الشهرة وحب الظهور يقصمان الظهور
عماد حسن أبو العينين
إنَّ الإسلام بطبيعته المعتدلة يُريد لأفراده أن يكونوا صالحين مُتوازنين، لا يغترُّون بالدُّنيا أو تتعلَّق بها قلوبهم، فما مدَّ أحدٌ عينَيْه إلى مَتاعها إلاَّ واشرأبَّت نفسُه، وقارب الفتنة، أو حام حول حِماها، والسَّعيد من جعَلَها مطيَّةً للآخِرة، فصارت له دارُ مَمرٍّ لا دارَ مقرّ، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131].
ومن الاغترار بالدُّنيا السعيُ خلف الشُّهرة وبريقها، فكثيرٌ من الناس تَتُوق نفسه إلى أن يُشار إليه بالبنان أو أن يكون هو حديثَ المَجالس، أو أن يُسمع قولُه، أو يُكتب؛ لذا قد يَسعى بعضُهم بكلِّ سبيلٍ إلى تحقيق ذلك، ولو على حساب مُخالفة الدِّين والأخلاق؛ إذْ مِن خصائص الشهرة أنَّها تَؤُزُّ المرء إلى المغامرة أزًّا، ويُدَعَّى إلى تبرير كلِّ وسيلةٍ موصِّلة إليها دعًّا، وهنا مَكْمَن الخطر، ومحمل الشَّوك الذي لا ينتقش.
لذا؛ حذَّر الشَّرع المطهَّر من حبِّ الشُّهرة والظُّهور الدَّاعي النفوسَ المريضة إلى تعلُّقِ القلب بتأسيس بنيان السُّمعة على شفا جُرفٍ هار، أو الإعداد لرفع الظَّمأ من سرابٍ بِقيعةٍ يحسبه الظَّمآن ماءً، حتَّى إذا جاءه لم يَجِده شيئًا.
فقال تعالى معلِّمًا نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]؛ "أي: إنَّ كل أعمالي ومَقاصدي محصورةٌ في طاعة الله ورِضْوانه، وعلى المسلم أن يكون قصدُه وعمله وكلُّ ما يقدِّمه من عملٍ هو وجه الله تعالى، سواءٌ في أثناء حياته، أو ما يعقبه من عملٍ صالح بعد مماته، هو للهِ، وإلى الله، وفي سبيل الله، ولطاعة الله تعالى، فإذا كان لله لم يَبقَ فيه نصيبٌ لغير الله"[1].
لذا؛ حذَّر - صلَّى الله عليه وسلَّم - من سوء الأخلاق التي يكون عمَلُها وسعْيُها وقولُها لغير الله، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ أوَّل النَّاس يُقضَى يوم القيامة عليه: رجلٌ استُشهِد، فأُتِي به، فعرَّفه نِعَمه فعرَفها، قال: فما عَمِلتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتَّى استُشهدت، قال: كذبتَ ولكنَّك قاتلتَ لأنْ يُقال: جريءٌ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِر به فسُحِب على وجهه حتَّى أُلقِيَ في النَّار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتِي به فعرَّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنَّك تعلَّمت العلم؛ لِيُقال: عالِمٌ، وقرأتَ القرآن ليقال: هو قارئٌ، فقد قيل، ثمَّ أمر به، فسُحِب على وجهه حتَّى ألقي في النَّار، ورجلٌ وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كلِّه، فأُتِي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أن ينفق فيها إلاَّ أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنَّك فعلتَ لِيُقال: هو جوَادٌ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِر به، فسُحب على وجهه، ثمَّ ألقي في النَّار))[2].
فهؤلاء الثَّلاثة وعمَلُهم الجليل - سواء كان الشَّهادة، أو تعليم العلم، أو الإنفاق في سبيل الله - يُعدُّ من أعظم الأعمال في ميزان الإسلام، ولكنَّهم أحبَطوا ثوابَ عمَلِهم بسبب طلب الشُّهرة بين النَّاس، وحب الظُّهور الذي يَقْصِم الظُّهور، فكانوا أوَّل من تُسعَّرُ بهم جهنَّم، فهم حطَبُها الأوَّل؛ لأنَّهم أرادوا أن يَكونوا أوَّلَ الناس، وعلى رأسهم، فعاقبَهم الله بمِثْل قصدِهم، والجزاء من جنس العمل، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46].
