وقفات تربوية مع دعاء ليلة القدر
د. أحمد عبدالمجيد مكي
عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَبِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: قُولِي: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي». وفي سؤال عائشة كما في إِجابة النبي لها بهذه الإجابة، عدة وقفات تربوية أوجز أظهرها فيما يلي:
الوقفة الأولى: حرص عائشة رضي الله عنها على تعلّم ما ينفعها
عائشة هي بنت أبي بكر الصِّدِّيق، أم المؤمنين، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، أفقه نساء الأمَّة على الإطلاق. تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي صغيرة فبقيت أطولَ فترة ممكنة في مدرسة النبوَّة تتفقَّه في أحكامها وتعاليمها. تُعدُّ - رضي الله عنها - من المكثرين في الفتيا والرواية باتفاق العلماء، ومع ذلك حرصت على أَنْ تتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ما يقال في ليلة القدر، وفي هذا تعليم لنا أَنَّ العبد مهما بلغ فهو محتاج - بل مضطر - إلى معرفة الأمور التي ينبغي الحرص عليها، والجد في طلبها. وأَخَصُّ هذه الأمور: العلم النافع المزكي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين.
وقد أثنى الله على هذا الصنف من الناس في قوله: {فَبِشِّرْ عِبَادِ 17 الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17-18]، أي إيثاراً للأفضل واهتماماً بالأكمل. أراد أن يكونوا نقاداً في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل. ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك، وأقواها عند السبر، وأبينها دليلاً وأمارة. وأن لا تكون في مذهبك كما قال القائل: ولا تكن مثل عير قيد فانقادا.. يقصد بذلك المقلّد. ويدخل تحته أيضاً إيثار الأفضل من كل نوعين عند التعارض[1].
الوقفة الثانية: الحكمة في تخصيص هذه الليلة بسؤال العفو
سؤال الله عز وجل العفو في كل وقت وحين أمر مرغوب وردت فيه نصوص كثيرة، حتى إِنَّ العباس بن عبد المطلب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مِنْ مَرَّةٍ أَنْ يرشده إلى شيء يدعو الله به، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مَرَّةٍ بقوله: «سَلِ اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ».. فما الحكمة إِذاً مِنْ تخصيص هذه الليلة بسؤال العفو؟ أبان الحافظ ابن رجب هذه الحكمة في قوله: وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر - بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر - لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحاً ولا حالاً ولا مقالاً، فيرجعون إلى سؤال العفو، كحال المذنب المقصر[2].
وقد صدق رحمه الله؛ وذلك لأَنَّ (العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منته عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته، فهو يعلم أَنَّ ربه لو عذبه أشد العذاب لكان قد عدل فيه، وأَنَّ أقضيته كلها عدل فيه، وأَنَّ ما فيه من الخير فمجرد فضله ومنته وصدقته عليه، ولهذا كان في حديث سيد الاستغفار “أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي”، فلا يرى نفسه إلا مقصراً مذنباً، ولا يرى ربه إلا محسناً)[3].
الوقفة الثالثة: الدعاء بهذا اللفظ يتضمن أدباً من آداب الدعاء المهمة، وهو الثناء على الله تعالى بما هو أهله وبما يناسب مطلوب الداعي. وقد أرشدنا الله تعالى إلى هذا الأسلوب والأدب في نصوص كثيرة، أشهرها سورة الفاتحة، فالسورة نصفان، الأول: تمجيد وثناء من العبد على ربه، والآخر: سؤال من العبد لربه، وقد ورد ذلك مفصلاً في الحديث القدسي، وفيه: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي).
ولما سَمِعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يَدْعُو في صلاته لم يُمجِّدِ الله ولم يُصَل على النبيّ، قال صلى الله عليه وسلم: “عَجِلَ هذا”، ثم دعاه، فقال له أو لغيره: “إذا صَلَّى أحَدُكُم فليَبْدأ بتَمْجيدِ رَبَّه والثَّناءِ عليه، ثم يُصَلّي على النبيِّ، ثم يدعو بعدُ بما شاءَ”.
ومن الجدير بالذكر أَنَّ “ثناء الداعي على المدعو بما يتضمن حصول مطلوبه، قد يكون أبلغ من ذكر المطلوب، كما قيل:
إذا أثنى عليك المرء يوماً
كفاه من تعرضه الثناء”[4].
الوقفة الرابعة: في هذا الدعاء استشعار لحسن الظن بالله تعالى، فيعمر قلب المؤمن بالرجاء، وفي ذلك رد على من قال: لا أحبك لثوابك؛ لأنه عين حظي، وإنما أحبك لعقابك؛ لأنه لا حظ لي فيه! نافياً بذلك عبادة الله بالرجاء، مقتصراً على عبادته بالخوف. والعجيب أن صاحب هذا القول بالغ فنسب مخالفه إلى الرعونة، وقد رد عليه ابن القيم رداً بليغاً جاء فيه: فوالله ليس في أنواع الرعونة والحماقة أقبح من هذا ولا أسمج. وماذا يلعب الشيطان بالنفوس؟ وإن نفساً وصل بها تلبيس الشيطان إلى هذه الحالة المحتاجة إلى سؤال المعافاة.. فزن أحوال الأنبياء والرسل والصديقين، وسؤالهم ربهم، على أحوال هؤلاء الغالطين، الذين مرجت بهم نفوسهم، ثم قايس بينهما، وانظر التفاوت.. فهذا وأمثاله أحسن ما يقال فيهم: إنه شطح قد يعذر فيه صاحبه إذا كان مغلوباً على عقله، كالسكران ونحوه.. ولا تهدر محاسنه ومعاملاته وأحواله وزهده[5].
الوقفة الخامسة: حاجة العبد وفقره إلى عفو الله
عائشة رضي الله عنها - وهي من هي - تحرص على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ماذا تقول في ليلة القدر، فيجيبها النبي الكريم بسؤال الله العفو، فإذا كان هذا شأن الصديقة بنت الصديق فكيف بمن دونها؟ أليس في ذلك دلالة قاطعة على أَنَّ العبد فقير إلى الله من كل وجه وبكل اعتبار؟ من هذه الوجوه أَنَّه “فقير إليه من جهة معافاته له من أنواع البلاء، فإنه إن لم يعافيه منها هلك ببعضها.. وفقير إليه من جهة عفوه عنه ومغفرته له، فإن لم يعفُ عن العبد ويغفر له فلا سبيل إلى النجاة.. فما نجى أحد إلا بعفو الله ولا دخل الجنة إلا برحمة الله”[6].
الوقفة السادسة: حظ العبد من اسم الله «الْعَفُوُّ»
حظّ العبد من اسم الله «الْعَفُوُّ» لا يخفى، وهو أن يعفو عن كلّ من ظلمه، بل يحسن إليه كما يرى الله تعالى محسناً في الدّنيا إلى العصاة والكفرة غير معاجل لهم بالعقوبة. بل ربّما يعفو عنهم بأن يتوب عليهم، وإذا تاب عليهم محا سيّئاتهم، إذ التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له. وهذا غاية المحو للجناية[7]. وقد وعد الله العافين بالأجر العظيم والثواب الكبير فقال سبحانه: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، ويلاحظ في الآية أمران، الأول: أَنَّ الله قرن الإصلاح بالعفو، وذلك ليدل على أَنَّه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته؛ فإنه في هذه الحال لا يكون مأموراً به.
الأمر الثاني: أَنَّ الله جعل أجر العافي عليه سبحانه، وفي ذلك حض وتهييج للعبد على العفو، وأن يعامل الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإنَّ الجزاء من جنس العمل[8].
الوقفة السابعة: يُسْر الإسلام
يحمل قول الله تعالى لنبيه: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: ظ¨] بشارة عظيمة، ألا وهي يسر شريعته، فمعنى الآية: نُسَهِّلُ عليك أفعال الخير وأقواله، وَنُشَرِّعُ لك شَرْعاً سَهْلاً سَمْحاً مُسْتَقِيماً عَدْلاً لا اعوجاج فيه ولا حَرَجَ وَلَا عُسْرَ[9]. وتسري دلائل هذا التيسير وأماراته في جميع مناحي التشريع، ومنها أدعية الوحيين، حتى قالت عائشة: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَستحِبُّ الجَوامِعَ مِن الدعاء، ويَدَعُ ما سِوى ذلك». وأنا أريدك أخي القارئ أن تقارن بين دعاء ليلة القدر من حيث سهولة اللفظ ووضوح المعنى، وبين أوراد الصوفية التي لا تخلو من صعوبة في اللفظ، فكأنك تقرأ مبهمات وطلاسم، إضافة إلى غموض في المعنى وانحراف يصل إلى حد الإلحاد في أسماء الله وصفاته، وإليك هذه الكلمات من أحد أورادهم: “يا باسط يا غني بمهبوب ذي لطف خفي بصعصع بسهسهوب ذي العهز الشامخ، الذي له العظمة والكبرياء...” إلخ.
ونحن إِنْ قلّبنا النظر في مثل هذه الأوراد، رأينا أنها لم تراعِ طاقات الناس ولا ظروفهم وأحوالهم، وعلمنا يَقِيناً أَنَّها ليست من عند الله القائل: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} [النساء: 28]، أي: في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يُقَدِّرُهُ لكم، وذلك لعلمه سبحانه بِضعْفِ الإنسان من جميع الوجوه.
الوقفة الثامنة: خطورة اتكال العبد على العفو وقعوده عن المسابقة إلى الخيرات
عالي الهمة يجتهد في نيل مطلوبه، ويبذل وسعه في الوصول إلى رضى محبوبه، أما خسيس الهمة فاجتهاده في متابعة هواه، ويتكل على مجرد العفو، فيفوته - إن حصل له العفو - منازل السابقين المقربين، قال بعض السلف: هب أن المسيء عفي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين[10].
الخاتمة
إخواني: الْمُعَوَّلُ على القبول لا على الاجتهاد، والاعتبار ببر القلوب لا بعمل الأبدان، وربَّ قائم حظه من قيامه السهر، وكم من قائم محروم، وكم من نائم مرحوم، وهذا نام وقلبه ذاكر، وذاك قام وقلبه فاجر.
إِنَّ المقادير إذا ساعدت
ألحقت النائم بالقائم
لكن العبد مأمور بالسعي لاكتساب الخيرات والاجتهاد في الأعمال الصالحات، وكلٌّ ميسر لما خلق له، فالمبادرة المبادرة إلى اغتنام العمل فيما بقي، فعسى أن يستدرك به ما فات من ضياع العمر[11].
[1] «تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل» (8/ 284).
[2] «لطائف المعارف» (ص: 206)، وكرر نفس المعنى في (ص: 215).
[3] «شفاء العليل»لابن القيم (ص: 115).
[4] «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (22/ 382).
[5] «مدارج السالكين» (2/ 49-46).
[6] «شفاء العليل» لابن القيم (ص: 118)، وقريب منه في مفتاح دار السعادة (1/ 291).
[7] «المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى» أبو حامد الغزالي (ص: 140).
[8] ينظر: « تفسير السعدي » (ص: 760).
[9] «تفسير ابن كثير» (8/ 380).
[10] «لطائف المعارف» (ص: 245).
[11] السابق بتصرف (ص: 192).