في ظلال أول بيت وضع للناس
د. حيدر الغدير
هُناكَ وفي ظِلالِ أوَّلِ بيتٍ وُضِعَ للناسِ بمكةَ المكرمةِ مباركًا وهُدًى للعالمين، وفي مَهْدِ الإسلامِ الأوَّلِ، تُشرِق على قلبِ المؤمنِ نفحاتٌ عاطرةٌ طاهرةٌ، هي العَذْبُ الزُّلالُ وأطْيَبُ، والمِسْكُ الذَّكِيُّ وأضْوَعُ، وتُغاديه ذكرياتٌ كريمةٌ هي الضِّياءُ في الظلامِ المحْلولَكِ، وتُباكره آمالٌ عِذاب تنفي عنه اليأسَ، وتبُثُّ فيه القوةَ والعزيمةَ والرجاءَ. وإنَّ المؤمن لَيَسْتَشْعِرُ ذلك أعْمَقَ ما يكونُ خاصةً في هذه الأيامِ الطاهراتِ التي تتوالى فيها حشودُ الحجيجِ قادمةً من كُلِّ فَجٍّ عميقٍ، وهي تُردِّد: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)).
يستشعِر المؤمنُ ذلك، ويعظُم إحساسُه به، كلما وقَف على مَشْهدِ هؤلاءِ الحُجاجِ دارسًا فاحصًا، غائصًا على المعاني والعِبَر والأسرار، مُدْرِكًا لسَعةِ النُّقْلة المؤمنة التي تُحْدِثها فيهم رحلةُ الحَجِّ، وتُوقِد فيهم نيرانَها المَشْبُوبةَ، وأشواقَها المتدفِّقةَ، أصداءُ الصيحةِ الربانيةِ التي تملأ السَّهْلَ والجبلَ، والبحرَ والجوَّ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)).
وإنَّ نظرةً واحدةً إلى ضيوف الرحمن كافيةٌ أن تُشْعِرَ المَرْءَ بالتغيُّر الذي أحدثَتْه فيهم استجابتُهم لنداءِ الحَجِّ، وبإمكانية استمرار هذا التغيُّر، بعد إذ يؤوبون إلى بلادهم في نهاية الرحلة المؤمنة الكريمة. وانظُر إليهم، وقِفْ على أحوالهم تجدْ ذلك أجْلى ما يكونُ وأروعَ ما يكونُ.
عيونُهم باكيةٌ، وألسِنتُهم ذاكرةٌ، ووجوهُهم خاشعةٌ، وجوارحُهم مُخْبِتةٌ، وقلوبُهم منيبةٌ، وسرائرُهم صافيةٌ، وأجسادُهم متطهِّرةٌ، جباهُهم ساجدةٌ، ونفوسُهم كريمةٌ، وملامحُهم تنطِقُ بالخيرِ والبِّرِ والبِشْرِ، والمَرْحمةِ والتعاونِ، والإيثارِ والجُودِ، وهَجْرِ السُّوءِ والآثامِ، والمبادرةِ إلى ما يطيبُ ويزكُو، ويكرُمُ ويسمُو، كيف لا وهم ضيوفُ الرحمن وفَدُوا إلى بيتِه العتيقِ طائعينَ تائبينَ، أحرارًا مختارينَ، مُلبِّينَ ذاكرينَ؟!
إنهم تائبون متطهِّرون، متوادُّون متراحمون، مَثَلُهم كمَثَلِ الجسدِ الواحدِ، تكامُلًا وتواصُلًا بالخير والصلاح. إنَّهم راجون مؤمِّلون لأنفسهم وذَوِيْهم، وأُمَّتِهم وبلادِهم وللمسلمين جميعًا، أن تتداركَهم رحمةُ الله عز وجل، فتعفُو عن التقصير، وتغفِر الزَّلَّةَ، وتمحو الإثمَ، وتجعلهم من أهل الفوز والنعيم العظيم المقيم.
لقد انحصَرَتْ آمالُهم وتركَّزَتْ؛ فإذا هي تتَّجه جميعًا صَوْبَ المغفرةِ، والنجاةِ من النار، وإدراكِ الجنة، وما أعظمَها من آمال! وما أجملَها من أمنيات!
إنهم يطوفون حولَ البيتِ العتيقِ، لا يذكرون إلا الله عز وجل، ولا يفخرون بِعَرَضٍ من الدنيا فانٍ زائلٍ.
