في وداع رمضان؛ فماذا قبيل وبعد خروجه؟
لكل شيء إذا ما تم نقصانٌ، رمضان هذا العام ولَّى، ولن يعود - وإن عاد باسمه فإنه رمضان آخر لسنة أخرى - لقد ولى رمضان ولا ندري أندرك رمضان الموالي أم لا، علم ذلك عند ربي في كتاب، لا يضل ربي ولا ينسى.
كم من مستقبل يومًا لا يستكمله ** ومؤمل غدًا لا يدركه
ها نحن نودع رمضان شهر الصيام، والقيام، والصبر، والتقوى، والدعاء، والتوبة، والجهاد، والصدقة، والجود، والرحمة، والمغفرة، والعتق من النار.
ها نحن نودعه، وقد أودعناه ما عملناه من أعمال حسنها وسيئها، والأيام خزائن حافظة لأعمالنا ندعى بها يوم القيامة؛ قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]، وقالصلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه»[1].
رمضان كسوقٍ انتصب ثم انفض، ربح فيه الرابحون، وخسر فيه الخاسرون، فيا سعادة من عمر أوقاته بالطاعات، ذهبت مشقة الطاعة عنه، وبقيت لذة الفوز! ويا خسارة من فرط فيه، ذهبت لذة النوم واللهو والتفريط، وبقيت حسرة الندامة والخسران، في يوم توزع الأرباح!
انقضاء رمضان عبرة وعظة، فما مضى منه لن يعود وهو كأعمارنا؛ قال الحسن البصري رحمه الله: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، إذا ذهب يومك ذهب بعضك".
تمر بنا الأيام تترى وإنمــــــــــــا *** نساق إلى الآجال والعين تنظرُ
فلا عائد ذاك الشباب الذي مضى *** ولا زائل هذا الشيب المكــــدر
عباد الله: الناس بعد رمضان على أصناف ثلاثة:
الصنف الأول: يحافظون على ما كانوا عليه من الخير في رمضان، فتراهم يحافظون على الصلوات الخمس في المسجد، ويداومون على القيام، وعلى الصيام، وأول صوم يصومونه صيام ستة أيام من شوال؛ قالصلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر»[2]، ويداومون على العمل الصالح، ويهجرون اللغو والمنكرات، فلهؤلاء نقول: هنيئًا لكم حصدكم لثمرات صيامكم، وقبوله عند ربكم، فمن علامات قبول رمضان المداومة على العمل الصالح بعده.
الصنف الثاني: لم يكونوا على ما يرام قبل رمضان، ولا في رمضان، ولا بعد رمضان، فلم يغير رمضان من حالهم، ويفرحون لزواله حتى ينطلقوا في شهواتهم الآثمة، فهؤلاء شر الأصناف الثلاثة، سلمني الله وإياكم منهم.
الصنف الثالث: اجتهدوا في رمضان، واستقبلوه بالتوقير والاحترام، واجتهدوا فيه مبلغ جهدهم من أنواع الطاعات وتجنب المعاصي، لكنهم بعد رمضان ولوا أدراجهم، فتركوا الصلوات أو فرطوا فيها، وتركوا صيام النوافل، وتركوا عمارة المساجد، وهجروا القرآن ... فلهؤلاء نقول: لا تكونوا عباد المواسم، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92]، نذكرهم بقول بشر الحافي: "بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان"، وبقول الشبلي وقد سئل أيهما أفضل رجب أم شعبان، فقال: "كن ربانيًّا ولا تكن شعبانيًّا"، ونحن على منواله نقول: "كن ربانيًّا، ولا تكن رمضانيًّا".
صلى المصلي لأمر كان يطلبه *** لما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما
قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، وقال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8]، وعن عائشة رضي الله عنها: ((كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه))[3].
الرابع؛ الاعتكاف: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» [4].
ويمكن أن نقيس عليها غزوة الفتح كذلك، فلماذا؟ ومعنى المجاورة الاعتكاف، فكان بلوم المسجد لا يفارقه طيلة العشر، يخلو بربه ويناجيه، ويعتزل شرور الناس – نسأل الله عز وجل أن ييسر أمر إحياء هذه السنة في مساجدنا – أما والحالة هذه والأمر يصعب، فيمكن الأخذ بمذهب الجمهور القائلين بأن أقل مدة الاعتكاف لحظة، فأنت جالس في المسجد بين المغرب والعشاء، أو بعد الظهر أو العصر أو الفجر لحظات تنوي بها الاعتكاف، يحصل لك الجر بنيتك إن شاء الله، وإن لم يتيسر لك هذا ولا ذاك فاعتزل الشر، وليسعك بيتك، تذكر ربك وتبكي على خطيئتك، فلماذا يقوم النبيصلى الله عليه وسلم بكل ما أسلفنا؟ كان يفعل كل الاجتهادات السابقة يتحرى ليلة القدر، هذه الليلة المباركة التي هي خير من ألف شهر، قال المفسرون: "العمل الصالح فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيه ليلة القدر"، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر الأول من رمضان واعتكفنا معه، فأتاه جبريل، فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط، فاعتكفنا معه فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا صبيحة عشرين من رمضان فقال: «من كان اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فليرجع، فإني أُريت ليلة القدر، وإني نسيتها، وإنها في العشر الأواخر، في وتر»، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء، وكان سقف المسجد جريد النخل، وما نرى في السماء شيئًا، فجاءت قزعة، فأمطرنا، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرنبته تصديق رؤياه))[5]، استفدنا من الحديث السابق جملة أمور؛ منها:
• أن ليلة القدر في رمضان، وأنها في العشر الأواخر.
• أنها في الأوتار من العشر الأواخر وهي ليلة: 21 و23 و25 و27 و29، وأرجى ليلة هي ليلة سبع وعشرين عند جماهير العلماء، فاجتهد في العشر كلها بأشفاعها وأوتارها تدركها بإذن الله، ولا تجزم بأنها ليلة سبع وعشرين للروايات المتعددة؛ قال الإمام النووي عليه رحمة الله: "لا طريق للجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها".
• أنه كان يعتكف فيها وقد سبق الحديث عن الاعتكاف.
• أن لها علامات، ومن علامتها في تلك السنة أن يسجد النبي صبيحتها في ماء وطين، ولها علامة ثابتة في كل سنة لقوله:
فتح تفتح أبواب السماء لــــــــــه *** وتبرز الأرض في أثوابها القشــب
يا يوم وقعة عمورية انصرفـــــت *** منك المنى حفلًا معسولة الحلــب
أبقيت جد بني الإسلام في صعـد *** والمشركين ودار الشرك في صبب
فاللهم أعز الاسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ومن أراد بالإسلام خيرًا فوفقه لكل خير، ومن أراد بالإسلام شرًّا فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره، واجعلنا ممن صام وقام رمضان إيمانًا واحتسابًا. (تتمة الدعاء).
[1] رواه مسلم برقم: 2577.
[2] رواه مسلم برقم: 2577.
[3] رواه البخاري برقم:6462.
[4] رواه البخاري برقم:2020.
[5] رواه البخاري برقم: 813.
__________________________________________________ ________
الكاتب: عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت