من درر العلامة ابن القيم عن الأعمال القلبية -1
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فالقلوب لا تُسرّ ولا تسعد ولا تطمئن إلا بمعرفة الله سبحانه وتعالى, ومحبته, وحسن الظن به, والخوف منه, والتوكل عليه, والإنابة إليه, والأنس به, ومن أعجب الأشياء أن تجد قلب مسلم يعرض عن هذه الأعمال القلبية, يقول العلامة ابن القيم رحمه الله, في كتابه " الفوائد " : من أعجب الأشياء: أن تعرفه ثم لا تحبه, وأن تسمع داعية ثم تتأخر عن الإجابة, وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره, وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له, وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته, وأن تذوق عُصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته, وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه!! وأعجب من هذا علمك أنك لا بد لك منه وأنك أحوج شيءٍ إليه وأنت عنه معرض وفيما يبعد عنه راغب.
ومن هذه حاله فقد نسي ربه, فأنساه الله جل جلاله ذاته ونفسه, قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه " مفتاح دار السعادة " : من نسي ربَّه أنساه ذاته ونفسه, فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه, بل نسي ما به صلاحُه وفلاحُه في معاشه ومعاده, فصار معطلاً مهملاً بمنزلة الأنعام السائمة, بل ربما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه, لبقائها على هداها التام الذي أعطاها إياه خالقها, وأما هذا فخرج عن فطرته التي خُلِقَ عليها, فنسي ربَّه, فأنساه نفسه وصفاتها, وما تكمل به وتزكو به وتسعدُ به في معاشها ومعادها.
أما من وفقه الله عز وجل, فكان قلبه مطمئن بالله, وقرت عينه به, فقد سعد وفاز في نفسه, وفرح وأنس به, كل قريب وحبيب, يقول العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه " طريق الهجرتين وباب السعادتين ": من قرت عينه بالله قرَّت به كلُّ عين, وأنس به كلُّ مستوحش, وطاب به كل خبيث, وفرح به كلُّ حزين, وأمِنَ به خائف, وشهد به كلُّ غائب, وذكَّرت رؤيتُه بالله, فإذا رُئي ذُكِرَ الله.
قد اطمأن قلبُه بالله, وسكنت نفسه إلى الله, وخلصت محبته لله, وقصَرَ خوفه من الله, وجعل رجاءه كلَّه لله, فإن سمع سمع بالله, وإن أبصر أبصر بالله, وإن بطش بطش بالله, وإن مشى مشى بالله, فبه يسمع, وبه يبصر, وبه يبطش, وبه يمشى, فإذا أحبَّ أحبَّ لله, وإذا أبغض أبغض لله, وإذا أعطى فلله, وإذا منع فلله.
قد اتخذ الله وحده معبوده ومرجوه ومخوفه, وغاية قصده ومنتهى طلبه, واتخذ رسوله وحده دليله وإمامه وقائده وسائقه. فوحد الله بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه, وأفرد رسوله بمتابعته والاقتداء به والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه.
للعلامة ابن القيم درر عن الأعمال القلبية جمعت بعضاً منها, الله أسأل أن ينفع بها.
عبودية الله جل جلاله:
إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها وحَمَلَ عنه كلَّ ما أهمَّه وفرَّغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته وإن أصبح وأمسى والدنيا همُّهُ حمَّلهُ اللهُ همومها وغُمومها وأنكادها ووكله إلى نفسه فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم...فكل من أعرض عن عبودية الله...ومحبته بُلي بعبودية المخلوق وخدمته.
[كتاب: الفوائد]
ـــــــــــــــ ــــــ
هجرة القلب إلى الله ورسوله:
الهجرة إلى الله ورسوله فرض عين على كل أحد في كل وقت، ولا انفكاك لأحد من وجوبها، وهي مطلوب الله ومراده من العباد؛ إذ الهجرة هجرتان:
هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة، وليس المراد الكلام فيها.
والهجرة الثانية: هجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، وهي هجرة تتضمن (من) و(إلى)، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذُّلِّ له والاستكانة له إلى دعاء ربه وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له.