ويقِفُون على صعيد عرفة فلا يسألون إلا اللهَ عز وجل، ولا يعتمدون على أحدٍ سواه، ويذهبون إلى مِنى يرجُمُون الشيطانَ، ويفرَحون بالأضاحي يذبَحُونها خالصةً لوجه الله الكريم، كيف لا وهم ضيوفُ الرحمن، وفَدُوا إلى بيته العتيق متطوِّعين مُختارين، خاشعين تائبين، ذاكرين مُلبِّين؟!
لقد سافَرُوا في رِضا الله، ونفَرُوا في سبيل الله، واجتمعوا على محبة الله، وتعاهدوا على طاعة الله، والتَقَوا على ذكْرِ الله.
شكَوا ذنوبَهم للهِ وإليه أنابُوا، وألقَوا أحزانَهم وأشجانَهم، وهمومَهم وآمالَهم بين يديه، فوَّضُوا أمورَهم جميعًا إليه، ونادَوا بما يخافون وبما يُؤمِّلون، وَوَكَلُوا كُلَّ ذلك إليه، تجمَّعُوا وبُلْدانُهم بعيدةٌ، وديارُهم نائيةٌ، ولهجاتُهم مختلفةٌ، وأنسابُهم متباينةٌ، وأشكالُهم متباعدةٌ، وألوانُهم متنوعةٌ، وأعمارُهم متفاوتةٌ، وآمالُهم متعددةٌ وأمزجتُهم وعاداتُهم شتَّى.
فيهم الغنيُّ والفقيرُ، والحاكمُ والمحكومُ، والعالِمُ والجاهلُ، والذكيُّ وغيرُ الذكيِّ، والشرقيُّ والغربيُّ، والعربيُّ والأعجميُّ، والطويلُ والقصيرُ، فيهم الخاملُ والمشهورُ، والمعروفُ والمجهولُ، والكبيرُ والصغيرُ، والمرأةُ والرجلُ، والراشدُ والقاصرُ، والطفلُ والبالغُ، والسقيمُ والمعافَى، والعابدُ والزاهدُ، والغافلُ والناسي، كُلُّهم تجمَّعُوا، وكُلُّهم تعارفُوا، وكُلُّهم وصَلُوا قلوبَهم بالله عز وجل، كيف لا وهم ضيوف الرحمن، وفَدوا إلى بيته العتيق متطوِّعين مُختارين، خاشعين تائبين، ذاكرين مُلبِّين؟!
ها هم أولاءِ جميعًا في زيٍّ واحدٍ، إن هذا يعني فيما يعنيه أنهم جميعًا أمامَ اللهِ سواء، جاؤوا إليه متساوين، تمامًا كما وُلِدوا متساوين، وكما سيخرجون من الدنيا متساوين. جاؤوا إلى هذه الدنيا عَرايا فلفَّتْهم أمهاتُهم في ثيابٍ بِيضٍ، وسيخرجون منها ملفوفةً أجسادُهم في ثيابٍ بِيضٍ، ولعلَّهم الآنَ في ثيابِ الإحرامِ يستعيدون هذين المشهدين: مشهدَ الدخولِ، ومشهدَ الخروجِ، وملابسُ الإحرامِ أقربُ ما تكونُ إلى ملابسِ هذين المشهدين.
فها هم أولاءِ قد نفضُوا أيديَهم من الدنيا، وهُرِعُوا إلى الله مُتجرِّدين من كُلِّ زينتِها وبهجتها، متوجِّهين إليه بقلوبهم وأرواحهم وأجسادهم شُعْثًا غُبْرًا، قد خلعوا ثيابَهم إلَّا ما لا بد منه، مُعلنين أنهم جاؤوا إلى بيتِ اللهِ الحرامِ، وأرضِ الرسولِ الحبيبِ صلى الله عليه وسلم، خالعين الدنيا بما فيها وما عليها، فلا سبيلَ لها على قلوبِهم وأرواحِهم، وكأنَّهم بملابسِ إحرامِهم يستعيدون صورةَ الخروجِ الأخيرِ من الدنيا، فهذه الملابسُ هي الأكفانُ أو كأنَّها الأكفانُ، فتهُون الدنيا عليهم بذلك، ويعرِفُون قِلَّتَها وقِصَرَها وانقطاعَها، ويعُودون من الحجِّ وقد عَزَموا على أن يقطعوا ما بقي لهم من الحياة فيها، مستقيمينَ على أمْرِ اللهِ عز وجل، عاملينَ لمرضاته، ساعينَ لإعلاء مَجْدِ الإسلام.