منهج الإسلام في تربية الشباب
محمد إقبال النائطي الندوي
إنَّ الإسلام دين كامل شامل، دين ارتضاه الله ربُّ العالمين منهجَ الحياة لجميع الناس:﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، وهو الدين الحقُّ عند الله - عز وجل - لا يَقبل من أحد دينًا سواه: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
وأنزل اللهُ القرآنَ هدًى للناس، يهتدون به في جميع ما يأتون به ويذرون، وجعل الرسولَ أسوةً وقدوة للمؤمنين فعلاً وتركًا:﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 7].
فالإسلام دين دلَّنا على كل خير ودعانا إليه، وحذَّرنا من كل شر ونهانا عنه، دعا الناسَ إلى مكارم الأخلاق ونهاهم عن أضدادها، ووعد مَن زكَّى نفسه بالفوز والفلاح، وأوعد من دسَّاها بالخيبة والخسران:﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9، 10].
وهذه التزكية عبارة عن التربية التي وصَّى بها القرآن في معظم الآيات:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6].
يقول عليٌّ - رضي الله عنه - في تفسير هذه الآية: "أدِّبوهم، علِّموهم"، ويقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصيَ الله، ومُرُوا أهليكم بالذكر، يُنْجِكم الله من النار"، وقال مجاهد: "اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله"؛ تفسير ابن كثير، 8/166.
ويقول الغزالي: "الصبي أمانةٌ عند والديه، وقلبه الطاهر نفسية ساذَجة، خالية من كل نقشٍ وصورة، وهو قابل لكل ما يُنقش عليه، ومائل إلى كل ما يحال إليه، فإن عُوِّد على الخير وعُلِّمَه، نشأ عليه، وسعِد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه، وكلُّ معلِّم له ومؤدِّب، وإن عوِّد الشرَّ وأُهمل إهمال البهائم، شقِي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه والوالي"؛ إحياء علوم الدين، 3/72.
لقد أولى الإسلامُ رعاية كبيرة، وعناية بالغة بالشباب؛ من حيث تربيتُه وتنشئته على الخير والصلاح، وحمايته ووقايته من الشرِّ والفساد.
والقرآن الكريم قد عرض نماذجَ طيِّبة للشباب الصالحين، وجعلها نبراسًا في تربية الشباب ما دام الليل والنهار؛ فها هي قصة نبيِّ الله يوسف - عليه الصلاة والسلام - في القرآن الكريم، التي هي من أحسن القصص؛ لِما فيها من العبرة والموعظة الحسنة:﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3]، تربى يوسف تربيةً ربَّانية وهو في قصر عَزيز مصر في بيئة غير صالحة، ومجتمع قد ساده الفسادُ، حتى إذا بلغ مبلغ الشباب، ابتلاه اللهُ بامرأة العزيز تراوده عن نفسه، وقد شغفها حبًّا، فاستعان يوسفُ بالله، وعصَمه الله منها: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ * وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يوسف: 22 - 34].
وهكذا ذكر الله - تعالى - في القرآن الكريم قصةَ أصحاب الكهف، وكانوا شبابًا، وهذه القصة تدعو الشبابَ إلى الاستقامة، والثباتِ على الحق والصِّدق، ونبْذِ الباطل والكذب مهما تعقَّدت الأمور وفسَدت الظروف، يقول الله - عز وجل -:﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: 13 - 16].
هنا يبدو موقف الفِتية واضحًا صريحًا حاسمًا، لا تردُّد فيه ولا تلعثم؛ إنهم فتية، أشدَّاء في أجسامهم، أشدَّاء في إيمانهم، أشداء في استنكارِ ما عليه قومُهم، فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومَهم، ويهجُرون ديارهم، ويفارقون أهلهم، ويتجرَّدون من زينة الأرض ومتاع الحياة، هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيِّق الخشِن المظلم، هؤلاء يستروحون رحمةَ الله، ويُحسون هذه الرحمة ظليلةً فسيحة ممتدة: ﴿يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الكهف: 16]، ولفظة "يَنْشُرْ" تلقي ظلال السَّعة والبُحبوحة والانفساح، فإذا الكهف فضاءٌ فسيح رحيب وسيع، تنتشر فيه الرحمةُ، وتتسع خيوطُها، وتمتد ظلالها، وتشملهم بالرِّفق واللِّين والرخاء، إن الحدودَ الضيقة لتنزاح، وإن الجدرانَ الصلدة لترِقُّ، وإن الوحشة الموغلة لتشفُّ، فإذا الرحمة والرِّفق والراحة والارتفاق، إنه الإيمان..."؛ "في ظلال القرآن، 4/2262".
