الوصية بمكارم الأخلاق
الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر
الحمد لله العليم الخلاَّق، الذي بعَث عبده ورسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليتمم مكارم الأخلاق، أحمده - سبحانه - هو الواحد الغني الرزاق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له العظيم الحميد، الذي ذكر كل امرئٍ بمسؤوليَّته عن كلامه إذ يقول في القرآن المجيد: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 17 - 18].
وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، النبيُّ المصطَفى، والرسول المجتَبى، الذي أخبر أنَّ العبد لَيتكلَّمُ بالكلمة لا يُلقِي لها بالاً يَهوِي بها في النار سبعين خريفًا، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأئمَّة الحُنَفاء، أولي الكرم والوفاء.
أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها الناس، اتَّقوا الله - تعالى - حقَّ تَقواه، وسارِعُوا إلى مغفرته وجنَّته ورِضاه، واحذَرُوا كلَّ ما يسخطه الله ويَأباه، تكونوا من مُستَبِقي الخيرات، السابقين إلى أعلى الدَّرجات في الجنَّات.
عباد الله:
كما أنَّ العِلَل في الأجساد تَذهَب معها الصحَّة، وتنحل القوى، فكذلك العِلَل في الأخلاق، تُفسِد الدِّين، وتقطع المرء من الخير في الدنيا والأخرى؛ ومن أجْل ذلك كانَت دعوة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى إصْلاح الأخلاق إلى جانِب إصلاح العَقائد، وحسبُكم دليلاً على ذلك قولُ الحقِّ - تبارك وتعالى - في معرض الثناء على نبيِّه الكريم: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، مع توجيهه - سبحانه - لأهْل الإيمان بقوله: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
وسُئِلت عائشة - رضي الله عنها - عن خُلُق النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: "كان خلقه القرآن"؛ تعني: يأتَمِر بأوامره، وينزَجِر عن زواجره، ويَرضَى لرضاه، ويغضَب لغضبه؛ أي: كان متمسِّكًا بآدابه، وأوامره، ونواهيه، وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن والألطاف.
وقال ابن القيِّم - رحمه الله -: وقد جمع الله له - صلى الله عليه وسلم - مكارم الأخلاق في قوله: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199].
قال جعفر بن محمد: أمَر الله نبيَّه بمكارم الأخلاق، وليس في القُرآن آيةٌ أجمع لمكارِم الأخلاق من هذه الآية.
أيُّها المسلمون:
فالتخلُّق بمكارم الأخلاق والدعوة إليها، والبُعد عن سَيِّئها والزَّجر عنها، من تحقيق المسلم لمدلول شهادة أنَّ محمدًا رسول الله.
وحقيقة حسن الخلق بذْل المعروف وكفُّ الأذَى، وطَلاقة الوجه وتحمُّل الأذَى، والأخْلاق المحمودة على الإجمال أنْ تكون مع غيرك على نفسك، فتنصف منها ولا تنتَصِف لها، وعلى التفصيل: العفو، والحلم، والجود، والصبر، وتحمُّل الأذى من الخلق، والرحمة بهم، والشَّفَقة عليهم، وقَضاء حَوائِجهم، ونحو ذلك.
فأركان حُسنِ الخلق أربعة: الصبر، والعفَّة، والشجاعة، والعدل.
فالصبر يحمِل المرءَ على الاحتِمال، وكظْم الغَيْظ، والحلم، والأناة، والرِّفق، وعدم الطَّيْش.
والعفَّة تَحمِله على اجتِناب الرَّذائل، وترك القبائح من القول والفعل.
والشجاعة تَحمِله على عزَّة النفس وقوَّتها على إخراج المحبوب، وتَحمِله على كظم الغَيْظ والحلم.
والعدل يَحمِله على اعتِدال أخْلاقه، وتوسُّطه بين طرفَي الإفراط والتفريط، فمَنشَأ جميعِ الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة، كما أنَّ مَنشَأ جميع الأخلاق السافلة والأفعال السيِّئة من الجهْل والظُّلم والشَّهوة والغضَب.
أيُّها المسلمون:
ثبَت في الصحيحَيْن عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسَنَ الناس خلقًا".
وفيهما عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحِشًا ولا مُتفحِّشًا، وكان يقول: ((إنَّ من خياركم أحسنكم أخلاقًا)).
وفي الترمذي وغيره عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يومَ القيامة من خلقٍ حسن، وإنَّ الله يُبغِض الفاحش البَذِيء)).
وفيه عن أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا)).
وفيه أيضًا عنه - رضي الله عنه - قال: سُئِل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخِل الناس الجنَّة، فقال: ((تقوى الله وحُسنُ الخلق))، وسُئِل عن أكثر ما يُدخِل الناس النار، فقال: ((الفم والفرْج)).
