موقف العوام من اختلاف العلماء
د. أبو حفصة إبراهيم بن تيجان جكيتي الواوندي
موقف العوام من اختلاف العلماء
الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم تنزيله: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، والصلاة والسلام على أشرف خَلْق الله؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن اختلافَ علماء هذه الأمة توسعةٌ على أفرادها، عوامَّ وخواصَّ، وفي الوقت نفسه يعتبر مزلقًا خطيرًا، ومزلَّةَ قدمٍ لكثير من العوام من ناحية تحديد الموقف الصحيح منه؛ حيث يحتار بعضهم، فلا يدري بأي قول يأخذ، وآخرون اتخذوه مطيةً لتتبع رخص المذاهب، والأخذ بأخفها، والعمل بأيسرها، ولما كان الأمر بهذه الأهمية العظيمة والخطورة الكبيرة، رأيتُ أن أسهم ببحثٍ لطيفٍ في توضيح المسألة، وأسميته: (موقف العوام من اختلاف العلماء)، وجعلته في ثلاثة مطالب.
المطلب الأول: التعريف بمفردات العنوان:
العوام - في اللغة - واحدُ العامي، والعامي نسبة إلى العامة، وهي خلاف الخاصة[1].
والمراد بالعامي في اصطلاح الأصوليين: هو مَن لا علم عنده بالأحكام الشرعية خاصةً، وبأمور الدين عامةً [2].
المراد باختلاف العلماء:
الخلاف والاختلاف في اللغة يأتيان بمعنى التغيير والمضادة وعدم الاتفاق[3].
يراد بالخلاف أو المخالفة في الاصطلاح مطلقُ المغايرة في القول، أو الرأي، أو الحالة، أو الموقف[4].
فيكون المقصودُ باختلاف العلماء تغايرَهم في القول والرأي والموقف.
المطلب الثاني: الواجب على العامي:
اتفقت آراءُ المحقِّقين من الأصوليين على أن الواجبَ على العامي ومَن ليس له أهليةُ الاجتهاد - اتباعُ قول المجتهد، والعمل به، ولم يخالِفْ في ذلك إلا بعضُ المعتزلة البغداديين، القائلين بأنه لا يجوز ذلك إلا بعد أن يتبيَّنَ له صحةُ اجتهاده بدليله[5].
والصحيحُ ما ذهب إليه الجماهير؛ وذلك للأدلة التالية:
الأول: قوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].
وجهُ الاستدلال بالآية:
قال الآمدي رحمه الله: (وهو عامٌّ لكل المخاطَبين، ويجب أن يكون عامًّا في السؤال عن كل ما لا يعلم، بحيث يدخل فيه محل النزاع، وإلا كان متناولًا لبعض ما لا يُعلَم بعينه، أو لا بعينه، والأول غيرمأخوذ من دلالة اللفظ، والثاني يلزم منه تخصيص ما فهم من معنى الأمر بالسؤال، وهو طلب الفائدة ببعض الصور دون البعض، وهو خلاف الأصل، وإذا كان عامًّا في الأشخاص وفي كل ما ليس بمعلوم، فأدنى درجات قوله: ﴿ فَاسْأَلُوا ﴾ [النحل: 43] الجوازُ، وهو خلاف مذهب الخصوم)[6].
الثاني: الإجماع: أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أن الواجبَ على العامي تقليدُ إمامه، والعمل على ضوء فتواه له [7].
وبذلك يتبين أن الواجب على العامي ومَن في حكمه اتباعُ المجتهد، وليس له النظرُ في الأدلة مباشرة؛ لقصوره، وعدم استكماله آلياتِ النظر في النصوص الشرعية.
المطلب الثالث: موقف العامي من اختلاف العلماء.
العامي أو المستفتي إذا استفتى عددًا من العلماء، فلا يخلو الأمر من حالتين؛ إحداهما: أن تتفق أقوالهم على حُكم واحد، والثانية: أن تختلف مذاهبهم، فيقولَ كل واحد بقولٍ مغايرٍ لقول للآخَر.
ففي الحالة الأولى: الواجب على العامي العملُ بما اتفَق عليه أقوال المجتهدين[8].
وفي الحالة الثانية: اختلفت مذاهب الأصوليين فيما هو الواجب عليه، على أقوال كثيرة، مِن أشهرها الآتية:
القول الأول: أنه يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأورعهم فيأخذ بقوله، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وبعض الشافعية؛ كابن سريج، وقول أبي الحسين البصري من المعتزلة، وأكثر الأصوليين [9].
القول الثاني: أن العاميَّ إذا اختلف عليه فتوى علماء عصره، فهو مخيَّر، وله الأخذُ بأيها شاء، وإليه ذهَب بعض الشافعية والحنابلة [10].
القول الثالث: أنه يأخذ بالأغلظ، وهو قول مَحْكِيٌّ عن أهل الظاهر [11].
القول الرابع: أنه يأخذ بالأخفِّ والأيسَر [12].
القول الخامس: أن العاميَّ في هذه الحالة يسأل كل مجتهدٍ عن دليله، ثم يجتهد في المسألة المختلف فيها، فيعمل بالراجح، وهو اختيار ابن قيم الجوزية رحمه الله [13].
الأدلة: استدلَّ أصحاب القول الأول بأدلة، منها:
الدليل الأول: أن أقوالَ المُفْتين في حق العامي تتنزل منزلةَ الأدلة المتعارضة في حق المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح بينها يجب على العاميِّ أيضًا الترجيحُ بين أقوال المُفْتين[14].
الدليل الثاني: أن طريقةَ معرفة هذه الأحكام إنما هو الظن؛ فالظنُّ في تقليد الأعلم والأورع أكثرُ؛ فكان المصيرُ إليه واجبًا [15].
واستدلَّ أصحاب القول الثاني بأدلة عديدة، مِن أبرزها الآتية:
الدليل الأول: أن الصحابةَ - رضوان الله عليهم - كان فيهم الفاضلُ والمفضول مِن المجتهدين، وكان فيهم العوامُّ، ومَن فرضُه الاتباعُ للمجتهدين والأخذُ بقولهم لا غير، ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليفُ العوامِّ الاجتهادَ في أعيان المجتهدين، ولا أنكر أحدٌ منهم اتباعَ المفضول والاستفتاء له مع وجود الأفضل، ولو كان ذلك غيرَ جائز، لَمَا جاز من الصحابة التطابقُ على عدم إنكارِه والمنعِ منه [16].
الدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي كالنجوم، بأيِّهم اقتديتم اهتديتم)[17].
وجه الدلالة من الحديث: أن الحديث خيَّر العوامَّ بالاقتداء بأي واحد من الصحابة، ولم يفرِضْ عليهم الاقتداء بالأعلم أو الأتقى[18].
نوقش بأن الأصل الشرعي، وهو أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، وتخييره بين القولين، نقضٌ لذلك الأصل، وهو غير جائز، وأنه متى خيَّرْنا المقلدين في مذاهب الأئمة؛ لينتقوا منها أطيبها عندهم - لم يبقَ لهم مرجعٌ إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقضٌ لمقصد وضع الشريعة؛ فلا يصح القول بالتخيير؛ لأن ذلك يُفضي إلى تتبُّع رُخَص المذاهب مِن غير استناد إلى دليل شرعي[19].
استدلَّ أصحاب القول الثالث القائلون بأنه يأخُذُ بالأغلظ بما يلي:
الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: ((فمَن اتَّقى الشبهاتِ، استبرَأ لدِينه وعِرضه))[20].
وجهُ الدلالة من الحديث: أن في العمل بالأغلظ استبراءً للذِّمة، وخروجًا مِن العُهدة بالتأكيد.
والأثر المرويُّ عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "الحقُّ ثقيل مَرِيء، والباطلُ خفيفٌ"[21].
ونوقش بأن الحق قد يكون في الأخف؛ لقوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185][22].
استدلَّ أصحاب القول الرابع القائلون بأنه يأخُذُ بالأخف بما يلي:
قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقوله: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78].
وما ثبَت عن عائشةَ رضي الله عنها: أنها قالت: (ما خُيِّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخَذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا، كان أبعدَ الناسِ منه)[23].
وجه الدلالة من الحديث:
أن مِن هَدْيِ المصطفى صلى الله عليه وسيلم الأخذَ بالأخفِّ والأيسَر، والرسولُ عليه الصلاة والسلام لا يختار إلا الأفضل والأرجح والأرفق بالأمة، فبذلك يكون الأخذُ بالأخفِّ أرجحَ.
نوقش: القول بأنه يأخذ بالأغلظ، والقول بأنه يأخذ بالأخفِّ: هما قولانِ متعارضان، فيسقطانِ، والشدة والسهولة ليست في كلِّ مسألة[24].
استدلَّ ابن القيم رحمه الله على مذهبه بأن العمل بالراجح الذي يدلُّ عليه أقوى الأمارات هو المُعيَّنُ على المجتهِد، فكذا العاميُّ[25].
نوقش بأن العاميَّ ليس له أهلية الترجيح بين الأقوال، فيكون ترجيحه ناشئًا عن الوهم، فلا يكون له اعتبارٌ.
الترجيح: بعد عرض الأقوال الواردة في المسألة، ومناقشة أدلتها، فالذي يظهر - واللهُ أعلم بالصواب - أن العاميَّ ومَن في حُكمه في هذه الحالة يتعيَّنُ عليه الاجتهادُ في أفضلهم علمًا، وأورعهم وأتقاهم لله، فيأخذ بقوله، ويعمل بفتواه، على حد قوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ﴾ [التغابن: 16].
ولأن العامي، وإن كان قاصرًا في النظر فإنه بوُسعه التمييز بين المجتهدين؛ مِن خلال ظاهر تصرفاتهم، وشَهادة الآخرين لهم، والعمل بما يغلِبُ على ظنه معتبرٌ شرعًا.
وهو الذي رجَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ حيث قال: (فإذا ترجَّح عند المستفتي أحدُ القولين؛ إما لرجحانِ دليله بحسَب تمييزه، وإما لكون قائله أعلمَ وأورع - فله ذلك، وإن خالف قولُه المذهبَ)[26].
وهو أيضًا اختيار الشاطبي رحمه الله؛ حيث قال: (أما اختلافُ العلماء بالنسبة إلى المقلِّدين، فكذلك أيضًا، لا فرق بين مصادفة المجتهدِ الدليلَ، ومصادفة العاميِّ المفتيَ؛ فتعارُضُ الفتويَيْنِ عليه كتعارض الدليلينِ على المجتهد، فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباعُ الدليلين معًا، ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح، كذلك لا يجوز للعاميِّ اتباع المفتيَيْنِ معًا ولا أحدهما مِن غيرِ اجتهادٍ ولا ترجيح)[27].
وبهذا أكونُ قد وصلتُ إلى آخرِ هذا البحث، سائلًا المولى عز وجل أن يجعَلَه خالصًا لوجهِه الكريم، وأن يتجاوزَ عني ما قد يحصل فيه مِن الخلل والزلل؛ إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
[1] ص (1/ 469).
[2] معجم مصطلحات الأصوليين لسانو (277).
[3] لسان العرب (9/ 82) القاموس المحيط (1045) معجم مقاييس اللغة (2/ 220).
[4] أدب الاختلاف في الإسلام للعلواني (22).
[5] المستصفى (4/ 147) المحصول في علم أصول الفقه (6/ 73) الإحكام في أصول الأحكام (4/ 278).
[6] الإحكام في أصول الأحكام (4/ 278).
[7] المصدر نفسه.
[8] المحصول في علم أصول الفقه (6/ 83).
[9] المستصفى (4/ 153)، الإحكام في أصول الأحكام (4/ 278)، المعتمد في أصول الفقه (2/ 939)، المحصول في علم أصول الفقه (6/ 83)، قواطع الأدلة (5/ 144)، شرح الكوكب المنير (4/ 581) القواطع في أصول الفقه (3/ 1253)، البحر المحيط (3/ 313) الموافقات (5/ 81) نهاية الوصول إلى علم الأصول (8/ 3893)، التقليد والإفتاء والاستفتاء للراجحي (155) حكم التقليد والتلفيق للدحميسي (119) المهذب في علم أصول الفقه للدكتور النملة (5/ 2402) التقليد وأحكامه للشثري (162).
[10] المصادر نفسها.
[11] المصادر السابقة.
[12] المصادر السابقة.
[13] أعلام الموقعين (4/ 264).
[14] الإحكام في أصول الحكامابأحكام للآمدي (4/ 288) نهاية الوصول إلى علم الأصول (8/ 3893).
[15] المصدر السابق.
[16] الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 288).
[17] أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 923)، وقال: (هذا الكلام لا يصحُّ عن النبي صلى الله عليه)، وقال الألباني في الضعيفة: موضوع (1/ 144).
[18] الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 288).
[19] الموافقات (5/ 76).
[20] صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب أخذ الحلال وترك الشُّبُهات (3/ 120).
[21] الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 428).
[22] القواطع في أصول الفقه (3/ 1253).
[23] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب النبي صلى الله عليه وسلم، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (4/ 187).
[24] التقليد وأحكامه للشثري (167).
[25] أعلام الموقعين (4/ 264).
[26] مجموع الفتاوى (33/ 168).
[27] الموافقات (5/ 77).
الالوكة
.....................