بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-
(( معركة الوِرد))
بعدَ كل فجرٍ وأول عملٍ يُمكن أن تقوم به، هو أن تقرأ وِردَك من القرآن، فهذا سرُّ البركة في يومك وباب الفتح، وأساس التوفيق قَلَّ أو كثُر، هذا الورد لا عذرَ لك إن تخلَّيتَ عنه أو تركتَه.
الوِرد هو رئتُك الثالثة في ظل دخان الحياة القاتم الذي يَخنق الأنفاس، ويُضيق الحياة ويعكِّر الصفو، وما حافَظ أحدٌ عليه إلا صفت له الحياة وطابَت له الأنفاسُ.
الورد هو وجبتُك الرابعة، بل الأُولى أهميَّةً وترتيبًا؛ حيث تبدأ بتناولها، فتجد الصحة والنشاط والسرور والسعادة، ويجري في دمك منها غذاءُ القلب وقوتُ الرُّوح، وإكسير الحياة..
كثيرٌ من الناس يصارعون في معركة الوِرد، ولكن لتعلم يقينًا أن اليوم الذي تبدأه بوردك هو يومٌ مكلَّل بالنجاح، عليه أفانين السعادة، ويوم تتكاسل فيه عن وردك يوم تعيسٌ ليس له طعمٌ ولا شمٌّ ولا لون، وهو معكَّر لا يُسمن ولا يغني..
الورد يعتبر منَّة من الله عليك وفضلًا كبيرًا ساقه إليك، وهو خَلوة بالملك عز وجل في بداية يومك، وهو انطراحٌ على عتبات الملك الكريم صاحب الغنى والطَّول والكرم والفضل، ولأنه منَّة منه عز وجل، فقد يكرم بهِ عبدًا من عباده لا يحفَظ كتابه ويُحرَمُ منه بعضُ الحفاظ، فأنا أعرف الضابط الكبير في الجيش الذي وصل إلى رتبة لواء ركن، والتاجر المشهور صاحب المال، والوزير المرموق صاحب النشاط الواسع ممن يحافظون عليه، ولا يدعونه مهما يكن الأمر، وهم في ذلك لا يحفظون القرآن وقراءتهم له مكسرة، لكنهم يعتبرون ذلك ضرورة من ضرورات يومهم، وهناك من العامة مَن هم في غاية الانشغال بأعمالهم، وتستغرب منهم في أهمية محافظتهم على أورادهم، حتى لكأنها جزءٌ لا يتجزأ من أنشطة يومهم، وأعرف بعض الحفاظ لربما يمر عليه الشهر لا يختم القرآن، بل أعرف بعض الأئمة ممن قال لي: أنا لا أختم المصحف إلا في شعبان ورمضان حين أراجعه لأصلي بالناس..
حدَّد العلماء مدة أربعين يومًا إن لم تختم فيها القرآن، فأنت ممن هجره والعياذ بالله، وقد قال تعالى مخبرًا لنا عن شكوى رسوله الأليمة: ï´؟ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ï´¾ [الفرقان: 30]، هذا أقصى ورد ولك أن تقسم ستمائة صفحة على أربعين، هذا لك إن لم تكن حافظًا، أما إن كنت حافظًا فلا عذر لك إن لم تَختمه مرتين على الأقل خلال الشهر بمعدل جزأين في اليوم، قد تقول هذا يكلفني كثيرًا من الوقت، وأقول لك هذا الوقت الذي تظنه كثيرًا وثقيلًا هو الأساس وبقيته فرع، هو المتن وسواه حاشية، هو العمدة وبقيته فضلة، تعامل معه كما لو أنك تتعامل مع فريضة أنت تفرِضها على نفسك، وتوقِّع في قرارة نفسك على أن تلتزم بها ولا تتركها مهما يكن الأمر..
الوِردُ اليومي من كتاب الله هو المنهل الذي تستقي منه رُوحك، وبدونه تبقى رُوحك ظامئة تلهث عن حياض تَكرع منه، وتبحث عن مَعين تَرِده، وتفتِّش يمينًا وشمالًا عن مصدر للارتواء، ومُحال أن تجد الري في غير الورد، فَرِدْ عليه كل صباح، وانْهَلْ منه حتى تشبع رُوحك، ولن تشبع، وما أجمل قول عثمان الخليفة الراشد رضي الله عنه: "لو طهرت قلوبُكم ما شبعت من مَعينه".
لا تَظُنَّ الأمر صعبًا، وفي الوقت نفسه لا تظُنَّ الأمر سهلًا لارتياض الورد، أما الأولى فهو في غاية السهولة لمن ألزَم نفسه ولو لسنة واحدة، فلا تستصعبه أبدًا، وإني لأعرف من أضحى عليه سهلًا كشرب الماء البارد، فيقرأه أثناء ذهابه لعمله، أو في طريق ذَهابه وعودته لصلواته، فانظُر كيف يسهِّله الله له، وأما الثانية فلا تظنه سهلًا، بل يحتاج إلى جهاد ومجاهدة، فلن تتنعم به حتى تذوقَ مرارةَ الصبر على ارتياضه، وقسْر النفس وكسرها على المداومة عليه..
معركة الورد أنت قائدها وبطلُها، وأنت وقودُ شرارتها، وأنت صانعُ انتصارها أو ناسجُ هزيمتها، أنت المنتصر وأنت المنكسر، الغنائم كلها لك إن كسبتَ والخسائر راجعة إليك إن انهزمتَ، الفائز نفسك والمنهزمة نفسك، فانتصر بنفسك على نفسك، وجاهد نفسَك على نفسك، وكنْ قويًّا لإلجام نفسك هواها إن حاولتِ التنصل أو الهروب، حاوِل أن تموت دونه، ولن تنهزم إن وُجِدت عندك هذه العقيدة..
في ظلِّ مصارعتي للورد كنت أعتبر نفسي في معركة، حتى نفعني الله بنصيحة لأحد أساتذتي ومن حينها ما تركته، فاعتبر نفسك في معركة إن انتصرت فافرَح، وإن انكسرت فاحزن وعاود (مكاوشة) الشيطان ونفسك، واستعِنْ بالله ولا تعجِز، ولا موفق إلا مَن وفَّقه الله، ولا بعيد إلا من أبعده الله، واطلب منه القرب يحقِّق لك هذا الكسب..
أفضلُ طريقة للالتزام به هو أن تعتقد أولًا أنه أساس يومك ومصدر طاقتك، وأنه ضرورة من الضرورات التي لا يُمكن بأي حال الاستغناء عنها، وتشبَّع بهذا الاعتقاد وتأمَّل ضرورته، ثم حاوِل أن تُلزم نفسك به إلزامًا لا رجعة فيه، وفرضًا أنك تركته يومًا ما لسببٍ طارئ - ولا أظُن أن هناك سببًا يستحق تقديمه على الورد - فعوِّض واقضِ، فقد كان النبي صل الله عليه وسلم إن فاته ورده قضاه..
ستجدُ متعة غامرة ونشوة عجيبة وأنت تنحدر كالماء العذب السلسال، والفيض الدافق الشلال من سورة إلى سورة، ومن جزء إلى جزء، ثم تعود مرة أخرى تحل وترتحل مع أعظم كلام وأزكاه، وأبركه وأعظمه نفعًا، وستجد لهذا نشاطًا وحيوية وقوة تسعد بها، وتشعر أنك أغنى الناس بما حقَّقت وتحقِّق من نجاح خلال تلاوتك وِردك.
§§§§§§§§§§§§§§§§