وهذا هو بعينه معنى الفرار إليه؛ قال تعالى: ? { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} ? [الذاريات: 50]، فالتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب قوة داعي المحبة وضعفه، فكلما كان داعي المحبة في قلب العبد أقوى، كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل، وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة، حتى إنه لا يكاد يشعر بها علمًا، ولا يتحرك بها إرادة.
وعن هاتين الهجرتين يُسأل كلُّ عبد يوم القيامة وفي البرزخ، ويُطالب بهما في الدنيا، فهو مطالب بهما في الدور الثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار.
[كتاب: الرسالة التبوكية]
أهمية الأعمال القلبية وشدة حاجة المسلم إليها:
الله سبحانه وتعالى هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له, وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه, فلا معبود سواه, ولا معين على المطلوب غيره, وما سواه هو المكروه المطلوبُ بُعدُه, وهو المعينُ على دفعه.
الله سبحانه خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له, فبذكره تطمئن قلوبهم, وبرؤيته في الآخرة تقرُّ عيونهم, ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحبَّ إليهم من النظر إليه, ولا شيء يعطيهم في الدنيا أحبَّ إليهم من الإيمان به, ومحبتهم له, ومعرفتهم به.
العبد لا فرح له أعظم من فرحه بوجود ربه, وأنسِه به, وطاعته له, وإقباله عليه, وطمأنينته بذكره, وعمارة قلبه بمعرفته, والشوق إلى لقائه, فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه, ويطمئن به, ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه, ومن عبد غيره وأحبه – وإن حصل له نوع من اللذة والمودة والسكون إليه والفرح والسرور بوجوده- ففساده به ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشهي الذي هو عذب في مبدئه, وعذاب في نهايته.
فحاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً في محبته, ولا في خوفه, ولا في رجائه, ولا في التوكل عليه, ولا في العمل له, ولا في الحلف به, ولا في النذر له, ولا في الخضوع له, ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب أعظم من حاجة الجسد إلى روحه, والعين إلى نورها, بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به.
[كتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين ]
& اللذة التامة والفرح والسرور، وطيب العيش، والنعيم، إنما هو في معرفة الله، وتوحيده والأُنس به، والشوق إلى لقائه، واجتماع القلب والهمِّ عليه، فإن أنكد العيش عيش من قلبه مُشتت، وهمه مفرَّق؛ فاحرص أن يكون همُّك واحدًا، وأن يكون هو الله وحده، فهذا غاية سعادة العبد، وصاحب هذه الحال في جنة معجلة قبل جنة الآخرة وفي نعيم عاجل.
[كتاب: رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه]
& ليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبته، وذكره، والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه، والزلفى عنده، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف، وله أطلب، وإليه أقرب، وكلما كان لها أنكر كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد، والله تعالى ينزل العبد من نفسه حيث يُنزله العبد من نفسه.
فمن كان لذكر أسمائه وصفاته مبغضًا، وعنها مُعرضًا نافرًا ومُنفرًا، فالله له أشد بغضًا، وعنه أعظمُ إعراضًا، وله أكبر مقتًا،
[كتاب: الكافية الشافعية في الانتصار للفرقة الناجية]
من علامات معرفة العبد بربه:
من علامات المعرفة: الهيبة, فكلما ازدادت معرفة العبد بربه, ازدادت هيبته له, وخشيته إياه, كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] أي: العلماء به, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أعرفكم بالله, وأشدكم له خشية»
[كتاب: روضة المحبين ونزهة المشتاقين]
معرفة الله سيحانه وتعالى:
معرفة الله سبحانه نوعان:
الأول: معرفة إقرار, وهي التي يشترك فيها الناس, البر والفاجر, والمطيع والعاصي.
والثاني: معرفة تُوجب الحياء منه, والمحبة له وتعلق القلب به, والشوق إلى لقائه, وخشيته والإنابة إليه, والأنس به والفرار من الخلق إليه.
ولهذه المعرفة بابان واسعان:
باب التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها, والفهم الخاص عن الله ورسوله.
والباب الثاني: التفكر في آياته المشهودة, وتأمل حكمته فيها وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بالقسط على خلقه.
