الفطر في رمضان
الشيخ صالح بن عبدالرحمن الأطرم
الحمد لله الذي اختار لنا الإسلامَ دينًا، وفرض علينا فروضًا وحدَّ لنا حدودًا، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله الرحيم بعباده ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله علَّمنا الكثير، ووجَّهنا إلى الخير الوفير، وأرشدنا في أحاديثه كيف نصوم وكيف نقوم؛ حتى نكون على بيِّنة ودِراية: ((مَن يُرِد الله به خيرًا، يُفقِّهه في الدين)).
صلى الله عليه وعلى آله وصحْبه الذين تتلمذوا على يد رسولهم، وعاشوا دروسَ مدرستِه حتى استوعبوها ووعوها وطبَّقوها على أنفسهم وبيوتهم، وأذاعوها في مجتمعهم، فكانوا بحق دعاة هدى ونور، وعِلم ومعرفة، وحق وصواب - وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وأطيعوه، والتزموا بأوامره ولا تعصوه، وتفقَّهوا في دينكم، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان"، وعنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن مات وعليه صيام، صام عنه وليُّه))، وعن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صيام شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: ((لو كان على أمك دَين، أكنتَ قاضِيَه عنها؟))، قال: نعم، قال: ((فدَين الله أحق أن يُقضى))، وفي رواية جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم نَذْر، أفأصوم عنها؟ قال: ((أفرأيت لو كان على أمك دَين فقضيته، أكان يؤدي ذلك عنها؟))، قالت: نعم، قال: ((فصومي عن أمك)).
إن الله تعالى أوجب على الخَلْق أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، وأن تكون عبادتهم وَفْق ما شرع الله لهم، فمن العبادات ما لها وقت محدد؛ كالصلاة والصيام والحج، وهذه منها ما هو مُتكرِّر في اليوم والليلة، وهو الصلوات الخمس، أو في السَّنة مرة، وهو صيام رمضان، أو في العمر مرة، وهو الحج، والذي له وقت مُعيَّن: محدود ومتكرر، لا يَصِح تفويته عن وقته، كالصلاة، ما دام عند الإنسان أدنى شعور، فإنه يصلي حسب حاله، ومَن نام أو نسي، فليُصلِّ متى استيقظ؛ لحديث: ((مَن نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكَرها، لا كفارةَ لها إلا ذلك))، وما يفعله كثير من الناس من ترْك الصلوات وإخراجها عن وقتها إذا مرض أو كان مشتغلاً، فغير مصيب، ولو قصد انتظار الشفاء حتى يتنزَّه عن النجاسات، فالواجب على المريض أن يصلي حسب حاله، ويتوضأ إذا قَدَر ويُزيل النجاسة، وإلا يتيمَّم ويصلي قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنبٍ، فإن لم يستطع فالبنيَّة، وكذا مَن حضرتْه الصلاة وهو في عمله، فإنه يصليها في وقتها، ولا يؤخِّرها من أجل أن يُزيل أثرَ المِهنة، أو من أجل ألا تتأثَّر ملابسه بسبب الوضوء، كما هو صُنْع كثير من الموظفين؛ هدى الله تعالى الجميعَ ووفَّقهم إلى اتباع شرع الله - عز وجل - فإن أتى المسلم بالصلاة في وقتها كان أداء، وإن أخرجها عن وقتها كان قضاء.
وصيام نهار رمضان واجب، ويكون أداء في وقته، ومَن أخَّره عن الشهر، كان قضاء، والمسلم البالغ العاقل المختار لا يؤخِّر رمضان أو شيئًا منه إلا لعُذْر؛ كأن يؤثِّر الصيامُ على صحته، بحيث إذا صام تأخَّر برؤه وزاد مرضه، وكالحامل والمرضِع تخافان على نفسيهما وولديهما، أو يكون العُذر ملاحظًا فيه المشقة كالسفر، وأهل هذه الأعذار منهم مُن يُخيَّر بين الصيام والإطعام عن كل يوم مسكينًا، وهذا فيمن استصعب مرضه وغلب على الظن عدم بُرئه، وكذا الشيخ الكبير والشيخة الكبيرة؛ قال تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184].
ومن المعذورين عن صيام رمضان مَن عليه القضاء والإطعام؛ كالحامل والمُرضِع يُفطِران خوفًا على ولديهما، أما إذا خافتا على نفسيهما، فعليهما القضاء فقط، ومن المعذورين في الإفطار أيضًا ممن عليه القضاء دون الإطعام، المريض الذي يُرجى برؤه والمسافر، وأما الحائض والنفساء، فيَحرُم منهما الصيام، ويجب عليهما الإفطار والقضاء بعد ذلك.
ويَلزم قضاء رمضان في ذمة المسلم متى زال عذرُه من سفر أو مرض في أي شهر من شهور السنة، ويقضيه متفرِّقًا أو متتابعًا، والأفضل التتابع؛ لأنه أشبه الأداء، والأفضل المبادرة لقضاء رمضان ولو مع مشقَّة الوقت؛ مسارعة لبراءة الذمة، ومبادرة لفعل الخير.
ويقضي عددَ ما فات من الأيام، وإن فاته الشهر كله، صام حسب الشهر ثلاثين يومًا أو تسعة وعشرين يومًا، ولا يلزم مشابهة أيام القضاء بأيام الأداء طولاً أو قصرًا، حَرًّا أو بردًا، ويجوز التفريق في قضاء رمضان؛ لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "قضاء رمضان إن شاء فرَّق، وإن شاء تابَع"، وإن لم يبقَ على رمضان الثاني إلا قدْر الأيام الواجبة عليه، وجب القضاء عليه، وإن أدركه رمضان الثاني، لزمه صيامه، ثم بعد ذلك يقضي ما عليه من صيام رمضان الأول، ويُطعِم عن كل يوم مسكينًا مع القضاء، ومقدار الإطعام: نصف صاع لكل مسكين عن كل يوم من أوسط ما تُطعِمون، ومَن استمرَّ على مرضه ومات فيه، فلا قضاء عليه ولا كفارة ولا فِدية؛ لأنه غير مُفرِّط، ولا يصوم أحد عن أحد حيًّا مطلقًا، وأما من مات وعليه صوم نَذْر، صام عنه وليه، والولي هنا يعني: الذي يَرِث تَرِكته، ولو صام غيره أجزأ، لكن الولي أولى بالبرِّ لميته، وتدلُّ الآية الكريمة على يُسْر الشريعة وسماحتها، وأنها لم تُكلِّف شططًا، وأن القضاء وقته موسَّع، ويدل حديث عائشة على جواز تأخير قضاء رمضان إلى شعبان، مع العلم أن الأفضل التعجيل من غير العُذْر، فعائشة - رضي الله عنها - قد بيَّنت عذرَها في ذلك، وأنه لا يجوز تأخير القضاء إلى دخول رمضان الثاني، وفيه حُسْن عشرة عائشة - رضي الله عنها - مع زوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- رزق اللهُ نساء المؤمنين القدوةَ بها.
وحديث ابن عباس يدلُّ على أن الديون تُقضى عن الميت، سواء كانت لله أو لآدمي، والتي تقضى من ديون الله هي التي تدخلها النيابة كصيام النذر والحج، وتوزيع الزكاة والكفارات، وإخراج حقوق الله المالية من تركةِ الميت إن كان له تَرِكة، فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون، واحمدوا الله تعالى على تيسيره ورحمتِه بكم ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 183، 184].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب.