر ترجيحاً لدور الكنيسة وترحيب الحكومة الروسية بهذا الدور يتجاوز تبادل المصالح ويرتبط بسؤال الهوية الذي يواجه الروس منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. فروسيا ومنذ ذلك الحين تحاول تحديد هويتها الجديدة من خلال استحضار تاريخها الامبراطوري ومكوناته المعنوية ويأتي في مقدمتها الارثوذوكسية والقومية الروسية اللتان كانتا ركيزتان أساسيتان من ركائز القيصرية الروسية وتحديداً في القرن التاسع عشر. واليوم وهي تحاول استعادة مكانتها على الساحة الدولية كقوة كبرى لا ترى روسيا إمكانية تحقق هذا المسعى دون أن يكون لديها رسالة عالمية تبرر حضورها الدولي وتكون بديلاً عن الايدلوجية الشيوعية. هذه الرسالة لا يجدها الروس سوى بالعودة الى تاريخهم حيث تبرز الارثوذوكسية التي ميزت الأمة الروسية عن محيطها المتعدد العرقيات والثقافات. إن الاحاديث المتكررة للقيادة الروسية حول النظام الدولي تكشف تصوراً للصراع الدولي الراهن يتجاوز المفهوم التقليدي للصراع على القوة ومناطق النفوذ فهو يمتد الى محاولات فرض أنظمة قيمية حضارية باعتبارها قيم عالمية مشتركة. موسكو ترى حضوراً كبيراً لهذا البعد القيمي في السياسة الدولية ما يبرر استدعاء تاريخ روسيا وقيمها التي ميزتها وأسست نموذجاً حضارياً لا يمكن السماح بتجاوزه أو تشويهه بدعوى نشر القيم الانسانية المشتركة.

ما حاولنا بيانه هنا هو أهمية إدراك الأبعاد القيمية ذات المرجعية الارثوذكسية لفهم السياسة الخارجية الروسية خاصة تجاه الصراع في سوريا. فهذه القضية التي استهلكت الكثير من جهود الدبلوماسية الروسية خلال الخمس سنوات الماضية واستقرار الموقف الروسي رغم كل الضغوط يؤكدان أن السياسة الخارجية الروسية تنطلق من رؤية شاملة تجمع متغيرات مادية (جيواستراتيجية) وأخرى معنوية منبعها الارث التاريخي والحضاري للأمة الروسية اللذان اسهمت القيم المسيحية الارثوذوكسية في تشكيلهما. دون هذه الرؤية الشاملة سيكون صعباً فهم التصلب الروسي تجاه الصراع الذي أودى بحياة مئات الالف وشرد الملايين وتسبب في تدمير أجزاء كبيرة من سوريا.

Adsense Management by Losha