وفي "سنن أبي داود" عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ المؤمن لَيُدرِكُ بحسن خلقِه درجةَ الصائم القائم)).
وفيه عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا زعيمٌ - يعني: ضامن - ببيتٍ في ربضِ الجنة لِمَن ترَك المِراء وإنْ كان مُحِقًّا، وببيتٍ في وسط الجنَّة لِمَن ترَك الكذب وإنْ كان مازِحًا، وببيتٍ في أعلى الجنَّة لِمَن حسُن خُلقُه)).
وفي الترمذي عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألاَ أُخبِركم بِمَن يحرم على النار - أو بِمَن تحرم عليه النار - تحرم على كلِّ قريب هيِّن ليِّن سهْل)).
فاتَّقوا الله - عِبادَ الله - وحسِّنوا أخلاقَكم، وتنافَسُوا في طاعة ربِّكم، واتَّقوا شرَّ ألسنتكم، تكونوا من خِيار الناس، وأكملهم إيمانًا، وتثقل موازينكم، وتحرم عليكم النار، وتدخُلوا الجنَّة في أقرب منزلةٍ من نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم - في أعالي الجنَّات بشهادة نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقرَبِكم منِّي مجلسًا يوم القيامة أحاسِنَكم أخلاقًا)).
﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَنا جميعًا بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كلِّ ذنب، فاستَغفِروه يغفر لكم إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، أحمَدُه - سبحانه - هو اللطيف بعباده، يَرزُق مَن يَشاء وهو القويُّ العزيز، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له المَلِك العظيم، الرؤوف الرحيم، الجواد الكريم، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله المُثنَى عليه من ربِّه بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأئمَّة الأتْقياء، أهل الجود والكرم والشجاعة والوَفاء.
أمَّا بعد:
فيا أيُّها الناس، اتَّقوا الله، وتحلوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، واحذَرُوا مساوئ الأخلاق؛ فإنها من أسباب أمارات النِّفاق والخزي يوم التَّلاق، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((وإنَّ أبغضكم إليَّ وأبعدكم منِّي يوم القيامة الثرثارون والمتشدِّقون والمتفَيْهِقون))، فنبَّه - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أصناف من الناس هم عبءٌ ثقيل على المجتمع؛ لما يعانيه منهم أفرادُه من اعتِلال أخلاقهم، وفَساد تصرُّفاتهم، وهم أيضًا بَلاءٌ على أنفسهم، وسَجاياهم الخسيسة شؤمٌ عليهم في الدنيا والآخِرة، فالثرثارون قومٌ يتَّجِرون في الكلام، ديدنهم رِواية الأخبار، ونَقل الغثِّ والصحيح، والصدق والكذب، ينتَقِل أحدُهم من ندوةٍ إلى أخرى، ومن مجلسٍ إلى آخَر، ممتطيًا مطيَّة الكذب: "زعموا" و"قيل"، دون تثبُّتٍ في النَّقل، أو وزنٍ لما يُحدِّث به، وذلك من أوضح البراهين على اعتِلال الخلق، والعبوديَّة للهوى؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الظنُّ أكذَبُ الحديث))، وقال - صلى الله عليه وسلم - مُوضِّحًا جرم هذا الصِّنف من الناس وعظم إثمه عند الله: ((كفَى بالمرء كذبًا أنْ يُحدِّث بكلِّ ما سمع)).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يَنهَى عن قيل وقال، وكثْرة السؤال، وإضاعة المال.
وأحد الأصناف هم: المتشدِّقون الذين يتكلَّمون بملء أفواهِهم، سواء كان ذلك اعتِدادًا بفَصاحتهم وآرائهم دون بيِّنة، أو توسُّعًا في الكلام، دون احتِراز لما يحلُّ منه وما يحرم، وما يجمُل التحدُّث به وما يقبُح ويُؤاخَذ العبد عليه، ويترتَّب عليه شقاوة في العاجل والآجل، وفي الحديث: ((إنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة من سخَط الله ما يتبيَّن فيها، يَهوِي بها في النار أبعد ممَّا بين المشرق والمغرب))، وفي الحديث الآخَر: «وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم - أو قال: على مَناخِرهم - إلاَّ حَصائدُ ألسنتهم)).
فاتَّقوا الله عباد الله، وتجنَّبوا سيِّئات الأقوال والأحوال، وخُذُوا بوصيَّة ربِّكم ذي الكرم والجلال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
عباد الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
فاذكُروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكُرُوه على نِعَمِه يزدكم، ولذِكرُ الله أكبَرُ، والله يَعلَم ما تصنَعون.