فالبحث عن الشُّهرة خلَلٌ في عقيدة التَّوحيد، وانقلابٌ في مفاهيم الغاية البشريَّة في الوجود، ونَكْسة في ترتيب الاهتمامات؛ فهو الصُّورة التطبيقيَّة للرِّياء المُحْبِط للأعمال في ميزان الشَّريعة.
وإذا كان قولُ النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من لَبِس ثوب شُهرة ألبسَه الله يوم القيامة ثَوْب مَذَلَّة))؛ يعني به: لباس الشُّهرة المادِّي المصنوع من القماش؛ فإنَّ غيره المسبب للشُّهرة داخلٌ فيه أيضًا؛ كالسيَّارة مثلاً، فعن شَهْرِ بن حَوْشب قال: "مَن ركب مشهورًا من الدوابِّ ولبس مشهورًا من الثياب، أعرض الله عنه، وإن كان كريمًا"[3].
كما أن اللباس المعنويَّ للشُّهرة يمكن أن يشمله الحديثُ من باب أولى، ومن أيِّ نوع كان؛ سواء لباس التَّقوى، أو لباس العلم أو لباس الزُّهد، أو لباس الورَع، وأي لباس معنوي يتدثَّر به الإنسان بين الناس يسبِّب له الشهرة وهو يقصدها، ويتعمَّد أن يراه الناس بها، فقد قالَ البَيْهَقِيُّ: "كلُّ شيء صيَّر صاحبه شهرة، فحقُّه أن يُجْتَنَب"[4].
أمَّا من اشتهر بالعلم والزُّهد والورع، ونيَّتُه صالحة وعمَلُه خالصٌ لوجه الله، فإنه خارجٌ عن هذه الدائرة، ولكن الواجب عليه أن يتفقَّد حال قلبه بين الفينة والأخرى.
وقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - يفرُّون من الشُّهرة وعدم الإخلاص لله في الأقوال والأفعال، كما تفرُّ الفريسةُ من الأسد؛ فهذا بُريدة بن الحصيب يقول: "شهدتُ خيبر، وكنت فيمن صعد الثُّلْمة، فقاتلتُ حتَّى رُئِي مكاني، وعليَّ ثوبٌ أحمر، فما أعلم أنِّي ركبتُ في الإسلام ذنبًا أعظم عليَّ منه"؛ أيِ: الشُّهرة[5].
وهذا أبو عبيدةَ بنُ الجرَّاح لَمَّا ذهبَ مَددًا إلى عمرو بن العاص في غزوة ذات السَّلاسل قال عمرٌو لأبي عبيدة، والنَّفَر الذين معه: أنا أميرُكم، وأنا أرسلتُ إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أستمدُّه بكم، فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابِك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين، فقال عمرٌو: إنما أنتم مدد أمددته، فما كان من أبي عبيدة في هذا الموقف إلاَّ أن أخلَص لله، وترك الشُّهرة وراءَه ظِهريًّا، وقال: والله يا عمرو، إنَّك إن عصيتني لأُطِيعنَّك، وسلَّم إليه الإمارة[6].
وهذا خالد بن الوليد عندما أمَرَه عمرُ بن الخطَّاب الخليفةُ أن يَترك قيادة الجيش لأبي عبيدةَ بن الجرَّاح، قال: سمعًا وطاعةً لأمير المؤمنين، وهذا موقفٌ والله يُحسَد عليه، ولو تعرَّض له أحَدُ القُوَّاد في هذا العصر، وبِشُهرة سيف الله المسلول، لمَا تركَ قيادة الجيش، ولما ترك هذه الشُّهرة، بل انقلبَ على أميره وحاربَه، ولكنَّه أبو سليمان؛ الإخلاص لله ولدينه، والفرارُ من الشُّهرةِ وحبِّ الظهور.
ومن العجب أن يحجَّ مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما يربو على مائة ألف صحابي، فلم يقدر ابنُ حجر العسقلانيُّ - على قوَّة حفظِه، وسَعة اطِّلاعه، ومهارة بحثِه - أن يَجمع لنا في كتابه "الإصابة" أكثرَ مِن ثمانية آلاف صحابي، فأين الباقون؟! إنَّهم على منهاج قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله يحبُّ العبد التَّقِيَّ الغنيَّ الخفيّ))[7].
