الشاي في السكة (قصة قصيرة)
د. مصطفى عطية جمعة
اختار موضعه بدقة، في ميدان الحواتم، عندما يجب أن يتوقف سائقو الميكروباص لإنزال ركابهم، وتحميل آخرين جدد.
مشروعه بسيط.. في ركن بين سورين، نصبَ "محمود" حائطين بالطوب الأحمر، بينهما طاولة عليها موقد غاز صغير، وعلى الحائط الأيمن رف به أكواب زجاجية.
يتأمل ابنه الصغير "مرزوق" ذا الأعوام الخمسة الذي يصمم على مصاحبته دائما في غدوه الصباحي، حاملاً معه أكياس السكر وعلب الشاي والقليل من البُن حيث يضعها في رف على الحائط الأيسر.
يعود محمود ومرزوق ليلاً، حين تندر السيارات بالشوارع، ويتثاءب السائقون وهم يخاطبون زبائنهم بعيون محمرة، وأصوات مبحوحة، فيغلق مقهاه بباب خشبي، مستخدماً قفلاً حديدياً قوياً، ومن ثم يضع ابنه على كتفه فهو نائم في العادة، ويوقف أي ميكروباص شاء ليركب؛ طامعاً في راحة وقتية يفتقدها في وقفته طيلة اليوم، يعلم أن أي ميكروباص سيمر على أطراف حي "الشيخة شفا"، مرغماً على عدم الدخول، لضيق الحواري ما بين متر إلى مترين، فلا يعرض السائق ولا يطلب محمود منه ذلك.
يكفيه أن يكون جيبه ممتلئاً بنقود معدنية وورقية، وابنه معافى على كتفه، وهو وإن كان منهكاً إلا أنه بكامل صحته، وستنتظره زوجته بوجبة ساخنة، تحتجز فيها المزيد من اللحم له، وستظل مع ابنتيه يقاومن النعاس، الذي سرعان ما يتلاشى عندما يستمعن لحديثه، ثم تعدّ زوجته حصيلة يومه، وتضعها عندها.
• • •
عند سماعه بوق الميكروباص مرتين متتابعتين؛ يسارع بكوب الشاي، إنها الإشارة المتفق عليها مع السائقين، بنظرة واحدة من محمود إلى السيارة وسائقها، يعرف المطلوب من الشاي؛ ثقيل أو خفيف، كشري أو مغلي، ودرجة السكر؛ خفيفة أو متوسطة أو زيادة، يناوله محمود أو مرزوق الكوب، والبخار يتصاعد منه، فيضعه السائق في حلقة معدنية مثبتة في التابلوه أمامه، ثم ينطلق بسيارته، وفي نهاية اليوم، يعدّ السائقون أكوابهم الفارغة المتجمعة في سياراتهم، ليعطوه أجرته، وبعضهم يؤجلها لصباح اليوم التالي.
مثلما يعرفه السائقون، وينادونه بأبي مرزوق، هو يعرفهم جيداً، ويعرف طباعهم، فهذا " سمير " يؤثر أن يضع الراكبات الصبايا في المقعد المجاور له، يضحك محمود وهو يناوله كوب الشاي ملمحاً: "يا ليتك يا قلبي تتعلق يمكن ترتاح".. أما " الحاج أمين "، فهو حاج بالفعل حين كان يعمل في السعودية سنوات، بعد أن ترك وظيفته الحكومية، وبعد استقراره في البلد، حاول العودة لوظيفته ففشل، فوضع ما جمعه في الميكروباص، وهو عادة مصر على ارتداء الجلباب السعودي، ليحكي قصته لمن يرتاح إليه من الزبائن، ولا يزال يقصّها حتى حفظها بنفس تعبيراتها، بل بات يرددها مترحّماً على شهادته الجامعية كمهندس زراعي، أما "تامر الكييّف" فإنه عادة يطلب كوب الشاي الثقيل، عند بداية كل مشوار، فمزاجه لا يعتدل إلا ببرشامة وشاي، وإن كان محمود واثقاً أن هذا دور يبرع تامر في تمثيله، ولا يتناول الحبة إلا نهاية الأسبوع، لذا سماه " كييّف الأونطة "، فهو يعمل بالوردية، ويوميته في أحسن الأحوال ثلاثون جنيهاً، والبرشامة تبدأ من عشرين جنيها.
أحياناً ينزل أحد السائقين، جالساً على المصطبة بجانبه، مستمتعاً بظل شجرة العنب التي غرسها محمود ومدّ خيوطها، فيمدّ السائق رجليه اللتين تعبتا من تصلبهما طيلة الوقت على " الفرامل والدبرياج "، ينكشه محمود وهو يناوله كوب ماء بارداً قبل الشاي، مصراً أن يسمع ما عنده، يسترسل السائق، وينصت محمود له؛ مشتاقا لسماع تجارب الناس ومشاكلهم، مشيراً عليهم إن أعجزتهم الحيلة. وهكذا اعتاد السائقون أن يختزنوا ما في نفوسهم حتى تحل نسمات المساء، لتجمعهم مصطبة أبي مرزوق، وفي العادة تكون الجلسة عند نهاية ورديات السائقين في العصرية أو ما بعد العشاء.
وحينما يطلبون منه أن يقدّم الشيشة ولو في الليل، يرفض، ويقول: يكفينا حريق الدنيا، وحريق الشاي.
• • •
تضحك زوجته " سمر " مع بناته وهو يقصّ لهن على العشاء ما سمعه طوال يومه من حكايات، ويشتد ضحكهن فيما يحكيه عن " مرزوق " النائم وعراكه مع السائقين، فطبعه عصبي، يصرخ ويضرب بقدميه ورجليه، وقد اعتاد السائقون على مناكفته.
وفي اليوم التالي، تعيد البنتان على مسامع الابن ما حدث، فيهجم عليهما بقبضاته، مصمما أنه رجل يفعل ما يشاء وهما بنتان.
تُربِّت " سمر " على كتفه وتسأله متى يستريح، يجيبها متنهداً أن الحياة شقاء، وحلمه أن يكون له دكان، يجلس هو على الحصّالة، فإن حدث أن تعب أو مرض أو...، يمكن لها (سمر) أو مرزوق أن يكونا مكانه.
ينظر لها ويؤكد أنها بمليون رجل، فقد منعها من العمل في مصنع البلاستيك بمدينة " 6 أكتوبر "، منذ أن خطبها، وقد أرادت مساعدته، خصوصاً أنه على باب الله، إلا أنه أقسم على ما قال ولن يحنث بقسمه.
• • •
♦ وأنت ما حكايتك؟
بوغت محمود، كان السائل الحاج أمين، الذي أكمل:
♦ دائماً تسمع منا، ولم نسمع منك.
♦ ليست لي حكاية..
♦ كيف؟ كلٌ منا له حكاية في الحياة، أو على الأقل له مشاكل.
ضحك محمود، وحكى بذهن رائق؛ أنه كما يراه الناس، لا شيء يخفيه، يعرفون سكنه وأهله، ويعلمون أنه حاصل على دبلوم الصنايع، تخصص زخرفة، ولأنه لم يتعلم شيئا في المدرسة، فقد خرج بلا حرفة، فعمل في صنع الشاي الذي يعرفه، وتزوج بنتا بسيطة، أبوها حداد مسلح، تركتْ المدرسة وهي في الصف الثالث الابتدائي، تمنت الستر فقد عاشت مع أسرتها يوما تأكل لحماً، ويوما بلا طعام..، لذا عملت في المصنع، لعل الطعام يستمر كل يوم..
• • •
لم يصدق نفسه و " سمر " تخبره أنها جمعت عشرين ألف جنيه، ووجدت محلاً، وما عليه إلا تأجيره وتجهيزه لتجارة الغلال، ابتسم لأنه لا يعرف الشغلة، فأخبرته أنها تعلّمتها من جارتها، التي تتاجر بنفسها، ولما عاتبها، أخبرته أنها تفكر أن يدوم عليهم الستر كل يوم.
• • •
هو جالس على الحصّالة، مرتدياً جلباباً نظيفاً، وهي تزن وتبيع.. فهم الشغل سريعاً، ولام نفسه كثيراً لأنه اكتفى بصنع الشاي سنوات.
حين جاءته بكوب شاي من صنعها، ارتشفه بصمت، مشتاقاً إلى بصبصة سمير، وحكايات الحاج أمين، وتامر الكييف!