النهي عن مجالسة أهل البدع من أصول أهل السنة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
دل القرآن على النهي عن مجالسة أهل البدع قال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ}. قال ابن جرير: (وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم).
ودلت السنة على أن الرجل يتأثر مذهبه بجليسه وصاحبه فمن صاحب أهل السنة كان سنيا ومن صاحب أهل البدع كان مبتدعا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ، إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ، إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً» (متفق عليه). وفي مسند أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُر أَحَدُكُم مَنْ يُخَالِل». وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المَرْءُ مَعَ مَن أحَبَّ». قال سفيان الثوري: (ليس شيء أبلغ في فساد رجل وصلاحه من صاحب). ومن أنكر هذا المعنى فقد كابر وخالف الشرع.
وكم رأينا في التاريخ من عالم وعابد كان على السنة ثم انحرف إلى البدعة بسبب تأثره بمجالسة أهل البدع ومخالطتهم أو أخذه الدين عن أستاذ مبتدع وتأثره به قال سفيان الثوري: (من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموا وإني واثق بنفسي فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه).
فمجالسة أهل البدع ومصاحبتهم يترتب عليها مفاسد خطيرة منها أن يزيغ المؤمن عن السنة ويصير للبدعة أو يشوش عليه في عقيدته ومذهبه ويبتلى بالشبهات والوساوس أو يحصل في قلبه ميل لأهل الباطل ومداهنتهم وتصحيح مذهبهم أو يتهمه الناس بالبدعة وينسب لأهل الأهواء فشؤم البدعة وأهلها كبير جدا ولذلك نهى أئمة السلف من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم عن مجالسة أهل البدع وقد تواتر هذا المعنى عنهم قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب).
وقال أيوب السختياني: (رآني سعيد بن جبير جلست إلى طلق بن حبيب فقال لي: ألم أرك جلست إلى طلق بن حبيب لا تجالسه فإنه مرجئ).
وقال أبو قلابة: (لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالهم أو يلبسوا عليكم ما تعرفون).
وقال إبراهيم النخعي: (لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم).
وقال عمرو بن قيس الملائي: (كان يقال: لا تصاحب صاحب زيغ فيزيغ قلبك).
وعن أسماء بن عبيد قالت:(دخل رجلان من أصحاب الأهواء على ابن سيرين فقالا: يا أبا بكر: نحدثك بحديث؟ قال: لا قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال: لا لتقومان عني أو لأقومن قال: فخرجا فقال بعض القوم: يا أبا بكر: وما كان عليك أن يقرآ عليك آية من كتاب الله تعالى؟! قال: إني خشيت أن يقرآ علي آية فيحرفانها فيقر ذلك في قلبك).
وعن سلام بن أبي مطيع:(أن رجلا من أصحاب الأهواء قال لأيوب السختيانى: يا أبا بكر أسألك عن كلمة، قال أيوب: وجعل يشير بأصبعه ولا نصف كلمة ولا نصف كلمة).
وقال مسلم بن يسار:(لا تمكن صاحب بدعة من سمعك فيصب فيها ما لا تقدر أن تخرجه من قلبك).
وقال إسماعيل الطوسي قال لي ابن المبارك:(يكون مجلسك مع المساكين وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة).
وقال أحمد بن حنبل:(أهل البدع لا ينبغي لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس بهم). وقال أيضاً في رسالته إلى مسدد: (ولا تشاور صاحب بدعة في دينك ولا ترافقه في سفرك).
وقد أجمع أئمة السلف الصالح على هذا الأصل في مهاجرة أهل البدع والنأي عن مجالستهم وصحبتهم وتزكيتهم وأخذ الدين عنهم قال أبو عثمان الصابوني:(ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه ولا يحبونهم ولا يصحبونهم ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم).
وقال البغوي: (وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم).
وقال ابن قدامة:(وكان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع والنظر في كتبهم والاستماع لكلامهم).
ومن كان جاهلا يصاحب أهل السنة ويصاحب أهل البدعة كحال بعض العوام اليوم فهو متذبذب بين الحق والباطل ويدل سلوكه على ضعف بصيرته في معرفة السنة وضعف غيرته على السنة وليس عنده فرقان يميز به بين السنة والبدعة وهذا يؤمر بمجانبة أهل البدعة واتباع علماء أهل السنة وينهى عن مخالفتهم برفق ولين.
