معركة الشيطان
د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ ﴾ [النساء: 1].
أيها المؤمنون!
عداء الشيطان للبشر عداء يستوعب زمن الحياة؛ من حين قدّر الله وجود البشر إلى أن لا يبقى على البسيطة منهم أحد. عداء تاريخي موغل القِدم، خبيث الهدف، جَلِدُ الحيلة، شرس التربص، متنوع الوسائل، وخيم العاقبة. جلّى الوحي المعصوم تلك المعركة بتفاصيلها الدقيقة؛ فهلمّوا إلى سابغات من النصوص؛ كيما نقفَ من خلالها على حقائق تلك المعركة، وسبل الظفر فيها.
إن ابتداء العداء الشيطاني سابقٌ خلق البشر؛ فقد روى مسلم في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به؛ ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقاً لا يتمالك ». وحين أمر الله - سبحانه - الملائكة بالسجود لآدم - عليه السلام - وتأبّى إبليس عن السجود وتكبر، وكان جزاؤه اللعن والإبعاد؛ صرّح بالعداوة للبشرية قاطبة، وقطع اللعين على نفسه العهد المؤكد بإضلالهم جهده، ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 39، 40]. فالعلاقة بينه وبين بني البشر علاقة عداء ألدّ؛ لا تقبل المهاودة، ولا الغفلة، ولا الإهمال، كما قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6]. يجدد الشيطان ذلك العداء مع كل مولود من حين يخرج من بطن أمه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد؛ فيستهل صارخاً من مس الشيطان، غير مريم وابنها » رواه البخاري، وفي لفظ له: « كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد، غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب ».
هذا، وقد جعل الشيطان لنفسه في معركته ضد البشرية غاية عظمى محددة ترام من وراء الإغواء والإضلال، أبانها الله - جل وعلا - في قوله: ﴿ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]. وله في الوصول إلى تلك الغاية الخبيثة مسارب تفضي إليها. ومن أعظم تلك الدروب المهلكة: هاوية الكفر والشرك، وهي أعظم ما ظفر به الشيطان من العبد؛ إذ لا أمل في النجاة معها إن ميت عليها. ثم يلي ذلك مسرب البدع المضلة المجافية لصراط الله المستقيم. يقول سفيان الثوري: " البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها ". ومسرب المعاصي والذنوب وإيقاع العباد في وحلها من سبل تحقيق غاية الشيطان العظمى في إضلال البشرية، كما قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 169]. ومسرب آخر يتمثل في الصد عن سبيل الله والعوق عن طاعته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ ؟! فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ؟! وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ؛ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ ؟! فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ... » رواه النسائي وصححه الألباني. فإن قوي العبد على الطاعة فتح عليه باب إفسادها بالوسوسة والتلبيس؛ ليخرج منها خِلو الأجر. وهو مع ذلك لا يترك فرصة يُلحق من خلالها الضرر بالآدمي إلا وفعلها، كالمشاركة في الولد، والمنزل، والطعام، ولو أن يكدر نومه ويحزنه بالأحلام المزعجة.
أيها المسلمون!
إن للشيطان وسائل تجذب البشر إلى مسارب إضلاله، اختار تلك الوسائل ونوّعها بما يناسب طبعهم وطبيعتهم؛ ليخرج بأكبر حصيلة منهم في نار الجحيم معه. ومن أعظم تلك الوسائل: تزيين الباطل؛ إذ لو أمر بالسوء صُراحاً لما أطاعه إلا قلة. ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الحجر: 39]. وهل نفذ إلى حمل آدم وزجه على الأكل من الشجرة إلا بالتزيين ﴿ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ﴾ [طه: 120]؟! وما زال ذلك التزيين ذلول الشيطان في إضلال العباد، وقد ورثه عنه أولياؤه من شياطين الإنس والجن على مر الزمان والمكان، ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ﴾ [الأنعام: 121]؛ فسموا تمييع البراءة من المشركين تعايشاً، والربا فائدة، والخنا متعة، والخمر شراباً روحياً، وقرار المرأة في بيتها بطالة!
والإفراط والتفريط وسيلتان لا يبالي الشيطان بأيها ظفر من العبد بها؛ إذ كلاها ضلال عن صراط الله المستقيم. وله حدس قوي في اختيار أيهما أنجع؛ فإن رأى من العبد كسلاً وبعداً عن الطاعة زاده من ذلك وفتح له باب الرجاء الكاذب وطمّعه في عفو الله ورحمته، وإن رأى منه تشميراً في الطاعة حضّه على المزيد مما لم يشرعه الله وأيّسه من رحمة الله وقبوله؛ ليدخله في دائرة الغلو.
عباد الله!
والأماني من أبلغ وسائل الشيطان في الإغواء؛ فله مع العباد أمانٍ معسولة، ومواعيد كاذبة؛ كيما يوقعهم في شَرَك الضلال، كما قال الله - تعالى -: ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [النساء: 120]. يمنّي الشاب بالسَّدَر في الغي والتمتع بزهرة الشباب وأن باب التوب مشرع عند بلوغ سن الكهولة! ويمنّي المستثمر بأن الصفقة الحرام نادرة الوجود وستغنيك عن غيرها وباب التوبة مفتوح وربك غفور رحيم!
واستغلال مواطن الضعف البشري ولحظاته من أقوى وسائل الشيطان في الإضلال؛ إذ ينفذ من خلال هذه المواطن على العبد؛ فيحمله على فعل ما لا تحمد عقباه أو تركه. فالغضب والخوف واليأس والطمع والحزن والشك والفرح مواطن ضعف بشري يعظم عمل الشيطان فيها؛ فربما حمله غضبه على النطق بكلمة الكفر أو قتل النفس المعصومة أو تخريب عرشه الزوجي بكلمة الطلاق، وربما دعاه الخوف إلى الشرك بتعليق تعاويذ لا تنفع ولا تضر، وربما حداه اليأس إلى ترك الدعوة والأمر بالمعروف، وربما حضه الطمع إلى موالاة أعداء الله، وربما قاده الحزن إلى الانتحار، وربما أسلمه الشك إلى قطعية الرحم، وربما أزه الفرح إلى الوقوع في السرف والتبذير. والانتباه لتلك المواضع، واليقظة فيها، والتخلص من ضغطها بالصبر والنظر للعاقبة من ألزم ما ينبغي للعبد رعيه.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...
أيها المسلمون!
وكما أبان الله - سبحانه - هذا العداء الشيطاني الصائل الهائل فقد أبان وسائل قمعه ودحره؛ إذ كيد الشيطان مهما بلغ فإنه ضعيف، ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]. ومن الأسلحة التي يُحارب بها هذا العدو الشيطاني: لزوم العبودية لله والتوكلِ عليه، كما قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 99، 100]. والاستعاذة بالله من الشيطان عاصم من كيده، كما قال الله - تعالى -: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت: 36]. وتلك الاستعاذة النابعة من افتقار وعلم من أعظم ما يتحقق به العبادة والتوكل في مقارعة الشيطان، كما قال الله - تعالى -: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل: 98، 99]. والإخلاص لله جُنة حامية في هذه المعركة، كما أخبر الله عن إبليس: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82، 83]. وقطع الطريق على الشيطان بعدم الاسترسال معه في خطواته التي يُدرِّج العبدَ فيها إلى قعر الدركات من أعظم ما يعصم من شره، كما قال الله - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ [النور: 21]. وإن وقع في حبائله - ولا بد من ذلك -، فعليه المبادرة بإصلاح زلّه بالتوبة النصوح واللهج بالاستغفار، كما قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].