الصيام والتربية
سلسلة مقالات (3)
الشيخ طه محمد الساكت
نصوص وعناصر:
وأما الركن الرابع وهو الصيام، فقد فرضه الله شهرًا قمريًّا من كل عام؛ ليُعد به نفوس عباده للتقوى والمراقبة، ويهيئهم للإخلاص في السر والعلن.
والإخلاص هو روح العبادة، والشرط الأول في قبول الأعمال.
ولا جدال في أن إمساك الإنسان شهرًا كاملًا عن الطعام والشراب والشهوة - مِن أعظم ما يُقوِّي العزائم على فِعل الخيرات، ويربي الإرادة على كبح جماح الشهوات، ومَن تربَّى هذه التربية القويمة، هانت عليه المشاق، واعتاد الصبر على مكارم الأخلاق.
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
وفي التعليل بالتقوى إشارة إلى حكمة الصيام العليا، وفائدته العظمى، وهي إعداد الصائمين لتقوى الله جل شأنه؛ بترك شهواتهم المباحة الميسورة؛ امتثالًا لأمره، واحتسابًا للأجر عنده.
ومِن أهم حِكم الصوم وجليل فوائده: تهيئة الصائمين لاحتمال المشاق، وتعويدهم الصبر على جلائل الأعمال.
والصبر من أمهات الفضائل التي لا غنى عنها لكادحٍ في هذه الحياة؛ ومن هنا قال صلوات الله وسلامه عليه: ((الصيام نصف الصبر))[1].
مراجع وتعليقات واستدراكات:
استعنَّا في هذه العناصر بتفسير المنار لآيات الصيام (ج2 ص143 - 148).
الصيام والإخاء والمساواة
نصوص وعناصر
ومن وجوه إعداد الصوم للتقوى: أن الصائم حينما يجوع يتذكر الفقراء والبائسين، فيرقُّ قلبه، وتصفو نفسه، وتتربَّى فيه القوة الداعية إلى العطف والإحسان والصدقة، فيكون من المؤمنين حقًّا.
ومن أجَلِّ فوائده الاجتماعية: أنه يغرس الإخاء والمواساة بين الناس جميعًا: كبيرهم وصغيرهم، فقيرهم وغنيهم، حاكمهم ومحكومهم، ملوكًا وسوقة، ويبث روح النظام في الأفراد والجماعات والأمة الإسلامية؛ إذ يشعرون جميعًا بأنهم يفطرون جميعًا ويصومون جميعًا، ويملأ البيوت المسلمة سرورًا وشكرًا لله على عظيم عطاياه. وفي حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((...للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه))[2].
لا يريد الله تعالى شأنُه بالصيام إعْناتنا ولا إرهاقنا؛ وإنما يريد إصلاحنا وتربية نفوسنا، واستكمال استعدادنا في حال قدرتنا عليه وعجزنا عنه؛ ولهذا قال عز من قائل: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185][3].
♦ ♦ ♦
الحج مشتمل على ضروب التربية
نصوص وعناصر
وأما الركن الخامس، فهو حج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلًا.
انظر إلى هذا الركن ترَ العجب في كل ناحية من نواحي التربية الجسمية والخُلُقية والروحية، فردية وجماعية وعالمية.
فيه الرحلات الكشفية التي تعتمد - من بعد الله تعالى - على النفس والثقة بها، وفيه التعاون على الخير والفضائل، وفيه المنافع المادية والروحية، وفيه النظر في ملكوت السماء والأرض، وفيه التذكرة بالبعث يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
فرَضه الله على المستطيع مرةً في العمر، وما زاد على ذلك فهو نافلة؛ ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97].
فرضه سبحانه ليجتمع العباد في كل عام اجتماعًا عامًّا شاملًا من أقطار المعمورة، يتفاوضون ويتشاورون فيما يعود عليهم نفعه دينًا ودنيا، وآخرة وأُولى، إخوانًا متوادين متراحمين، لا تفصل بينهم الشُّقَّة وإن بعُدت، ولا الأموال وإن كثرت، ولا السلطان وإن كان عظيمًا.
فيه التمرين على الأسفار، والترغيب في الهجرة ومفارقة الديار.
وفيه تقوية روابط الأخوة، وتنمية أواصر المودة بين البلاد المتنائية، والأقطار المترامية.
وناهيك بهذه الحكم والأسرار، وما تترك من عظيم الآثار في الأخلاق والاجتماع.
الحج ينشر الثقافة الإسلامية
نصوص وعناصر
فيه تهذيب النفوس وتحليتها بالفضائل، ولا سيما فضيلة التواضع والصبر والإخلاص والإنفاق في سبيل الله.
وفيه نشر الثقافة الإسلامية، وتبادل العلوم والمعارف.
وفيه تذكرة بتاريخ الإسلام وأبي الأنبياء إبراهيم عليه وعليهم الصلاة والسلام.
وفيه تذكرة بتاريخ خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وما لاقى من إرهاق وإعنات، وألوان من الكيد والإيذاء، لا يصبر عليها إلا أولو العزم من الرسل.
هذه لمحات خاطفة مما تضمَّنه الحج من التربية الرياضية والخلقية والاجتماعية، يحتاج تفصيلها وبسط القول فيها إلى مجلدات ضخام[4].
الإسلام والنظافة
نصوص وعناصر
قلنا: إن الإسلام مزج ضروب التربية بعضها ببعض مزجًا حكيمًا مُحكمًا، حتى إنك لترى في العبادة الواحدة شُعَبًا من التربية البدنية والخلقية والعقلية والاجتماعية، كما في الصلاة؛ وهي أعظم أركان الإسلام بعد الإيمان بالله ورسوله، وكما في الحج؛ وترى هذا واضحًا في أعماله ومناسكه.
وفي مقدمات الصلاة؛ وهي الطهارة التي جعلها الله أساسًا لها فلا تُقبَل صلاة بدونها - أنواع من النظافة والرياضة البدنية، ولا سيما في الأطراف والحواس التي إذا نشطت نشط الجسم كله، وإذا وهنت وخملت وهن الجسم كله.
وانظر إلى الغسل الذي أوجبه الإسلام عند مقتضياته ودواعيه من الرجل والمرأة؛ إنه رياضة عامة، ونظافة شاملة للبدن كله، وله صلة وثيقة بالاجتماع والتحابِّ والتوادِّ.
وقد شرعه الإسلام - علاوة على موجباته - في كل أسبوع مرة عند صلاة الجمعة، بل رغَّب في التطيُّب والتعطُّر عند الاجتماع، ولا سيما العيدين.
ورغَّب في تخليل الأسنان ونظافتها، وأمر بالسواك عند الوضوء وشدَّد في ذلك؛ حتى قال صلوات الله وسلامه عليه: ((السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب))[5]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة))[6]، وقال: ((أكثرتُ عليكم في السواك))[7].
وأمر الإسلام بالنظافة البدنية عامة، ومِن ذلك تقليم الأظفار، وإزالة الروائح الكريهة[8].
بل أمر بالتجمُّل والتزيُّن في غير إسراف ولا مخيلة؛ فإن مجاوزة الحد تنقلب إلى الضد.
والنظافة وسيلة لا غاية؛ فلا ينبغي أن تكون الشغل الشاغل للمرء كما نرى في بعض المترفين والمتكبرين.
الإسلام والتجمل
نصوص وعناصر
وكما رغَّب الإسلام في النظافة والتجمُّل بكل ما يدعو إلى التحابِّ والتوادِّ، نفَّر من القذارة وما يدعو إلى الكراهية والنفور والإيذاء؛ ولهذا حرَّم دخول المساجد وغشيان المجتمعات على مَن أكل بصلًا أو ثُومًا وما إليهما، حتى يزيل رائحتهما؛ صيانة للمجتمع، ودفعًا للإيذاء.
وفي هذا يقول صلوات الله وسلامه عليه: ((إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء مِن هذا البول ولا القذر؛ إنما هي لذكر الله تعالى وقراءة القرآن)) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم[9]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها))[10]، وقال: ((مَن أكل ثُومًا أو بصلًا، فلْيعتزلْنا)) أو ((فلْيعتزل مسجدنا))[11].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه خطب يوم الجمعة، فقال في خطبته: "ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: البصل والثُّوم؛ لقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما مِن الرجل في المسجد أَمَر به فأُخرج إلى البقيع، فمَن أكلهما فلْيُمِتْهما طبخًا"؛ رواه مسلم[12].
[يتبع بقية السلسلة].
[1] رواه ابن ماجه وصححه في الجامع الصغير.
[2] من حديث طويل في باب وجوب صيام رمضان وبيان فضل الصيام وما يتعلق به، رياض الصالحين (ص272 ط حنفي، ص444 مطبعة الاستقامة بتعليقات الشيخ رضوان).
[3] ولا بأس بالرجوع إلى:
(1) تفسير الشيخ المراغي رحمة الله عليه لآيات الصيام، المطبوعة في "مجلة الأزهر" وفي "دار الهلال"؛ ص166.
(2) "الإسلام دين ودنيا"؛ للصحافي الأستاذ راغب العثماني، مطبوع بدمشق.
(3) "روح الدين الإسلامي"؛ (ص384) المطبوع حديثًا ببيروت، وهو مجموعة صالحة في أسرار الشريعة الإسلامية ومنهاجها.
[4] انظر "الإسلام دين ودنيا"، وانظر "روح الدين الإسلامي"؛ ص404-412.
[5] رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه بأسانيد صحيحة.
[6] متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه.
[8] الرياض ص268 وفي ص269 حديثَا: ((الفطرة: خمس)) عن أبي هريرة رضي الله عنه، و ((عشر...)) عن عائشة رضي الله عنها.
[9] رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه.
[10] متفق عليه عن أنس رضي الله عنه.
[11] متفق عليه عن جابر رضي الله عنه.
[12] 365 رياض الصالحين.