من هنا يتبينُ لشباب الأمة الإسلامية أن الصدق في الإيمانِ، والثباتَ على الحقِّ على الرغم من هبوب أعاصيرِ الكفر والباطل - يأتي بالعجائب والغرائب، ويرقَى بهم قمةَ المكارم والفضائل، ويخلِّصهم من بطش الجبابرة والطواغيت، ويوصِّلهم إلى برِّ الأمان والنجاة.
وقد بيَّن القرآن الكريم أن مسؤوليةَ تربية الأولاد؛ من الأبناء والبنات، والفتيان والفتيات - ملقاةٌ على عاتق الآباء والأمهات؛ كما سبق في الآية السالفة الذكر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]، وكما أشارت إليه تلك الآيةُ التي تضمُّ وصية نبي الله يعقوبَ - عليه الصلاة والسلام - لأبنائه الشباب: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 133].
حُكيَ أن يعقوبَ حين خيِّر كما تُخيَّر الأَنبياء، اختار الموت، وقال: أمهلوني حتى أُوصي بنِيَّ وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا، فاهتدَوا، وقالوا: ﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ﴾ الآيةَ، فأرَوْه ثبوتَهم على الدينِ، ومعرفتَهم بالله - تعالى"؛ "تفسير القرطبي: 2/137".
من هنا ندرك ما للتربية من الأهمية البالغة في الإسلام، يعقوب - عليه الصلاة والسلام - يُهمه أمرُ أبنائه وقد حضره الموتُ، هل يثبتون على دين آبائهم - وهو الإسلام - أم ينقلبون على أعقابهم؟ بالرغم من أنه من سلالة الأنبياء، أبوه وجدُّه وعمه وابنه كلهم من الأنبياء، ولكنه أقضَّ مضجعَه، وأقلق بالَه أمرُ أبنائه من بعده دينًا وخُلقًا وعقيدة؛ فهذا إنذارٌ وتنبيه من الله - تعالى - لمن يُغفل تربيةَ الأولاد من الشباب، ويُهمل أمرهم، ويترك الحبلَ على غاربهم.
والقرآن الكريم وصف عبادَ الرحمن بصفاتٍ، وميَّزهم عن غيرهم بميزات، فقال - عز وجل -:﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74].
هؤلاء عباد الله الصالحون يتمنَّون التقوى لذرياتهم؛ حيث يدْعون الله - تعالى - أن يجعلَهم للمتقين إمامًا.
ثم لنتقدم قليلاً ولننظرْ ما ذكر اللهُ - تعالى - في القرآن الكريم من نَموذجٍ حسَنٍ لتربية الآباءِ أبناءَهم، يذكر عبدَه لقمانَ وما قام به من تربيه ابنه على التوحيد الخالص، والإيمانِ بالله حقَّ الإيمان، وإقامِ الصلاة، والدعوةِ إلى الله وحده، والأمر بالمعروف، والنهيِ عن المنكر، والصبرِ على ما يُصيبه في هذا الطريق، وتربيته على التحلِّي بمكارم الأخلاق، والتخلِّي عن سفاسفِها؛ حيث يقول الرب - عز وجل -: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
ويقول - عز وجل -:﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان: 16 - 19].
صورة جذَّابة رائعة لأب يُرشد ابنَه، ويَهديه إلى الصراط المستقيم في الحياة، وهي صورةٌ جامعة للتربية والتزكية والتأديب والتهذيب، هذا ما قصَّه لنا القرآن الكريم من الآيات البيِّنات، وهو يدْعونا مدويًّا مجلجلاً إلى القيام بتربية الأبناء والبنات من الفتيان والفتيات، وهكذا نرى في السنَّة النبوية الشريفة ما يذكِّر الآباءَ بواجبهم نحو أبنائهم؛ من تربيتهم وتنشئتهم على العقيدة الصحيحة والفكرة السليمة، فنجد في توجيه الرسولِ الكريم لابن عباس مثالاً ناصعًا لِما يمكن أن يقومَ به المربي من أمر الشباب، ويتمكَّن من غرس العقيدةِ الصحيحة في قلوبهم في بساطة ويسر: ((يا غلامُ، إني أعلمُك كلماتٍ: احفظ اللهَ يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألتَ فاسأل اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله، واعلم أن الأمَّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللهُ لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف))؛ سنن الترمذي، رقم: 2516، وصحَّحه الألباني.
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُولِي اهتمامًا كبيرًا وعناية بالغة بتربية أصحابه الشبابِ، ويستخدم لها أسلوبَ الحكمة والموعظة الحسنة، ويتعامل معهم بالعطف واللِّين: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].
وقد تجلَّى هذا اللِّينُ والعطف مع شابٍّ يستأذنه بالزنا، فلم يؤنِّبْه ولم يوبِّخه؛ روى أحمد عن أبي أمامة قال: "إن فتًى شابًّا أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ائذنْ لي بالزنا، فأقبل القومُ عليه فزجروه، قالوا: مه مه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ادنُهْ))، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: ((أتحبه لأمِّك؟)) قال: لا والله، جعلني اللهُ فداءك، قال: ((ولا الناسُ يحبونه لأمهاتهم))، قال: ((أفتحبُّه لابنتك؟))، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لبناتِهم))، قال: ((أفتحبُّه لأختك؟)) قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبُّونه لأخواتهم))، قال: ((أفتحبُّه لعمَّتك؟)) قال: لا والله، جعلني اللهُ فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لعمَّاتهم))، قال: ((أفتحبه لخالتك؟))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم))، قال: فوضع يدَه عليه وقال: ((اللهم اغفر ذنبَه، وطهِّر قلبَه، وحصِّنْ فرجَه))، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء"؛ حديث صحيح، مسند أحمد 5/ 256، رقم: 22265".
هذا هو الأسلوب الصحيح والمنهج المستقيمُ الذي اتخذه الرسولُ القدوةُ، نبيُّ الرحمة، محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في تربية الشباب.
فبهذه التربية الحكيمة الدقيقة، وبشخصيته الفذة، وبفضل هذا الكتاب السماويِّ المعجِز الذي لا تنقضي عجائبُه، ولا تخلَقُ جِدَتُه، بعَث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإنسانية المُحتَضَرة حياةً جديدة،عمد إلى الذخائر البشرية وهي أكداسٌ من المواد الخام لا يعرفُ أحدٌ غَناءَها، ولا يعرف محلَّها، وقد أضاعتْها الجاهليةُ والكفر والإخلاد إلى الأرض، فأوجدَ فيها - بإذن الله - الإيمانَ والعقيدة، وبعَث فيها الرُّوحَ الجديدة، وأثار من دفائنها وأشعل مواهبَها، ثم وضع كلَّ واحد في محلِّه فكأنما خُلق له، وكأنما كان المكان شاغرًا لم يزَلْ ينتظره ويتطلع إليه، وكأنما كان جمادًا فتحوَّل جسمًا ناميًا وإنسانًا متصرِّفًا، وكأنما كان ميتًا لا يتحرك فعاد حيًّا يُملي على العالم إرادته، وكأنما كان أعمى لا يُبصر الطريق فأصبح قائدًا بصيرًا يقود الأمم: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام: 122]؛ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن علي الحسني الندوي، ص111.
فتربية الشباب على أساس الإيمانِ - العقيدةِ الصحيحة السَّليمة، النابعةِ من الكتاب والسنَّة - والخُلقِ الحسَن، والدعوةِ إلى الله، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكرِ، والشجاعة والجرأة على قولِ الحقِّ - من واجب الآباء والأمَّهات، ومسؤولية رجال التعليم والتربية في المدارس والمعاهد والجامعات؛ فبتربيتهم يتحقَّق الخيرُ للأمة الإسلامية؛ لأنهم طاقةُ الأمة الحيوية المتجدِّدة، وثروتها الحقيقية التي من خلالها تستطيعُ تجاوز المراحل الحرِجة التي تمر بها، "والشباب هو الواحة الفريدة في صحراءِ الحياة، هو الربيع في سنة العمر، هو البسمة الوامضة على ثغر الزمان القاطب.
