الآن حصحص الحق.. أيها الصحويون
مصعب الخالد البوعليان
الحمد لله ذي المنَّة، والصلاة والسلام على رسول هذه الأُمة، ومَن اقتَفى أثره وسار على السُّنة.
وبعد:
توطِئة:
قد تقول وأنت تقرأُ هذا المقال: إنَّ كاتبه يقصد التيار الإسلامي أو يستهدفه، ويعلم الله تعالى أنَّ رسالة هذه الأسطر ما هي إلاَّ محاولة للبحث في مسبَّبات ما آلَت إليه الدعوة اليوم، علَّ الله تعالى أن يجعلَ في ذلك سببًا لعلاج واقعها وواقع المسلمين؛ إنه وَلِيُّ ذلك والقادر عليه.
دقَّت أحداث الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001 طبول حرب شعواء مسعورة على كلِّ ما هو إسلامي، تحت دثار الحرب على الإرهاب، وكانت نتائج هذه الحرب - التي تعدَّدت مستوياتها - كبيرة في العالم الإسلامي، حتى إن البعضَ جعَل من هذه الحرب كبْشَ فداءٍ لتراجُع زَخم الصحوة الإسلاميَّة، وفتور دورها، لا سيَّما أمام موجة التغريب التي عصَفت بقوة وصَلفٍ منقطعَي النظير على الجزيرة العربية وأهلها المعروفين بمحافظتهم وأصالتهم.
لكن ثَمَّة وجهة نظرٍ أخرى تقول: إنَّ ما يمكن وصْفه بانتصارات العدوِّ على الدعوة الإسلامية بعد الحادي عشر من سبتمبر، لَم يكن لقوَّة هذا العدوِّ وحسب، بل إنَّ ثَمَّة بذورَ تراجُعٍ كانت موجودة أصلاً في الجسد الصحوي الإسلامي قبل تعرُّضه لحرب سبتمبر، لكنَّ تلك البذور لَم تُثمر إلاَّ بعد وقوع هذه الحرب التي كشَفت الخَلل وهي من نِعَم الله تعالى على عباده؛ ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
وإذا كان القصد تسليطَ الضوء على هذه البذور، أو لنقل مسبَّبات التراجُع، فيُمكن إجمال ذلك في بعض النقاط:
أولاً: غياب التخطيط الإستراتيجي عن المشروع الدعوي، والارتجاليَّة التي كانت سِمة سيئة من سمات الصحوة، وهو أمْرٌ عليه ما عليه، وقد كان سببًا مهمًّا من أسباب اختلاط أوراق الصحوة، وانقلاب الطاولة عليها.
ثانيًا: عقليَّة الاستجداء التي سيْطَرت على الكثير من دوائر الدعوة؛ حيث غابَ عن بعض المُصلحين حديثُ: ((اليد العُليا خيرٌ من اليد السفلى))، وكانوا في مؤسَّساتهم يُسيِّرون العمل على حساب مُحسنين ومُتبرِّعين، يُعطونهم مرة ويَحرمونهم مرة، وبالتالي أصبَح بناء المشاريع ووضْع الخُطط الإستراتيجيَّة أكثرَ صعوبة مع مستقبل تمويلي ضبابي.
ثالثًا: مصيبة الدعوة بوفاة الشيخَيْن ابن باز وابن عثيمين، اللذين فُجِعَت بهما الأُمة في مدة متقارِبة، وهما من مراكز الثِّقل في هَرَمها الدعوي، فكان غيابهما عن الساحة ثَغرةً في سدٍّ عظيم تهدَّمت أجزاء منه، فكان ذلك وبالاً على المشروع الدعوي كله.
رابعًا: تأخُّر الصحوة في الاستفادة من وسائل الإعلام المؤثرة؛ كالقنوات الفضائيَّة والإذاعات ونحوها، وتأخُّرها في ذلك قادَها إلى التأخُّر في خوْض تجربة الإنتاج الإعلامي فيما عدا إنتاج الأشرطة السمعيَّة والكُتب، والناتج هو تجربة فقيرة في عالم إعلامي متسارِع النمو.
خامسًا: التقليديَّة في البرامج والفعاليات الاجتماعية الإسلامية، فهي بين محاضرة وندوة ومعرض، وهكذا يتكرَّر الأمر كلَّ مرة، وهذا منفِّر من ناحية وضعيف التأثير من ناحية أخرى، لا سيَّما مع وجود برامج منافسة متطوِّرة تقدِّم كلَّ يوم شكلاً جديدًا، وبالتالي تحقِّق تغييرًا مهمًّا وتدريجيًّا.
سادسًا: غياب ثقافة العمل المؤسَّسي عن بعض الدوائر الدعوية، وبالتالي مواجهة مشاكل مع الموارد البشريَّة، فالنظام التطوُّعي كعُرفٍ يُتَّخذ أحيانًا مدخلاً إلى عدم الانضباط واللامسؤوليَّة، بحجة أنه ليس ثَمَّة مردود مالي من العمل، وبالتالي ليس ثَمَّة سلطة لمشرفٍ، وهو ما يقود إلى تسرُّب كبيرٍ من العمل التطوعي الدعوي.
سابعًا: التلكُّؤ في استيعاب التغيُّر الحاصل في واقع الإصلاح الاجتماعي، فثَمَّة عوامل حاسمة دخلتْ حديثًا في هذا الميدان، من أهمها: الإعلام الجديد الذي صار لاعبًا أساسيًّا في إحداث الإصلاح ودعْمه.
ثامنًا: التباطُؤ في بناء النموذج المدني الإسلامي، فمشروعٌ مدنيٌّ واحدٌ تتجلَّى فيه القِيَم الإسلامية، خيرٌ من ألف ألف مؤلَّف ومصنَّف عن هذه القِيَم، وقل ذلك في قضيَّة المستشفيات المختلطة، وعمل المرأة في الأسواق وغيرها، وبالمناسبة فإنَّ هذه البدائل من أهمِّ عوامل الإصلاح الاجتماعي.
سابعًا: الانشغال بمجادلة التيارات الأخرى عن العمل، فالصحويُّون اليوم أُشْغِلوا بكتابة المقالات وتقديم الأطروحات التي يردُّون بها على غيرهم، حتى أغْفَلهم ذلك عن انتقال مناوئيهم إلى ساحة المجتمع؛ لإحداث التغيير فيها مباشرة، وتطبيق نماذجهم المدنيَّة المبنيَّة على أخلاط من نِحَلٍ ومذاهبَ ورُؤًى فكريَّة، غيَّبت النظرة الشرعيَّة في أحيانٍ كثيرة أو بشكلٍ كامل.
هذا ما تسنَّى جمعُه وتوصيفه من أسباب تدهور العمل الدعوي اليوم، وهذه الأطروحة ركَّزت بشكل مباشر كما ورد في مطلعها على المشاكل الداخليَّة، مُغْفِلة الدور الخارجي الذي كان محوريًّا بطبيعة الحال، لكنَّه ما كان كذلك إلاَّ بسبب تضافُر عواملَ جعلَت منه هذه الأهميَّة، وفي حالتنا فإنَّ عدوَّنا لا يأتي بما هو خيرٌ مما عندنا، ولله تعالى الحمد والمنَّة، لكنَّه يأتي بفكره الموتور بوسائلَ وطرائقَ تُزيِّنه في عيون الناس، وتَسْحَرهم؛ حتى يختلط الحابلُ بالنابل، ويُصبح الحقُّ باطلاً، والباطل حقًّا، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم.
على أمل اللقاء، أترككم في رعاية الله تعالى.
والسلام.