صور من حضارة السلاجقة (بني سلجوق)
أ. د. عبدالحليم عويس
تمثل صفحة دولة السلاجقة في حضارتنا الإسلامية واحدة من أروع الصفحات وأكثرها إيجابية.
والطريف أن هذه الأسرة ترجع في نشأتها إلى تركستان الشرقية من بلاد آسيا الوسطى.
ولظروف ما هاجرت هذه الأسرة بقيادة كبيرها سلجوق الذي تنسب الأسرة إليه. وبين خراسان وبخارى وأصبهان تراوحت إقامتها حتى استقرت بمرو حيث هاجمها السلطان الغزنوي مسعود ولكنه هزم أمامها، وأصبحت الخطبة تلقى بمرو باسم داود السلجوقي. نجل سلجوق الكبير وكان هذا في سنة 433هـ.
ومن مرو انتشر سلطان السلاجقة إلى خوارزم، وبدأ تاريخهم يظهر كقوة لها كيانها المستقبل في العالم الإسلامي خلال القرن الخامس الهجري.
وقد نجحوا في السيطرة على بلاد كثيرة كخراسان وأصبهان وهمذان وبُخارى وامتد نفوذهم حتى العراق، والتحموا بالدولة العباسية، ثم أتيحت لهم فرصة ذهبية إذ استنصر بهم الخليفة العباسي (القائم) ضد ثائر شيعي يدعى (البساسيري) عجزت الخلافة العباسية عن مقاومته، فأسرعوا إلى انتهاز الفرصة التاريخية ودخل زعيمهم طغرل بك بغداد منتصراً على البساسيري سنة 447هـ وكان هذا العام حداً فاصلاً في تاريخ السلاجقة إذ اعتبر بداية عصر نفوذ السلاجقة، وسيطرتهم على مصير الخلافة العباسية الكبرى.
امتاز السلاجقة الأتراك في معاملاتهم بالتدين، وكانوا مظهراً للإنسان الفطري الذي هذبه الإسلام، وإذا ما استثنينا صوراً قليلة تحتمها الطبيعة البشرية التي لا تخلو من بعض القصور، فإن هؤلاء السادة كانوا نموذجاً طيباً حتى في معاملتهم للخليفة العباسي الذي حفظوا له عرشه، إنهم لم يكونوا كالذين انتصر بهم المعتصم، ولم يكونوا كالبويهيين حينما سيطروا على الخلافة وأذلوا كبرياء الخليفة. أبداً لقد احترموا الخلفاء وأجلّوهم، وكان لهم فضل كبير في رفع راية الإسلام، وفي مد عمر الخلافة العباسية أكثر من قرنين من الزمان، كما بدأوا في مرحلة جديدة من التوسع الإسلامي في اتجاه آسيا الصغرى، ويقال إن هذا التوسع الإسلامي كان أحد أسباب قيام الحروب الصليبية.
ومن الظواهر المتعلقة بسياسة هؤلاء القوم الاجتماعية والفكرية. إلغاء أشهر ملوكهم «إلب أرسلان» لنظام التجسس ولجوء أحد ملوكهم «نظام الملك» إلى نظام الإقطاع بإعطاء الشخصيات السلوجقية والشخصيات الأخرى الكبرى اقطاعات أو «أتابكيات» لحسابها الخاص، ومن الظواهر كذلك الحملات الجهادية شبه المنتظمة التي كانت خير علاج للفوضى الداخلية.
كذلك من الظواهر صراع السلاجقة المستمر ضد حركات الإسماعيلية ونجاحهم في تقليم أظافرهم.
وبعد صفحة تاريخية رائعة من صفحات الحضارة الإسلامية امتدت بين سنوات 433 - 619 قدر للسلاجقة أن يأفل نجمهم وأن تغرب شمسهم، بعد أن حكم منهم واحد وثلاثون زعيماً سلجوقياً، وبعد أن قدموا للخلافة الإسلامية الكبرى أجل الخدمات، وحموها من كثير من عثرات السقوط وقدموا لحضارة الإسلام يداً من أروع ما قدمت الدول الإسلامية من أياد بيضاء.
لقد ازدهرت في عهد السلاجقة جوانب الحضارة المختلفة، فعلى الرغم من أنهم دولة جهاد إلا أن العلوم والآداب فازت بنصيب وافر من اهتمامهم.
كما أن نواحي النشاط الاقتصادي من زراعة وصناعة ورعي وتجارة وتنظيم الطرق وتأمين المسالك، وتوفير الحياة الكريمة. كل هذا اهتم به السلاجقة أيما اهتمام، فضلاً عن اهتمامهم الدؤوب بشئون الجيش وتطوير السلاح، بيد أن السلاجقة وقعوا، وهم يسيرون في الطريق، في أخطاء ظنوها خيراً، فانقلبت على دولتهم شراً.
لقد لجأ السلاجقة - كما أسلفنا - إلى نظام الإقطاعات، وأسندوا معظمها إلى شخصيات سلجوقية، وقد حسبوا أن هذا من شأنه أن يشغل السلاجقة عن التفكير في الحكم، وأن يرضوا بالبعد عن السلطة، لكن الإقطاعيين السلاجقة سرعان ما حاول كل منهم أن يكون لنفسه من إقطاعاته إمارات صغيرة، حاولت كل واحدة منها الانفصال عن السلطة، وهو عكس ما كان يهدف إليه السلاجقة الحكام.
وقد أدى هذا إلى تفكيك وحدة السلاجقة وإلى انهاك قوى السلطة السياسية الحاكمة، وإلى توزيع النفوذ الحقيقي في الدولة بين عديد من الأمراء، كما أن هذا الخطأ أدى إلى عدول السلاجقة عن طريق اختيار زعمائهم القديمة التي كانت تعتمد على الكفاية والمقدرة، فأصبحت الزعامة تقليدية دورية، خوفاً من كثرة تنازع أمراء الإقطاعات عليها.
ومن المضاعفات كذلك تهاون السلاجقة - في ظل تفككهم - أمام حركات التمرد الباطنية، ولا سيما أمام الحركة الإسماعيلية بزعامة قائدها الحسن الصباح، وقد قدر لهذه الحركة أن تستنفذ طاقة كبرى من طاقات السلاجقة التي كان في الإمكان استخدامها في القضاء على حركات التفكك التي أصيبت بها الدولة أو الزعامة السلجوقية للخلافة العباسية.
لكن ذلك كلَّه لا يغمط السلاجقة حقهم، فقد دافعوا عن العالم الإسلامي قرنين من الزمان، وكانت لهم أياد حضارية كثيرة ومتنوعة، فصفحتهم في كتاب الحضارة الإسلامية صفحة من أفضل الصفحات، ومن أكثرها أصالة والتزاماً بالكتاب الكريم والسنَّة الشريفة فجزاهم الله عن خلافة الإسلام وتاريخ الإسلام خير الجزاء.