الشباب في الأمة قلبُها الخافق، وعيونها الناظرة، وأيديها العاملة؛ وذلك هو الشبابُ الحيُّ العامل، القوي المتين الذي وَضع له غايةً في العيش أبعدَ من العيش، ونَظَم نفسه حلقةً في سلسلة شبابه، واتخذ له مطمحًا، ومثلاً عاليًا، ثم عمل على بلوغه، وسعى إليه باندفاعِ الصواعق المنقضَّة، وقوة العواصف العاتية، وثبات الطبيعة، وإنَّ في سفر حياته الراءَ بين الحاء والباء؛ وهل الحياة إلا حربٌ دائمة، ونِضال مستمر، فتنازُعٌ على البقاء، وتسابقٌ إلى العلاء، لا يبقى غيرُ الصالح، ولا يبقى غيرُ القويِّ... هذه هي الحقيقة الباهرة، هذا هو القانون المقدس الذي لا يُلغيه برلمان، ولا يعبث به إنسان، ولا يخرج عليه إنسٌ ولاجانٌّ ولا حيوان؛ لأنه من قوانين الله التي كتبها على صفحة الوجود يوم أخرجه من العدم، وقال له: كن، فكان"؛ "المثل الأعلى للشباب المسلم"؛ للأستاذ علي الطنطاوي؛ مجلة (الرسالة) العدد 240، السنة السادسة، القاهرة.
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يربِّي أصحابه على تقوى الله - عز وجل - في السر والعلن؛ فهذا أبو ذرٍّ - رضي الله عنه - يوصيه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بالتقوى التي هي مِلاك الأمرِ كلِّه، يقول أبو ذر - رضي الله عنه -:قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:((اتقِ اللهَ حيثما كنتَ، وأَتْبعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلق حسن)).
وهذه الوصية نفسُها أوصى بها الشابَّ معاذَ بن جبل - رضي الله عنه-حيث قال:يا رسول الله،أوصني، قال:((اتقِ الله حيثما كنت - أو أينما كنت -))، قال:زِدني،قال: ((أَتْبعِ السيئةَ الحسنةَ تمحها))، قال:زدني، قال:((خالِقِ الناسَ بخُلق حسن))؛ مسند أحمد، رقم: 22059.
"فالتربية الإسلامية شاملة ومتوازنة ومتكاملة في أهدافها، فريدةٌ في خصائصها، كما هي مرِنة وشاملة ومتَّزنة في مناهجها، ومتنوعةٌ في أساليبها؛ فهي تتطلب منهجًا ينطلق من خصائصِها، ويعمل على تحقيقِ أهدافها، ويقوم على أسسها، ومن أهمِّ خصائص منهجها، الاهتمامُ بالنواحي الدِّينية والأخلاقية في ضوء الكتاب والسنَّة والسلف الصالح، إنَّ ابتعادَ الشباب عن التربية الدينية يقودهم إلى أن يكونوا صيدًا سهلاً أمام المُغريات الدنيوية، والتي تفتح البابَ على مِصراعيه للانحراف، خصوصًا في ظل الغزو الفكري الثقافي، والفضائيات السابحة في الفضاء بدون ضوابطَ، مما يجعلُنا نفكِّر مرتين في كيفية اتِّخاذ الإجراءات الوقائية والعلاجية من خلال إكثار البرامجِ التربوية، وإعداد تجمُّعات ثقافيةٍ لنشر الثقافة الإسلامية دون الدخول في الترهات الطائفية والمذهبية، كما لا بد من إقامة هذه التجمعات والندوات في المراكز الدينية ذات التراث الأصيل؛ كمسجد المدينة المنورة، ومسجد القيروان، ومسجد الكوفة، والمسجد الجامع، والأزهر الشريف وغيرها من المراكز الدينية.
يؤكد ابن قيم الجوزية في كتابه "الطب النبوي" في رياضة النفس، ذلك بقوله: رياضة النفوس: بالتعلم والتأدُّب، والفرح والسرور، والصبر والثبات، والإقدام، والسَّماحة وفعل الخير، ونحو ذلك مما ترتاض به النفوسُ، ومن أعظم رياضتِها الصبرُ والحب والشجاعة والإحسانُ، فلا تزال ترتاض بذلك شيئًا فشيئًا حتى تصيرَ لها هذه الصفاتُ هيئاتٍ راسخة، وملَكاتٍ ثابتةً".
وعززها ابن خلدون في مقدِّمته، يقول: "إن التعليمَ في الصِّغر أشدُّ رسوخًا، وهو أصلٌ لِما بعده؛ لأن السابق الأول كالأساسي للملَكات، وعلى حساب الأساسي بأساليبِه يكون حال مَن ينبني عليه"؛ الدكتور عبدالرزاق الطائي، مجلة الرياضة المعاصرة، المجلد الأول، السنة:2002.
هنا في منهج الرَّسول التربوي أساليبُ عدة، استخدمها - صلى الله عليه وسلم - أيما استخدام خلال تربيته أصحابَه، منها - كما يلي - التربية بالقصة، شابٌّ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو خبَّاب بن الأرتِّ - رضي الله عنه - يبلغ به الأذى والشدةُ كلَّ مبلغٍ، فيأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - شاكيًا له ما أصابه، فيقول - رضي الله عنه -: أتيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسِّد بردةً له في ظل الكعبة - وقد لقِينا من المشركين شدةً - فقلت: ألا تدعو اللهَ؟ فقعد وهو محمرٌّ وجهُه، فقال: ((لقد كان مَن قبلكم ليُمشَطُ بمِشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصَب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المِنشار على مَفرِق رأسه، فيُشقُّ باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكب من صنعاءَ إلى حضرموتَ ما يخاف إلا اللهَ))؛ رواه البخاري (3852).
والتربية بالموعظة: يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهةَ السآمة علينا"؛ رواه البخاري: 68.
والتربية بالحوار والنِّقاش: كما وقع مع الأنصار في غزوة حنينٍ بعد قِسمته للغنائم؛ فقد أعطى - صلى الله عليه وسلم - المؤلَّفةَ قلوبُهم، وتَرَك الأنصار، فبلغه أنهم وجَدُوا في أنفسهم، فدعاهم - صلى الله عليه وسلم - وكان بينهم وبينه هذا الحوارُ الذي يرويه عبدالله بن زيد - رضي الله عنه - فيقول: لَمَّا أفاء اللهُ على رسوله - صلى الله عليه وسلم - يوم حُنين، قسم في الناس في المؤلَّفة قلوبُهم، ولم يُعطِ الأنصارَ شيئًا، فكأنهم وجدوا إذ لم يُصِبْهم ما أصاب الناسَ، فخطبهم فقال: ((يا معشرَ الأنصار، ألم أجِدْكم ضلاَّلاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرِّقين فألَّفكم اللهُ بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟)) كلما قال شيئًا، قالوا: الله ورسولُه أمَنُّ، قال: ((ما يمنعكم أن تجيبوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم؟)) قال: كلما قال شيئًا، قالوا: الله ورسوله أمَنُّ، قال: ((لو شئتم قلتم: جئتَنا كذا وكذا، أترضَوْن أن يذهبَ الناسُ بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم؟ لولا الهجرةُ لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا وشِعبًا، لسلكت واديَ الأنصار وشِعبَها، الأنصار شِعارٌ، والناسُ دِثارٌ، إنكم ستلقَوْن بعدي أثَرةً، فاصبروا حتى تلقَوْني على الحوض))؛ رواه البخاري: 4330، ومسلم: 1061.
وقد يضطر المربِّي خلال التربية إلى استخدام الشدة والغِلظة؛ كما وقع للرسول - صلى الله عليه وسلم - فعن أبي مسعودٍ الأنصاري قال: قال رجل: يا رسول الله، لا أكاد أدركُ الصلاة مما يطوِّل بنا فلان، فما رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشدَّ غضبًا من يومئذٍ، فقال: ((أيها الناس، إنكم منفِّرون، فمن صلَّى بالناس فليخفِّف؛ فإن فيهم المريضَ والضعيف وذا الحاجة))؛ رواه البخاري: 90، ومسلم: 466.
وفَّقنا الله جميعًا لتربية الشباب على ما يُحبُّه الله ورسوله.
وصلى الله - تعالى - على خيرِ خلقه محمد، وعلى آله وصحبه وبارك وسلَّم.