في الصلاة والاختبارات
إِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ.
عباد الله، خير أعمال البدَن الصلاة؛ فهي عَمُود الإسلام، وهي بالمكانة الرفيعة، فهي صلة بين العبد وربه في كل يوم وليلة؛ فعن عبدالله بن مسعود قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها»، قال: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين»، قال: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» (رواه البخاري (527) ومسلم (85).
وقد رتب ربُّنا - عز وجل - على المحافظة عليها الفضلَ العظيم، والثواب الجزيل في الدُّنيا والآخرة، فمن ذلك أنها من أسباب تكفير صغائر الذنوب؛ فعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيءٌ» ؟، قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا»؛ (رواه البخاري (528) ومسلم (767).
فهذه الصلوات الخمس تطهر صاحبها من الذنوب؛ فعن طارق بن شهاب، أنه بات عند سلمانَ؛ لينظر ما اجتهاده، قال: فقام يصلي من آخر الليل، فكأنه لم يرَ الذي كان يظن، فذكر ذلك له، فقال سلمان - رضي الله عنه -: "حافظوا على هذه الصلوات الخمس؛ فإنهن كفاراتٌ لهذه الجراحات ما لم تصب المقتلة، فإذا صلى الناس العشاء صدروا على ثلاث منازل: منهم من عليه ولا له، ومنهم من له ولا عليه، ومنهم من لا له ولا عليه، فرجلٌ اغتنم ظلمة الليل في غفلة الناس، فركب رأسه في المعاصي، فذلك عليه ولا له، ومن له ولا عليه فرجلٌ اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس، فقام يصلي فذلك له ولا عليه، ومنهم من لا له ولا عليه فرجلٌ صلى ثم نام، فذلك لا له ولا عليه، وإياك والحَقْحَقَةَ، وعليك بالقصد والدوام"؛ رواه عبدالرزاق (148)، ورواته ثقات، والحقحقة السير الشديد حتى ينقطع الشخص، فيرشد سلمان إلى الاقتصاد بالطاعة، وعدم تحميل النفس ما لا تستطيع المداومةَ عليه من الأعمال.
ومن حافظ على العشاء والفجر في جماعة، فله أجر من قام الليل كلَّه قائمًا وراكعًا وساجدًا، وهو على فراشه؛ فعن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلى الليل كله»؛ (رواه مسلم (656).
فهذا عمل يسير، وثواب جزيل، نسأل الله الإعانة والقبول، فلنحرص على المحافظة على صلاة الفجر في المسجد، ونترك كل ما يتسبب في تفويتها، حتى لو كان قربة وطاعة؛ فعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة "أن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، وأن عمر بن الخطاب غدا إلى السوق، ومسكن سليمان بين السوق والمسجد النبوي، فمرَّ على الشفاء أم سليمان، فقال لها: لم أرَ سليمان في الصبح؟ فقالت: إنه بات يصلي فغلبتْه عيناه، فقال عمر: لأنْ أشهد صلاة الصبح في الجماعة أحبُّ إليَّ من أن أقوم ليلة"؛ رواه مالك (296) بإسناد صحيح.
فهذا فاتتْه صلاةُ الفجر مرة بسبب طاعة وقربة، فخطَّأ الفاروق عملَه، فكيف بمن يسهر الليل الطويل، ثم لا يصلي الفجر مع الجماعة؟ بل كيف بمن يسهر على ما لا يحبُّ اللهُ ولا يرضاه، ثم تفوته صلاة الفجر؟! فالسهر - ولو كان على شيء مباح - إذا كان يؤدي إلى تفويت صلاة الفجر عن وقتها، فهو محرَّم، فكيف لو كان على معصية؟ فالحرمة أشد.
لو علم المتخلف عن صلاة الفجر ما فاته من الخير، وما عرَّض نفسه من الوعيد، لأتى ولو يحبو على أربع، فمن صلى الصبح في وقتها، فهو في أمان الله وجواره، فقد أجاره الله، فنعْم المجيرُ، فلا ينبغي لأحد أن يتعرض له بسوء، فمن تعرَّض له، فالله - تعالى - يطلبه بسبب تعرُّضه لمن دخل في جواره، ومن يطلبه اللهُ، فهو مدرَك لا محالة، فلن يجد مفرًّا ولا ملجأ، ثم يُلقيه على وجهه في النار؛ فعن جندب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى صلاة الصبح، فهو في ذمة الله، فلا يطلبنَّكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبْه من ذمته بشيء، يدركْه ثم يَكبَّه على وجهه في نار جهنم»؛ (رواه مسلم (657).
