تعريف القرآن عند أهل السنة
الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.
وبعد:
تعريف القرآن عند أهل السنة واعتقادهم فيه بإيجاز واختصار:
فأهل السنة يقولون: (إن القرآن كلام الله حقيقة - ألفاظه وحروفه ومعانيه - منه بدأ، وإليه يعود، وهو منزل غير مخلوق، وإن الله تكلم به بحرف وصوت، وسمعه جبريل من الرب تبارك وتعالى، ونزل به جبريل على النبيَ صلى الله عليه وسلم فبلغه إياه كما سمعه من الله).
فقولهم: (إن القرآن كلام الله حقيقة - ألفاظه وحروفه ومعانيه)، هذا فيه رد على الأشاعرة والكلابية الذين يقولون هو عبارة أو حكاية عن كلام الله النفسي.
قال ابن قدامة المقدسي (ت: 682هـ) - رحمه الله -:
"هاتوا أخبرونا من قال قبلكم: إن هذا القرآن عبارة وحكاية، وأن حقيقة القرآن معنى قائم في النفس.. أخبرونا هل وجدتم هذه الضلالة، وقبيح المقالة، عند أحد من المتقدمين سوى قائدكم". (يعني أبا الحسن الأشعري).
للاستزادة يُنظر: "رسالة في القرآن وكلام الله" (ص: 52).
وقال الإمام أبو نصر السجزي (ت: 444هـ) - رحمه الله -:
"ينبغي أن ينظر في كتب من درج، وأخبار السلف: هل قال أحد منهم: إن الحروف المتسقة التي يتأتى سماعها وفهمها، ليست بكلام الله سبحانه على الحقيقة؟ وأن الكلام غيرها ومخالف لها، وأنه معنى لا يدرى ما هو، غير محتمل شرحًا وتفسيرًا؟ فإن جاء ذلك عن أحد من الأوائل والسلف، وأهل النحل قبل مخالفينا الكلابية والأشعرية عذروا في موافقتهم إياه.
وإن لم يرد ذلك عمن سلف من القرون والأمم، ولا نطق به كتاب منزل، ولا فاه به نبي مرسل، ولا اقتضاه عقل عُلم جهل مخالفينا وإبداعهم، ولن يقدر أحد في علمي على إيراد ذلك عن الأوائل، ولا اتخاذه إياه دينا، في أثر ولا عقل".
للاستزادة يُنظر: "رسالة السجزي إلى أهل زبيد" (ص: 215).
وقولهم: (منه بدأ، وإليه يعود) "منه بدأ" أي: إن الله تعالى تكلم به، فظهوره وابتداؤه من الله تعالى.ومعنى قولهم: "وإليه يعود": أنه يرفع من الصدور والمصاحف في آخر الزمان، فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف كما جاء ذلك في عدة آثار.
قال الإمام الطحاوي (ت: 321هـ) - رحمه الله-:
"وإنّ القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولًا، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر وقد ذَمَّه الله وعَابَهُ وأوعده بسقر حيث قال تعالى: ﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ [المدثر:26]، فلما أوْعَدَ بِسَقَر لمن قال ﴿ إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾ [المدثر:25] عَلِمْنَا وأيْقَنَّا أنَه قولَ خالقِ البَشَر ولا يُشْبِه قول البشر". "شرح العقيدة الطحاوية"، لابن أبي العزِّ: (ص: 79).
ويقولون: (منزل غير مخلوق)، وهذا فيه رد على المعتزلة الذين يقولون بخلق القرآن.
وأهل السنة يقولون: (إن الله تكلم به بحرف وصوت)، وهذا فيه رد على من نفى الحرف والصوت.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ) - رحمه الله -:
"وليس في الأئمة والسلف من قال: إن الله لا يتكلم بصوت، بل قد ثبت عن غير واحد من السلف والأئمة: أن الله يتكلم بصوت، وجاء ذلك في آثار مشهورة عن السلف والأئمة، وكان السلف والأئمة يذكرون الآثار التي فيها ذكر تكلم الله بالصوت ولا ينكرها منهم أحد، حتى قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: إن قوما يقولون: إن الله لا يتكلم بصوت؟ فقال: يا بني هؤلاء جهمية إنما يدورون على التعطيل. ثم ذكر بعض الآثار المروية في ذلك.
وكلام "البخاري" في " كتاب خلق الأفعال "صريح في أن الله يتكلم بصوت، وفرّق بين صوت الله وأصوات العباد، وذكر في ذلك عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ترجم في كتاب الصحيح باب في قوله تعالى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ۖ قَالُوا الْحَقَّ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [سبأ: من آية: 23] وذكر ما دل على أن الله يتكلم بصوت".
"مجموع الفتاوى" (6 /527).
وقال الإمام أبو نصر السجزي (ت: 444هـ) - رحمه الله -:
"فقول خصومنا: إن أحدًا لم يقل إن القرآن كلام الله حرف وصوت؛ كذب وزور، بل السلف كلهم كانوا قائلين بذلك، وإذا أوردنا فيه المسند، وقول الصحابة من غير مخالفة وقعت بينهم في ذلك: صار كالإجماع.
ولم أجد أحدًا يعتد به، ولا يعرف ببدعة: من نفر من ذكر الصوت إلا البويطي، إن صح عنه ذلك. فإن عند أهل مصر رسالة يزعمون أنها عنه، وفيها: لا أقول إن كلاَم الله حرف وصوت، ولا أقول إنه ليس بحرف وصوت. وهذا إن صح عنه فليس فيه أكثر من إعلامنا أنه لم يتبين هذه المسألة، ولم يقف على الصواب فيها.
وأما غيره ممن نفى الحرف والصوت: فمبتدع ظاهر البدعة، أو مقروف بها مهجور على ما جرى منه. والله الموفق للصواب". انتهى من "رسالته إلى أهل زبيد": (ص: 260).
ويقولون: (وسمعه جبريل من الرب تبارك وتعالى) وهذا فيه رد على المعتزلة وغيره الذين يقولون إن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ، أردوا بذلك أن يعطلوا صفات الكلام عن الله تعلى.
ويقولون: (نزل به جبريل على النبيَ صلى الله عليه وسلم فبلغه إياه كما سمعه من الله)، وهذا فيه رد على المستشرقين والنصارى وغيرهم ممن قالوا: إنه تلقاه عن "بحيرة الراهب، أو عداس، أو غيرهما".
قاله بلسانه واعتقده بجنانه
الفَقِيِرُ إلى عَفْوِ رَبِهِ البَارِيِ
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
عَرَفةُ بْنُ طَنْطَاوِيِّ
عَفَا اللَّهُ عَنْهُ
"وَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِوالِدَيهِ وَلِمشَايِخِهِ وَلِذُريَّتِهِ ولِلمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ"