رويدك أنجشة
أنجشة هذا صحابي جليل، فاز بشرف الحداء والتغني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يحدو بخير خلق الله ومن معه، رضي الله عنهم أجمعين، ومن عجيب أثر الصوت الحسن على الحيوان أن النوق تطرب لسماعه طربا يجعلها تحث السير وتقطع المسافات الطوال دون أن تحس بالتعب والإرهاق، فتمشي مشيا حثيثا يجعلها تهتز هزا شديدا.
روى البخاري بسنده عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ وَكَانَ غُلَامٌ يَحْدُو بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ يَعْنِي النِّسَاءَ... قال أبو عمر في الاستيعاب أنجشة العبد الأسود كان يسوق أو يقود بنساء النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وكان حسن الصوت وكان إذا حدا اعتنقت الإبل فقال يا أنجشة رويدك بالقوارير. فخاف صلى الله عليه وآله وسلم أن يزعج انبعاثُ الناقة للمشي النساء اللواتي على ظهورها، وتكلم هو بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه شفقة بهذا المخلوق الضعيف الذي قد يضر به هز الناقة أو يزعجه في هودجه.
ولا وجه لمن قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاف عليهن الافتتان بصوته وبشعره الذي فيه تشبيب بالنساء، فهو قول فيه رداءة ننزه عنها تلك الرفقة المباركة، ولو كان في ذلك فتنة وتشبيب بالنساء، لنهاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهيا شديدا، وليس بمستساغ أن ينشد رجل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه كلاما فيه تشبيب وميوعة.
فما هو الرفق بالقوارير؟ وما هي حدوده؟
نتكلم أولا عن الرفق، ثم نتكلم عن القوارير، فنقول وبالله التوفيق، إن الرفق كلمة تدل على نفسها بنفسها، وتبعث معانيها إليك من أصوات حروفها، فالرفق مادة دافئة تجد منها الرفيق والرفاق ومثلها الوفاق، وهو ضد العنف والشدّة، ويُراد به اليسر في الأمور والسهولة في التوصل إليها، وأصل الرفق في اللغة هو النفع، ومنه قولهم: أرفق فلان فلاناً إذا مكّنه مما يرتفق به، ورفيق الرجل: من ينتفع بصحبته، ومرافق البيت: المواضع التي ينتفع بها، ونحو ذلك.
ويقال: رَفَقَ - به، وله، وعليه - رِفقاً، ومَرْفِقاً: لانَ له جانبه وحَسُنَ صنيعه.
أما القوارير، فهن اللواتي تقر بهن أعيننا، وتسعد بهن أنفسنا، أمهات وأخوات وزوجات، تكسرهن الكلمة، وتبكيهن النظرة، يقتتن المشاعر، ويعشن على الحب، سماهن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قواريرا، تشبيها لهن بقوارير الزجاج الرقيقة، التي تحفظ بعناية، لأنها قد تكسر مع أي ضربة، لذا أوصانا بهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء». وفي رواية لمسلم: «إن المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها».
النساء خلقن من ضلع أعوج ضعيف، يحميه العضد والساعد، ويظل في الكنف والظل، لا يقوى على تحمل الضرب، وهو دوما إلى جانب القلب، قريب منه يتغذى من دمائه، ويستمع إلى دقاته، بخلاف الرجال الذين خلقهم الله من طين لازب، منبتهم الأرض القاسية، بينما منبت المرأة لحم ودم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189].
فمادة المرأة من الرجل ومادة الرجل من الأرض، لذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (خلق الرجل من الأرض، فجعلت نهمته في الأرض، وخلقت المرأة من الرجل، فجعلت نهمتها في الرجل، فاحبسوا نساءكم).
فالمرأة من الرجل، تبحث عنه منذ طفولتها، فتتعلق به أبا، وتهيم به زوجا، ويكون حبها الأكمل لابنها الرجل الذي يقف إلى جانبها أيام لم يبق لها في الدنيا إلا المصحف والسجادة، والنصائح التي تطرب بها أحفادها ليل نهار.
المرأة قصة عواطف، تظهر في مظاهر شتى، وتأخذ في الحياة أدوارا مختلفة، لكن دورها الأساسي لا يتغير، فهي البطلة في مسلسل حياتنا العاطفي.
فالرفق مع المرأة أن يكون الرجل سلسا لينا، يعفو ويصفح، {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22].
فإن عفوك عنها من خير ما تتقرب إلى الله به، فيعفو عنك كما عفوت عنها، قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
الرفق أن تجعل العقاب آخر الحلول، ولا تقول لها لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم تفعله لم لم تفعليه، وإنما تقول قدر الله وما شاء فعل، وتنصح وتبين، وتربي وتعلم، وتجعل أعصابك في قبضة عقلك، وتجعل الدعاء لها بديلا عن الدعاء عليها، وتسأل الله في صلاتك أن يصلح لك زوجك، ويمتن عليك بهذه النعمة العظيمة التي امتن بها على أيوب عليه السلام في قوله: (وأصلحنا له زوجه) الأنبياء:90.، فهذا دأب عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، والذين يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74].
لو استطعت أن لا تغضب في توافه الحياة وتفاصيلها التي قدرها الله منذ آلاف السنين فافعل، واجعل نصب عينيك نصيحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول لمن سأله النصيحة، وقال له أوصني، فقال له: «لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب» (والحديث في البخاري).
الرفق مع المرأة أن تضع القانون في البيت وتقبل بنسبة الثلث من التجاوزات والتهاونات، والثلث قليل في جانب المرأة التي لا تستقيم لك على طريقة كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل هي ما بين عقلها وهواها حائرة، ترى الشيء فتريده ولا تستطيعه، بما ركب الله فيها من قوى العاطفة التي تغلب عندها قوى العقل.
فرويدك في التعامل مع المرأة، وفي تقويمها وتربيتها فهي الضلع الأعوج الذي لا تستطيع العيش بدونه، ولا تحاول أن تقيمه لأنك إن جئت تقيمه كسرته، وكسرها طلاقها.
رويدك يا من تجعل المرأة خادمة في بيتك لا حديث معها إلا الأوامر والنواهي، ولم وكيف؟ تدخل عابسا وتخرج مكشرا، تظن أنك بذلك تحفظ هيبتك، وما هي بهيبة، بل هي الشؤم والخيبة، وأي هيبة وأي خير في الابتعاد عن سنة نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم الذي كان أكثر الناس تبسما.
رويدك يا من تنهال على زوجتك سبا وشتما لأي سبب ولأي خطأ، فلو عاملك ربك كما تعاملها لأهلكك ولتبرك تتبيرا.
رويدك يا من تضيع حقوق زوجتك، وتتركها الليالي تلو الليالي، لا أنيس لها إلا الليل الموحش، والفراش البارد، وأنت بين أصحابك وأترابك، تميل مع رياح المرح يمنة ويسرة.
رويدك يا من تحملها على عبادتك، وترهقها لتصل إلى زهدك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوقظ عائشة لتصلي معه صلاته من الليل، بل كان إذا أراد أن يسجد غمزها فجمعت رجلها حتى إذا قام مدتها، فوريدك في أهل بيتك، لا تنفرهم من الطاعة، ولا تحملهم على العزائم، فلهن في الرخص ما يناسب أنوثتهن وضعفهن.
رويدك يا من جعلت حياتها بين أربعة جدران، وحكمت عليها بالسجن المؤبد في زنزانة الزوجية، وكبت فيها كل شيء جميل، رويدك فأنت الجاني على نفسك، وأنت أول الخاسرين، فإنك متى قتلت في المرأة حيويتها وانطلاقتها وعفويتها، لم يبق لك منها إلا جسد بال حزين، وروح كئيبة تغطيها ابتسامة جافة.
أما أنت،،، يا من جعلت عصاك على عاتقك، وقدمت شرك وأخرت خيرك، واستخدمت قوتك التي وهبك الله للدفاع عن البيضة وحماية الحوزة، في الفتك بالبيضة، وتعذيب هذا الإنسان الذي لا يملك حولا ولا قوة، فلا أقول لك رويدا، بل سحقا لك وبعدا، قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34].
وفي علوه ما يردع طغيانك وعلوك، ويكفيك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك وفيمن يضربون زوجاتهم: «إنهم ليسوا بخياركم»؛ النسائي في الكبرى.
ثم ألا تستحي من ربك الذي صور هذه المرأة وخلقها في أحسن تقويم، ثم رعاها بنعمه وحفظها بحفظه، إلى أن صارت متعة لك إلى حين، فجعلت تهوي عليها بسوطك هوي الحمير، وتميل عليها ضربا باليمين، وكأنها أصنام النمرود! تكسر منها العظام وتجرح منها الأبشار! تضربها ضرب العبد، ثم تأتي إليها آخر النهار، عدواني بالنهار شهواني بالليل!
أتضربها والله يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]!! أتضربها وهي التي تحفظك في غيبتك، وتخدمك في حضرتك، وهي التي تربي ولدك، ومنها يتغذى الحنان والعاطفة!!
صحيح أن الإسلام شرع للرجل أن يضرب امرأته إن هي لم ينفع معها وعظ ولا هجران، لكن الشرع رفق بها حتى في هذا الضرب، وحدده بأن جعله ضربا غير مبرح، وجعله آخر الحلول، بل نهى عنه في مواضع كثيرة وجعله ضرورة يلجأ إليها من نشزت زوجته عن طوعه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم»؛ (البخاري).
وعندما طاف بآل رسول الله صلى الله عليه و سلم نساء كثير يشتكين أزواجهن قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( «قد طاف بآل محمد صلى الله عليه و سلم نساء كثير يشتكين أزواجهن ليس أولئك بخياركم» (النسائي في الكبرى).
ولا يمكن أن يكون أولائك بخيارنا، لأن خيار رجالنا هم خيارهم لأهليهم وأزواجهم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»؛ (الترمذي).
لقد خلق الله الرجل والمرأة ليبلو بعضهم ببعض، وجعل بينهما ما تجر إليه الفطرة من المودة والرحمة، فرويدك في التعامل معها والرفق بها، تكون لك بابا مشرعا إلى رضوان الله، فإن كرهتها فعسى أن تكرهها ويجعل الله لك فيها خيرا كثيرا.
_____________________________________________
الكاتب: حامد الإدريسي