أمناء الرسل
أ. د. عبدالله بن إبراهيم بن علي الطريقي
الرُّسل هم صفوةُ الناس وخيارُهم، اختارهم الله واصطفاهم؛ ليقوموا بالتبليغ والدعوةِ إلى دِين الله ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ﴾ [القصص: 68].
وقدْ قام هؤلاء الرُّسل بالوظيفة خير قيام، وكان خاتمُهم سيِّدَ ولد آدم نبيّنا محمد بن عبدالله - عليه وعلى سائرِ الأنبياء أفضلُ الصلاة والسلام - ومِن ثَمَّ لا نبي بعده.
فمَن يا تُرَى يقوم بمتابعة هذه الوظيفة واستمرارها بقيةَ هذه الحياة الدنيا؟
حقًّا؛ إنها وظيفةٌ عظيمةٌ جليلة لا يُطيقها كلُّ أحد، ولا كلُّ مَن رغِب.
بل لا بدَّ أن يكون فيه شبهٌ بتلك النُّخبة المختارة (الرسل)، سواء مِن حيث الاستقامة والعَدالة، أم مِن حيث حُسن الخُلُق، أم مِن حيث العِلم، أم من حيث التكامُل في الشخصية مِن كل جوانبها.
إذ كلَّما تكاملتِ الشخصية كان الشبهُ بالأنبياء أقربَ وألصق، نعمْ؛ إنَّ هؤلاء هم أمناءُ الرسل، وهم باختصارٍ شديد "أولو العلم".
(ولهؤلاء العلماء) منزلتُهم الشريفة في ميزان الشَّريعة، بل لهم مكانتُهم الاجتماعيَّة، التي تفرضها شخصيتهم.
بيد أنَّ هذه المكانة وتلك المنزلة لا تُنالان بالأماني ولا بالكلام ولا بالتصنُّع، بل بسلوكِ طريق المنعَم عليهم مِن النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالِحين.
كما يقول الحق: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6- 7].
إنَّ لهؤلاء العلماء صِفاتٍ وعلامات، ولهم حقوقٌ وعليهم واجبات، وإذا تحقَّقتْ هذه كلها أصبحوا أمناءَ الرسل حقًّا وصدقًا.
وهذه إشاراتٌ لبعض الصِّفات والعلامات، ونؤجِّل الباقي إلى مناسبةٍ أخرى.
أمَّا الصفات والعلامات، فمِنها تقوى الله وخشيته، وهذه أبرزُ الصِّفات كما يقول الله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
ومنها: تحرِّي اتباع السُّنَّة والحذَر مِن البدعة.
ومنها: التواضُع ولِين الجانب، تواضُع للتلاميذ، وتواضُع لطلاَّب العِلم والعلماء، وتواضُع للناس كلهم؛ تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88].
ومنها: الحِرص على إفادةِ الناس وتعليمِهم وإرشادِهم.
ومنها: الحِرص أيضًا على هدايةِ الناس والأخْذ بأيديهم عن الوقوعِ في مستنقعات الشرّ.
ومنها: الاهتمام بأمْر المسلمين وقضاياهم القريبة والبعيدة، والتفاعُل مع أوضاعهم فرحًا وترحًا.
ومنها: عدم التكالُب على الدنيا والأعراض الزائِلة كالمناصِب وغيرها.
رَوى الترمذيُّ وصحَّحه بسنده عن كعْب بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما ذِئبانِ جائعانِ أُرسلاَ في غنمٍ بأفسدَ لها مِن حِرْص المرء على الشرفِ والمال لدِينه)).
ويقول جعفرٌ الصادق - رحمه الله تعالى -: "الفقهاء أمناءُ الرسل، فإذا رأيتُم الفقهاء قد رَكنوا إلى السلاطين فاتَّهموهم"، ومقصوده بالرُّكون هنا: الاعتماد على أصحابِ السُّلطة والتقرُّب إليهم مِن أجل الدنيا، أو السلاطين الظَّلَمة.
ومِن صفاتهم: الشجاعة في كلمة الحقِّ بحيث لا تأخذهم في الله لومةُ لائم، كما هي وصيةُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأصحابه، وقد أخْبر سبحانه عن صِفات هؤلاء بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ﴾ [المائدة: 54].
ومِن أهم صفاتهم: الأمْر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقِيادة سفينة المجتمع نحوَ شاطئ النجاة، وحِفظ التوازن الاجتماعي؛ لأنَّهم أهلُ الحَلِّ والعَقد على الحقيقةِ، والناس مهما علَوا عالةٌ عليهم، يعيشون في ظلِّ توجيهاتهم وقيادتهم.
ومِن الصفات كذلك: تعاونهم مع إخوانِهم مِن العلماء على الخير، وتعاضدهم على الحق.
وأخيرًا فإنَّ مِن صفاتهم البارزة: الكلمة الطيِّبة، والقول الحسن في كلِّ الأحوال؛ في المنشَط والمَكرَه، والرِّضا والسخط، فإذا دعَوا فبِالحِكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وإذا ناقَشوا أحدًا أو ردُّوا عليه، فبالأسلوبِ العِلمي الرَّصين.
وإذا أفتَوا، فبِعلمٍ شرعي، وفِقهٍ للظروف والملابسات.