هذا الصباح (قصة)
د. شادن شاهين
غمزتْ لي الشمسُ بغُنْجٍ حين حطَّ ذلك السُّنُونو الصغيرُ على كفِّي مطمئنًّا، ورفرفَ بجناحَيْه الرَّقِيقين؛ فانتثرت ألوانُهما على صفحتي البيضاء.
غَشِيَتْني خضرةُ البساطِ الذي طالما افترشتُه طفلًا في حقول قريتي الصغيرة، وحُمرةُ درَّاجتي التي طالما ملأتُ بها القريةَ صخبًا وحياة، وزُرقةُ شالِ جدَّتي الذي طالما أدفأني في ليالي الشتاء الباردةِ، وبياضُ عينَيْ جدِّي الذي طالما استبصَر ما لم نكن نراه، وصُفرةُ تلك الكرَّاسةِ التي احتلَّتْ درجَ أبي سنين عددًا، ولم يعلَمْ أحدُنا أبدًا سرَّ ابتسامتِه حين كان يُطالعُها بينَ الفَيْنةِ والأخرى، وسوادُ جدائلِ أمي الحريريَّةِ الطويلةِ، كم مرةٍ سمحتْ لي بنَقْضِها والعبثِ بخصلاتِها، بينما أنا جالسٌ على فَخِذها، غارقٌ بضحكاتي! وبرتقالُ الفلَّاحين واليوسفي في مواسمِه، مُزهرة فرحتهم في عيونِهم، تداعبُ أنوفَنا رائحتُه المُنْعِشة!
سكَنَ جناحا السُّنُونو؛ فسكَنَ تلاطمُ أمواج ذكرياتي، انكمشتْ قطراتُ الألوان في صفحتي وقفزتْ عائدةً كلٌّ إلى ريشتها، كأن لم تعبثْ بكِياني.
كَفْكَفْتُ دمعاتي، ووشوشتُ السُّنونُو: أنْ رفقًا حين ترحلُ؛ فبينَ رِيشاتِك خبَّأْتُ أحلى أيامي.
ومشيتُ إلى طرفِ القرية.
وهناك، كان الأطفالُ مجتمعين، يلفُّ المكانَ صياحُهم وضَحِكاتُهم ونداءاتُهم الحماسيَّة، جميعهم مُتشابهون، متَّسِخةٌ ثيابُهم، حافيةٌ أقدامُهم، مصبوغةٌ بشرتُهم بلون الشمس، ضاحكةٌ وجوهُهم بنكهة الحريَّة، يتسابقون إلى جَمْع الأحجار من جوانب الطريقِ، وقذْفِها في مياه النهر الصغيرِ، أيُّهم يقذف أبْعد.
وجدتُ قدميَّ تسوقانِني لأجلسَ بينهم على السور الحجري القديم، نظروا إليَّ بدَهْشة! وكأن أحدَهم قد أدرك ما يعتملُ في نفسي، فمدَّ يده إليَّ بحجرٍ، وعلى وجهه ابتسامة كبيرة:
• هيَّا، ارمِ.
حاولَ الطفلُ تشجيعي.
أمسكتُ الحجر بأصابعي المُرْتعشة، تلفتُّ يَمنةً ويَسْرةً، عدلتُ غطاءَ رأسي، كي أخفيَ شعري الأبيضَ، وإنْ كانت تجاعيدُ وجهي ويدي كفيلةً بالوِشايةِ بعمري، على كلِّ حال، قبضتُ على الحجر بما تبقَّى من قوّتي، رميتُه بحماسٍ إلى أبعدِ ما أستطيعُ، بينما تتابعُه عيناي ويصرخ الأطفالُ حولي، فيتوهُ بينَهم صراخُ الطفل السجينِ، الذي حرَّرْتُه لتوِّي... ونسيتُ ما عدا الآن.
وقفتُ مثلَهم على السور، طامحًا إلى رَميةٍ أبعدَ، مُطلقًا صيحاتٍ تُشبهُ صيحاتِهم، محرِّرًا ضَحِكاتي الحقيقيَّة من مَعْقلِها السرِّيِّ، كاسرًا كلَّ القيود.
رميت حجرًا ثقيلًا هذه المرة، فتحوَّل هدوءُ المياه فجأةً إلى مهرجانٍ من موجاتٍ مُتَدافعةٍ، تحاصرُها الدَّوَّامات، التي تبدأ ثائرةً وتنهكُ كلما ابتعدَتْ.
أما لونُها الأزرقُ الهادئُ، فتحوَّل فجأة إلي خليطٍ من درجات اللون، يتناثر ثائرًا في قلب النهر، ذلك القلب اللَّاهف إلى الثورة!
لا أعرفُ بالضبط سرَّ اللذة التي اعترَتْني وأنا أقذفُ الأحجارَ، فأُثير بها ساكنًا، وأعيد تشكيلَ السطحِ.
لا أعرفُ بالضبطِ سرَّ النَّشْوة التي تسلَّلتْ إلى روحي، مع قفزاتِ قطراتِ المياه كنافورةٍ صغيرة، أتابعُها بشَغَفٍ، وأبحثُ عنها وهي تتسلَّلُ بمكرٍ، عائدةً إلى نسيجِها الأصلي، مندمجةً به كأن لم تَنفَجِرْ منذ لحظات.
ترى هل تُشبعُ تلك الانفجارات الصغيرةُ رغبةً قديمةً كامنةً في روحي للثورة والتغيير؟ ترى هل مرأى الحجرِ الساقط بقوة نحوَ الهدف، مثيرًا عاصفة من الإثارة والتصفيق، يُذكِّرني بأهدافي القديمة، التي تسمَّرْتُ عندها سنين، فلم أصوِّب سهامي نحوها أبدًا؟
ترى هل يملؤني اندفاعُ المياه نحو السماءِ بالحلم القديم؟
لا أعرف بالضبط، لكن المؤكَّد أنَّ اللعبةَ دفعت شِراعَ روحي بأنهار الذكرى، بعيدًا جدًّا.
وعندَ الغروب تفرَّقَ الأطفال، وانتهتِ اللُّعبةُ، وسكنتْ كلُّ الأحجار في قاع النهر، وعاد السطح صامتًا، يخبِّئُ تحته أسرارَ ثورتِنا.
راقبتُ الأطفالَ من بعيدٍ وهم راحلون، نقاط سوداءُ تتفرَّق بسلاسةٍ؛ لتختفيَ في أعماق القرية، بينما عاد طفلي العابثُ يختبِئُ في أعماقي، معبِّئًا جيوبي بضحكاته وصيحاته، لأستأنفَ طريقي، وحدي!
(تمت)