وجماع ذلك: الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها وتفرده بذلك وتعلقها بالخلق والأمر, فيكون فقهياً في أوامره ونواهيه, فقهياً في قضائه وقدره, فقهياً في أسمائه وصفاته فقهياً في الحكم الديني الشرعي والحكم الكوني القدري[كتاب الفوائد
من ثمار المعرفة بالله عز وجل:
& من عرف الله, صفا له العيش, وطابت له الحياة, وهابه كلُّ شيءٍ, وذهب عنه خوف المخلوقين, وأنِسَ بالله, واستوحش من الناس, وأورثته المعرفة الحياء من الله, والتعظيم له, والإجلال, والمراقبة, والمحبة, والتوكل عليه, والإنابة إليه, والرضا به, والتسليم لأمره. [كتاب: روضة المحبين ونزهة المشتاقين]
& المعرفة تثمر المحبة والخوف والرجاء.
& المعرفة تثمر حسن الخلق.
[كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين]
معرفة الله جل جلاله من أعظم أسباب النظر إلى وجه سبحانه:
أعظم نعيم الآخرة ولذاتها: النظر إلى وجه الرب جل جلاله, وسماع كلامه منه, والقرب منه, كما ثبت في الحديث الصحيح في حديث الرؤية: (فوالله ما أعطاهم شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إليه )
وفي النسائي ومسند الإمام أحمد من حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: « وأسألك لذة النظر إلى وجهك, والشوق إلى لقائك »
وإذا عرف هذا, فأعظم الأسباب التي تُحصل هذه اللذة هو أعظم لذات الدنيا على الإطلاق, وهو لذة معرفته سبحانه ولذة محبته, فإن ذلك هو جنة الدنيا ونعيمها العالي, ونسبة لذاتها الفانية كتفلةٍ في بحرٍ, فإن الروح والقلب والبدن إنما خلق لذلك, فأطيبُ ما في الدنيا معرفته ومحبته, وألذُّ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته, فمحبته ومعرفته قرة العيون, ولذة الأرواح, وبهجة القلوب, ونعيم الدنيا وسرورها, بل لذات الدنيا القاطعة عن ذلك تنقلب آلاماً وعذاباً, ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك, فليست الحياة الطيبة إلا بالله.
والمقصود أن أعظم لذات الدنيا هو السبب الموصل إلى أعظم لذة في الآخرة.
[كتاب: الداء والدواء]
الأنس بالله:
& متى رأيت نفسك تهربُ من الأُنس به إلى الأُنس بالخلق, ومن الخلوة مع الله إلى الخلوة مع الأغيار, فاعلم أنك لا تصلُح له.
[كتاب: بدائع الفوائد]
& من منازل ? { إياك نعبدُ وإياك نستعين} ?: منزلة الأنس بالله
والأنس ثمرة الطاعة والمحبة, فكل مطيع مستأنس, وكل عاص مستوحش, كما قيل: فإن كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنـــــــــ ـــس
* الله جعل للقلوب نوعين من الغذاء: نوعاً من الطعام والشراب الحسي وللقلب منه خلاصته وصفوه والثاني غذاء روحاني معنوي خارج عن الطعام والشراب من السرور والفرح والابتهاج واللذة, والعلوم والمعارف.
[كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين]
تعظيم الله عز وجل وتوقيره:
& من عظُم وقار الله في قلبه أن يعصيهُ, وقَّره في قلوب الخلق أن يُذلوه.
& من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خالٍ من تعظيم الله وتوقيره فإنك تُوقر المخلوق وتُجلُّه أن يراك في حال لا تُوقِّر الله أن يراك عليها! ومن كان كذلك فإن الله لا يُلقي له في قلوب الناس وقاراً ولا هيبةً, بل يسقط وقاره وهيبته من قلوبهم وإن وقروه مخافة شره فذاك وقار بغض لا وقار حب.[كتاب: الفوائد]
& الذنوب...تُضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله, وتُضعف وقاره في قلب العبد,...ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه,...فإن عظمة الله وجلاله في قلب العبد وتعظيم حرماته تحول بينه وبين الذنوب,...وكيف ينتهك عبد حرمات الله, ولا يطمع أن لا ينتهك الناس حرماته ؟ أم كيف يهون عليه حقُّ الله, ولا يهوّنه الله على الناس ؟ أم كيف يستخف بمعاصي الله, ولا يستخف به الخلق ؟ [كتاب: الداء والدواء]