في التذكير
الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر
الحمد لله الذي كتَب على نفسه الرحمة ليجمعنَّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، أحمده - سبحانه - يعزُّ مَن أطاعَه واتَّبَع الداعي إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، يذلُّ مَن سلَك سبيل الغواية وتمادَى فيه، وأشهَدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله النبي المجتَبَى، والرَّسول المصطَفَى، بعَثَه الله بالدِّين والهدَى، فما ينطق عن الهوى، إنْ هو إلاَّ وحيٌ يُوحَى، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه بُدُور الدجى، وأئمَّة أولي التُّقى.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ أصدق الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وشرَّ الأمور مُحدَثاتها، وكلَّ محدَثة في الدين بدعة، وكلَّ بدعة ضَلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
أيُّها الناس:
اتَّقوا الله حقَّ تُقاته، واسعَوْا في مَرضاته، وأَيقِنُوا من الدنيا بالفَناء، ومن الآخِرة بالبَقاء، فاعمَلُوا صالِحًا لما بعد الموت، وسابِقُوا في مَيادِين الخير قبل الفوت، فكأنَّكم بالدنيا كأنْ لم تكُن، وبالآخرة كأنْ لم تزَل.
أيُّها الناس:
إنما يُؤتَى الناس يوم القيامة من إحدى ثَلاث: إمَّا شُبهة في الدين ارتكَبُوها، أو شَهوة للذَّة آثَرُوها، أو غَضبة لحميَّة أعمَلُوها، فإذا لاحَتْ لكم شُبهة فأجلوها باليقين؛ ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].
فإن: ((مَن اتَّقَى الشُّبهات فقد استَبرَأ لدينه وعِرضِه، ومَن وقَع في الشُّبهات وقَع في الحرام؛ كالراعي يَرعَى حول الحِمَى يُوشِك أنْ يقَع فيه، ألاَ وإنَّ لكلِّ ملكٍ حمى، ألاَ وإنَّ حمى الله محارِمُه)).
وإذا عرضَتْ لكم شهوةٌ فاقذَعُوها بالزُّهد؛ فإنَّ الزُّهد في الدنيا يحببك إلى الله، وإنَّ الزُّهد فيما عند الناس يحببكم إليهم، وإذا عرَضت لكم غضبة فادرَؤُوها بالعفو؛ فقد رُوِي أنَّه يُنادَى يوم القيامة: مَن له أجرٌ على الله فليَقُم؛ فيقوم العافون عن الناس، وقد قال ربُّكم - سبحانه -: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40].
وقال - سبحانه -: ﴿ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].
ابن آدم:
عجبًا لأمرك وأسفًا عليك؛ تُؤتَى كلَّ يومٍ رزقك وأنت تَحزَن، وينقص كل يوم من عمرك وأنت تَفرَح، أنت فيما يَكفِيك وتَطلُب ما يُطغِيك، وتفرُّ من الموت وهو لا شَكَّ مُلاقِيك، هلاَّ تفكَّرت في الموت ونظَرت على أيِّ حالٍ يَأتِيك؛ فإنَّ المرء يُبعَث على ما مات عليه، فويلٌ لِمَن فجَأَه الموت وهو على معصية، أو له ذنبٌ قد أصرَّ عليه، وهنيئًا لِمَن حضَرَه الموت وهو على عملٍ صالح قد أخلَصَ لله فيه، فلقي اللهَ - تعالى - وهو يُباهِي ملائكته به.
أيُّها الناس:
إنَّ الدنيا قد ارتَحلَتْ مُدبِرة، والآخِرة قد ارتَحلَتْ مُقبِلة، ألاَ وإنَّكم اليوم في عملٍ ليس فيه حِساب، ويُوشِك أنْ تكونوا في يوم حسابٍ ليس فيه عمل، وإنَّ الله لَيُعطِي الدنيا مَن يحبُّ ومَن يُبغِض، وشر ما يخاف علينا منه اتِّباع الهوى، وطول الأمَل، فإيَّاكم وفُضول المطعَم؛ فإنَّه يسم القلوب بالقسوة، ويبطئ الجوارح عن الطاعَة، ويصمُّ الآذان عن سَماع الموعظة، ويُضعِف الانتِفاع بالتذكِرة، وإيَّاكم وفُضُول النَّظَر؛ فإنَّه يبذر الهوى، ويولد الغَفلة، وإيَّاكم واستِشعار الطَّمَع؛ فإنَّه يُشرِب القلوب شدَّة الحرص، ويُورِث حبَّ الدنيا، وهو مِفتاحٌ لكلِّ سيِّئة، وسببٌ لإِحباط كلِّ حسنة.
أيُّها الناس:
إنَّ في القنوع لسعة، وإنَّ في الاقتِصاد لبلغة، وإنَّ في الزُّهد لَراحة، وإنَّ لكلِّ عمر جَزاء، فشَمِّرُوا فإنَّ الأمر جدٌّ، وتأهَّبوا فإنَّ الرَّحِيل قربٌ، وتزوَّدوا فإنَّ السفر بعيد، وإنَّ خيرَ الزاد التقوى، وإنَّ وراءكم عقبة كؤودًا، لا يقطَعُها إلاَّ المخفُّون من تَبِعات الدنيا، المُدلِجون في مَطالِب الآخِرة.
أيُّها الناس:
إنَّ بين يدي الساعة أمورًا شِدادًا، وأهوالًا عِظامًا، وزَمانًا صعبًا، يَتَملَّك فيه الظَّلَمة، ويَتَصدَّر فيه الفسَقَة، فيُضطهَد الآمِرون بالمعروف، ويُضام الناهون عن المنكر، وربما لاحَتْ لكم فيما حولَكم شَواهِده، ونالَتْ منكم عَوائِده، فأعدُّوا لذلك الإيمان، وعضُّوا عليه بالنَّواجِذ، وعليكم بالفقه في الدِّين؛ فإنَّ الله يثبِّت به الإيمان، ويزيد به العمل الصالح، ويُضاعِف به الثواب، ويَصرِف أهلَه عن المنكر والفَحشاء، وينجي به من الفتن، ويصرف به المِحَن، والجؤوا إلى الله - تعالى - بالطاعة، وأكرِهُوا عليها النُّفوس، واصبِرُوا على الضرَّاء، واشكُروا على السرَّاء، تُفضُوا إلى النَّعيم المقيم.
أيُّها الناس:
مُرُوا بالمعروف واسبِقُوا الناسَ إليه، وانهوا عن المنكر وكونوا أبعدَ الناس عنه، وأَخلِصوا النُّصح والدُّعاء بالهداية والصَّلاح لأئمَّة المسلِمين وعامَّتهم، والزَموا جماعَتهم، واعلَمُوا أنَّ مَن نزَع يدًا من طاعة أو فارَق جماعة فقد خلَع رِبقَة الإِسلام من عُنقِه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 66 - 70].
نفعَنِي الله وإيَّاكم بهدْي كتابه، أقول قولي هذا وأستَغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم من كلِّ ذنب، فاستَغفِروه يغفِر لكم إنَّه هو الغفور الرحيم.