وأما من كان له معرفة بمذاهب الناس مشتغلا بالدعوة والوعظ وله شهرة في الناس ويصاحب أهل السنة ويثني على وجوه أهل البدع من أعيان الصوفية أو الخوارج أو الرافضة أو رؤوس الإخوان ويميل إلى طريقتهم ولا ينابذهم فهذا منحرف عن السنة ولو تظاهر بالسنة غاش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يمرر مذهبه الباطل تحت عباءة السنة قيل للأوزاعي: (إن رجلا يقول أنا أجالس أهل السنة وأجالس أهل البدعة. فقال الأوزاعي: هذا يريد أن يساوي بين الحق والباطل).
وقال عقبة بن علقمة:(كنت عند أرطأة بن المنذر فقال بعض أهل المجلس: ما تقولون في الرجل يجالس أهل السنة ويخالطهم فإذا ذكر أهل البدع قال: دعونا من ذكرهم لا تذكروهم قال أرطأة: هو منهم لا يلبس عليكم أمره. قال: فأنكرت ذلك من قول أرطأة قال: فقدمت على الأوزاعي وكان كشافا لهذه الأشياء إذا بلغته فقال: صدق أرطأة والقول ما قال هذا ينهى عن ذكرهم ومتى يحذروا إذا لم يشد بذكرهم).
وقال الفضيل بن عياض:(من أتاه رجل فشاوره فدله على مبتدع فقد غش الإسلام واحذروا الدخول على أصحاب البدع فإنهم يصدون عن الحق). وقال البربهاري: (وإذا رأيت الرجل يجلس مع رجل من أهل الأهواء فحذره وعرفه فإن جلس معه بعدما علم فاتقه فإنه صاحب هوى).
وقد نهى أئمة السلف أشد النهي عن توقير أهل البدع قال الفضيل بن عياض:(من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام). فمن عظم أهل البدع وزكى مذهبهم وأثنى على دعوتهم فهو مبتدع مثلهم ومشارك لهم في نقض السنة وإبطال التوحيد وتحريف النصوص. ومن أثنى على شمائلهم وأشاد بجهودهم وأرشد إلى مصنفاتهم ولم يبين بدعتهم ولم يحذر المسلمين من انحرافهم فقد دلس في دعوته وخان الأمانة في نصح الأمة.
والمرء مهما أخفى مذهبه ورأيه عن الناس واجتهد في ستر بدعته فإن الله يظهره بأمور قد بينها أئمة السلف من أهمها مودته وألفته لأهل البدع قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إنما يماشي الرجل ويصاحب من يحبه ومن هو مثله).
وقال الأوزاعي: (يعرف الرجل في ثلاثة مواطن بألفته ويعرف في مجلسه ويعرف في منطقه). وقال الأوزاعي مبينا أن ميل الرجل لأهل البدع دليل على انحراف مذهبه: (من ستر علينا بدعته لم تخف علينا ألفته).
وقال محمد بن عبيد الله الغلابي:(كان يقال يتكاتم أهل الأهواء كل شيء إلا التآلف والصحبة). فمن صاحب أهل البدع وشاركهم في دعوتهم وسكن إلى مودتهم ثم ادعى أنه على طريقة السلف لم يصدق في دعواه لأن مودته لأهل البدع تنافي اتباعه لطريقة السلف فمن مقتضى اتباع منهج السلف البراءة من منهج الخلف ومجانبة وجوه أهل البدع المخالفين للسنة فلا يجتمع في قلب السني محبة السلف ومحبة خصومهم أعداء السنن قال الفضيل بن عياض: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ولا يمكن أن يكون صاحب سنة يمالي صاحب بدعة إلا من النفاق)
والمراد بالألفة في كلام السلف هي الصحبة التامة التي تقتضي المودة والتزكية والنصرة كما جاء في الحديث: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» (رواه أحمد).
فمن ثبتت صحبته بجلاء لأهل البدع ألحق بهم كما قال سفيان الثوري: (من ماشى المبتدعة عندنا فهو مبتدع). أما من اجتمع بأهل البدع لحاجة عارضة كمشاركة في طلب الرزق أو لمصلحة راجحة كنصيحة ونحوها أو كان لقاء عابرا اضطر إليه لم يقصد مجالسته كاجتماع عام في صلة رحم أو غيره وكان الرجل معروفا بانتصاره للسنة واجتنابه للبدعة فهذا لا يطعن في مذهبه ولا يقدح في دينه ولا يلحق بأهل البدع لأنه لم يواد أهل البدع ولم ينصرهم ولم يزك طريقتهم قال ابن تيمية: (فالمقصود بهذا أن يهجر المسلم السيئات ويهجر قرناء السوء الذين تضر صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة). وهذا هو مقتضى العدل والإنصاف وهو مسلك علمائنا الكبار خلافا للغلاة في التبديع الذين يجرحون السني لأدنى لقاء ولمجرد الاشتباه في مذهبه ولا يتورعون عن انتهاك حرمته.
والحاصل أن الناس في هذا الباب ثلاثة أصناف طرفان ووسط:
طرف يغلو في تبديع وهجر الرجل لأدنى شبهة واجتماع فيعادي بعض أهل الحق من أهل السنة لمجرد المخالفة في المسائل الاجتهادية.
وطرف يتساهل جدا في موالاة أهل البدع وتزكيتهم إما جميعهم أو طائفة منهم ويتذرع بشبه فاسدة معارضة للنصوص وإجماع السلف وهذا مسلك الجماعات الدعوية المعاصرة المشهورة.
وطرف وسط متبع للسنة ينهى عن موالاة أهل البدع وينكر موادتهم وينصح المخالفين ويحفظ حرمة أهل السنة ولا يعجل في مسألة الحكم على المخالف وهذا قليل في المتأخرين من أهل الديانة.
ومن تأمل في مسلك طائفة من دعاة الصحوة وجد أنهم يألفون أهل البدع وينصرونهم ويعنفون على من يرد عليهم بدعتهم ويتسامحون مع دعوتهم ويتحالفون معهم في العمل الدعوي ويلزمون الصمت في كثير من انحرافاتهم ويهونون من إجماع السلف في هذا الباب ويتأولون كلامهم ويحرفونه عن مراده ولا يلتزمون هذا الأصل في منهجهم وخطابهم ويحاولون الالتفات عليه بتقعيدات وشبه وأمثلة فاسدة وهذا خلاف منهج علمائنا الكبار الذين عرف عنهم التحذير من مجالسة أهل البدع والأخذ عنهم وذلك لأنهم كانوا ينهلون من مشكاة النبوة وفقه السلف الصالح فمن كانت دعوته مقتفية لمنهج السلف حذر من اتباع الخلف ومن كانت دعوته مقتفية لمذهب الخلف زهد في آثار السلف ووالى أهل البدع. وقد سئل شيخنا ابن باز: الذي يثني على أهل البدع ويمدحهم هل يلحق بهم؟ فأجاب: (نعم ما فيه شك من أثنى عليهم ومدحهم وهو داع إليهم هو من دعاتهم نسأل الله العافية). وقال أيضا: (من أظهر المنكر أو البدعة يحذر منه ولا ينظر إلى حسناته حسناته بينه وبين ربه من أظهر المنكر أو البدعة يحذر منه وينصح حتى يهتدي هكذا جاءت السنة).
وهذا المسلك المحدث أعني صحبة أهل البدع والتسامح معهم وتزكيتهم ومد الجسور معهم له أثر سيئ في انحراف الأتباع والصغار فكم من شاب كان على خير وسنة ثم دخلت عليه بدعة من طريق ثناء أستاذه على أحد المبتدعة بقوله الحق أو فصاحة لسانه أو اجنهاده في الدعوة أو ثقافته الواسعة فاشرأب عنق هذا الفتى للاستفادة منه فخالطه أو تتلمذ على كتبه فانحرف عن السنة كان أبو ذر الهروي راوي صحيح البخاري من أهل الحديث على الجادة وكان يسير يوما مع شيخه الدارقطني في بغداد فالتقوا بأبي بكر الباقلاني الأشعري فالتزمه الدارقطني وقبله وأثنى عليه في مناظرته للمعتزلة فتأثر التلميذ أبو ذر الهروي بموقف شيخه فعظمه وأخذ عنه علم الكلام المحدث وصار من رؤوس الأشعرية ودعاتها المتعصبين لها ثم أخذ عنه جل المغاربة مذهب الأشاعرة وكان له دور بارز في تحول بلاد المغرب من مذهب أهل الحديث إلى مذهب الأشاعرة قال ابن كثير: (والمغاربة إنما أخذوا الأشعرية عن أبي ذر الهروي).
فهؤلاء الدعاة المتسامحون مع المبتدعة إنما هم مسوقة لمذهب المبتدعة بطريقة لا يفطن لها كثير من أهل الديانة وخطرهم عظيم على السنة ولهذا قال ابن عون: (من يجالس أهل البدع أشد علينا من أهل البدع). وقد وجد من مشاهير الدعاة من يقبل رؤوس الإباضية والأشاعرة والصوفية والإخوان ومن يعزي الشيعة ومن يتصالح مع وجوه الليبرالية من غير نكير واستهجان بين أهل السنة. وقد رأينا كيف انتشر مذهب الخوارج والليبرالية والمرجئة والصوفية عند شبابنا بعد نحو عقدين من الصحوة وكانت هذه النتيجة حتمية للابتعاد عن المدرسة السلفية والارتباط بمدرسة الإخوان الفكرية المنحرفة عن منهج أئمة السلف الصالح.
____________________________________________
الكاتب: خالد بن سعود البليهد