الدعاء خير من النذر
أبو الهيثم صقر جندية
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
قال تعالى في سورة الإنسان: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [الإنسان: 7]؛ فدلَّ بذلك على أنَّ هذا الفعل ليس مجرَّد فعل مباح امتدحه الله تبارك وتعالى، وإنَّما هو من العبادة؛ فالله سبحانه وتعالى لا يَمتدح إلَّا على فعل واجب أو مستحبٍّ أو ترك محرَّم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾ [البقرة: 270].
فدلَّ كذلك على أنَّه سبحانه يعلم النذرَ كما يَعلم النَّفقة، وهو يجازي عليه، فليس لإنكار النَّذر مجال، ولكن يعلِّمنا الله سبحانه وتعالى أن نقول: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ﴾ [الأنعام: 162، 163]؛ أي: إنَّ العبادة - والنَّذر منها - لا تكون إلَّا لله سبحانه وتعالى، رب العالمين، دون ندٍّ أو شريك.
كذلك يبيِّن لنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يكون النَّذر الصَّحيح: ((لا نذر في معصية))؛ رواه أبو داود وغيره، وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن نذَرَ أن يطيع اللهَ فليطِعه، ومَن نذر أن يَعصيَ الله فلا يَعصه))، وقال الحافظ في الفتح - يعني ابن حجر في فتح الباري -: واتَّفقوا على تحريم النَّذر في المعصية، فلمَّا علم ذلك تبيَّن لنا أنَّ صرف النَّذر وجعله أو التوجُّهَ به لغير الله تعالى مِن الشِّرك من حيث هو عبادة، إذا نذَر طاعةً وجَبَ عليه الوفاء بها وتكون عندئذ قُربة إلى الله تعالى، ولهذا يكون التوجُّه لغير الله بالنذر إشراكًا، ما في ذلك شك؛ لأنَّ النَّاذر يجعل لما توجَّه له النذر تصريفًا وتدبيرًا وشفاء ودفع أذًى، كما يَعتقد فيه بذلك النَّفع والضر، وقضاء الحاجة والشفاعة، ورد القضاء، والرحمة والرجاء... إلخ، ومَن يملك ذلك إلَّا الله؟ فكيف نتوجَّه لغيره سبحانه؟!
ثمَّ إنَّ المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يحث على النذر ولا رغَّب فيه؛ لقوله: ((إنَّ النَّذر لا يقرِّب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدَّره له، ولكن النَّذر يوافق القدَرَ فيخرج ذلك من البخيل ما لم يَكن البخيلُ يريد أن يخرج))؛ رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، كذلك روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ النذر لا يقدِّم ولا يؤخِّر من قدَر الله شيئًا، وإنَّما يُستخرج به من البخيل))، فقوله صلى الله عليه وسلم: ((يُستخرج به من البخيل)) يحثُّنا على العكس من ذلك، فنكون من المحسنين، فنقدِّم الطاعة على طلَب الحاجة، بينما يجعل الناذِر الصَّدَقةَ أو الصيام أو النُّسك أو الخير بعامة مشروطًا بقضاء الحاجة وتلبية الطلَب، وهي وإن حصلَت فقد وافقَت القدَرَ في الحقيقة، وليس ذلك بسبب النَّذر، ولكن الله سبحانه وتعالى قدَّره عليه، يَستخرج به ما يده عليه شَحيحة؛ فلنتأمَّل.
ثمَّ إنَّ الناذِر يجعل لفعله الخير ثمنًا معجلًا يرتهن بالوفاء به قضاء حاجته، وهذا فيه اشتراط على المولى عزَّ وجلَّ: (لئن رددتَ لي غَائبي.. لفعلتُ كذا وكذا)؛ وهو من سوء الأدَب مع الله، وهو من جهةٍ أخرى يضَع بعضَ النَّاس في مواجهة قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11]، وهو ما نَخشى على بعض النَّاس منه، فكم من داعٍ أو ناذِر سقط في هذه الهوَّة؛ يفعل فعلًا يودي به إلى الهلاك، فمن النَّاس مَن يكون على حرف، فيقع في الخسران المبين.
وكل ذلك مخالِف لهَدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي لم ينذر قطُّ، بل كان يقدِّم الخيرَ ويعجل به ثمَّ يدعو اللهَ مخلصًا، فهكذا يَنبغي أن يكون منهجنا.
قم يا صاحب الحاجَة، فقدِّم الصلاةَ أو الصيام أو الصَّدقةَ، أو ما شئتَ من قرباتٍ إلى الله تعالى وحده، مالكِ الملك، صاحب الأمر، ثمَّ أقبِل عليه وابتهِل، واجتهد في الدعاء؛ فإنَّ الله قريبٌ يُجيب دعوة الدَّاعِ إذا دعاه.
وإنِّي لأرجو أن نتأمَّل هذه المسألة؛ فالدُّعاء خيرٌ من النَّذر، والنذر إن لم يَكن في معصية قد يودي بالكثير، خاصَّة من العامة وأشباه المثقفين المتعلمين، الذين يَركضون خلف دعاة وَحدة الوجود، والموجود في كلِّ الوجود - حاشاه سبحانه - من دراويش الصوفيَّة، فيَفتح لهم بابَ الشِّرك، فالغالب على النَّاس أنَّهم يتوجَّهون إلى المَشاهد والقباب التي بُنيَت على القبور، ويقول أحدهم: إذا شُفي مريضي أو قُضيَت حاجتي... إلخ فإنَّ عليَّ لسيدي فلان أو فلانه نذرًا كذا وكذا، والله وحده هو الذي يشفي وهو الذي يقضى الحاجات، فيقع بفعله في ما قد بيَّناه من إشراك غير الله سبحانه في العبادة، وقد قال الفقهاء: "خمسة لغير الله شِرك: الركوع والسجود، والنذر والذَّبح واليمين"؛ ذكر ذلك الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في الردِّ على من أجاز الذَّبحَ والنَّذر للأولياء، كما قال الشيخ قاسم الحنفي في شرح درر البحار: إنَّ النَّذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مُشاهد؛ كأن يكون للإنسان غائب أو مريض أو له حاجة ضروريَّة، فيأتي إلى قبور بعض الصَّالحين ويقول: يا سيدي فلان، إن ردَّ الله غائبي أو عافي مريضي أو قُضيَت حاجتي (بالمبني للمجهول) فلك كذا كذا؛ فهذا النذر باطِل بالإجماع"؛ اهـ.
فإذا كان الشيخ يقول هذا فيمن جعل التصريفَ والتدبير لله وحدَه بقوله: (إن ردَّ الله)، ولكن جعل الوفاءَ لغير الله - باطل، فما بالنا بمَن يطلب قضاءَ الحاجة من صاحب القبر نفسه؟!
فإذا كان لا بدَّ من النَّذر فليكن لله تعالى، والوفاء به لله تعالى، ويكون بعيدًا عن الشُّبهات؛ فقد روى أبو داود بإسناد جيد عن ثابت بن الضحَّاك قال: نذَرَ رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلًا ببوانة، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إنِّي نذرتُ أن أنحر إبلًا ببوانة، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((هل كان فيها وثَنٌ من أوثان الجاهلية يُعبد؟))، قال: لا، قال: ((فهل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟))، قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أوفِ بنذرك؛ فإنَّه لا وفاء لنذرٍ في معصية الله، ولا فيما لا يَملك ابن آدم))، فتأمَّل المنع، فيمَ كان؟ إنَّما كان حماية لجناب التوحيد.
فالحذر كل الحذر في طريقة الوَفاء بالنَّذر وزمانه ومكانه، فلا يكون فيه مكروه أو محرَّم أو ما يؤدِّي إلى الشِّرك، أو مشابهة للكفَّار الذين نُهينا عن مشابهتهم، ومخالفة هَديِهم المؤدِّي إلى الجحيم: ﴿ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ﴾ [الصافات: 23]، وفي هذا تفصيل كثير، لكنَّا نوجز هنا القول فيه؛ فالصَّدَقة مثلًا تُوجَّه إلى مصارفها الشرعيَّة المذكورة في الآية القرآنيَّة مع تحرِّي الصَّواب قدر الإمكان، كذلك الصَّلاة من نوافِل أو قيام، فتؤدَّى كما قال صلى الله عليه وسلم: ((صلُّوا كما رأَيتموني أصلِّي))، ولنحذر أن ننذر إلى هيئات أو أماكن أو غيرها مما لم ينزل الله بها من سلطان، في مواضع غير مشروعة وأزمنة لم تصح، أو غير مشروعة، وقل مثل ذلك في الصِّيام والحجِّ؛ كمن ينذر أن يَقف في الشمس صائمًا أو يحج ماشيًا، فكل هذا من تلبيس إبليس على النَّاس، ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، فما أحسنَ صنيعَ الرجل الذي جاء فسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فهل نتعلَّم؟
ثمَّ إنَّه إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نلمس من قوله: (إن كذا كذا... طلبت كذا وكذا... ولم يستجب لي الله، أو يقول لم يرفع الله عني الظلم أو يقول لم يشفي مريضي... فإن النذر لا يقدم ولا يؤخر من قدر الله شيئًا) وقوله: ((إنَّما يُستخرج به من البخيل)) لا يحث على النَّذر، بل توحي كلمة البخيل بالتَّنفير، وكلمة الاستخراج توحي بأنَّه يخرج الفعل منه لا عن عطاء وبذل، بل عن غير رضًى، علاوة على أنَّه لا يَفعل شيئًا، لا يقدِّم ولا يؤخِّر من قدَر الله؛ فهو - أي النبي صلى الله عليه وسلم - وإن لم يرغِّب فيه ولم يحث عليه لم يَنه عنه، ولكن أدَّت تَعبيراته إلى طلب القَصد بل الزهد فيه، ومن هنا أدعو إلى تقديم الدعاء على النَّذر، وقد روى البزار بإسناد صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليَسأل أحدكم ربَّه حاجته كلها، حتى يَسأله شسعَ نعلِه إذا انقطع، وحتى يسأله الملح))، وكما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنِّي لا أَحمل همَّ الإجابة ولكن همَّ الدعاء، فإذا أُلهمتُ الدعاء علمتُ أنَّ الإجابة معه"، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أفضل العبادة الدُّعاء"، وقد قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62].
فليكن توجُّهنا إلى الله بالدعاء خيرًا من النذر، ونِعم الصَّنيع تقديم الطاعات والقربات على الطلَب، فتَوجَّهْ إلى الله متضرعًا خاشعًا، واسأله حاجتَك، وكن من المحسنين، فقدِّم بين يدَي دعائك الطَّاعة لله؛ من صلاة أو صوم أو صدَقة، ثمَّ اجتهد في دعائك، وهناك أماكن أفضل من أماكن، وأوقات أفضل من أوقات... إلخ - وهذا ليس محل تفصيله - ليكون الدعاء أقربَ إلى الإجابة، والله أعلم، وله الأمر مِن قبل ومن بعد.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه