يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
خالد سعد النجار
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) }
كان العرب في الجاهلية يشربون الخمر ويقامرون، وجاء الإِسلام فبدأ دعوتهم إلى التوحيد والإِيمان بالعبث الآخر إذ هما الباعث القوي عل الاستقامة في الحياة، ولما هاجر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والعديد من أصحابه، وأصبحت المدينة تمثل مجتمعاً إسلامياً، وأخذت الأحكام تنزل شيئاً فشيئاً، فحدث يوماً أن صلى أحد الصحابة بجماعة وهو ثملان فخلط في القراءة فنزلت آية النساء { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} } [النساء:43] فكانوا لا يشربونها إلا في أوقات معينة، وهنا كثرت التساؤلات حول شرب الخمر فنزلت هذه الآية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} فأجابهم الله تعالى بقوله { {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} } فترك الكثير كلاً من شرب الخمر ولعب القمار لهذه الآية.
وبقي آخرون، فكان عمر يتطلع إلى منعهما منعاً باتاً ويقول: "اللهم بينّ لنا في الخمر بياناً شافياً" فاستجاب الله تعالى له، ونزلت آية المائدة: { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} } [المائدة:90] إلى قوله { {فهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} } [المائدة:91] فقال عمر: "انتهينا ربنا"
وبذلك حرمت الخمر وحرم الميسر تحريماً قطعياً كاملاً، ووضع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حدّ الخمر وهو الجلد. وحذر من شربها وسماها «أم الخبائث»، وروى ابن حبان من حديث ابن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى»
وعن أنس بن مالك -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: " «حرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها، وما حرم عليهم شيء أشد عليهم من الخمر» ".
فلا جرم أن جاء الإسلام في تحريمها بطريقة التدريج، فأقر حقبة إباحة شربها وحسبكم في هذا الامتنان بذلك في قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل:67] وآية سورة النحل نزلت بمكة، واتفق أهل الأثر على أن تحريم الخمر وقع في المدينة بعد غزوة الأحزاب بأيام
فقد امتن الله على الناس بأن اتخذوا سكرا من الثمرات التي خلقها لهم، ثم إن الله لم يهمل رحمته بالناس حتى في حملهم على مصالحهم فجاءهم ذلك بالتدريج، فقيل: إن آية سورة البقرة هذه هي أول آية آذنت بما في الخمر من علة التحريم، فيكون وصفها بما فيها من الإثم والمنفعة تنبيها لهم، إذ كانوا لا يذكرون إلا محاسنها فيكون تهيئة لهم إلى ما سيرد من التحريم،
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} هي كل ما خامر العقل وغطاه، فأصبح شاربه لا يميز ولا يعقل {وَالْمَيْسِرِ} القمار، وسمي ميسراً لأن صاحبه ينال المال بيسر وسهولة {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ} هو كل ضار فاسد بالنفس أو العقل أو البدن أو المال أو العرض، وفسروه بذهاب العقل، والسباب، والافتراء، والتعدّي الذي يكون من شاربها {كَبِيرٌ} فهو كما قال تعالى في سورة المائدة {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة:91]
ويمكن وصف الإثم بالكثرة باعتبار كثرة الآثمين، فقد قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَلَعَنَ شَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَة َ إِلَيْهِ وَآكِلَ ثَمَنِهَا» [أحمد]
{ {وَمَنَافِعُ} } جمع منفعة، وهي ما يسرّ ولا يضر من سائر الأقوال والأفعال والموادّ { {لِلنَّاسِ} } منها الربح في تجارة الخمر وصنعها، وما تكسب شاربها من النشوة والفرح والسخاء والشجاعة، وأما المسير فمن منافعه الحصول على المال بلا كد ولا تعب وانتفاع بعض الفقراء به، إذا كانوا يقامرون على الجزور من الإِبل ثم يذبح ويعطى للفقراء والمساكين { {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} }
فإن قلت: ما الوجه في ذكر منافع الخمر والميسر مع أن سياق التحريم والتمهيد إليه يقتضي تناسي المنافع، قلت إن كانت الآية نازلة لتحريم الخمر والميسر فالفائدة في ذكر المنافع هي بيان حكمة التشريع ليعتاد المسلمون مراعاة علل الأشياء، لأن الله جعل هذا الدين دينا دائما وأودعه أمة أراد أن يكون منها مشرعون لمختلف ومتجدد الحوادث، فلذلك أشار لعلل الأحكام في غير موضع كقوله تعالى: { {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} } [الحجرات:12] ونحو ذلك
وتخصيص التنصيص على العلل ببعض الأحكام في بعض الآيات إنما هو في مواضع خفاء العلل، فإن الخمر قد اشتهر بينهم نفعها، والميسر قد اتخذوه ذريعة لنفع الفقراء، فوجب بيان ما فيهما من المفاسد إنباء بحكمة التحريم.
وفائدة أخرى وهي تأنيس المكلفين عند فطامهم عن أكبر لذائذهم تذكيرا لهم بأن ربهم لا يريد إلا صلاحهم دون نكايتهم كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وقوله: { {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} } [البقرة:183]
{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} } سؤال نشأ عن استجابتهم لقول الله تعالى: { {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} } [البقرة:195] فأرادوا أن يعرفوا الجزء الذي ينفقونه من أموالهم في سبيل الله، فأجابهم الله تبارك وتعالى بقوله: { {قُلِ الْعَفْوَ} } ما فضل وزاد عن حاجة الإِنسان من المال، وهو هنا ما زاد على حاجة المرء من المال -أي فضل- بعد نفقته ونفقة عياله بمعتاد أمثاله.
وروى البخاري عن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)»
{ {كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} } أي مثل هذا البيان يبين الله لكم الشرائع الأحكام والحلال والحرام ليعدكم بذلك إلى التفكير الواعي البصير في أمر الدنيا والآخرة، فتعملون لدنياكم على حسب حاجتكم إليها، وتعملون لآخرتكم التي مردكم إليها وبقاؤكم فيها على حسب ذلك { {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} }
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} } لما نزل قوله تعالى { {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} } [النساء:10] خاف المؤمنون والمؤمنات من هذا الوعيد الشديد، وفصل من كان في بيته يتيم يكفله، فصل طعامه عن طعامه وشرابه عن شرابه، وحصل بذلك عنت ومشقة كبيرة، وتساءلوا عن المخرج، فنزلت هذه الآية، وبينت لهم أن المقصود هو إصلاح مال اليتامى وليس هو فصله أو خلطه {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} مع الخلط، خير من الفصل مع عدم الإِصلاح، ودفع الحرج في الخلط.
{ {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } } فتجعل نفقة اليتيم مع نفقة عياله بالتحري، إذ يشق عليه إفراده وحده بطعامه، فلا يجد بداً من خلطه بماله لعياله، فجاءت الآية بالرخصة في ذلك، أو المشاركة في الأموال والمتاجرة لهم فيها، فتتناولون من الربح ما يختص بكم، وتتركون لهم ما يختص بهم.
والمراد بالأخوة أخوة الإسلام التي تقتضي المشاورة والرفق والنصح.
{ {وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} } ثم زاد الله في منته عليهم يرفع الحرج في المخالطة، فقال تعالى: { {وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ} } العنت المشقة الشديدة، أي أبقاكم في المشقة المترتبة على فصل أموالكم عن أموال اليتامى.
{ {إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} } عزيز غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم، لكنه حكيم لا يكلف إلاَّ ما تتسع فيه طاقتهم.