أخي:
أراك حينما تكرر منك تفويتُ صلاة الفجر عن وقتها، أو ترك الجماعة فيها، تبلد حسُّك، وهان عليك الأمر، فتستيقظ في الصباح من غير شعور بتأنيب الضمير، أو وجلٍ من المعصية التي ارتكبتَها، هل استشعرتَ جنايتك على أهلك وأولادك وإخوانك حينما يرون قدوتهم يتهاون بالصلاة، فهان عليهم الأمر؟ هل استشعرت أنك تحمل وزرَك وأوزارهم يوم القيامة؟ فأنت المؤتمن عليهم، هان عليك الأمر مع تكراره، وتقول في نفسك: متى ما استيقظتُ صلَّيتُ، فتحسب أن الأمر هين، وهو عند الله عظيم؛ بل تظن أنك متى صليتَ الفجر، فقد أديتَ الواجب، وبرئتْ ذمتُك، وخرجتَ من العهدة، والأمر ليس كذلك عند المحققين من علماء الأمة من المتقدمين والمتأخرين، فالراجح عندهم أن من أخَّر الصلاة من غير عذر حتى خرج وقتها، أنها لا تقضى، ولو قضاها لم تبرأ ذمته.
قال ابن رجب في "فتح الباري" (5/ 135 - 139): قال ابن بطة (من علماء الحنابلة): اعلم أن للصلاة أوقاتًا، فمن قدَّمها على وقتها، فلا فرض له من عذر وغيره، ومن أخَّرها عن وقتها مختارًا لذلك من غير عذر فلا فرض له، فجعل الصلاة بعد الوقت لغير عذر، كالصلاة قبل الوقت... وقال البربهاري: الصلوات لا يقبل الله منها شيئًا إلا أن تكون لوقتها، إلا أن يكون نسيانًا؛ فإنه معذور، يأتي بها إذا ذكَرَها، فيجمع بين الصلاتين إن شاء.
وقد نصَّ الإمامُ أحمد في رواية ابنه عبدالله على أن المصلي لغير الوقت كالتارك للصلاة في استتابته وقتْله، فكيف يؤمَر بفعل صلاةٍ حكمُها حكمُ ترك الصلاة... والعامد لم يأتِ نصٌّ بأن القضاء كفارة له؛ بل ولا يدل عليه النظر؛ لأنه عاصٍ آثمٌ يحتاج إلى توبة، كقاتل العمد، وحالف اليمين الغموس... ولا يُعرَف عن أحد من الصحابة في وجوب القضاء على العامد، شيءٌ؛ بل ولم أجد صريحًا عن التابعين - أيضًا - فيه شيئًا، إلا عن النخعي. اهـ.
فلا يُعرَف عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - في وجوب القضاء على العامد، شيءٌ، واختار هذا القول - أعني: أن من أخَّر الصلاة متعمدًا حتى خرج وقتها، أنه لا يقضي، ولو قضاها ما برئتْ ذمته - الإمامُ أحمد في رواية عنه، وبعض الشافعية، وابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشوكاني، وصديق حسن خان، وابن عثيمين، والألباني.
إخوتي الآباء، إخوتي المفرطين، يا من تؤخِّرون الصلاة عن وقتها، تبين لنا أن الأمر جدُّ خطير، وليست المسألة مسألةَ معصية فقط؛ بل لا تبرأ الذمة بالصلاة التي تؤخَّر عن وقتها من غير عذر؛ بل الإمام أحمد في رواية عنه يرى أن من أخر الصلاة حتى خرج وقتها، مرتدٌّ يُستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فهل تداركنا الأمر، وتبنا إلى الله توبة نصوحًا، وصلَّينا الصلاة في وقتها، وبذلنا الأسباب التي تعيننا على الاستيقاظ لصلاة الفجر، ومن ذلك النوم مبكرًا؟
______________________________ ______________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان