الوحدة الدينية
أ. محمد الخطيب
الإسلام دين سماوي اعترف بجميع الأديان المنـزلة، رسلاً وكتباً، منهم من عرفنا (كموسى وتوراته، وعيسى وإنجيله)، ومنهم من لم نعرف، إذ الأمر على ما قال تعالى ﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [فاطر: 24] لذلك فإن المسلمين كما قال تعالى ﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 136] من حيث الإيمان بأنهم رسل الله، وبأن شرائعهم من وحي الله، وكما اعترف الإسلام بذلك فقد أخبر بأنه جاءت بشائرهم به، وأخذ منهم العهد إذا جاءت رسالته (وهو خاتم الأنبياء) بعدهم «ليؤمنن به ولينصرنه» تأييداً لهذه السلسلة التي تصل أول دين سماوي بآخر دين سماوي، وبناء على هذه الصلات التي أوضحها الإسلام فإنه رأى «وحدة دينية» تجمعهم به، فلم يدعهم بجفوة، وإنما دعاهم بالحكمة عن طريق تبيان هذه الصلات الموحدة، فقال فيما قاله: إنني لا أدعوكم للكفر بأنبيائكم وتكذيب ما أرسل إليهم من ربكم، وإنما أدعوكم لتؤمنوا بذلك حق الإيمان إيماناً بما أنـزل الله كما أنـزل، قال تعالى آمراً نبيه الأعظم: ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [المائدة: 68]. لأنكم إن فعلتم ذلك أقررتم برسالتي حسب ما بشر بي، ورأيتم العهد الذي أخذ لي عليكم، فكان بنتيجة هذه الدعوة أن آمن بعض أهل الكتاب به، وكان منهم من صد عنه، عند ذلك وقف الإسلام من هاتين الفرقتين موقفاً يليق بكل منهم، فقال بحق من آمن منهم مثل قوله: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ﴾ [الأعراف: 157].... ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157] وقال بحق الآخرين ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 70]؟"، "لم تكتمون الحق؟» واشتد هؤلاء بإصرارهم وعتوهم، فاشتد معهم، فقال منذراً ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ﴾ [النساء: 47].
وقال لهم مبكتاً: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87]؟ وامتد الأمر بأهل الكتاب إلى أبعد من هذا فكان ذلك كفراً صريحاً، فخاطبهم ككافرين بمثل قوله: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ﴾ [المائدة: 73] وعاملهم معاملة الكافرين، غير أنه في هذه المعاملة أيضاً لم ينس صلات دينه بأديانهم، رغم تحريفهم لها وكفرهم بكثير مما شرع فيها، فدعاهم دعوة السلم بأن يعيشوا غير مكرهين في دينهم (وكما يعتقدون أو كما يريدون أن يعتقدوا أنه دينهم) في ظلال الإسلام، بأداء الجزية، مقابل معاملة المسلمين لهم كما يتعاملون مع بعضهم، «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين»، فإن أبوا إلا العداء فعندها الحرب، وللحرب في الإسلام شروطه وآدابه أيضاً وهي بجملتها تراعي تلك الصلات لما أسميناه «الوحدة الدينية»، كما تراعي سمو آداب الإسلام وحكم مقاصده، فمن ذلك أنا نجنح للسلم معهم إن جنحوا لها، كما قال تعالى مخاطباً نبيه الأعظم ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 61].
هذه سيرة الإسلام في دعوته أهل الكتاب، وهذه مبادئه، وقد رأى فضيلة الأستاذ الشيخ بهجة البيطار أن يتبع هذه السيرة وهذه المبادئ في محاضرته التي ألقاها في بهو المجمع العلمي العربي بدمشق، بمناسبة ظهور الجزء الثاني من كتاب «نفسية الرسول العربي»، تأليف الأستاذ لبيب الرياشي (اللبناني الموطن، الماروني الأصل، المسلم العقيدة، من بعد ذلك كما ألف واعترف) فكان منه ما نشرناه في الجزء الرابع من هذه السنة.
وقد سمع وقرأ ذلك بعض فضلاء العلماء ومنهم الأستاذ الشيخ جميل الشطي (مفتي السادة الحنابلة في دمشق)، فحسبَ فيما قاله الأستاذ البيطار إقراراً بأديان أهل الكتاب على ما هي عليه الآن رغم اختلافها فيما بينها، وعلى الرغم من نسخها، فأرسل إلى المجلة مؤخراً مقالة يبين فيها وجه الصواب بحسب ما ترآى له، بناء على ما فهمه من المحاضرة، وقد عدنا إلى ما ألقاه الأستاذ البيطار، فرأينا أنه لم يخرج عما بسطناه، مما جاءت به شريعة الله الإسلامية، وأنه وردت في أقواله قيود احترازية لم ينتبه إليها، أو فهمت بغير ما أريد منها، وحسبنا من ذلك قوله: الإسلام يدعو إلى «وحدة دينية»... إنه يقول للمسلمين وللنصارى ولليهود، أقيموا كتبكم على الوجه الصحيح، ذلك لأنه يرى أن أولها وآخرها بمنـزلة كتاب واحد، كما أن الرسل أولهم وآخرهم بمنـزلة رسول واحد...أقول وأنا مسلم: إني لا يسعني أن أنكر النصرانية المنـزلة من السماء، لأني إن أنكرتها أكون أنكرت ديني الذي أمرني بالاعتراف بها..».
وقد وفق الأستاذ البيطار ساعة ارتجاله ذلك بأن لاحظ بأنه قد يخشى توهم ما لا يريده من معنى «الوحدة الدينية» فقال في الاختلافات الاعتقادية التي بين الكتابيين، والإسلام: إني لا أدعوهم إلى الاستمساك بها كما يعتقدون بها، لأنها باعتقادي محرفة أو منسوخة، وإنما أقف منهم حين ذاك بـ «دعوتهم إلى أصل دينهم بحت معتقدي» وبين خلاصة ما ذهب إليه إلى أنه دعوة «لوحدة دينية»... فدفع بذلك ما ألقاه بعض وجهاء المسيحيين في اجتماع سابق حاشد، من أنه لا يخشى على أمتنا من غير الاختلافات الدينية إلى آخر ما يلي هذه النغمة فقال: [فنحن إذا طلبنا الاستمساك بديننا، وإذا طلبنا من إخواننا الكتابيين أن يتمسكوا بما أنـزل إليهم من ربهم، فإنا ندعو إلى «وحدة دينية» و﴿ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾ [آل عمران: 64]].
ولما كان قد تبين من جملة بحثنا هذا اتفاق الأستاذ البيطار فيما ذهب إليه بمحاضرته مع ما أورده الأستاذ الشطي في مقاله، فقد اكتفينا بالإلماع إليه، واغتنمنا هذه المناسبة لشرح الموقف العلمي الديني حول موضوع «الوحدة الدينية» وما أورده الأستاذ البيطار في محاضرته، إيضاحاً للفكرة ودفعاً لكل ما توهم، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.