يوم الجمعة... مفاهيم يجب أن تصحح
الحمد لله الذي أعزَّنا بالإسلام، وأكرَمَنا بالإيمان، ومنَّ علينا ورَحِمَنا بأن جعلَنا من أمَّة خير الأنام، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام.
أمَّا بعد:
إن يوم الجمعة يومٌ عظيمٌ قدرُه، جليلٌ شأنُه، خصَّه الله - عزَّ وجلَّ - بالمزايا والفوائد؛ جعله عيدًا للمسلمين، لكن المسلمين لا يشعرون بعظمة هذا اليوم، فلم يَعُدْ أكثرهم يوفي هذا اليوم حقَّه، بل إنه غدَا يومًا كباقي الأيام، بل ربما أقل عبادةً من باقي الأيام، فبعض المسلمين اليوم جعل من هذا اليوم موسمًا لطول النوم ولكثرة اللهو، لكن قلة من الناس هم الذين عرفوا قدر يوم الجمعة، فجعلوه يومَ قربةٍ إلى الله - عزَّ وجلَّ.
أعِرْني قلبك وسمعك، الله - عزَّ وجلَّ - يقول في كتابه مخاطِبًا عباده: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، هل يظنُّ عاقلٌ أن الله - عزَّ وجلَّ - خلَقَه من غير فائدة، هكذا من غير غاية؟! لا يوجد عاقل يظن أن الله خلَق الخلق من غير فائدة، وإلا فالأمر عبَثٌ، وتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، إذًا خلقهم لغاية، وإن لم يفهموا هذه الغاية.
وهذه آية أخرى تبيِّن المراد من الخلق: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وبهذا تكتمل الصورة، السؤال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]؟ الجواب: لا يا رب، حاشاك؛ فأنت الحكيم الخبير، السؤال: فلماذا خلقتنا يا رب العالمين؟ جاء الجواب: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
لماذا نوَّع الله - عزَّ وجلَّ - في العبادات ولم يجعل الله العبادات من نوع واحد، أو في زمن واحد؟
فأنت ترى أن بعض العبادات بدنية محضَة كالصوم والصلاة، وهناك عبادات مالية محضَة كالزكاة؛ فهي عبادة مالية يؤدِّيها المسلم من ماله، ولا علاقة لبدنه بها، وهناك عبادات مزَج الله - عزَّ وجلَّ - فيها بين المال والبدن كالحج؛ فهو عبادة مشترَكة مالية بدنية، فالمسلم يدفع المال ليصل هناك، ويدفع المال ثمن الهدي، وأيضًا يطوف ويسعى ويرمي، إذًا عبادات مالية، وعبادات بدنية، وعبادات مالية بدنية.
قبل أن نتابع حديثنا هناك سؤال مهمٌّ قد يتبادَر إلى الأذهان وهو: لماذا أمرنا الله - عزَّ وجلَّ - بالعبادة؟ هل لحاجته إليها مثلاً؟ حاشا وكلا، بل من المستحيل عقلاً أن يكون الخالق محتاجًا إلى خَلْقِه، وإلا فلو احتاج فلا يسمى خالقًا.
الله - عزَّ وجلَّ - لم يأمرنا بالعبادات لأنه محتاج إليها؛ بل لأننا محتاجون إلى هذه العبادات، وثوابها، ورضوان الله علينا إذا امتثلنا أوامره.
ثم إن لكلِّ عبادة فائدة ونورًا ووظيفةً سنتعرَّف عليها إجمالاً.
إذًا؛ ما خلَقَنا عبثًا، بل لعبادته، ولمَّا خلقنا لعبادته نوَّع لنا في العبادات؛ لأن لكلِّ عبادة عملاً تقوم به، وأثرًا يظهر على فاعلها.
إليك مثالاً سريعًا؛ قال - تعالى -: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، هذه إحدى فوائد الصلاة، وهي النهي عن الفحشاء والمنكر، وقال - تعالى -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، لاحِظ أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأن الصيام يُورِث التقوى، إذًا لكل عبادة سرٌّ وأثرٌ ونورٌ.
بعد هذه المقدمة أقول:
ما فائدة صلاة الجمعة؟ لماذا شرع الله - عزَّ وجلَّ - صلاة الجمعة؟ أقول: إن سبب إعراضنا عن يوم الجمعة هو عدم شعورنا بأهميته، وعدم شعورنا بأن هذا اليوم قد يكون سببًا في سعادتنا، سعادة لا نشقى بعدها أبدًا.
إن إحدى الفوائد: أن يجتمع المسلمون بأجسامهم، وهذه خطوة أولى لكي يجتمعوا بعدها بأجسامهم وقلوبهم وأفكارهم وآمالهم وآلامهم.
إن اجتماع المسلمين يخيف أعداء الله، وهم يرونهم يكبِّرون ويركعون ويسجدون معًا، ويقولون: السلام عليكم معًا؛ لذلك شرع الله الجمعة، ولذلك شرع الله الجماعة؛ لكي تكون خطوة لتجتمع القلوب، ودعوة لغير المسلمين عندما يرون عظمة هذا الدين الذي وحَّد كلَّ هذه القلوب، ويعمل أعداء الله للإسلام والمسلمين ألف حساب.
يُحكَى أن رجلاً غير مسلم كان يُشاهِد الحرم على إحدى شاشات التلفاز وبجواره صديق له مسلم، فقال المسلم لغير المسلم: لو أردنا أن نصفَّ أولئك المصلِّين بطريقة ما؛ وقوفًا، جلوسًا، بأيِّ شكل، فكم نستغرق من الوقت؟ فقال: ثلاث ساعات، فقال له: إذا كان هناك طابق آخر؟ قال: نحتاج ضعف الوقت، قال: فإذا علمت أن الحرم مكوَّن من أربعة طوابق، فكم نحتاج؟ فقال: نحتاج إلى ثنتي عشرة ساعة، قال: فما تقول إذا كان أولئك الناس من جنسيات مختلفة ويتكلَّمون مئات اللغات؟ فقال له ذلك الرجل: لا يمكن لأحد أن يَصُفَّهم، فقال له المسلم: تابِع المشهد، أذَّن المؤذِّن، وتقدَّم الإمام للصلاة فقال: استقيموا، ثم كبَّر فكبَّروا معًا دفعة واحدة، فقال الرجل على الفور: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
من أسرار يوم الجمعة وفوائدها، وما أكثرَ أسرارَها التي غفل عنها الكثيرون! ولست في معرض توجيه الاتِّهام إلى أحد؛ فقد يكون الخطباء هم من سبَّب الملل، وجعل الخطبة أمرًا روتينيًّا لا روح فيه، وقد يكون المصلُّون هم مَن جعل الخطباء يُصابُون بالملل، على كلٍّ لو فهم كلٌّ من الخطيب والمصلِّين مرادَ الله من يوم الجمعة لكان حالنا أفضل، وها نحن نحاول.
إن من فوائدها أنها تجعل منك طالب علم، والملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم - من باب التواضع - رضًا بما يصنع، فإذا جئت إلى صلاة الجمعة فلتكن نيَّتك طلبَ العلم؛ لكي تحصل على ثواب طلب العلم، أنت تعلم أن نيَّة المرء خيرٌ من عمله.
إذًا؛ أقبِل وأنت مفتوح العينين، متفتِّح الفكر، لا تأتِ وأنت ناعس، لا تأتِ وأنت جائع، عندها سيكون تقبُّلك للكلام أقلَّ، واستفادتك منه أدنى، انتبه إلى هذا الحديث الذي يرويه الإمام مسلم وأحمد في "مسنده": عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «مَن توضَّأ يوم الجمعة فأحسَن الوضوء، ثم أتى الجمعة فدنا وأنصت واستمع، غُفِر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام» ))، قال: (( «ومَن مسَّ الحصى فقد لغا» )).
بداية الحديث رجاء ونهايته تحذير من الانشغال عن الخطبة، ومَن مسَّ الحصى فقد لغا، ومعلومٌ أن مَن لغا فقد أضاع الثواب على نفسه.
الحصى كان موجودًا في المساجد التي بُنِيت في صدر الإسلام، وهو اليوم غير موجود ويقوم مقامه السجَّاد، فمن باب القياس - على سبيل المثال - مَن لعب بالسجاد فقد لغا.
ولعل الأمر كما يلي: أن الإسلام أراد من أبنائه أن يأتوا إلى المسجد وهم في أعلى درجات التقبُّل والاستعداد؛ لكي تكون الفائدة أكبر؛ قال - تعالى -: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، استمِع بأذنك وأنصِت بقلبك، أو استمِع وزد في الاستماع؛ لتحصل على أكبر فائدة من القرآن، كيف ترجو الفائدة وجوارحك مشغولة، وفكرك مشتَّت، والخطيب في وادٍ وأنت في وادٍ آخر.
قد تسمع إلى خطبتي وأنت تُداعِب أطراف السجاد أو تعبث في ثوبك أو لحيتك، لكن تأكَّد أنَّك لن تحصل على الفائدة كاملة إلا إذا كان عقلك وقلبك وفكرك وكل جوارحك مع الخطيب.
فهيَّا بنا لنُعِيد لهذا اليوم بهاءه وصفاءه وبريقه.
أسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، والحمد لله رب العالمين.
أقول هذا وأستغفر الله.
______________________________ ____________________
الكاتب: الشيخ محمد نجيب بنان