ولو كانت الشُّهرة مَنْقبةً تتشوَّق لها النُّفوس الكريمة، لأكرَم الله بها سادة الدُّنيا من الأنبياء والمرسَلين الذين بُعِث منهم ما يزيد على ثلاثمائة رسول، وأكثر من مائة ألف نبي، ورغم ذلك لم يَحْفظ لنا القرآنُ سوى أسماء خمسة وعشرين رسولاً لا غير.
وقد حذَّر سلَفُنا الصالِحُ من حُبِّ الظُّهور والشهرة بين الناس لِمَن يسعى إليها، ويجعلها هدفَه، وتضافرَتْ أقوالُهم المحذِّرة من هذا الخلُق الذَّميم، فهذا سفيانُ الثوريُّ يقول: "إيَّاك والشُّهرة؛ فما أتيتُ أحدًا إلاَّ وقد نَهى عن الشُّهرة"[8].
وقال إبراهيمُ بن أدهم: "ما صدَقَ اللهَ عبدٌ أحبَّ الشُّهرة"[9].
وقالَ أيُّوبُ السَّختِيانِيُّ: ما صَدَقَ عبْدٌ قطُّ فأَحَبَّ الشُّهرةَ"[10].
وقال بِشرُ بن الحارث: ما اتَّقَى اللهَ مَنْ أحَبَّ الشُّهْرة"[11]، وقال أيضًا: "إذا عُرفتَ في موضعٍ فاهرب منه، وإذا رأيتَ الرَّجُل إذا اجتمعوا إليه في موضعٍ لَزِمَه، واشتهى ذلك، فهو يحبُّ الشُّهرة"[12].
وقال أحمدُ بن عاصمٍ الأنطاكيُّ: "الخير كلُّه أن تُزوَى عنك الدُّنيا، ويُمَنَّ عليك بالقنوع، وتُصْرَف عنك وجوهُ النَّاس"[13].
وجاء في ميراث صوفيَّة السُّلوك والاعتدال قولُ أبي حمزة البغدادي الصُّوفي: "عَلامةُ الصُّوفِيِّ الصَّادق: أن يَفتقر بعد الغِنَى، ويَذِلَّ بعد العزِّ، ويخفى بعد الشُّهرة، وعلامة الصُّوفيِّ الكاذب أن يَستغني بعد الفقر، ويعزَّ بعد الذُّلِّ، ويشتهر بعد الخفاء"[14].
وقال أبو بكرِ بنُ عيَّاش: "أدْنَى نَفْعِ السُّكوت السلامة، وكفى بها عافيةً، وأدنى ضرَرِ المنطق الشُّهرة، وكفى بها بليَّة"[15].
كما تضافرَتْ أفعالُهم في البعد عن الشُّهرة؛ رغبةً في ثواب الله - عزَّ وجلَّ - وإخلاصًا له؛ فعن صفوان بن عمر، قال: كان خالدُ بن معدان إذا عظمَتْ حلقتُه (أيْ: كثر تلاميذه في حلقة التَّدريس)، قام فانصرف، قيل لصفوان: ولِم كان يقوم؟ قال: كان يَكْره الشُّهرة[16].
قال الذهبيُّ معلِّقًا: ينبغي للعالِم أن يتكلَّم بنِيَّة وحُسْن قصد، فإنْ أعجبَه كلامُه فلْيَصمت، فإن أعجبه الصَّمت فلينطق، ولا يفتُرْ عن محاسبة نفسه؛ فإنَّها تحبُّ الظهور والثَّناء[17].
وقال ثابتٌ البنانيُّ: قال لي محمَّد بن سيرين: "لَم يكن يَمنعني من مجالستكم إلاَّ خوف الشُّهرة"[18]، وقال مَعْمرٌ: كان في قميصِ أيُّوب بعضُ التَّذييل، فقيل له، فقال: الشُّهرة اليوم في التَّشمير"[19].
وقال إمامُ أهل السُّنَّة أحمدُ بن حنبل: أُريد أن أكون في شِعبٍ بمكَّة؛ حتَّى لا أُعرَف، قد بُلِيتُ بالشُّهرة، إنِّّي أتَمنَّى الموت صباحًا ومساءً"[20].
وقال سفيان الثوريُّ: "خرجتُ حاجًّا أنا وشَيْبان الراعي مُشاةً، فلمَّا صِرْنا ببعض الطَّريق، إذا نحن بأسدٍ قد عارضَنا، فصاح به شيبانُ، فبصبص وضرب بذنبه مثل الكلب؛ فأخذ شيبانُ بأذنه فعركَها، فقلتُ: ما هذه الشُّهرة؟ قال: وأيَّ شهرةٍ ترى يا ثوريُّ؟ لولا كراهية الشُّهرة ما حملتُ زادي إلى مكَّة إلاَّ على ظهره"[21].
وهذا القاضي، أبو العباس العُقيلي، الجيَّاني، يقول عنه ابنُ السَّمعاني: "فقيهٌ، مُفتٍ، زاهد، يعرف المذهبَ والفرائض، اعتزل عن النَّاس، واختار الخمول، وترك الشُّهرة، وكان كثيرَ الذِّكر، دخلتُ عليه، فرأيتُه على طريقةِ السَّلَف؛ من خشونة العيش، وترك التكلُّف"[22].
هكذا مضى السَّلف الصالِح على هذا المنهاج، وكان هذا دِينَهم ودَيدنَهم، فأين هذا من أقوامٍ غلبَهم حبُّ الشهرة، وظَنُّوا أنَّ التفاضل بكثرة المعلومات، وكثرة المَحْفوظات، وبالثَّناء، وبانتشار الذِّكر، حتَّى سجَّل التاريخُ عليهم أيضًا عارًا وشنارًا، فهذا الخطيب البغداديُّ عندما صنَّف كتابه "تاريخ بغداد"، وسمعَتْ به الدُّنيا، كان هناك رجلٌ يسمَّى ابن القفطي من كُبَراء فقهاء الحنابلة، فلمَّا سمع بالكتاب، قال: هل ذكرَني الخطيبُ في كتابه في الثِّقات أم في الضُّعفاء؟ قالوا: "والله ما ذكَرَك؛ لا في الثقات ولا في الضُّعفاء"، قال: "ليته ذكَرَني ولو في الكذَّابين! ليته ذكرني ولو في الكذابين!"[23].
وهذا أحمد بن عليِّ بن أحمد، أبو العباس، البردانيُّ، الضرير، قَدِمَ بغداد، وحفظ القرآن، وقرأ بالرِّوايات، ورحَل، فقرأ بالعشرة على ابن الباقلاَّني، وبرع في التَّجويد، وحفظ الحروف، وكان يقرأ في التراويح بالشَّواذِّ رغبةً في الشُّهرة[24].
هكذا يشلُّ حبُّ الشهرة حركةَ المُجتمع الإيجابيَّة؛ ليحوِّلَها إلى شكليَّات ومظاهر، ومسرحيات يُخادع بها بعضُهم بعضًا، فالشهرة حين تصير غايةً في ذاتها فمعنى ذلك تفَشِّي الكذب والنِّفاق، والخديعة والتصنُّع، وغياب القِيَم الحقيقيَّة التي لا تنتج الإبهار، ومعرفة الناس الشُّهرة تَعني سقوط النَّماذج الحقيقة؛ ليبرز مكانَها البالونات الكاذبة والسَّراب المضلل، فليس كلُّ مشهور ناجحًا أو ناجيًا عند الله تعالى، وليس كلُّ مغمور فاشلاً أو متأخِّرًا.
لذا؛ قال ابنُ خلدون: "قلَّما صادفَت الشُّهرةُ والصِّيت موضِعَها في أحدٍ من طبقات النَّاس في أحد مَجالاتهم على وجه العموم، وكثيرٌ مِمَّن اشتُهر بالشَّر وهو بخلافه، وكثير مِمَّن تجاوزَتْ عنه الشُّهرة، وهو أحَقُّ بها، وقد تُصادِف موضعها، وتكون طبقًا على صاحبها، وإنَّ أثرَ الناس في إشهار شخصٍ ما يدخل الذُّهول والتعصُّب، والوهمَ والتشيُّع للمشهور، بل يدخله التصنُّع والتقرُّب لأصحاب الشهرة بالثَّناء والمدح، وتحسين الأحوال، وإشاعة الذِّكْر بذلك، والنُّفوسُ مولَعةٌ بحبِّ الثَّناء، والناس مُتطاوِلون إلى الدُّنيا وأسبابِها، فتختل الشهرة عن أسبابها الحقيقة، فتكون غيرَ مطابقة للمشتهِر بها"[25].
والشهرة يجب ألاَّ تكون هدفًا في ذاتِها، بل يمكن أن تكون نتيجةً للأعمال الصَّالحة أحيانًا، فعلى مَن ابتُلِي بها الصَّبرُ والمجاهدة، ومدافعَتُها قدر الإمكان دون الإخلال بوظيفته الصالحة في الحياة، قال المروذيُّ: قال لي أحمد: قل لعبدالوهاب: أخمل ذِكْرَك؛ فإنِّي أنا قد بُلِيت بالشُّهرة[26].
فمن عمل صالحًا وعافاه الله، وكان مغمورًا، فلْيَعش في جنَّة الدُّنيا، ولْيَبق حُرًّا طليقًا، ولا يدخل إلى أقفاص المُراقَبة البشريَّة؛ ففي جنَّةِ الإحسان أن تَعْبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، وإذا رأيتَ مشهورًا فقل: الحمد لله الذي عافاني مِمَّا ابتلاك، وفضَّلَنا على كثيرٍ من عباده تفضيلاً.
فليست الشُّهرة تُراد في ذاتها، قد تتَّفِق للرَّجُل فإذا صبَر على حقِّها، فإنَّه لا حرج عليه، والخفاءُ كذلك لا يُراد لذاته، وإنَّما الذي يُراد أن يَراك الله حيثُ أمَرَك، وأن يفقدك حيث نَهاك، الذي يُراد أن تكون لك خبيئةُ سِرٍّ بينك وبين الله؛ تَلِجُ عليه من خلالِها، وتنفعك أحوجَ ما تكون إليها عند طلوع الرُّوح في لحظات الخواتيم، وتنفعك أحوجَ ما تكون إليها إذا حقَّت الحقائق، وقامت القيامة، وقرعت القارعة، وزُلزلت الزَّلزلة، وحقَّت الحاقَّة، وتطايرت صحُف الأعمال، ونودي الناس إلى ربِّهم: أنْ هلمُّوا إلى ربِّكم لِفَصل القضاء.
أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يَحفظ علينا دينَنا، وأن يُنجِّينا من عذابه؛ إنَّه ولِيُّ ذلك والقادِرُ عليه.
[1] "التفسير المنير"، وهبة الزحيلي بتصرف.
[2] رواه مسلم 1905، الترمذي 23.82، النسائي 3137.
[3] "سِيَر الذَّهبي" 4/ 375.
[4] كما في "عون المعبود" 9/ 171.
[5] "سِيَر الذَّهبي" 2/ 470.
[6] "البداية والنهاية" 4/ 272.
[7] رواه مسلم 2965.
[8] "سِيَر الذَّهبي" 7/ 260.
[9] "المنتظم" 3/ 61.
[10] "سِيَر الذَّهبي" 6/ 20.
[11] "سِيَر الذَّهبي" 10/ 476.
[12] "تاريخ دمشق" 10/ 206.
[13] "سِيَر الذَّهبي" 11/ 216.
[14] "سِيَر الذَّهبي" 13/ 166.
[15] "سِيَر الذَّهبي" 8/ 304.
[16] "المنتظم" 2/ 395.
[17]"سِيَر الذَّهبي" 4/ 494.
[18] "تاريخ دمشق" 53/ 228.
[19] "سِيَر الذَّهبي" 6/ 22.
[20] "سِيَر الذَّهبي" 11/ 216.
[21] "سِيَر الذَّهبي" 8/ 261.
[22] "تاريخ الذهبي" 4/ 12.
[23] "سِيَر الذَّهبي" 18/ 381.
[24] "سِيَر الذَّهبي" 10/ 54.
[25] "مقدمة ابن خلدون" 1/ 150.
[26] "سِيَر الذَّهبي" 11/ 226.