على نار هادئة (قصة)
د. شادن شاهين
• ما أحوَجَني إلى صديق!
• نقطةٌ سوداءُ أنا على كوكبٍ مغطًى بالثلوج، وحدي، أتحرَّك كآلة، لا شيء حولي ألبتةَ، أنفُثُ مشاعري الحارة، فتتجمدُ في الهواء، ثم تسقطُ على الأرض، لِتذوبَ بين الثلوج، أُطلقُ صرخاتِ خوفي، فترتطمُ بجدار وَحدتي، ثم ترتد إليَّ صفعة على وجهِ وجودي.
• ما زلتُ خَرْساءَ في دنيا العدم، وصوتي أجمل الأصوات، ولِمَ أتكلمُ؟ هل مِن أُذنٍ هُنا؟!
• ربما ضجةُ العالم هي سبب صَمَمِه، أو ربما العالَم يسمع وأنا التي أجهلُ لغتَه، ربما، ربما، ربما... المهم، أنني في النهاية... وَحدي.
هكذا كنت أفكر حين انتبهتُ على صوت صياحِه، يطالبني بفنجان القهوة.
مرَقَ أمامي - كعادته - يحمل أشياءَهُ التي أبغضُها كثيرًا، يُكْمِلُ ارتداءَ ملابسه أثناء الحديث في الهاتف وتناوُل شَطِيرَتِهِ المفضَّلَة.
حمَلَ حقيبته، واختَطَفَ من يدي فِنجانه، سكبَهُ في جَوْفه دفعةً واحدة!
• أنتِ وقهوتي سرُّ طاقتي؛ بِدُونِكُمَا لا يستقيم يومي.
همسَ بها مُغَازِلًا.
طَبَعَ قُبلةً باردة على جبيني، لَمْلَمَ حاجياته مُهروِلًا، وصَفَقَ البابَ.
تنهدتُ تنهيدةً طويلةً، حمَّلتُها سخونةَ براكيني المُستتِرة خلفَ ابتسامتي الثلجية كأيامي.
وفي المطبخ، وضعتُ قهوتي على النار؛ نار هادئة، فكلما مكثتِ القهوة أكثرَ، كان طعمها أكثرَ غموضًا وسِحرًا، ولما قاربَتِ الفوَران، صببتُها في فنجانها البارد، فمنحَتْهُ كثيرًا من دِفئها.
حملتُ فنجاني إلى الشُّرْفة، وجلستُ أستمتع بغزَل الشمس الساخن لِخُصلات شعري، وأبتسمُ للعصافير التي كانت تتهامس عني، وعن الحُبِّ، وشمسِ الصباح.
وكعادتي، أمسكتُ قلمي هاربةً إلى عالَمي.
لكنني هذا الصباح، أعدتُ بناء كلِّ المدائن الخَرِبَةِ، وزرعتُ حقولَ القمح اليابسة، ونثرتُ على جانبَيِ الطريق زهورَ الياسمين.
أشعلتُ ثوْرَاتٍ أطاحت بكل الفاسدين، احتضنتُ الأطفال المُشَرَّدِينَ، ومسحْتُ على قلوبِ الثَّكَالَى فَبَرِئَتْ جراحُهُم، ثم غرسْتُ الشمسَ في جَبِينِ الصُّبْحِ تَبْتَسِمُ.
• لكنني، ما زلتُ وحدي!
همستُ بها ووضعتُ قلمي... فانسابتْ من عيني حُمَمِي البركانية، سقَطَتْ على أوراقي، فأحرقَتْ كلَّ ما كتبتُهُ، وكلَّ ما عرَفتُهُ، وكلَّ ما أحسسْتُهُ يومًا ما.
كريشةٍ في مهبِّ الريحِ صرتُ، أو أَخَفَّ، كدمعةٍ في بحورِ الصمت سقطتُ، كحَجَرٍ.
أطحتُ بأوراقي، بعيدًا في مهب الريح؛ لِتَتِيهَ كما تاهتْ مِنِّي ملامحُ الطريق، بين تفاصيلَ كثيرة أخذَتْني في ثناياها.
• ما أحوجني إلى صديق!
فقط، ضغطةٌ صادقةٌ على كفِّي تَثْبُتُ بها أعمدةُ نفسي الآيِلَةِ للسقوط، ضغطة تَثْبُتُ بها الروحُ المُخَلْخَلَةُ من جسدي، ضغطة تَثْبُتُ بها قدمي على أرض تُزلزلني.
حاولْتُ أنْ أُزِيحَ عن خاطري الفكرةَ، وذكرياتِ الليلة الماضية، وقُبلةَ الصباح.
تقلَّص الكونُ فجأةً، فصار ككُرَةٍ زجاجية تحاصرني، ارتشفتُ ببُطْءٍ الرَّشْفَةَ الأخيرة من قهوتي المُرَّة، فَوَحْدَهُ يُفضِّلُها بِسُكَّر.
من مجموعتي القصصية " فتافيت سكر".